دلالات إيجابية في السياسة السودانية!! يحب السياسيون في المعارضة تبخيس إنجازاتهم وجلد ذواتهم بدلاً من نقدها، وهذا يدفعهم لرؤية الجزء الفارغ من الكوب و يمنعهم من مراكمة الإنجازات للوصول إلى الهدف. و إذا كان الهدف هو إسقاط النظام، فلابد من فهم أن ليس كل خطوة إيجابية سوف تقود حتماً و بمجرد إنجازها لإسقاطه. فهذه الطريقة في التقييم ، تقود دائماً إلى الشعور باليأس و للمبالغة في تقدير قوة النظام، وبالتبعية تؤدي إلى الوصول لنتيجة خاطئة جوهرها عدم إمكانية إسقاط النظام، وهي نتيجة تفتح باب المساومات والتنازلات غير المجدية، التي تصب في مصلحة النظام وتضخ دماءاً جديدة في أوردته المتيبسة. و حتى نصل لتقييم صحيح لدور المعارضة و إنجازاتها و ثيقة الصلة بإنجازات شعبها دون تهويل و دون مبالغة تمنع من رؤية الضعف و القصور، نرصد بعض هذه الإنجازات التي تعتبر جزءاً من تراكم معقد سوف يؤدي لتغيير نوعي حتمي هو إسقاط النظام. أهم هذه الإنجازات في تقديرنا هو إسقاط أكذوبة حوار الوثبة الذي أراده النظام كوسيلة لتعويمه و إعادة تسويقه إقليمياً و دولياً في سياق المشروع الأمريكي ، دون دفع إستحقاقات الحوار ، ودون تقديم أي تنازلات تسمح بظهور وضع إنتقالي حتى وإن كان وضعاً له فيه اليد العليا كما هو وارد بالمشروع الأمريكي. فيقظة المعارضة و قوى إجماعها التي رفضت و منذ البداية الإنخراط في حوار غير متكافئ في ظل القوانين المقيدة للحريات و الإعتقالات و رئاسة المؤتمر الوطني غير المحايدة و غياب آلية متفق عليها لمخرجاته و كيفية تنفيذها، كانت المدماك الرئيس في فضح مخطط النظام الذي كان يهدف لإحتواء المعارضة و استيعابها داخل النظام، في إستنساخ سيئ لسيناريو إنقلاب العام 89 بالعودة إلى مخططه الأصلي الذي يبدأ بالتمكين والإقصاء و ينتهي بالإستيعاب في النظام المتمكن. صحيح أن أخطاء النظام المتمثلة في إعتقال بعض من رضوا بالحوار الوهمي الذي لا ينبي على إعتراف واضح وصريح بأسباب الأزمة، وفي جلب الجنجويد للعاصمة علناً بعد أن كان إستخدامهم في إنتفاضة سبتمبر 2013م المجيدة قد تم تحت لافتة الخطة (ب)، إلا أن الأصل في منع هذه المسرحية هو القناعة التي تكونت لدى المواطن وبسرعة كبيرة حول صحة الخط الذي تبنته المعارضة ولا جدوى الحوار المزعوم. إفشال هذا الحوار كان من تداعياته المباشرة، فشل النظام في إستيفاء شروط تعويمه الموضوعة أمريكياً ، و أهمها إعادة هيكلة الساحة السياسية و إنتاج خارطة سياسية جديدة، تستوعب كل القوى الناشطة والفاعلة سياسياً بما فيها الحركات المسلحة التي تقاتل النظام، و خلق مناخ يؤسس لإستقرار نسبي يقود لإنفتاح يساعد في إستقرار دولة جنوب السودان، ويفتح الباب على مصراعيه أمام إستكمال المشروع الأمريكي في المنطقة. و في مقابل ذلك تتم تسوية مشكلة رئيس النظام مع المحكمة الجنائية الدولية و ينتقل إلى منفاه الإختياري، ويتم رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب و تطبيع علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية ورفع الحصار الإقتصادي و إدماجه من مواقع التبعية في الإقتصاد العالمي، مع إيجاد معالجة لمشكلة الدين الخارجي. هذا الإفشال عمق أزمة النظام ولم يترك أمامه من سبيل سوى الإستمرار في طريق الإنتحار السياسي الذي من ملامحه الأساسية الإصرار على قيام الإنتخابات غير الديمقراطية في مواعيدها، و ترشيح الرئيس الدائم لها، و تعديل الدستور لبناء ديكتاتورية كاملة بإلغاء عملي للحكم الفيدرالي و جمع الكثير من السلطات في يد الرئيس و تحويل جهاز الأمن لقوة نظامية بصلاحيات كاملة تعزز دورها القمعي وتغير من طبيعة الدور الذي كان موكلاً لها دستورياً في تماهي مع قانونها المخالف للدستور قبل تعديله، و فوق ذلك الإعتماد الكلي على الجنجويد كذراع رئيسة للنظام في أرض المعركة و في مواجهة المدنيين. و هذا يعني أن النظام يتجه بسرعة شديدة للتحول إلى نظام ديكتاتوري صريح، و يسير في إتجاه معاكس تماماً لما هو مطلوب منه أمريكياً لمعالجة مشكلاته بمسكنات تضخ قليلاً من الدماء في جسده المحتضر. و للمعارضة و الشعب السوداني الفضل في ذلك. فمجرد الإمتناع عن المشاركة في بعض الأحيان ، يغير إتجاه الريح و يقتنص المبادرة من أيادي من أطلق الحدث ويحشره حيث لا يرغب ، وهذا ما حدث. الدلالة الثانية هي وحدة قوى المعارضة بشقيها المدني والعسكري لأول مرة بتوقيعها لنداء السودان. وهذا يعني بداية جديدة لتكوين العنصر الذاتي اللازم لإسقاط النظام. فالمعلوم هو أن وجود الحالة الثورية موضوعياً، لا يكفي لوحده لحدوث ثورة. فالثورة تستلزم التنظيم الواعي بذاته و لذاته و القادر على قيادة و توجيه جماهيره و إنجاز المهمة معها و بينها . و بالرغم من أن هناك قصور و مسالب في بنية هذا التحالف ، و برغم وجود ثغرات واختراقات للنظام، و غياب لوائح تنظم عمل التحالف أو تنظيمات قاعدية تنقله بصدق إلى حيث الجماهير، إلا أن الخطوة في حد ذاتها التي جمعت الجميع حول برنامج حد أدنى خطوة متقدمة و غير مسبوقة منذ تشييع التجمع الوطني الديمقراطي لمثواه الأخير. صحيح أن هنالك قوى أثبتت التجربة السابقة أنها مشكلة حقيقية للعمل المشترك، و أنها مترددة تجنح للمساومة و تقديم التنازلات المجانية، ولكن علاج هذه المسألة لا يتم بإستبعادها بل بتكريب العمل مع الجماهير و منها جماهيرها حتى تمنعها جدية النضال من التراجع أو السقوط. المهم هو تحويل هذا الإتفاق و هذه الوحدة لممارسة يومية تصل المواطن وتشاركه همه وتملكه تفاصيل البرنامج البديل حتى تخلق وعياً خلاقاً يتحول إلي أعلى درجاته فيتحول إلى تنظيم يصنع إنتفاضته و يقود التغيير. و المطلوب هو البناء على ماتم وليس إعتباره لوحده كافياً لإسقاط النظام. والنظام لإدراكه مدى خطورة هذه الخطوة ، قابلها بعنف جلي و بإعتقالات و بتسريبات تسخر منها ومن ضعف المعارضة، وهدفه من ذلك دق إسفين بين قوى نداء السودان والجماهير و منعها من الوصول إليها و تنظيمها في مواجهته. فهو دائماً يحاول أن يسيطر على آليات تكوين الوعي و يمنع حرية التعبير لذلك، ويمدد نشاطه لمنع الوعي من التحول إلى تنظيم ، وإن تحول إلى تنظيم يسعى إلى إختراقه و إضعافه بالإنقسامات و بالحصار الأمني و الإعتقال و التعذيب ، ولا يستنكف القتل في سبيل قطع حلقة التنظيم و إحتكار وسائل الإتصال الجماهيري و السيطرة على العقول. و لسنا في حاجة للقول بأن نجاحاته جزئية، لأنه ببساطة نظام ولا يمكن لأي نظام أن يصادر شعباً بأكمله في كل الأوقات و الأزمان. و الشاهد هو بقاء التنظيمات المعارضة برغم ربع قرن من سياسات حاولت تغييبها، و بقاء حركات مازالت تقاتل النظام و تحقق إنتصارات في كثير من الأحيان، ووحدة كل هذه القوى وإن على مستوى برنامج حد أدنى يهدف لإسقاطه. الدلالة الثالثة هي إستمرار أشكال الإحتجاج الشعبي و خصوصاً وسط حركة الطلبة التي تلجئ النظام لإستخدام مليشياته و قوات أمنه في قمعها وإغلاق الجامعات والمؤسسات الأكاديمية. و الأمثلة كثيرة آخرها ما حدث في جامعة بحري مؤخراً. فحركة الطلبة بإندفاعها و ميلها الديمقراطي العام، إحتجاجاتها دائماً تسبق القوى الأخرى ولكنها في نفس الوقت تعطي مؤشراً إلى مدى الإحتقان السياسي و فشل النظام في إحتواء هذه الحركة ناهيك عن القوى السياسية العاملة على مستوى البلاد. يواكب هذه الحركة إحتاجاجات شعبية وإعتصامات في بعض المدن الإقليمية، ونشاط مكثف لمنظمات المجتمع المدني، وحصار كبير بالخارج من منظمات حقوق الإنسان نتيجة لجهد الناشطين بالخارج و فعاليتهم، بالإضافة إلى إعلام إلكتروني فاعل يشكل حلقة وعي على محدودية قرائها، شكلت هاجساً و فعلاً أأقض مضاجع النظام، حتى خرج وزير إعلامه في مؤتمر صحفي مهدداً بتعديل القانون لمحاكمة الناشطين في هذا الإعلام بجرائم تصل عقوبتها للإعدام ، حيث جعل منهم سبباً لكل مظاهر فشل النظام في إدارة الدولة المسروقة من شعبها. و يظاهر ذلك فشل النظام في إحتكار إستخدام العنف و فرض سلطته على كامل التراب السوداني، حيث تسيطر الحركات المسلحة على مساحات واسعة من جنوب النيل الأزرق و جنوب كردفان و مناطق أخرى في دارفور. وهذا الفشل يشكل مهدداً كبيراً للنظام بإعتبار أن إحتكار إستخدام العنف في كافة مناطق البلاد هو السمة الرئيسة لأي سلطة ونقصها يعني نقص هذه السلطة بالتبعية. الدلالة الرابعة هي العزلة المتفاقمة للنظام و فشله في فك الحصار الخانق حوله، فهو من ناحية لم يستطع الإنخراط في المشروع الأمريكي بعد كل ماقدمه من تنازلات مخزية، كما لم يستطع أن يحقق أي إختراقات في علاقاته الإقليمية. فالحصار الإقتصادي يشتد في مواجهته كل يوم، وأزمته الإقتصادية لا حلول دولية أو إقليمية تلوح لها في الأفق القريب، و عبثه بأمن وإستقرار دول الجوار لم يعد خافياً و لا محتملاً و مثال لذلك تورطه في الأزمة الليبية و دعمه المستمر لجماعة فجر ليبيا الأخوانية. و لعل هذا الحصار و عمق العزلة، هو الذي يدفع النظام لتسويق إختراقات وهمية كإدعائه بتحسن العلاقات مع المملكة العربية السعودية، والتسويق لإنفراجة في علاقاته بمصر، و إعلان الرئيس إنتصاره على المحكمة الجنائية الدولية لمجرد أنها أوقفت الإستمرار في إجراءات التحقيق في جرائم دارفور ولم تسقط أياً من التهم ولا أوامر القبض الصادرة في مواجهة الرئيس و آخرين. فكما ذكرنا سابقاً أن أوان القبض على الرئيس لم يحن بعد، و مدعية المحكمة الجنائية حين تصعد لوضع مجلس الأمن أمام واجباته، تدرك تماماً أن المجلس هيئة سياسية تتعامل مع أمر القبض من منظور سياسي، وبالطبع تحتج هي على توظيف الأوامر القضائية لأهداف سياسية عبر التراخي في تنفيذ أوامر القبض وهذا يحسب لها وللمحكمة لا عليها. فمنذ صدور أوامر القبض أرادت الولايات المتحدة الأمريكية حشر الرئيس حيث أرادته فحشرته، وبدأت في مساومته وما كان لها أن تقبض عليه قبل أن ينفذ ما تريده منه. و فشله الآن في إتخاذ الإجراءات اللازمة لتعويم النظام ودمجه بكامله في المشروع الأمريكي، مقروءاً مع التصعيد من قبل المدعية، يجعل وضعه أسوأ من ذي قبل. و ذلك لأن الفشل إذا استمر، قد يدفع الولايات المتحدة و حلفائها للإتجاه لتنفيذ أمر القبض أو على الأقل التلويح بتنفيذه ، وفي الحالتين وضع الرئيس في طريقه للتدهور على عكس ما يظن مالم يقدم المزيد من التنازلات بعد تنصيب نفسه ديكتاتوراً كامل الدسم. هذه الدلالات الإيجابية التي تصب في مصلحة الشعب السوداني رغم المعاناة و إشتداد الأزمة بإعتبارها أن تزيد النظام ضعفاً على ضعف، تدفع جميع القوى في الساحة لإعادة قراءة الوضع السياسي وإتخاذ مايلزم للتموضع وإعادة التموضع وتقديم خطاب سياسي يتلاءم مع ذلك. وربما يكون خطاب حركة الإصلاح الآن الذي أصبح يستخدم إعتراضات المعارضة حول الحوار لنقد ما يتم من مناورات مفضوحة للنظام، خير مثال لذلك. كذلك إستماتة المؤتمر الشعبي في مواصلة الحوار مع المؤتمر الوطني مهما كان الثمن والتي يعزيها البعض لرغبة في السلطة أو لأموال قد تلقاها الأول من الأخير ، وهي في الحقيقة إستماتة مبنية على محاولة لضمان مستقبل الحركة الإسلامية في مرحلة ما بعد النظام بغض النظر إن كانت موحدة أم لا وليست من أجل هدف آني أو قريب. فالواضح هو أن المؤتمر الشعبي رغم دفاعه المستميت عن مبادرة الحوار الميتة، لم يصل لإتفاق معلن مع المؤتمر الوطني، أي أنه رسمياً لم يصالح، ولكنه عملياً يحاول إنقاذ قطاعات فاعلة من حزب الحكومة حتى لا يغرقها الطوفان ويغرق هو معها و قيادتها تتأبى على الإنقاذ و هو لايريد أن يقتنع بأنه لن يستطع أن يهدي من أحب. خلاصة الأمر هي أن التفكير السلبي الذي لا يرى سوى القصور و المشكلات ولا يثمن الإيجابيات ويبحث عنها ويطورها ويحسن من نوعيتها ويبني عليها، لا يقود إلا إلى اليأس والإستسلام للنظام ، و يسمح لإعلام النظام بتسويق قوته المتوهمة وضعف المعارضة ليؤكد أفضليته عليها و يعمم حالة الإحباط والإحساس بالعجز والفشل. والصحيح هو أن تقوم المعارضة بالإعتراف بأخطائها ونقد نفسها عبر نقد ذاتي شفاف لا أن تقوم بجلد ذاتها، وأن تتحسس الدلالات الإيجابية وتبني على ماتم إنجازه لفعل المزيد ومراكمة الإيجابيات حتى تحين لحظة إسقاط النظام. وعلى هذا الأساس يصح التفاؤل دونما غرق في الأوهام أو إستسلام يائس لعسف النظام و بلطجته الشاملة. التحية والإجلال لشهداء شعبنا و لمناضليه و معتقليه، والخزي والعار و الهزيمة للنظام الغاشم د. أحمد عثمان عمر 5/1/2014م مكتبة د.أحمد عثمان عمر(أحمد عثمان عمر)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة