|
نظرة حداثية في أنطلوجيا الخلق والإنسان (3) بقلم عبد المؤمن إبراهيم أحمد
|
ثبت جلياً عبر العلوم الحديثة ان للمادة وعي ونظام دقيق يقوم عليه وجودها. الوعي نقصد به درجة من درجات العقل الفعال، به تحافظ على وجودها وبه تعمل وتتفاعل مع الآخر. هذا العقل هو الوجود العاقل الأولي البسيط الذي نجده اكثر تفعيلاً وتفصيلاً في النبات ثم في الحيوان ليصل كماله في الإنسان. والمادة نقصد بها الوجود الذي نظنه خاملاً ويظهر في شكل الكتلة المتحيزة الجامدة او في شكل طاقة. الوعي مبثوث في كل ذرات الكون. هذا الوعي يمثل رأس جبل الجليد لقاعدة وجودية خفية تحيط وتسيطر على الكون وهي في حوافها الوجودية، بالقرب من عالم المادة، عبارة عن طاقة ووعي لها إتجاه ولها نظام وقانون. هذه الطاقة تشكل القاعدة (الصلبة مضموناً والسائلة مظهراً) للوجود المادي الواعي. قمة هذا الوعي تتجسد في كليات الحب والفكر والخير والتي بها صار ذلك الوجود الغيبي قريب جداً من عالم المادة الحية بل صار بها أقرب إليه من حبل الوريد عند البشر. ينتشر الوعي المنظم في كل أشكال ومظاهر الكون الباطنة والظاهرة. وهو تجلي عن الوعي الأول المدبر. الوعي المركزي الذي هو مصدر كل وعي، والذي في الإتصال به تتحقق الطمأنينة الوجودية والسكون الجناني. وهو حالة السعادة التي يسعى لها أهل التصوف والخلوات وسموها بالإتصال أو الإستنارة أو النرفانا عند آخرين. والذي في الإبتعاد عنه يقع القلق والعذاب الناري والجحيم. وهنا نلحظ ان كل العمل الديني قصد به ربط الإنسان بذلك الوعي القديم عن طريق ترتيب وعينا المادي (الجسد) مع وعينا غيرالمادي (الروح) لكي ننسجم مع ذلك الوعي الكبير الأول لنحقق الرضا والمسرة لله تعالى والبشر. مكونات الوجود الأولية ظلت الشغل الشاغل للفلسفة. وقال بعضهم بالنظرية الذرية، بينما رفضها إبراهيم النظّام في شكل نظرية الجزء الذي لا يتجزأ وحل إشكالية الحركة فيه بقوله بالطفرة التي تفرد بها عن غيره. وقال ان الإنسان في حقيقته روح آلتها البدن. والروح جسم لطيف سارٍٍ في البدن سريان الماء في الزرع او الزبد في اللبن. وقال ان كل هذا في كل هذا وقال ان الروح هي الحساسة الدراكة (الأشعري - مقالات الاسلاميين ج2: 27). وهنا يقترب النظام من حقيقة الوجود الأولي أكثر من أي مفكر آخر. يقول مورجان ان الذرات المادية لا تخلو من عقل ولكنه على قدرها، ويرى سبنسر ان الوجود لا يتألف من مادة ميتة بل هو وجود حي (عبد الجبار الوائلي – حلول فلسفية 90). هذا الوجود الخفي الذي بدا منه الوجود الظاهر وجود في شكل موجات (فوتونات) هو وجود في مظهره أقرب للسيولة منه إلى الجسيمات المتكتلة المتمكنة المتزمنة. هذا الوجود الحي المتخفي وراء المادة الجامدة هو سر الحياة وهو الهباء او الهيولي الذي تحدث عنه الفلاسفة وهو الشيء في ذاته الذي خلقنا منه. هذا الوجود الحي هو سر المعجزات التي يقوم بها بعض البشر حين تستجيب عناصر الطبيعة بصورة غامضة لإرادة الإنسان حينما يتصل وعيه بوعيها. يقول كولبيه: "ان القول بأن العقل صفة من صفات المادة او معلول لها لا ينكر عقلية العقل. اما المذهب المادي الذي يسوي تماماً بين العقل والجسم فضرب من التفكير السخيف" (كولبية: المدخل الى الفلسفة الحديثة ص175). طبيعة العقل فكرية وطبيعة الجسم مادية صلبة فكيف يؤثران في بعضهما البعض؟ اذن لا بد من القول اما بمادية العقل او عقلية المادة لكي نحل ذلك الإشكال. وطالما ان العقل هو افكار ومعاني مجردة، غير مادية (ربما كانت مادة غير متمكنة وغير متزمنة)، فلا يبقى إلا القول بعقلية المادة. وهو عين ما قاله هيجل وتنكر له لاحقاً ماركس. ظن ماركس بأنه وضع الحصان أمام العربة بينما العكس هو ما قام به. لقد وضع ماركس العربة أمام الحصان وهذا هو السر العظيم في إنهيار الفكرة الشيوعية عند التطبيق. حقاً ان المادة في اصلها عبارة عن جسيمات ضوئية وطاقة فقدت جميع صفات المادة المعروفة من الصلابة والجمود والإمتداد. والمادة اذا تحركت بسرعة الضوء 186.000 ميل في الثانية تفقد صفاتها المادية من منظورنا الأرضي. المادة لها عقل مادي (وعي) وكل مخلوق مادي له عقل، حتى الذرة وما هو ادنى من ذلك لها عقل يكون في ادنى حالاته. رغم ان الفيزياء لم تعمد بعد إلى إدخال الوعي بإعتباره عنصراً فيزيائياً كغيره من العناصر المشتملة بالتجربة وذلك بسبب شدة تأثير الأفكار القديمة التقليدية. إلا أن مثل هذه الخطوة تغدو ضرورية اكثر فأكثر بالنسبة لأية نظرية فيزيائية مستقبلية (فراس السواح دين الإنسان 384). وهذا العقل (الوعي) المنتشر في كل الوجود هو سر تماسكه وامكانية تجانسه وانسجامه. هذا العقل هو مكون داخلي لوجود ظاهر فيما يعرف بثنائية الباطن والظاهر في الوجود. فالوجود له ثنائيات متعددة، وهذه الثنائيات يبدو انها تلعب دور اساسي في كل مستويات الوجود، مثاني رأسية وأفقية. مثاني مجردة ومجسدة. مثاني لطيفة وكثيفة. هذه الثنائيات هي التي تجوز الأخذ والعطاء بين مكونات الوجود وهي أساس الحياة والحركة والنمو والتطور والتكاثر. هكذا تكون المثاني مهمة، حتى في النص المقدس هي بهذه الدرجة من الأهمية. القاعدة التي بني عليها الوجود قاعدة بالغة المرونة ولكنها مرونة صلبة بسبب إحكام النظام والقانون. يقول العالم ماكس بلانك الحائز على جائزة نوبل في العلوم الطبيعية: "ان حركات الكهيربات (الالكترونات) لا يسيطر عليها قانون معروف ولا تستطيع ان تتنبأ بإتجاه الحركة التالية للكهيرب حول النواة". وهذا دليل على وجود قانون آخر لم نعرفه حتى الآن. نحن ولدنا من عالم الروح ونعود اليه بالموت (الصفر المادي هو بداية عالم الخلود خارج الزمان والمكان). المسألة ليست وعي المادة وانما مادة الوعي! الانسان في بعده المادي عبارة عن حزمة شعور وافكار وافعال، في دالة زمانية مكانية بدأت مادياً من الصفر وتنتهي اليه. من الصفر الى الصفر عبارة عن موجة. هذه الموجة المادية تقابلها موجة اخرى روحية خالدة. فشت فكرة حياة المادة في فلسفة أديان الشرق الأقصى التي قالت بوجود نفس في كل الكائنات. ولذلك نجدهم بصورة عامة يكرهون قتل كل كائن حي وإن كان ضار (تمثل الجينية الحالة المتطرفة في هذه المسألة). تقول الجينية بأنه لا توجد مادة ميتة، كل شيء هو حي حتى الصخور او الماء او حتى نسمة هواء! (د.يونغ أوون كيم – أديان العالم - (نسخة إنجليزية) – ج2. 87).. وتشكل هذه الفلسفة نظرة عميقة لحماية البيئة والكائنات الحية وربما كانت هي الأساس الذي بنى عليه الغربيون فكرة حماية البيئة والرفق بالحيوان. ولكنها بالطبع تحتاج لتجديد وإصلاح لكي تحقق التوازن في فهم الوجود.
مكتبة شوقى بدرى(shawgi badri)
|
|
|
|
|
|