|
المُوَاطنَة اللغَويّة مبارك أباعزي
|
في وقت مبكر جدا، عندما كنت في السنوات الأولى من التعليم الابتدائي، وكنت أدرس يومها مع ابنة عمي، قال لي المعلم: "أش كتجيك هذي؟". فكرت قليلا في الصيغة التي يجب أن أجيب بها لأنني لا أتقن سوى اللغة الأمازيغية، فقلت: "وْلْدَةْ عمي"، فانفجر المعلم ضاحكا، ولما راقنا الأمر، ضحكنا معه دون أن نعرف لماذا كان يضحك. وبعد ذلك أدركت أنني أنثت كلمة "ولد" لأحصل على صيغة المؤنث. هذا الحدث كان يولد في نفسي بين الحين والآخر مرارة حنظلية المذاق، وكثيرا ما اعتقدت أن الخلاص يكمن في النفور من أصولي هروبا إلى الانتماء الموهوم، حيث تتستر الذات وراء حقيقتها، فوجدتني أدافع بشراسة عن القومية العربية في مرحلة ما وكأني بذلك أريد أن أتخلص من عبء ذاكرتي الطفولية. وبعدها قرأت تصريحا لمحمد شكري، الكاتب الذي أعزه كثيرا، أشار فيه إلى أنه أجهد نفسه للتخلص من اللكنة الريفية بعد أن تعرض للسخرية غير ما مرة من لدن أقرانه من الأطفال. كان الأمر منطقيا جدا، فقد دخلنا مدرسة تحدثنا بما لا نعرف، وقبلها كنا نحفظ آيات الله دون أن نفهم معناها، وبسهولة عرفنا أن لغة الصلاة هي لغة المدرسة، وتوهمنا بعد ذلك أن اللغة الجديرة بالاهتمام هي اللغة العربية، وأن لغة أمنا لا يجب أن تتجاوز تلك الجدران التي يقف على حرمتها شاب أنيق نعتبره آنذاك سيد الأسياد. إن الصغار يمتلكون ذكاء لغويا منقطع النظير، فابن أخي الذي اعتاد الحديث بالدارجة في الروض، وبعد أن كنت ألاطفه بالدارجة، غضب مني قائلا إنه لا يجب علي أن أحدثه بلغة الروض، بل بلغة البيت. إنه من الطبيعي أن كل من يتحدث لغة غيره لابد أن يخطئ فيها إن كان لا يتواصل بها بشكل يومي، وقد استغربت يوم عقدت جمعية الجامعة الصيفية دورة من دوراتها في أكادير، استغربت كيف أن المناضلين الأمازيغ كانوا يضحكون ويوشوش أحدهم للآخر ابتهاجا لأن كاتبة أمريكية كانت تحاضر باللغة الأمازيغية وترتكب بعض الأخطاء اللغوية. آنذاك تذكرت أن الفرنسيين لا يسمحون بارتكاب الأخطاء في لغتهم، وغالبا ما يصححونها قبل مواصلتك للحديث. إنها الفرانكفونية والخوف من الفناء. إن الازدواجية اللغوية حطمت وشائج المغاربة بمحيطهم. ولابد أن عددا كبيرا منهم يعاني الأمرين في المحاكم ومخافر الشرطة والإدارات المختلفة التي يتم التواصل فيها بالعربية الدارجة. وكثيرا ما حدث لنا شنآن حينما نقابل بسلوك استفزازي مرتبط بالتواصل اللغوي. بل كثيرا ما رأينا المصائب تحدث أمام أعيننا بسبب الجهل بلغات الوطن الواحد؛ فالمعروف أننا في المغرب ما زلنا نتمسك ببعض النعوت مثل "الشلح" التي تعني في المعجم العربي "قاطع الطريق"، أو "الريفي" التي تفيد البداوة، أو "البربري" التي تفيد التوحش. وأظن أن هذه التسميات يجب تجاوزها على وجه السرعة تداركا لأخطاء الأجداد، ولأن الأمازيغ لم يطلقوا على أنفسهم هذا التسميات؛ هذا طبعا إذا أردنا بناء وطن منسجم. وأظن أن تدارك هذه الأزمات مرتبط بشكل وثيق برهان التعليم الديموقراطي الذي يتوجب عليه أن يعكس التعدد اللغوي والثقافي للمغرب، فإلى حدود اللحظة، وبعد عقد ونيف من الزمن من إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية لم تتوافر للأمازيغية المكانة التي تستحقها في الإدارات والمدارس والحياة الاجتماعية. وما زالت وزارة التربية الوطنية تتلكأ في توسيع مساحة اللغة الأمازيغية أفقيا وعموديا، فضلا عن أشكال مختلفة من التواطؤ الاجتماعي غايته عرقلة المسار التنموي للانسجام اللغوي.
|
|
|
|
|
|