|
وادي حـلفا تستغيث!! بقلم أحمد دهب
|
روت لي أمراة طاعنة في السن وهي تمط شفتيها في حسرة بالغة بأنها مكثت في أحد أحياء العاصمة المثلثة ذهاء الـ(24)عاما دون أن تتمكن من السفر لزيارة الأهل والعشيرة في قريتها القابعة بين أحضان النيل بالقرب من مدينة (عبري)الواقعة في أقصى الشمال..ذلك لأن جسمها الواهن لا يقوى على إمتطاء شاحنة كبيرة تعدو بها مع بقية المسافرين عبر تلك الفيافي لمده (6)أو(7)أيام بلياليها..وفوق كثبان من الرمال تغوص فيها الشاحنات ولا تجد من ينقذها مما يزرع (الرعب)و(الهلع) في قلوب (الركاب) خصوصا مع نفاد الزاد فتصرخ البطون من فرط الجوع حتى تلوح في الأفق البعيد شاحنة أخرى هي في الغالب الأعم بمثابة طوق نجاة!! هذه المرأة العجوز وطبقا لحديثها غمرتها موجةمن الفرح حينما تناهت إلى مسامعها نبأ إفتتاح الطريق المعبد الجديد الذي لا غرو أنه سيساعد كثيرا في إختزال الزمن والإنتقال السريع لمرافئ القرية وفي مدة لاتعدو عن ال(9)ساعات متواصلة..فكانت هي من أوائل المسافرين الذين هرولوا لحزم حقائبهم فألقت بنفسها في جوف أول سيارة تهادت صوب الشمال فوصلت القرية في سويعات فوجدتها ما زالت تعبق برائحة النخيل فالتف من حولها أرتال من البشر يعانقونها في شوق كبير وكانت هي الأخرى أكثر توقا لمثل هذا التلاقي..خصوصا و إن الاحلام التي كانت تداعب خيالها أصبحت في تلك اللحظات الجميلة واقعا معاشا..وأنتابها فرح شديد حينما رأت القرية التي تركتها كل هذا الزمن الطويل ما زالت متألقة بجمالها وطبيعتها الساحرة..ومازالت تزهو وتتغنى بخضرتها اليانعة..والجزر الصغيرة التي تتوسط نهر النيل مازال يحفها الجمال من كل جانب وتتمايل طربا وكأنها حسناء ممشوقة القوام جدلت ضفائرها ليلة زفافها الميمون. أحست تلك (المرأة)وهي في تلك الحالة من الفرح بأن عمرا جديدا قد كتب لها الله سبحانه وتعالى وهي التي كانت تعتقد أن رحيلها عن الدنيا سوف يزف قبل أن ترى عيونها وجه هذه (القرية) التي شهدت ميلادها وعهد يفاعتها وشرخ شبابها حينما كانت تلهو في حدائقها وتتسلق جزوع النخيل فيها وتركض خلف قطيع من الأغنام لتسومها وترعاها فوق مساحات من العشب..فكانت ترتوي من مياه الغدير منتشية بنغمات السواقي وأصوات الضفادع حينما تلوذ بمخابئها في وقت الغروب !! كما رأت (القرية) بكل مكنوناتها الجمالية مع زالت تعزف على أوتار الحب والجمال وتعربد الحنان في قلوب سكانها فتنداح الألفة في الضلوع وكأن هؤلاء السكان جميعا قد أندلقوا من رحم (أم)واحدة . بالطبع فإن المرأة بكت وسالت دموعها من المأقي حينما تذكرت في تلك اللحظات بعض من أبناء وبنات القرية الذين أنتقلوا إلى رحاب المولى عز وجل أثناء غيابها الطويل ولكنها لم تجزع كثيرا لأن الدنيا هي دار الفناء..فقد تذكرت صديقة الطفولة (أمونة)التي كانت تقاسمها كل شئ يقع في يدها..وتذكرت إبن عمها(خالد)الذي كان يقودها الى شاطئ النيل لترتوي عيونها بتلك المناظر الجميلة والخضرة والصفاء والسفن الشراعية وهي تتهادى على صفحات المياه مما جعلها وهي تحلق في سماء هذه الذكريات تلعن تلك الظروف التي دعتها إلى إرتياد آفاق السفر إلى(الخرطوم) بعد أن تركت من وراء ظهرها تلك القرية الجميلة حيث شاهدت ورأت في العاصمة الكثير من القصص المقلوبة عن العادات والتقاليد التي أنطمرت تحت أنقاض المصالح الذاتية..والمثاليات التي راحت تتلوى من فرط الألام بغية البحث عن الثراء الفاحش والسريع.. هذه القصة تعكس تماما عن مدى المعاناة التي يكابدها أهل الشمال من فرط الأنقطاع الطويل عن مرافئ الوطن بسبب رداءة الطرق المحفوفة بشتى أنواع المخاطر خصوصا وبعد أن غابت مدينة وادي حلفا وأندثرت في جوف مياه (البحيرة)وهي التي كانت تمتلك وقبل إختفاء معالمها الأثرية والجمالية في أتون هذه البحيرة محطة كبيرة للسكك الحديدية تنتطلق منها أحدث أنواع القاطرات في ذلك الزمن الجميل ..وكان سكان المنطقة بأسرها من أبناء حلفا وسكوت والمحس ودنقلا يتخذون هذه القاطرات وسيلة لأرتياد العاصمة والمدن السودانية الأخرى..ناهيك عن الميناء النيلي والذي كان ومن خلال العديد من السفن أو البواخر يربط ما بين دولتي السودان ومصر مما يدعو في مثل هذه الحالة التفكير الجاد لإيجاد كل الأليات المتاحة من أجل تغيير الواقع المعاش في سبيل تعمير منطقة حلفا القديمة وإعادة الحياة فيها من جديد خصوصا وأن هناك رجال نذروا أنفسهم من أجل هذه الغاية النبيلة إلا أن المنطقة ولإحتياجها الشديد لمثل هذا البناء والتعمير تدعو وتستغيث المزيد من الأيادي والجهات العالمية والمحلية والتي بوسعها أن تساهم في هذا المجال.
ج:00966501594307
|
|
|
|
|
|