|
معرفة الوجود بين الحتمية والإحتمالات بقلم عبد المؤمن إبراهيم أحمد
|
لقد ركّز الوجوديون على مسألة الحرية وأولوها اهتماماً بالغاً، وقالوا إن الإنسان هو حريته. ولكنهم لم يهتموا بالمسؤولية الفردية. وهم يرون أن الإنسان اقتيد إلى هذا العالم. وهم يحتجون على هذا الإقتياد الذي لم يكن للإنسان فيه يد. فالإنسان ألقي به إلى هذا الوجود كما يلقى بالنرد على الطاولة، والجانب الذي يسقط عليه والرقم الذي يبديه لا يقوم إلا على المصادفة المحضة. إنهم يسألون لماذا نحن هنا وكيف صرنا لما صرنا إليه؟ لا شك أن معظم حظوظ الحياة وخطوط السير فيها والأقدار يولد الناس بها. ولكن موقف الإنسان منها وتعامله معها ومع الواقع لا تحدده السماء وإنما يحدده الإنسان بكامل حريته. إن الكثير من ظروف الإنسان تكون مفروضة عليه ولكن ليس فرضاً تعسفياً، إذ ما يفعله الإنسان اليوم يحدد بصورة أساسية ما سيفعله غداً. فقد حدد آباؤنا لنا كثيراً مما هو مفروض علينا ونحن كذلك نحدد ونختار لأبنائنا الكثير. هذا الإختيار للآخرين هو ما أرّق سارتر والقى به في الجحيم. فالإنسان ليس فرد وكفى وإنما هو فرد في جماعة، والإنسان ليس الآن فقط وإنما هو الأمس واليوم والغد. فأساس الوجود خارج الزمان وفي هذا للأسف طرف من أسباب ذعر سارتر (اختيارك لنفسك هو أن تختار للآخرين). ولأن أساس الوجود خارج الزمان والمكان فإن الكثير من الأقدار تقدر للناس خارج الزمان والمكان وقبل ميلادهم؛ وهذا التقدير (في رأينا) لا يتم جزافاً وإنما يحكمه ناموس إلهي متعلق بعملية إصلاح الوجود الكلية ويقوم على العدل الإلهي ولذلك لا يصح للناس أن يتضجروا من أقدارهم بل عليهم أن يعملوا بإخلاص على تغييرها نحو الأحسن. يمثل المجتمع في الفلسفة الوجودية قوة ضاغطة على الفرد، تسلبه إرادته وتجعله أسير لعادات واعتقادات ومفاهيم معينة ينسجها ذلك المجتمع حول أفراده. وتخلق نزعة الوجودية غير المؤمنة والمبالِغة في نسبية القيم والأخلاق نوع من الهزة الخطيرة في المجتمع وتجعل من كل شيء مباح في سبيل تحقيق الحرية. إنه المزيد من الفوضى والحيرة والإرتباك. أما الفلسفة المثالية فتقول عكس ذلك. فمعرفة الوجود مثلاً عند هيجل معرفة كاملة بما يشبه المطلق الآلي الذي لا مكان فيه للإحتمالات أو الإبداع أو المخاطرة لأن كل شيء عنده معرفة وحتميات ضرورية ميكانيكية ونظاماً موضوعياً انتهى به إلى وضع موسوعة أراد لها أن تستوعب كل شيء عبر متافيزيقيا ميكانيكية حتمية. أما الوجودية المؤمنة فلها موقف آخر، يعتبر جاسبرز المتافيزقيا كفلسفة ليست مجرد علم ومعرفة وإنما هي معايشة للوجود وقراءة للرموز والشفرات الوجودية. إنها متعة الحياة ومعاناتها وهو هنا يصنع عالم فكرته الدينية. يقول جاسبرز ان هيجل ضحى بالوجود في سبيل الموضوعية لأن الوجود عند جاسبرز شعور وإحساس بِالْهَمْ والحصر. الوجود عند جاسبرز أكبر من الموضوعية. الوجود موضوعية وذاتية معاً. وعندما تدخل الذاتية يدخل كل عالم الإنسان وتختفي الميكانيكية والحتمية وتظهر الحرية واللا ضرورة واضحة للعيان عبر المزاج والعواطف والأحاسيس والميول وحرية الإرادة والخواطر. ولذلك ميكانيكية هيجل التي ينسجها القدر للإنسان والتي نوافقه عليها جزئياً تتفلت وتتفتت بمجرد الولادة. وربما نجد في ديالكتيك هيجل آلية ميكانيكية تفسر الإحتمالات والتغيير والتطور في الحياة. ولكن وبما أن فلسفة هيجل تقوم على الكل فإن جاسبرز يرى أن الكل لا يمكن أن يكون هو الآخر موضوعاً للمعرفة لأن العالم عنده ممزق وفي حالة فوضى ونقص وانقسام. مرة أخرى لم يشرح جاسبرز سبب هذه الفوضى.
|
|
|
|
|
|