|
(تقتل طالب.. نقتل أمك).!!/عثمان ميرغني
|
أحد زملائنا القدامى في مدرسة بحري الحكومية الثانوية (أيام عزها ومجدها) حكى لي أنه كان يشارك في المظاهرات التي نسيرها ضد نظام الرئيس الأسبق جعفر النميري.. لكنه اكتشف بعد فترة من الزمن أن الهتافات التي كان يرددها خلال المظاهرات لم تكن صحيحة.. فمثلا.. كان يهتف بكل حرارة وتشنج (لن تحكمنا بوستة لندن).. ولكنه اكتشف بعد تخرجه من المدرسة أن الصحيح (لن تحكمنا بورصة لندن).. ورغم أننا كنا معه نردد الهتاف الصحيح.. لكننا مثله لم نكن نعلم ماهي مشكلة (بورصة لندن).. تماماً مثل طالب جامعة الخرطوم في المظاهرة التي كانت تهتف (مقتل طالب.. مقتل أمة).. فلم يسمع العبارة جيداً فكان يهتف (تقتل طالب.. نقتل أمك). أو المظاهرة التي سيرها (الفنيون) احتجاجاً على شهاداتهم.. فكانوا يهتفون (لا لظلم الفنيين),, لكن بعض المتظاهرين كانوا يهتفون (لا لزوم للفنيين). تصريحات السادة الساسة الكثيفة هذه الأيام قريبة الشبه بهتافات هؤلاء المتظاهرين.. قمت بعملية بسيطة لجمع التصريحات السياسة في الفترة من أول هذا الشهر.. فاكتشفت مفاجأة عظيمة.. اكتشفت أنهم يجهزون ويعدون تصريحاتهم بنفس الطريقة التي كنا نستخدمها (أيام المراهقة) في محاولاتنا لكتابة الشعر.. كنا نجمع كلمات القافية.. ثم بعد ذلك ننسج لها ما يناسبها من عبارات لتصبح قصيدة.. مثلاً نجمع هذه الكلمات (براك – كاك – هاك – داك – هناك) ثم نفتش لها عن كلمات تربطها لتصبح قصيدة. السادة الساسة يرتكبون خطأين قاتلين.. الأول يظنون أن ما يقولونه أمام المايكرفونات هو حصرياً على المستمعين داخل القاعة التي يتحدثون فيها.. والثاني وهو الأخطر.. يظنون أن التصريحات هي عملية (شحن رصيد).. رصيدهم في ميزان الحزب طبعاً.. كلما أمعنوا في (المبالغة!!) والتهويل من شأن الحزب.. ارتفع مقدارهم عند قيادة الحزب التي تحسبها في ميزان حسناتهم السياسية.. الغالبية الكاسحة من الساسة لم يدرسوا فن الإعلام.. ولا يرغبون في الاستنجاد بمستشارين في مجال الإعلام ليصنعوا لهم خطبهم وتصريحاتهم التي تملأ الصحف.. هم يظنون أن (فن الكلام) هو (فن النضمي).. وأن المسألة لا تحتاج سوى (قوة عين) وشجاعة أدبية.. وبعض المحسنات البلاغية – إن وجدت- وربما كلمتين ثلاثة بالدارجي لزوم النكهة الشعبية.. أو لزوم (المكاواة) في حالة الخطاب الهجومي على حزب أو سياسي آخر.. قليل من الساسة من يعلم أن الخطاب الجماهيري (حتى ولو كان هتافاً في مظاهرة) هو (رسالة إعلامية) تحمل كل الخصائص العلمية التي يجب أن تدرس جيداً قبل النطق بها.. حتى لا ترتد مثل الرصاصة.. أو تقتل خطأ مثل رصاصة الشرطة أمس الأول في المقرن. في الدول المتحضرة.. يشرف كبار المستشارين المختصين على إعداد خطب الساسة.. بل وأحياناً تدريبهم على إلقائها.. حتى تؤدي الغرض (الإعلامي) المقصود منها.. ومن هنا يأتي الفرق.. في الساسة هنا.. وهناك.. هناك ساسة يقصدون ما يقولون.. وهنا ساسة (لا) يقصدون ما يقولون..
|
|
|
|
|
|