|
سكان مملكة علوة من هم العنج /احمد الياس حسين
|
؟ أحمد الياس حسين [email protected]
هذا البحث عبارة عن مقدمة لدراسة سكان مملكة علوة من خلال المادة المتوفرة في المصادر العربية والتراث المحلي المخطوط والشفهي. ويركز البحث على دراسة العنج بافتراض أن "العنج" هو الاسم الذي كان يطلق على كل سكان مملكة علوة. وإلى جانب العنج تناولت الدراسة ما توفر من معلومات عن إثنى عشر تجمعاً سكانياً آخر انتشرت في كل أنحاء المملكة وعرف كل منها باسمه المحلي. ويشير هذا إلى الكثافة السكانية العالية في مملكة علوة الأمر والتي تتطلب تواصل البحث لتقفي آثار أولئك السكان بعد سقوط مملكة علوة، ومدى تأثيرهم على الأوضاع السكانية في مجتمعنا المعاصر. مقدمة واكب قيام مملكة علوة في النصف الأول من الألفية الأولى بعد الميلاد تغيرات كبيرة في المنطقة الواقعة بين نهر النيل والبحر الأحمر. فقد تطورت الصلات التجارية بين المحيط الهندي والبحر الأحمر والبحر المتوسط فعم النشاط التجاري المناطق الداخلية لسواحل البحرالأحمر الغربية، وظهرت مملكة أكسوم في شمال الهضبة الاثيوبية وتوسع نشاطها التجاري في مناطق الداخل على حساب مملكة مروي.
وأدى ذلك إلى الصراع بين المملكتين وضعف مملكة مروى وفقدانها السيطرة على أطراف حدودها وبخاصة الحدود الغربية. فقد تناولت المصادر اليونانية والرومانية نشاط قبائل النوبة على طول الصحراء الواقعة غربي النيل، وتحركات نفس القبائل في الداخل داخل مناطق الجزيرة والبطانة وعلى طول النيل شمال الحرطوم. أدي ذلك إلى انهيار مملكة مروي وريثة حضارة كوش القديمة. وتحدثنا المصادر عن خمسة ممالك ورثت مملكة مروي في المنطقة وهي: مملكة نودبا التي عرف في المصادر العربية بمملك مريس وعاصمتها فرس شمال وادي حلفا، ومملكة مَقُرّة وعاصمتها دنقلة، ومملكة علوة وعاصمتها سوبة، ومملكة البجة في شرق السودان، ومملكة البليميين (بجة) بين مملكتي البجة ومَقُرّة. وقد انفردت مملكة علوة فيما بعد باسم كوش، إذ لم أجد ما يوضح استمرار إطلاق اسم كوش أو الكوشيون على منطقة أو سكان مملكة مُقرة، وهذا بالطبع لا ينفي إمكانية استمرار إطلاق الاسم عليها أيضاً. وقد ذكر جون الأفسوسي نحو عام 580 م أثناء الحديث عن دخول القس لُنجِنوس مملكة علوة أن لونجنوس "سافر بعيداً جنوب مملكة النوباديين إلى القطر الذي أطلق عليه اليونانيون إسم علوة Aludos والذي يسكنه الكوشيون." (Giovanni Vantini, Oriental Sources Concerning Nubia, p 13.)
وظل اسم كوش علماً على المنطقة وسكانها حتى نهاية مملكة مروي. فتاريخ كوش امتد حتى القرن الرابع الميلادي، كما كان ملوك نبتة ومروي يطلقون على أنفسهم ملوك كوش.( آدمز، النوبة رواق افريقية ص 240) كما تبدو كوش - كما نقل جيوفاني فانتيني (المكان السابق) في الجزء الذي حققه لاند تحت عنوان Anecdota Syriaca من كتاب " صورة الأرض " الذي ألفه Skariي فphus نحو عام 555 م أي بعد نحو قرنين من سقوط مملكة مروي، تبدو كوش اقليما واسعاً، أطلق عليه Skariphus كوش الخارجة وكوش الداخلة. وتمتد كوش الداخلة حسب تصوره حتي منابع النيل الجنوبية التي هي منطقة البحيرات الحالية. أما كوش الخارجة كما يراها فتشمل المناطق التي قامت عليها ممالك مقرة وعلوة وأكسوم والبجة. وفي عام 580 م ذكر القس لونجنوس عن مملكة علوة عندما وصلها لتنصير ملكها، ذكر أن اليونانيين أطلقوا على القطر "علوة" ولكن السكان يعتبرون كوشيين.
مملكـة علـوة حدودها ومواردها المملكة وحدودها أرى أن التعرف على سكان مملكة علوة يتطلب في البداية التعريف بإيجاز بالمملكة وحدودها لكي يسهل علينا التعرف على سكانها. جاء أول ذكر لعلوة كما ذكر ماكمايكل على مسلة الملك الكوشي نستاسن الذي أرخ له رايزنر (298 – 278 ق م) حيث تلقب بلقب ملك علوة Alut إلى جانب المناطق الأخرى من مملكته. وقد شيد الملك ناستاسن معبداً في علوة مما يؤكد أهميتها كأحد أقاليم أو مدن مملكته. كما ورد ذكر علوة أيضاً في نقش عيزانا في القرن الرابع الميلادي أنه أخذ "أسرى عند إلتقاء نهري تكازى وسيدا، وفي اليوم التالي أرسلت الجيش للإغارة على القطر والمدن المشيدة بالطوب والقصب، المدن المشيدة بالطوب هي مدن علوة وDaro."
ويرى بعض المؤرخين أن علوة التي وردت في نقش عيزانا قُصد بها مروي، فتكون علوة مرادفة لكلمة مروي. كما يرى ماكمايكل (Mac Michael, A History of the Arabs in the Sudan, p 46 – 47.) أن علوة أطلقت في نقش الملك عيزانا ولاحقاً في كتابات ابن سليم الأسواني على العاصمة والإقليم.
وجاء اسم علوة في إغلب المصادر العربية مكتوباً بالتاء المربوطة في آخر الكلمة، ولم أقف على من رسم الاسم بالألف في الكلمة "علوا" غير ابن الفقيه وياقوت الحموي" (في مصطفى مسعد، المكتبة السودانية العربية ص 21 و166) وتبدأ حدود مملكة علوة في الشمال كما ذكر ابن سُلَيم (مصطفى مسعد، ص 107) بمنطقة الأبواب. ووضع ابن حوقل حدها الجنوبي على النيل بمسافة شهر إلى نهاية بلد طُبلي الذي يحده بلد كرسي جنوباً.
وتمتد حدود المملكة شرقاً مسافة ثمانية مراحل إلى منطقة تفلين عند دلتا القاش شمالي مدينة كسلا الحالية. وتتوغل حدود علوة غرباً في الصحراء مسافة خمس مراحل – كما ذكر ابن حوقل – إلى بلد امقل الذى ستناوله لاحقاً. وقد قدر اليعقوبي إتساع المملكة بنحو شلاثة أشهر. وهكذا امتدت حدود مملكة علوة – بناءً على المصادر العربية - على النيل الأبيض جنوباً، ووصلت حدودها شرقاً إلى منطقة كسلا وغرباً إلى مناطق دارفور. فمملكة علوة قد امتدت تقريباً على الحدود الحالية للمناطق الوسطى والغربية والشرقية للسودان. وسيتضح ذلك أكثر عنما نتعرض للمعلومات التي وردت في المصادر العربية عن المناطق التابعة للمملكة.
موارد المملكة تناولت المصادر العربية – وبخاصة مؤلفي ابن سليم وابن حوقل – وصف بلاد علوة وضحت أنهارها ومواردها ومدنها وسكانها. واتضح أن مملكة علوة تمتعت بثروات متنوعة من أراضي زراعية خصبة وواسعة وثروات حيوانية ومعدنية وأنشطة تجارية. وبينت المصادر العربية قوة مملكة علوة وثرائها بالمقارنة إلى مملكة مقُرة. فوصف ابن حوقل (في مصطفى مسعد ص 73) بلاد علوة بأنها أعمر بلاد النوبة وذكرأنها "ناحية لها قرى متصلة وعمارات متصلة حتى أن السائر ليجتاز في المرحلة الواحدة بقرى عدة غير منقطعة الحدود، ذوات مياه متصلة بسواق من النيل."
ووضح ابن سليم (فيمسعد ص 107) أن بلاد علوة "أخصب وأوسع من مقرة، والنخل والكرم عندهم يسير وأكثر حبوبهم الذرة البيضاء التي مثل الأرز منها، خبزهم ومزرهم واللحم عندهم كثير لكثرة المواشي، والمروج الواسعة العظيمة السعة، حتى أنه لا يوصل إلى الجبل إلا في أيام، وعندهم خيل عتاق، وجمال صهب عراب." وذكر الادريسي (في مسعد، ص 129) أن أهل علوة "يزرعون الشعير والذرة وسائر بقولهم من السلجم والبصل والفجل والقثاء والبطيخ"
وقد اشتهرت مملكة علوة كمصدر للذهب شأنها في ذلك شأن الممالك الافريقية في جنوب الصحراء في ذلك الوقت مثل ممالك غانة ومالي وكانم. فقد وضحت المصادر العربية توفر الذهب في أراضي مملكة علوة كما ذكر ابن حوقل، ويبدو أن أخبار كثرة الذهب في بلاد علوة قد أدت بياقوت الحموي (في مصطفى مسعد ص 96) إلى القول بإن الذهب "ينبت في بلادهم"
ووصف الادريسي (نفس المكان السابق) بإن "حال علوة في هيأتها ومبانيها ومراتب أهلها وتجاراتهم مثل ما هي عليه حالات مدينة دنقلة، وأهل علوة يسافرون إلى بلاد مصر وبين علوة وبلاق عشرة أيام في البر وفي النيل أقل من ذلك انحداراً ... وأكثر وكذلك أهل علوة ودنقلة يسافرون في النيل بالمراكب وينزلون أيضاً إلى مدينة بلاق في النيل"
كما ارتبطت مملكة علوة عبرالبحر الأحمر بعلاقات تجارية شرقاً ببلاد العرب. وإلى جانب قيام مملكة تفلين الإسلامية داخل حدود علوة الشمالية الشرقية في منطقة دلتا القاش، فقد كانت حدود المملكة مفتوحة أمام التجار المسلين بعكس ما كان الحال عليه في مملكة مقرة حيث لم يكن يسمح بدخول المسلمين إلى الجنوب من منطقة حلفا إلا بعد إجراءات إدارية دقيقة. ولذلك فقد ارتبطت علاقات مملكة علوة وقويت عبر حدودها الشرقية وبخاصة مع الممالك الاسلامية التي قامت في الحبشة.
فقد شهدت الحبشة ومنطقة القرن الافريقي قيام نحو أحد عشر مملكة اسلامية في الفترة الواقعة بين القرنين الثالث والتاسع الهجريين (9 – 15 م) ولما كانت حدود مملكة علوة مفتوحة مع الحبشة وعلاقاتها طيبة وقوية مع المسلمين - بدليل وجود مملكة اسلامية داخل حدودها – فلا بد أن ذلك أدى إلى تطور العلاقات إلى جانب التداخل السكاني بين علوة والحبشة عبر أحواض الأنهار والأودية المتعددة التي ربطت حدود البلدين. ولا بد أن ذلك أدى إلى انتشار الاسلام في حدود المملكة الشرقية مما هيأ الآوضاع إلى قيام سلطنة سنار. ويبدو لي معقولاً أن تاريخ المراحل المبكرة من قيام سلطنة سنار لا يمكن دراسته بمعزل عن تاريخ الحبشة في تلك الفترة.
أورد ابن سُلَيم الاسواني (في مصطفى مسعد ص 98-99) وصفاً مفصلاً للنيل وروافده في مملكة علوة، فذكر أن النيل يتشعب من منطقة الأبواب أنهار وهي: 1. نهر يأتي من ناحية المشرق كدر الماء يجف في الصيف حتى يسكن بطنه، فإذا كان وقت زيادة النيل نبع فيه الماء، وزادت البرك التي فيه، وأقبل المطر والسيول في سائر البلد، فوقعت الزيادة في النيل، وقيل: إنّ آخر هذا النهر، عين عظيمة تأتي من جبل.
ويواصل مؤرخ النوبة ابن سلسم : وحدّثني سيمون صاحب عهد بلد علوة، أنه يوجد في بطن هذا النهر، حوت لا قشر له ليس هو من جنس ما في النيل، يحفر عليه قامة وأكثر، حتى يخرج، وهو كبير وعليه جنس مولد بين العلوة والبجة، يقال لهم: الديجيون، وجنس يقال لهم: بازة يأتي من عندهم طير يعرف بحمام بازين، وبعد هؤلاء أوّل بلاد الحبشة.
2. ثم النيل الأبيض، وهو نهر يأتي من ناحية الغرب شديد البياض مثل اللبن. قال: وقد سألت من طرق بلاد السودان من المغاربة عن النيل الذي عندهم، وعن لونه، فذكر أنه يخرج من جبال الرمل، أو جبل الرمل وأنه يجتمع في بلد السودان في برك عظام، ثم ينصب إلى ما لا يعرف، وإنه ليس بأبيض، فإمّا أن يكون اكتسب ذلك اللون، مما يمرّ عليه أو من نهر آخر ينصب إليه، وعليه أجناس من جانبيه.
3. ثم النيل الأخضر، وهو نهر يأتي من القبلة مما يلي الشرق شديد الخضرة، صافي اللون جدّاً، يرى ما في قعره من السمك، وطعمه مخالف لطعم النيل، يعطش الشارب منه بسرعة، وحيتان الجميع واحدة، غير أنّ الطعم مختلف، ويأتي فيه وقت الزيادة خشب الساج والبقم والغثاء، وخشب له رائحة كرائحة اللبان، وخشب غليظ ينحت ويعمل منه مقدام، وعلى شاطئه ينبت هذا الخشب أيضاً، وقيل: إنه وجد فيه عود البخور.
ويواصل ابن سليم نقلاً عن مصدره "قال: وقد رأيت على بعض سقالات الساج المنحوتة التي تأتي فيه وقت الزيادة، علامة غريبة، ويجتمع هذان النهران الأبيض والأخضر عند مدينة متملك بلد علوة، ويبقيان على ألوانهما قريباً من مرحلة، ثم يختلطان بعد ذلك، وبينهما أمواج كبار عظيمة بتلاطمهما."
"قال: وأخبرني [عن] نَقْل النيل الأبيض، وصبه في النيل الأخضر فبقي فيه مثل اللبن ساعة قبل أن ي-+ختلطا، وبين هذين النهرين، جزيرة لا يعرف لها غاية، وكذلك لا يعرف لهذين النهرين نهاية، فأوّلهما يعرف عرضه، ثم يتسع فيصير مسافة شهر، ثم لا تدرك سعتهما."
4-7 والأنهار الأربعة الباقية، تأتي أيضاً من القبلة مما يلي الشرق أيضاً في وقت واحد، ولا يعرف لها نهاية أيضاً، وهي دون النهرين الأبيض والأخضر في العرض، وكثرة الخلجان والجزائر. وجميع الأنهار الأربعة تنصب في الأخضر، وكذلك الأوّل الذي قدّمت ذكره، ثم يجتمع مع الأبيض، وكلها مسكونة عامرة مسلوك فيها بالسفن وغيرها، وأحد هذه الأربعة يأتي مرّة من بلاد الحبشة.
وهكذا يتضح أن أن مملكة علوة خلفت مملكة مروي في تلك الحدود الواسعة ذات الثروات المائية والزراعية والحيوانية الغنية وذات الكثافة السكانية الواضحة في المصاجر العربية. فسكان مملكة علوة تكونوا من سكان مملكة مروي القدماء بالاضافة إلي موجات الهجرات النوبية التي أتت من الجنوب وتوغلت شمالاً عبر الصحراء الغربية للنيل وعبر النيل الأبيض وأراضي الجزيرة. وسنتعرف على أولئك السكان معتمدين أساساً على ما ورد في المصادر العربية من معلومات.
سكان بلاد علوة تناولت المصادر العربية أسماء بعض المواضع والمدن بلغت في جملتها ستة عشر ما بين مدينة وبلد واثنتي عشرة جماعة سكانية. وقد أطلق ابن سليم على سكان علوة بصورة عامة اسم العلوييين نسبة إلى مملكة علوة، لكن وردت أسماء التجمعات السكانية الكبيرة والصغيرة في أنحاء المملكة المختلفة ولعل أهمها هو العنج.
العـنج : هل هو الاسم الذي أطلق على سكان السودان في ذلك الوقت؟ وردت إشارات قليلة ومقتضبة في المصادر العربية عن العنج، فقد جاءت الاشارةعنهم ثلاث مرات في كتاب تشريف الآيام والعصور لابن عبد الظاهر (ت 792 هـ/ 1292 م) صفحات 197 و199 و201 ومرة عند الدمشقي (ت 739 هـ / 1328 م) في كتابه نخبة الدهر في عجائب البر والبحر ص 236.
الإشارة الأولي وردت ضمن عدد من أسماء المناطق التي أرسل إليها السلطان المملوكي قلاون 678 – 689 هـ / 1280 – 1290 م الأمير علم الدين سنجر المعظّمي سفيراً. ولم يوضح الكاتب مواقع تلك المناطق التي أُرسلت إليها السفارة، كما لم يتمكن الباحثون من تحديد أماكن تلك المناطق التي رجحوا وجودها في مناطق البجة ومملكة علوة. وقد ذكر الكاتب من بين الأماكن التي وصلتها السفارة منطقة "صاحب العنج"
الاشارة الثانية إلي العنج وردت مرتين أثناء الحملة التي أرسلها السلطان المملوكي خليل بن قلاون التي خرجت نحو عام 689 / 1290م بقيادة الأمير عز الدين الأفرم (ت 692 هـ / 1292 م) لتأديب ملك المقرة سمامون لخروجه عن طاعة المماليك. وقد طاردت الحملة جنوبي مدينة دنقلة أحد الأمراء الخارجين على السلطان ويدعى "آني". وذكر الكاتب أن الحملة وجدت من أخبرها أن الأمير آني: "له يومان مذ رحل إلي جهة الأنج [العنج]، فتبعه العسكر مسافة أخرى، وعادوا بعدأن قتلوا خلقاً كثيراً، وأسروا حريمهم، وأخذوا مالهم، ورجعوا بغنيمة عظيمة؟ ولم يسلم الملك آني إلا ومعه سبعة أنفار، وما أخر العسكر من لحاقه إلا شدة العطش، ولأن البلاد التي وصلوا إليها بلاد خراب، مأوى الفيلة والقردة والخنازير والزرافات والنعام."
ويواصل الكاتب حديثه أنه بعد رجوع الحملة من مملكة مقرة وصل كتاب من ملك الأبواب - في أول بلاد علوة – إلي السلطان المملوكي يذكر فيه أنه تأخر من الحضور إلي الأبواب السلطانية لأنه كان يطارد الملك آني، و"أن بلاد الأنج تغلب عليها ملك غير ملكها، وأنه متحيل في أخذها منه، وإذا أخذها صار جميع بلاد السودان في قبضة مولانا السلطان وطاعته"
يلاحظ أن اسم العنج لم يظهر في المصادر العربية إلا في نهاية القرن السابع الهجري ( 13م) عندما بدأ المماليك تدخلهم في شؤون مملكة مقُرة. وكانت المصادر السابقة لهذا التاريخ تتحدث عن المملكتين الكبيرتين مقُرة وعلوة وعن ممالك البجة وما يتبعهما من مناطق وسكان. ولا بد أن الاسم كان معروفاً ومستخدماً في الداخل للدلالة على منطقةٍ "بلاد العنج"، كما يشير أيضاً إلى السكان كما سيتضح ذلك من نَص الدمشقى الآتي. ويدل ذلك أن الاسم كان معروفاً وسائد الاستعمال في الداخل، ولم يكن معروفاً للمسلمين في مصر.
وليس من السهل التعرف على موقع بلاد العنج من خلال ما ورد عن حملة عز الدين الأفرم. وقد ذكر المؤلف أن عز الدين الأفرم تعدى مدينة دنقلة ثلاثة وثلاثين يوماً في مطاردة الأمير (أو الملك كما يطلق عليه أيضاً) آني. ولو اعتبرنا أن الحملة "تعدت" دنقلة – كما عبر ابن عبد الظاهر – ثلاثة وثلاثين يوماً في الذهاب والاياب، تكون قد توغلت فيما بعد مجينة دنقلة نحو خمسة عشر يوماً،. قد تكون هذه المسافة جنوباً ووصلت إلى منطقة زانكور في شمال كردفان كما يرى عدد من الباحثين. أنظر: (Arkell, A History of the Sudan p 198) وتكون شمال كردفان هي منطقة العنج على هذا الرأي، وأرى أن هذا لرأي يبدو مقبولاً.
ويرى الدكتور أحمد المعتصم الشيخ (زمن العنج ص 9) أن الحملة توجهت شرقاً من دنقلة إلى أبو حمد، ثم دخلت الصحراء شرقاً. وتكون بلاد العنج كما يرى الباحث هي المنطقة الممتدة من أبوحمد شرقاً. ولا أخالفه الرأي في أن بلاد العنج من الممكن أن تكون ممتدة إلى الشرق من أبو حمد، إلا أنني لا أرى أن مطاردة الأمير آني كانت في تلك الجهات. فالحملة قد سارت من دنقلة نحو خمسة عشر يوماً وهو الوقت الذي يوصلها أبو حمد، إذ المسافة بين دنقلة وأبو حمد كما قدرها الباحث خمسة عشر يوماً، وهي كل الأيام التي سارتها الحملة. فكيف تكون قد توغلت في الصحراء إلى أن بلغت مناطق الحيوانات التي ذكرت في النّص؟ وبناءً عليه يمكن ترجيح أن بلاد العنج الي أشار إليها ابن عبد الظاهر تمتد في منطقة شمال كردفان.
الإشارة الرابعة عن العنج وردت عند الدمشقي، فقد نقل الدمشقي عن تجار أسوان أن أصناف النوبة هم: أنج وأزكرسا ووالتبان وأندا وكنكا. والجديد الذي أضافه الدمشقي عن العنج ما ذكره من أن العنج يسكنون جزيرة كبيرة من جزائر النيل تسمى أندا. وهو بهذا يوضح مكاناً آخر للعنج وهو الجزيرة الكبيرة والتي يقصد بها في المؤلفات العربية المنطقة الواقعة بين النيل الأبيض والنيل الأزرق كما سنتعرض له لاحقاً. وهذا مكان ثانياً للعنج بالاضافة إلى المكان الأول الذي ذكره ابن عبد الظاهر وهو المنطقة الصحراوية.
ويلاحظ في الرسالة – الإشارة الثانية - والتي أرسلها ملك الأبواب إلي السلطان المملوكي يذكر فيها "أن بلاد الأنج تغلب عليها ملك غير ملكها، وأنه متحيل في أخذها منه، وإذا أخذها صار جميع بلاد السودان في قبضة مولانا السلطان وطاعته" توضح أن مملكة العنج مملكة كبيرة تسيطر على مناطق واسعة بحيث ذكر ملك الأبواب أن خضوعها يعني خضوع كل السودان. ويبدو من المعقول أن تكون بلاد العنج هنا مقصودبها مملكة علوة.
ويمكن أن نستلخص مما ورد في المصادر العربية عن العنج أنه كانت لهم مملكة كبيرة وواسعة تمتد جنوباً في صحراء بيوضة إلى شمال كردفان، كما تمتد في الجزيرة الواسعة الواقعة بين النيلين الأبيض والأزرق وفي أرض البطانة وشرقالسودان، وقد تكون الإشارة إلى العنج مقصود بها كل بلاد علوة. ويبدو أن سلطة المملكة المركزية لم تكن قوية على أقليم الدولة، وقد تمتعت بعض هذه الأقاليم من تحقيق كياناتها المستقلة مثل مملكة الأبواب التي خاطبها المماليك مباشرة إلى جانب بعض المناطق الأخرى التي وصلتها سفارة المماليك والتي – يبدو معقولاً – أن بعضها كان في حدود مملكة علوة.
وإلى جانب ما جاء في المصادر العربية عن العنج وردت عنهم أيضاً بعض المعلومات في المؤلفات المحلية المطبوعة والمخطوطة. وسنتناول هنا ما ورد عن العنج في كتاب "كاتب الشونة" الذي ألف في القرن التاسع عشر، وما ورد في مخطوطة ود دوليب التي ترجع إلى القرن السابع عشر الميلادي.
جاءت الإشارة تلات مرات في مؤلف كاتب الشونة (صفحات 8 و124 و129) توضح بصورة مباشرة أن النوبة الذين سبقوا قيام دولة الفونج هم العنج، فقد ورد ما يلي:
1. "إن الفونج ملكت بلاد النوبة وتغلبت فيها في أول القرن العاشر بعد التسعمائة، وخطت مدينة سنار خطها الملك عمارة دونقس، وهو أولهم. وخطت مدينة أربجي قبلها بثلاثين سنة خطها حجازي بن معين، وعلى هذا يتضح أن عمارة أربجي في مدة العنج" 2. وورد في مكان آخر: أما الجهة الشرقية فقد كان بها أولاد عون الله وهم سبعة رجال في مدة العنج أي النوبة، وكان أحدهم المسمى بالضرير قاضياً في مدة العنج قبل مدة الفونج." 3. وذكر أيضاً: "واتفق عمارة المذكور مع عبد الله جماع القريناتي من عربان القواسمة ، وعبد الله المذكور هو ولد الشيخ عجيب الكافوتة جد أولاد الشيخ عجيب، وتمت كلمتهم على محاربة النوبة وهم العنج ملوك سوبة وملوك القري. وتوجه عمارة وعبد الله المذكوران بما معهما من الجيش وحاربوا ملوك العنج وقتلوهم وأجلوهم من سوبة ... اتفق رأي عمارة بأن يكون هو الملك عوضاً عن ملك علوة التي هي سوبة " 4. ويواصل كاتب الشونة ما حدث بعد انتصار عمارة وعبد الله جماع قائلاً: "أما النوبة فمن بعد ما حصل بينهم من المحاربة والمقاتلة وصار الظفر للفونج تفرقوا شذر مذر، منهم من فر إلى جبال الصعيد فازوغلي وغيرها، ومنهم من فر بالغرب إلى جبال كردفان، ولم يبق منهم إلا أنفار قليلة دخلوا في الاسلام وتفرقوا في البلاد وسكنوا مع الناس وتناسلوا فيهم، وهم إلى الآن أنفار قليلون جدّاً ... وقليل من الناس يعرف أن أصلهم من النوبة لأن لسانهم الآن عربي حكم لسان العرب.
أما عن المخطوطات المحلية فهي عبارة عن تدوين للروايات الشفاهية التي كانت سائدة إبان كتابتها، فهي من حيث محتواها لا تختلف عن الروايات الشفاهية كثيراً اللهم إلا في بعض الأحداث التي عاصرها الكاتب ودونها فتكون أوفر حظّاً في مصداقيتها. ورغم اشتهار طبقات ود ضيف الله بأنها أحتوت الكثير من التراث لمنطقة وسط السودان إلا أن ذكر العنج لم يرد فيما تناولته من أحداث وسير.
وقد ورد ذكر القبائل التي تنتمي للعنج في مناطق متفرقة من السودان في مخطوطة الدواليب (ود دوليب) التي نقلها ماكمايكل باشراف شيخ التجانية بكردفان الشيخ الدرديري محمد والتي تحتوي على 85 صفحة مكونة من ثلاث أجزاء. الجزء الأول كتبه غلام الله بن عائد في القرن الخامس عشر الميلادي أي قبل قيام دولة الفونج، والجزء الثاني أضافه أحد أحفاده وهو محمد دوليب الكبير عام 1680 م أي بعد نحو 174 سنة من قيام دولة الفونج وهو الجزء الذي تم الرجوع إليه هنا فيما يتعلق بالعنج، والجرء الثالث كتبه محمد دوليب الصغير عام 1738م ولم يتعرض لتفاصيل القبائل في السودان, (أنظر المخطوط في Mac Michael, A History of the Arabs in the Sudan vol. 1 p 194 – 197.
فالمعلومات التي وردت عن العنج في مخ(.........)طو ود دوليب تمثل المفهوم العام للسودانيين بعد في القرن الأول لقيام دولة الفونج وقبل مايقارب الأربعة قرون من زماننا الحاضر. ورد في المخطوط أسماء بعض القبائل ذات الأصول العنجية في مناطق الولايات الشمالية والنيل الأبيض وكردفان ودارفور.
ورد في المخطوط أن سكان المناطقة الواقعة على النيل الأبيض وحتى منطقة دنقلة شمالاً ينتمون للعنج وكذلك سكان شمال كردفان في منطقة جبل حرازة ما عدا الدواليبن والداجو والكراريت في قبيلة الحمر بدارفوروسكان منطقة جبل قيلي جنوب الرصيرص. فالعنج بناءً على مفهوم السودانيين قبل نحو أربعة قرون كما عبرت عنه المخطوطة ينتشرون على طول النيل الأبيض ونهر النيل حتى دنقلة، ويمتدون غربا في مناطق كردفان ودارفور.
وتكتمل الصورة بما أورده ماكمايكل (المرجع السابق. وكذلك ماكمايكل، قبائل شمال ووسط كردفان تعريب سيف الدين عبد الحميد صفحات 30 و72 و107 و127) الذي اعتمد في مادته على روايات التراث المحلي أيضاً، فقد نقل أن أصول قبائل الفنكور والكراريت في دارفور وسكان شمال كردفان القدماء وبخصة سكان جبال شمال كردفان ترجع إلى العنج. ووضح أن تراث البطاحين في مناطقهم شرقي النيل الأزرق تراث سكان منطقة ألتي بالجزيرة يرجعان أصول السكان في تلك المناطق إلى العنج. فالعنج بناءً على ذلك ينتشرون في وسط وشمال وغرب السودان. ويضيف الأستاذ عبد الباقي حسن فيرين (الأماوين (النيمانج): بقية الشعب المروي (بروا) العظيم ص 96 – 99) إلى تراث الغنج في منطقة جبال النوبة وبخاصة عند قبيلة الأماويون (النيمانج) التى رجح أن أصلها من العنج.
ومن جانب آخر فقد تتبع الدكتور أحمد المعتصم الشيخ أيضاً الروايات الشفاهية الغنية بتراث العنج. تلك الروايات ذات الانتشار الواسع بين كل السكان في المناطق الواقعة بين الشلال الرابع شمالاً والنيل الأبيض جنوباً وبين منطقتي الجزيرة والبطانة شرقاً وشمال كردفان غرباً. واستخلص أن هذه المناطق التي ارتبطت بتراث العنج هي مناطق انتشار العنج قديماً.
كما يرى الدكتور أحمد المعتصم (زمن العنج ص11) أن الحلنقة هم العنج مستدلاً على ذلك باسمهم الذي يعني في اللغة الأمهرية السوط، وهذا السوط هو ما نعرفه في كل أنحاء السودان بسوط العنج. وأتفق مع الدكتور في كل المقدمات التي ساقها في الربط بين الحلنقة والعنج، ولكني أرى ضرورة التوضيح أن الحلنقة جزء من الشعب الكبير المعروف بالعنج. فهل ارتبطت أصول الاسم المبكرة بالشرق ؟
وقد تعدت الروايات الشفاهية عن العنج مناطق النيل ووصلت إلى سواحل البحر الأحمر، فقد نقل أحمد المعتصم عن مخوطة "واضح البيان في ملوك العرب بالسودان" لعبد الله بن الأرباب الحسن بن شاور أن عبد الله جماع "خضعت له جميع البلاد إلا منطقة العنج في جهات البحر الأحمر فتحها ابنه الشيخ عجيب بعد أن علم أن شيخ عربان العنج مخالف للشرع المحمدي"
ويدل امتداد ارتباط تراث العنج حتى البحر الأحمر بالانتشار الواسع لاسم للعنج ودلالته على سكان مملكة علوة، وبما أن كل المادة الواردة عن العنج تربطهم بفترة مملكة علوة السابقة لانتشارة العربية الاسلام ودخول القبائل العربية فإن ذلك يوضح امتداد حدود مملكة علوة. فهل امتدت حدود مملكة علوة على كل المناطق التي انتشر فيها تراثهم؟ ليس هنالك ما يمنع ذلك، بل هو الأكثر ترجيحاً. كما يلاحظ أن المخطوط وصف العنج بأنهم عرب، كما وصف زعيمهم بشيخ العرب، ويوضح هذا أن صفة العرب في التراث السوداني الشفاهي والمخطوط اللاحق لانتشار الاسلام واللغة العربية أصبحت تطلق على كل القبائل التي تحثت اللغة العربية بغض النظر عن انتمائها العرقي.
وهكذا يتضح من خلال ما وصل إلينا من معلومات حول العنج في المصادرالعربية – كما في الإشارات الأولى والثانية والثالثة أعلاه – أن العنج هم: • النوبة سكان مملكة علوة، وأن لفظ العنج كان يستخدم لملوك مملكة علوة ولسكانها الذين تفرقوا في البلاد بعد سقوط دولتهم، وأنهم اختلطوا بالسكان ودانوا بالاسلام، وحلت اللغة العربية محل لغتهم الأصلية ولم يصبح لهم كيان مستقل يميزهم عن باقي السكان. كما يتضح من خلال ما ورد في المخطوطات المحلية والروايات الشفهية أن العنج كانوا سكان: • سكان غرب السودان كما في الروايات المحلية لقبائل الحمر والفنكور والداجو وكاتول • وسكان مناطق وسط وشمال وشرق السودان كما اتضح من تتبع أحمد المعتصم الشيخ ومخطوطة ود دليب • إذاً فالعنج هو الاسم العام الذي أطلق على كل سكان مملكة علوة.
التجمعات السكانية الأخرى وإلى جانب العنج وردت الاشارات إلى أسماء بعض الجماعات السكانية الأخري في مملكة علوة والتي ربما كانت تندرج تحت اسم العنج وهي: الديجون وأهل تفلين والكرنينا ومرنكا وكرسي وتكنة ونوبة النيل الإبيض والتبان وكنكا. الديجيون عرف ابن سليم (فيمصطفى مسعد ص 100) الديجيون بأنهم جنس مولد بين العلويين والبجة على نهر عطبرة. ويبدو أن وضع ابن حوقل الديجيون على نهر عطبرة يحتاج إلى بعض المراجعة، فابن سُليم زار مناطق النيل لكنه لم يعرج إلى المناطق الشرقية وكتب مادته عنها عن طريق الروايات التي وصلته عن الديجيون - كما ذكر- أثناء وجوده في مملكة مقُرة. فأغلب الظن أن الديجيون الذين ذكرهم منسوبون إلى دُجن وهي منطقة دلتا القاش، فهم "الديجيون" واختلط الأمر على مُخْبر ابن سُليم وجعلهم على نهر عطبرة بدلاً من القاش.
أهل تفلين وردت الإشارة إلي أهل تفلين عند ابن حوقل (صورة الأرض ص 74) ولم يذكر أسمهم بل نسبهم إلى منطقة تفلين التي ذكر أنها تقع بين أعالى خور القاش شرقاً وحتى حدود مملكة علوة غرباً. قال ابن حوقل يصف وادي القاش ودلتاه: "والنهر المعروف بالدجن يأتي من بلد الحبشة فينقطع في أعمال دجن ومزارعها، ودجن هذه قرى متصلة ذوات مياه ومشاجر وزرع وضرع. وإلى وسط هذا الوادي تفلين قرى أيضاً للبادية منهم، ينتجعونها للمراعي حين المطر، ولهم ملك مسلم يتكلم العربية من قبل صاحب علوة. ويختص أهل تفلين بالإبل والبقر ولا زرع لهم، فيهم مسلمون كثيرون من غير ناحية على دينهم يتجرون ويسافرون إلى مكة وغيرها." اتفق الباحثون أن الدجن أو الدكن كما يرد بعض الأحيان هو وادي ودلتا القاش، وقد عرفت دلتا القاش ببلاد التاكا. ويبدو وادي القاش- من وصف ابن حوقل - مأهولاً بالسكان، وفي وسطه تفلين. وقد يفهم من حديث ابن حوقل أن بعض أهل تفلين مستقرون على الوادي وبعضهم بدواً ينتجعون قرى تفلين للرعي، ولكنه أضاف أيضاً أن أهل تفلين يختصون بالابل والبقر ولا زرع لهم، وربما أراد بهؤلاء البدو منهم.
ويوضح نص ابن حوقل أن حدود مملكة علوة تمتد شرقاً حتى وادي القاش أي منطقة كسلا الحالية حيث امتدت مملكة تفلين التي كانت تابعة للملكة علوة. كما يوضح النص انتشار الاسلام المبكر في المنطقة الشرقية لمملكة علوة، وقيام مملكة اسلامية وانتشار اللغة العربية منذ القرن الثالث الهجري (9 م) وهو الوقت الذي كتب فيه ابن حوقل. وربما كان انتشار الاسلام وقيام المملكة قد سبق هذا التاريخ. كما اتضح نشاط مملكة تفلين وعلاقاتها التجارية بالعالم الاسلامي، وقد أشرنا من قبل إلى أن مملكة علوة كانت منفتحة في علاقاتها بالعالم الاسلامي بعكس مملكة مقُرة. الكرنينا ذكر ابن سليم أن الكرنيكا يسكنون "الجزيرة الكبرى الواقعة بين البحرين" ويقصد بالبحرين هنا النيلين الأبيض والأزرق، فهو يعبر بـ "البحرين" بدلاً من النيلين كما يعبرعامة السودانيين اليوم. ولم يذكر عنهم سوى القصة التي رواها عن زراعتهم والتي لخصها أيضاً أبو صالح الأرمني. وفيما يلى ما أورده ابن سليم : "ومما في بلده من العجائب: أنّ في الجزيرة الكبرى التي بين البحرين جنساً يعرف بالكرنينا لهم أرض واسعة مزروعة من النيل والمطر، فإذا كان وقت الزرع خرج كل واحد منهم بما عنده من البذر، واختط على مقدار ما معه وزرع في أربعة أركان الخطة يسيراً، وجعل البذر في وسطه الخطة وشيئاً من المزر، وانصرف عنه فإذا أصبح وجد ما اختط، قد زرع وشرب المزر، فإذا كان وقت الحصاد، حصد يسيراً منه ووضعه في موضع أراده ومعه مزر، وينصرف، فيجد الزرع قد حصد بأسره، وجرّن فإذا أراد دراسه وتفريته فعل به كذلك، وربما أراد أحدهم أن ينقي زرعه من الحشيش، فيلفظ بقلع شيء من الزرع فيصبح، وقد قلع جميع الزرع، وهذه الناحية التي فيها ما ذكرته بلدان واسعة مسيرة شهرين في شهرين يزرع جميعها في وقت واحد، وميرة بلد، علوة ومتملكهم من هذه الناحية، فيوجهون المراكب، فتوسق، وربما وقع بينهم حرب."
"قال: وهذه الحكاية صحيحة معروفة مشهورة عند جميع النوبة والعلوة، وكل من يطرق ذلك البلد من تجار المسلمين لا يشكون فيه ولا يرتابون به، ولولا أنّ اشتهاره وانتشاره مما لا يجوز التواطؤ على مثله، لما ذكرت شيئاً منه لشناعته، فأما أهل الناحية، فيزعمون إن الجنّ تفعل ذلك، وأنها تظهر لبعضهم، وتخدمهم بحجارة ينطاعون لهم بها، وتعمل لهم عجائب، وأنّ السحاب يطيعهم."
أندا جعل الدمشقي أندا من أصناف النوبة ويسكنون "جزيرة عظيمة من جزائر النيل تسمى أندا، وهم بها، لا يستترون بشئ البتة ." وربما أندا هو اسم الجزيرة الكبرى التى كتب عنها وعن سكانها ابن حوقل وابن سليم. مرنكة ذكر ابن حوقل أن مرنكة تقطن على نهر أور في أعالي بلاد علوة والذي يجري من الشرق إلى الغرب ويصب في النيل، ويقصد بنهر أورالنيل الأزرق. ولم يورد عنها سوى أنه قبيلة من النوبة.
كرسى / أزكرسا وصف ابن حوقل كرسى بأنهم أمة كثيرة من النوبة، وتقع ديارها على نهر أتمتي المتفرع من أعلى نهر أور، ونهر أتمتي هو الدندر. وتمتد ديارهم على النهرحتى بلاد الحبشة ... وأهل كرسى أصحاب زفال وهو الجلد الذي يتزرون به عرضاً ويستخرج طوله من عند الأفخاذ فيغرز عند السرة فيما انعقد من الزفال. وقد ذكر الدمشقي "أزكرسا" ووصفهم بأنهم صنف من النوبة، ربما كانوا هم الكرسى رغم أنه وضعهم بعيدين عن النيل.
تكنة اتفقت آراء المؤرخين الذين كتبوا عن تكنة – ابن الفقيه والمسعودي وياقوت الحموي – على أن موقع تكنة أقصى جنوب بلاد علوة، ولم توصف بانتمائها للنوبة مثل الكرنينا وأندا وكرسى بل وصفوا بأنهم أمة من السودان عراة، أرضهم تنبت الذهب ، وأطنب ياقوت الحموي في وصفهم وتضمن وصفه من السمات الخيالية الغريبة التي دأبت المصادر العربية على إيرادها عن الشعوب النائية والبعيدة عنهم، ونثبته هنا كمثال لما يرد في بعض تلك المصادر. قال ياقوت: "عراة لا يلبسون ثوباً ألبتة إنما يمشون عراة، وربما سبي بعضهم وحمل إلى بلاد المسلمين، فلو قطع الرجل أو المرأة على أن يستتر أو يلبس ثوباً لا يقدر على ذلك ولا يفعله، إنما يدهنون أبشارهم بالأدهان. ووعاء الدهن الذي يدهن به قلفته فإنه يملأها دهناً ويركي رأسها بخيط فتعظم حتى تصير كالقارورة، فإذا لدغت أحدهم ذبابة أخرج من قلفته شيئاً من الدهن فدهن به ثم يربطها ويتركها معلقة. وفي بلادهم ينبت الذهب."
نوبة النيل الأبيض أشارابن حوقل إلى سكان النيل الأبيض من النوبة، ولم يورد معلومات عنهم، ولم أعثر لهم على ذكر في المصادر الأخرى. ذكر ابن حوقل: "ومن غربي النيل نهر يجري من ناحية الغرب كبير غزير الماء يعرف بالنيل الأبيض وعليه قوم من النوبة." الأحديين والجبليين تناول ابن حوقل منطقة متوغلة في الصحراء غربي النيل الأبيض أطلق عليها اسم امقل ذكرأنها تقع بين علوة وبين الأمة المعروفة بالجبليين. وتقع بلد امقل على بعد خمسة مراحل من علوة ثلاثة منها في الصحراء. وقال إنها:
"ناحية كبيرة ذات قرى لا تحصى وأمم مختلفة ولغات كثيرة متباينة لا يحاط بها ولا يبلغ غايتهم يعرفون بالأحديين، وفيهم معادن الذهب الجيد والتبر الخالص والحديد متصلين بالمغرب إلى ما لا يعرف منتهاه، زيهم زي المغاربة، أرباب جمال وخيل ورازين غير تامة الخلق لقصرها وقرب لبودها، وسلاحهم فيه درق كدرق المغاربة بيض وحراب، وسيوفهم أيضا غير تامة، وفيهم جند يلبسون السراويلات المفتحة الطوال ونعالهم كنعال المغاربة وهم على النصرانية، وهم في طاعة ملك علوة. التبان وكنكا أشار إليهم الدمشقي ولم يحدد موقعهم، "وذكر أنه يوحد بأرضهم معادن الحديد، ولا يعيش
بأرضهم حيوان لشدة حرها" وكنكا ذكرهم أيضاً الدمشقي ولم يحدد موقعهم ولم يورد معلومات عنهم.
الخاتمة في النهاية أود أن أشير إلى أن دراسة تاريخ أصول وتكوين المجتمعات من الدراسات الأساسية التي تؤدي إلى ربط المجتمعات بتراثها وبخاصة المجتمعات متعددة الأعراق والثقافات كما هو الحال في مجتمعنا السوداني. ولذلك ينبغي علينا التركيز على هذا النوع من الدراسات والتشجيع على ارتيادها رغم الصعاب التى تحيط بها والتي يأتي شح المصادر في مقدمتها.
وقد حاول هذا البحث التعرف وتسليط بعض الضوء على سكان مملكة علوة، ويرى الباحث - بما توفر لديه من معلومات – أنه يمكن القول أن حدود مملكة علوة شملت حدود جمهورية السودان الحالية باستثناء بعض مناطق الشمال وأن المملكة تمتعت بموارد مائية وثروات زراعية ومعدنية غنية أدت إلي كثافة سكانية واضحة، وأنه كانت هنالك العديد من التجمعات السكانية التي أشارت إليها المصادر بأسمائها المحلية، وأن اسم العنج كان الاسم العام الذي عُرِف به سكان المملكة.
وبما أن مملكة علوة قد انهارت قبل نحو خمسة قرون فقط، فإنه ينبغي علينا التعرف على أولئك السكان في مجتمعاتنا المعاصرة التي تكونت بعد انهيار مملكة علوة، خاصة وأن كل الأسماء التي عرفت بها تلك التجمعات (أو القبائل) قد اختفت حالياً وحلت أسماء جديدة محل تلك الأسماء. أين أولئك الناس الآن؟ وأين مواطنهم؟ وما هي أسماؤهم الجديدة بينأسماءالقبائل الحالية؟
الهوامش
المؤتمر السنوي للدراسات العليا والبحث العلمي مؤتمر الدراسات الانسانية والتربوية 25 – 28 فبرائر 2013
سكان مملكة علوة هل "العنج" هو الاسم الذي أطلق على سكان السودان في ذلك الوقت؟
د أحمد الياس حسين كلية التربية جامعة الخرطوم
فبرائر 2013 م
المستخلص هذا البحث عبارة عن مقدمة لدراسة سكان مملكة علوة من خلال المادة المتوفرة في المصادر العربية والتراث المحلي المخطوط والشفهي. ويركز البحث على دراسة العنج بافتراض أن "العنج" كان هو الاسم الذي أطلق على كل سكان مملكة علوة. وإلى جانب العنج تناولت الدراسة ما توفر من معلومات عن إثنى عشر تجمعاً سكانياً آخر انتشرت في كل أنحاء المملكة وعرف كل منها باسمه المحلي. ويشير هذا إلى الكثافة السكانية العالية في مملكة علوة الأمر والتي تتطلب تواصل البحث لتقفي آثار أولئك السكان بعد سقوط مملكة علوة، ومدى تأثيرهم على الأوضاع السكانية في مجتمعنا المعاصر. مقدمة واكب قيام مملكة علوة في النصف الأول من الألفية الأولى بعد الميلاد تغيرات كبيرة في المنطقة الواقعة بين نهر النيل والبحر الأحمر. فقد تطورت الصلات التجارية بين المحيط الهندي والبحر الأحمر والبحر المتوسط فعم النشاط التجاري المناطق الداخلية لسواحل البحرالأحمر الغربية، وظهرت مملكة أكسوم في شمال الهضبة الاثيوبية وتوسع نشاطها التجاري في مناطق الداخل على حساب مملكة مروي.
وأدى ذلك إلى الصراع بين المملكتين وضعف مملكة مروى وفقدانها السيطرة على أطراف حدودها وبخاصةالحدود الغربية. فقد تناولت المصادر اليونانية والرومانية نشاط قبائل النوية على طول الصحراء الواقعة غربي النيل، وتحركات نفس القبائل في الداخل داخل مناطق الجزيرة والبطانة وعلى طول النيل شمال الحرطوم. أدي ذلك إلى انهيار مملكة مروي وريثة حضارة كوش القديمة. ونحدثنا المصادر عن قيام ثلاث ممالك ورثت مملكة مروي في المنطقة وهي: مملكة مقرة في جزئها الشمالي ومملكة علوة في جزئها الجنوبي بينما قامي ممالك البجة على أراضيها وحدودها الشرقية. وقد انفردت مملكة علوة فيما بعد باسم كوش، إذ لم أجد ما يوضح استمرار إطلاق اسم كوش أو الكوشيون على منطقة أو سكان مملكة مُقرة، وهذا بالطبع لا ينفي إمكانية استمرار إطلاق الاسم عليها أيضاً. وقد ذكر جون الأفسوسي نحو عام 580 م أثناء الحديث عن دخول القس لُنجِنوس مملكة علوة أن لونجنوس "سافر بعيداً جنوب مملكة النوباديين إلى القطر الذي أطلق عليه اليونانيون إسم علوة Aludos والذي يسكنه الكوشيون." وقد ظل اسم كوش علماً على المنطقة وسكانها حتى نهاية مملكة مروي. فتاريخ كوش امتد حتى القرن الرابع الميلادي، كما كان ملوك نبتة ومروي يطلقون على أنفسهم ملوك كوش. كما تبدو كوش في الجزء الذي حققه لاند تحت عنوان Anecdota Syriaca من كتاب " صورة الأرض " الذي ألفه Skariphus نحو عام 555 م أي بعد نحو قرنين من سقوط مملكة مروي، تبدو كوش اقليما واسعاً، أطلق عليه Skariphus كوش الخارجة وكوش الداخلة. وتمتد كوش الداخلة حسب تصوره حتي منابع النيل الجنوبية التي هي منطقة البحيرات الحالية. أما كوش الخارجة كما يراها فتشمل المناطق التي قامت عليها ممالك مقرة وعلوة وأكسوم والبجة. وفي عام 580 م ذكر القس لونجنوس عن مملكة علوة عندما وصلها لتنصير ملكها، ذكر أن اليونانيين أطلقوا على القطر "علوة" ولكن السكان يعتبرون كوشيين.
مملكـة علـوة حدودها ومواردها المملكة وحدودها أرى أن التعرف على سكان مملكة علوة يتطلب في البداية التعريف بإيجاز بالمملكة وحدودها لكي يسهل علينا التعرف على سكانها. جاء أول ذكر لعلوة كما ذكر ماكمايكل على مسلة الملك الكوشي نستاسن الذي أرخ له رايزنر (298 – 278 ق م) حيث تلقب بلقب ملك علوة Alut إلى جانب المناطق الأخرى من مملكته. وقد شيد الملك ناستاسن معبداً في علوة مما يؤكد أهميتها كأحد أقاليم أو مدن مملكته. كما ورد ذكر علوة أيضاً في نقش عيزانا في القرن الرابع الميلادي أنه أخذ "أسرى عند إلتقاء نهري تكازى وسيدا، وفي اليوم التالي أرسلت جيش Damawa وPalha وSera للإغارة على القطر والمدن المشيدة بالطوب والقصب، المدن المشيدة بالطوب هي مدن علوة وDaro."
ويرى بعض المؤرخين أن علوة التي وردت في نقش عيزانا قُصد بها مروي، فتكون علوة مرادفة لكلمة مروي. كما يرى ماكمايكل أن علوة أطلقت في نقش الملك عيزانا ولاحقاً في كتابات ابن سليم الأسواني على العاصمة والإقليم.
وقد جاء اسم علوة في إغلب المصادر العربية مكتوباً بالتاء المربوطة في آخر الكلمة، ولم أقف على من رسم الاسم بالألف في الكلمة "علوا" غير ابن الفقيه وياقوت الحموي." وتبدأ حدود مملكة علوة في الشمال كما ذكر ابن سليم بمنطقة الأبواب. ووضع ابن حوقل حدها الجنوبي على النيل بمسافة شهر إلى نهاية بلد طُبلي الذي يحده بلد كرسي جنوباً، وسنتعرض لهذين الموضعين لاحقاً.
وتمتد حدود المملكة شرقاً مسافة ثمانية مراحل إلى منطقة تفلين عند دلتا القاش شمالي مدينة كسلا الحالية. وتتوغل حدود علوة غرباً في الصحراء مسافة خمس مراحل – كما ذكر ابن حوقل – إلى بلد امقل الذى ستناوله لاحقاً. وقد قدر اليعقوبي إتساع المملكة بنحو شلاثة أشهر. وهكذا امتدت حدود مملكة علوة – بناءً على المصادر العربية - على النيل الأبيض جنوباً، ووصلت حدودها شرقاً إلى منطقة كسلا وغرباً إلى مناطق دارفور. فمملكة علوة قد امتدت تقريباً على الحدود الحالية للمناطق الوسطى والغربية والشرقية للسودان. وسيتضح ذلك أكثر عنما نتعرض للمعلومات التي وردت في المصادر العربية عن المناطق التابعة للمملكة.
موارد المملكة وقد تناولت المصادر العربية – وبخاصة مؤلفي ابن سليم وابن حوقل – وصف بلاد علوة وضحت أنهارها ومواردها ومدنها وسكانها. واتضح أن مملكة علوة تمتعت بثروات متنوعة من أراضي زراعية خصبة وواسعة وثروات حيوانية ومعدنية وأنشطة تجارية. وبينت المصادر العربية قوة مملكة علوة وثرائها بالمقارنة إلى مملكة مقُرة. فوصف ابن حوقل بلاد علوة بأنها أعمر بلاد النوبة وذكرأنها "ناحية لها قرى متصلة وعمارات متصلة حتى أن السائر ليجتاز في المرحلة الواحدة بقرى عدة غير منقطعة الحدود، ذوات مياه متصلة بسواق من النيل."
ووضح ابن سليم أن بلاد علوة "أخصب وأوسع من مقرة، والنخل والكرم عندهم يسير وأكثر حبوبهم الذرة البيضاء التي مثل الأرز منها، خبزهم ومزرهم واللحم عندهم كثير لكثرة المواشي، والمروج الواسعة العظيمة السعة، حتى أنه لا يوصل إلى الجبل إلا في أيام، وعندهم خيل عتاق، وجمال صهب عراب." وذكر الادريسي أن أهل علوة "يزرعون الشعير والذرة وسائر بقولهم من السلجم والبصل والفجل والقثاء والبطيخ"
وقد اشتهرت مملكة علوة كمصدر للذهب شأنها في ذلك شأن الممالك الافريقية في جنوب الصحراء في ذلك الوقت مثل ممالك غانة ومالي وكانم. فقد وضحت المصادر العربية توفر الذهب في أراضي مملكة علوة كما ذكر ابن حوقل، ويبدو أن أخبار كثرة الذهب في بلاد علوة قد أدت بياقوت الحموي إلى القول بإن الذهب "ينبت في بلادهم"
ووصف الادريسي بإن "حال علوة في هيأتها ومبانيها ومراتب أهلها وتجاراتهم مثل ما هي عليه حالات مدينة دنقلة، وأهل علوة يسافرون إلى بلاد مصر وبين علوة وبلاق عشرة أيام في البر وفي النيل أقل من ذلك انحداراً ... وأكثر وكذلك أهل علوة ودنقلة يسافرون في النيل بالمراكب وينزلون أيضاً إلى مدينة بلاق في النيل"
كما ارتبطت مملكة علوة عبرالبحر الأحمر بعلاقات تجارية شرقاً ببلاد العرب. وإلى جانب قيام مملكة تفلين الإسلامية داخل حدود علوة الشمالية الشرقية في منطقة دلتا القاش، فقد كانت حدود المملكة مفتوحة أمام التجار المسلين بعكس ما كان الحال عليه في مملكة مقرة حيث لم يكن يسمح بدخول المسلمين إلى الجنوب من منطقة حلفا إلا بعد إجراءات إدارية دقيقة. ولذلك فقد ارتبطت علاقات مملكة علوة وقويت عبر حدودها الشرقية وبخاصة مع الممالك الاسلامية التي قامت في الحبشة.
فقد شهدت الحبشة ومنطقة القرن الافريقي قيام نحو أحد عشر مملكة اسلامية في الفترة الواقعة بين القرنين الثالث والتاسع الهجريين (9 – 15 م) ولما كانت حدود مملكة علوة مفتوحة مع الحبشة وعلاقاتها طيبة وقوية مع المسلمين - بدليل وجود مملكة اسلامية داخل حدودها – فلا بد أن ذلك أدى إلى تطور العلاقات إلى جانب التداخل السكاني بين علوة والحبشة عبر أحواض الأنهار والأودية المتعددة التي ربطت حدود البلدين. ولا بد أن ذلك أدى إلى انتشار الاسلام في حدود المملكة الشرقية مما هيأ الآوضاع إلى قيام سلطنة سنار. ويبدو لي معقولاً أن تاريخ المراحل المبكرة من قيام سلطنة سنار لا يمكن دراسته بمعزل عن تاريخ الحبشة في تلك الفترة.
أورد ابن سُلَيم الاسواني وصفاً مفصلاً للنيل وروافده في مملكة علوة، فذكر أن النيل يتشعب من منطقة الأبواب أنهار وهي: 1. نهر يأتي من ناحية المشرق كدر الماء يجف في الصيف حتى يسكن بطنه، فإذا كان وقت زيادة النيل نبع فيه الماء، وزادت البرك التي فيه، وأقبل المطر والسيول في سائر البلد، فوقعت الزيادة في النيل، وقيل: إنّ آخر هذا النهر، عين عظيمة تأتي من جبل.
ويواصل مؤرخ النوبة ابن سلسم : وحدّثني سيمون صاحب عهد بلد علوة، أنه يوجد في بطن هذا النهر، حوت لا قشر له ليس هو من جنس ما في النيل، يحفر عليه قامة وأكثر، حتى يخرج، وهو كبير وعليه جنس مولد بين العلوة والبجة، يقال لهم: الديجيون، وجنس يقال لهم: بازة يأتي من عندهم طير يعرف بحمام بازين، وبعد هؤلاء أوّل بلاد الحبشة.
2. ثم النيل الأبيض، وهو نهر يأتي من ناحية الغرب شديد البياض مثل اللبن. قال: وقد سألت من طرق بلاد السودان من المغاربة عن النيل الذي عندهم، وعن لونه، فذكر أنه يخرج من جبال الرمل، أو جبل الرمل وأنه يجتمع في بلد السودان في برك عظام، ثم ينصب إلى ما لا يعرف، وإنه ليس بأبيض، فإمّا أن يكون اكتسب ذلك اللون، مما يمرّ عليه أو من نهر آخر ينصب إليه، وعليه أجناس من جانبيه.
3. ثم النيل الأخضر، وهو نهر يأتي من القبلة مما يلي الشرق شديد الخضرة، صافي اللون جدّاً، يرى ما في قعره من السمك، وطعمه مخالف لطعم النيل، يعطش الشارب منه بسرعة، وحيتان الجميع واحدة، غير أنّ الطعم مختلف، ويأتي فيه وقت الزيادة خشب الساج والبقم والغثاء، وخشب له رائحة كرائحة اللبان، وخشب غليظ ينحت ويعمل منه مقدام، وعلى شاطئه ينبت هذا الخشب أيضاً، وقيل: إنه وجد فيه عود البخور.
ويواصل ابن سليم نقلاً عن مصدره "قال: وقد رأيت على بعض سقالات الساج المنحوتة التي تأتي فيه وقت الزيادة، علامة غريبة، ويجتمع هذان النهران الأبيض والأخضر عند مدينة متملك بلد علوة، ويبقيان على ألوانهما قريباً من مرحلة، ثم يختلطان بعد ذلك، وبينهما أمواج كبار عظيمة بتلاطمهما."
"قال: وأخبرني [عن] نَقْل النيل الأبيض، وصبه في النيل الأخضر فبقي فيه مثل اللبن ساعة قبل أن ي-+ختلطا، وبين هذين النهرين، جزيرة لا يعرف لها غاية، وكذلك لا يعرف لهذين النهرين نهاية، فأوّلهما يعرف عرضه، ثم يتسع فيصير مسافة شهر، ثم لا تدرك سعتهما."
4-8 والأنهار الأربعة الباقية، تأتي أيضاً من القبلة مما يلي الشرق أيضاً في وقت واحد، ولا يعرف لها نهاية أيضاً، وهي دون النهرين الأبيض والأخضر في العرض، وكثرة الخلجان والجزائر. وجميع الأنهار الأربعة تنصب في الأخضر، وكذلك الأوّل الذي قدّمت ذكره، ثم يجتمع مع الأبيض، وكلها مسكونة عامرة مسلوك فيها بالسفن وغيرها، وأحد هذه الأربعة يأتي مرّة من بلاد الحبشة.
وهكذا يتضح أن أن مملكة علوة خلفت مملكة مروي في تلك الحدود الواسعة ذات الثروات المائية والزراعية والحيوانية الغنية وذات الكثافة السكانية الواضحة في المصاجر العربية. فسكان مملكة علوة تكونوا من سكان مملكة مروي القدماء بالاضافة إلي موجات الهجرات النوبية التي أتت من الجنوب وتوغلت شمالاً عبر الصحراء الغربية للنيل وعبر النيل الأبيض وأراضي الجزيرة. وسنتعرف على أولئك السكان معتمدين أساساً على ما ورد في المصادر العربية من معلومات. سكان بلاد علوة تناولت المصادر العربية أسماء بعض المواضع والمدن بلغت في جملتها ستة عشر ما بين مدينة وبلد واثنتي عشرة جماعة سكانية. وقد أطلق ابن سليم على سكان علوة بصورة عامة اسم العلوييين لكن وردت أسماء التجمعات السكانية الكبيرة والصغيرة في أنحاء المملكة المختلفة ولعل أهمها العنج، وفيما يلي سنتناول المادة التي وردت عنها.
العـنج وردت إشارات قليلة ومقتضبة في المصادر العربية عن العنج، فقد جاءت الاشارة ثلاث مرات في كتاب تشريف الآيام والعصور لابن عبد الظاهر (ت 792 هـ/ 1292 م) عن العنج. الإشارة الأولي وردت ضمن عدد من أسماء المناطق التي أرسل إليها السلطان المملوكي قلاون 678 – 689 هـ / 1280 – 1290 م الأمير علم الدين سنجر المعظّمي سفيراً. ولم يوضح الكاتب مواقع تلك المناطق التي أُرسلت إليها السفارة، كما لم يتمكن الباحثون من تحديد أماكن تلك المناطق التي رجحوا وجودها في مناطق البجة ومملكة علوة. وقد ذكر الكاتب من بين الأماكن التي وصلتها السفارة منطقة "صاحب العنج"
الاشارة الثانية إلي العنج وردت مرتين أثناء الحملة التي أرسلها السلطان المملوكي خليل بن قلاون التي خرجت نحو عام 689 / 1290م بقيادة الأمير عز الدين الأفرم (ت 692 هـ / 1292 م) لتأديب ملك المقرة سمامون لخروجه عن طاعة المماليك. وقد طاردت الحملة جنوبي مدينة دنقلة أحد الأمراء الخارجين على السلطان ويدعى "آني". وذكر الكاتب أن الحملة وجدت من أخبرها أن الأمير آني: "له يومان مذ رحل إلي جهة الأنج [العنج]، فتبعه العسكر مسافة أخرى، وعادوا بعدأن قتلوا خلقاً كثيراً، وأسروا حريمهم، وأخذوا مالهم، ورجعوا بغنيمة عظيمة؟ ولم يسلم الملك آني إلا ومعه سبعة أنفار، وما أخر العسكر من لحاقه إلا شدة العطش، ولأن البلاد التي وصلوا إليها بلاد خراب، مأوى الفيلة والقردة والخنازير والزرافات والنعام."
ويواصل الكاتب حديثه أنه بعد رجوع الحملة من مملكة مقرة وصل كتاب من ملك الأبواب - في أول بلاد علوة – إلي السلطان المملوكي يذكر فيه أنه تأخر من الحضور إلي الأبواب السلطانية لأنه كان يطارد الملك آني، و"أن بلاد الأنج تغلب عليها ملك غير ملكها، وأنه متحيل في أخذها منه، وإذا أخذها صار جميع بلاد السودان في قبضة مولانا السلطان وطاعته"
يلاحظ أن اسم العنج لم يظهر في المصادر العربية إلا في نهاية القرن السابع الهجري ( 13م) عندما بدأ المماليك تدخلهم في شؤون مملكة مقُرة. وكانت المصادر السابقة لهذا التاريخ تتحدث عن المملكتين الكبيرتين مقُرة وعلوة وعن ممالك البجة وما يتبعهما من مناطق وسكان. ولا بد أن الاسم كان معروفاً ومستخدماً في الداخل للدلالة على منطقةٍ "بلاد العنج"، كما يشير أيضاً إلى السكان كما سيتضح ذلك من نَص الدمشقى الآتي. ويدل ذلك أن الاسم كان معروفاً وسائد الاستعمال في الداخل، ولم يكن معروفاً للمسلمين في مصر.
وليس من السهل التعرف على موقع بلاد العنج من خلال ما ورد عن حملة عز الدين الأفرم. وقد ذكر المؤلف أن عز الدين الأفرم تعدى مدينة دنقلة ثلاثة وثلاثين يوماً في مطاردة الأمير (أو الملك كما يطلق عليه أيضاً) آني. ولو اعتبرنا أن الحملة "تعدت" دنقلة – كما عبر ابن عبد الظاهر – ثلاثة وثلاثين يوماً في الذهاب والاياب، تكون قد توغلت فيما بعد مجينة دنقلة نحو خمسة عشر يوماً،. قد تكون هذه المسافة جنوباً ووصلت إلى منطقة زانكور في شمال كردفان كما يرى عدد من الباحثين. وتكون شمال كردفان هي منطقة العنج على هذا الرأي، وأرى أن هذا لرأي يبدو مقبولاً.
ويرى الدكتور أحمد المعتصم الشيخ أن الحملة توجهت شرقاً من دنقلة إلى أبو حمد، ثم دخلت الصحراء شرقاً. وتكون بلاد العنج كما يرى الباحث هي المنطقة الممتدة من أبوحمد شرقاً. ورغم أني لا أخالفه الرأي في أن بلاد العنج من الممكن أن تكون ممتدة إلى الشرق من أبو حمد، إلا أنني لا أرى أن مطاردة الأمير آني كانت في تلك الجهات. فالحملة قد سارت من دنقلة نحو خمسة عشر يوماً وهو الوقت الذي يوصلها أبو حمد، إذ المسافة بين دنقلة وأبو حمد كما قدرها الباحث خمسة عشر يوماً، وهي كل الأيام التي سارتها الحملة. فكيف تكون قد توغلت في الصحراء إلى أن بلغت مناطق الحيوانات التي ذكرت في النّص؟ وبناءً عليه يمكن ترجيح أن بلاد العنج الي أشار إليها ابن عبد الظاهر تمتد في منطقة شمال كردفان.
الإشارة الثالثة عن العنج وردت في كتاب الدمشقي (ت 739 هـ / 1328 م) فقد نقل الدمشقي عن تجار أسوان أن أصناف النوبة هم: أنج وأزكرسا ووالتبان وأندا وكنكا. والجديد الذي أضافه الدمشقي عن العنج ما ذكره من أن العنج يسكنون جزيرة كبيرة من جزائر النيل تسمى أندا. وهو بهذا يوضح مكاناً آخر للعنج وهو الجزيرة الكبيرة والتي يقصد بها في المؤلفات العربية المنطقة الواقعة بين النيل الأبيض والنيل الأزرق كما سنتعرض له لاحقاً. وهذا مكان ثانياً للعنج بالاضافة إلى المكان الأول الذي ذكره ابن عبد الظاهر وهو المنطقة الصحراوية.
ويلاحظ في الرسالة – الإشارة الثانية - والتي أرسلها ملك الأبواب إلي السلطان المملوكي يذكر فيها "أن بلاد الأنج تغلب عليها ملك غير ملكها، وأنه متحيل في أخذها منه، وإذا أخذها صار جميع بلاد السودان في قبضة مولانا السلطان وطاعته" توضح أن مملكة العنج مملكة كبيرة تسيطر على مناطق واسعة بحيث ذكر ملك الأبواب أن خضوعها يعني خضوع كل السودان. ويبدو من المعقول أن تكون بلاد العنج هنا مقصودبها مملكة علوة.
ويمكن أن نستلخص مما ورد في المصادر العربية عن العنج أنه كانت لهم مملكة كبيرة وواسعة تمتد جنوباً في صحراء بيوضة إلى شمال كردفان، كما تمتد في الجزيرة الواسعة الواقعة بين النيلين الأبيض والأزرق وفي أرض البطانة وقد تكون الإشارة إلى العنج مقصود بها كل بلاد علوة. ويبدو أن سلطة المملكة المركزية لم تكن قوية على أقليم الدولة، وقد تمتعت بعض هذه الأقاليم من تحقيق كياناتها المستقلة مثل مملكة الأبواب التي خاطبها المماليك مباشرة إلى جانب بعض المناطق الأخرى التي وصلتها سفارة المماليك والتي – يبدو معقولاً – أن بعضها كان في حدود مملكة علوة.
وإلى جانب ما جاء في المصادر العربية عن العنج وردت عنهم أيضاً بعض المعلومات في المؤلفات المحلية المطبوعة والمخطوطة. وسنتناول هنا ما ورد عن العنج في كتاب "كاتب الشونة" الذي ألف في القرن التاسع عشر، وما ورد في مخطوطة شيخ التجانية في كردفان التي ترجع أصولها إلى القرن الثامن عشر الميلادي. جاءت الإشارة تلات مرات في مؤلف كاتب الشونة توضح بصورة مباشرة أن النوبة الذين سبقوا قيام دولة الفونج هم العنج، فقد ورد ما يلي:
5. "إن الفونج ملكت بلاد النوبة وتغلبت فيها في أول القرن العاشر بعد التسعمائة، وخطت مدينة سنار خطها الملك عمارة دونقس، وهو أولهم. وخطت مدينة أربجي قبلها بثلاثين سنة خطها حجازي بن معين، وعلى هذا يتضح أن عمارة أربجي في مدة العنج" 6. وورد في مكان آخر: أما الجهة الشرقية فقد كان بها أولاد عون الله وهم سبعة رجال في مدة العنج أي النوبة، وكان أحدهم المسمى بالضرير قاضياً في مدة العنج قبل مدة الفونج." 7. وذكر أيضاً: "واتفق عمارة المذكور مع عبد الله جماع القريناتي من عربان القواسمة ، وعبد الله المذكور هو ولد الشيخ عجيب الكافوتة جد أولاد الشيخ عجيب، وتمت كلمتهم على محاربة النوبة وهم العنج ملوك سوبة وملوك القري. وتوجه عمارة وعبد الله المذكوران بما معهما من الجيش وحاربوا ملوك العنج وقتلوهم وأجلوهم من سوبة ... اتفق رأي عمارة بأن يكون هو الملك عوضاً عن ملك علوة التي هي سوبة " 8. ويواصل كاتب الشونة ما حدث بعد انتصار عمارة وعبد الله جماع قائلاً: "أما النوبة فمن بعد ما حصل بينهم من المحاربة والمقاتلة وصار الظفر للفونج تفرقوا شذر مذر، منهم من فر إلى جبال الصعيد فازوغلي وغيرها، ومنهم من فر بالغرب إلى جبال كردفان، ولم يبق منهم إلا أنفار قليلة دخلوا في الاسلام وتفرقوا في البلاد وسكنوا مع الناس وتناسلوا فيهم، وهم إلى الآن أنفار قليلون جدّاً ... وقليل من الناس يعرف أن أصلهم من النوبة لأن لسانهم الآن عربي حكم لسان العرب.
أما عن المخطوطات المحلية فهي عبارة عن تدوين للروايات الشفاهية التي كانت سائدة إبان كتابتها، فهي من حيث محتواها لا تختلف عن الروايات الشفاهية كثيراً اللهم إلا في بعض الأحداث التي عاصرها الكاتب ودونها فتكون أوفر حظّاً في مصداقيتها. ورغم اشتهار طبقات ود ضيف الله بأنها أحتوت الكثير من التراث لمنطقة وسط السودان إلا أن ذكر العنج لم يرد فيما تناولته من أحداث وسير.
وقد ورد ذكر القبائل التي تنتمي للعنج في مناطق متفرقة من السودان في مخطوطة الدواليب التي نقلها ماكمايكل باشراف شيخ التجانية بكردفان الشيخ الدرديري محمد والتي تحتوي على 85 صفحة مكونة من ثلاث أجزاء. الجزء الأول كتبه غلام الله بن عائد في القرن الخامس عشر الميلادي أي قبل قيام دولة الفونج، والجزء الثاني أضافه أحد أحفاده وهو محمد دوليب الكبير عام 1680 م أي بعد نحو 174 سنة من قيام دولة الفونج وهو الجزء الذي تم الرجوع إليه هنا فيما يتعلق بالعنج، والجرء الثالث كتبه محمد دوليب الصغير عام 1738م ولم يتعرض لتفاصيل القبائل في السودان,
فالمعلومات التي وردت عن العنج في الجزء الثاني تمثل المفهوم العام للسودانيين بعد في القرن الثاني لقيام دولة الفونج وقبل مايقارب الأربعة قرون من زماننا الحاضر. ورد في المخطوط أسماء بعض القبائل ذات الأصول العنجية في مناطق الولايات الشمالية والنيل الأبيض وكردفان ودارفور.
ورد في المخطوط أن سكان المناطقة الواقعة على النيل الأبيض وحتى منطقة دنقلة شمالاً ينتمون للعنج وكذلك سكان شمال كردفان في منطقة جبل حرازة ما عدا الدواليبن والداجو والكراريت في قبيلة الحمر بدارفوروسكان منطقة جبل قيلي جنوب الرصيرص. فالعنج بناءً على مفهوم السودانيين قبل نحو أربعة قرون كما عبرت عنه المخطوطة ينتشرون على طول النيل الأبيض ونهر النيل حتى دنقلة، ويمتدون غربا في مناطق كردفان ودارفور.
وتكتمل الصورة بما أورده ماكمايكل الذي اعتمد في مادته على روايات التراث المحلي أيضاً، فقد نقل أن أصول قبائل الفنكور والكراريت في دارفور وسكان شمال كردفان القدماء وبخصة سكان جبال شمال كردفان ترجع إلى العنج. ووضح أن تراث البطاحين في مناطقهم شرقي النيل الأزرق تراث سكان منطقة ألتي بالجزيرة يرجعان أصول السكان في تلك المناطق إلى العنج. فالعنج بناءً على ذلك ينتشرون في وسط وشمال وغرب السودان. ويضيف الأستاذ عبد الباقي حسن فيرين إلى تراث الغنج في منطقة جبال النوبة وبخاصة عند قبيلة الأماويون (النيمانج) التى رجح أن أصلها من العنج.
ومن جانب آخر فقد تتبع الدكتور أحمد المعتصم الشيخ أيضاً الروايات الشفاهية الغنية بتراث العنج. تلك الروايات ذات الانتشار الواسع بين كل السكان في المناطق الواقعة بين الشلال الرابع شمالاً والنيل الأبيض جنوباً وبين منطقتي الجزيرة والبطانة شرقاً وشمال كردفان غرباً. واستخلص أن هذه المناطق التي ارتبطت بتراث العنج هي مناطق انتشار العنج قديماً.
كما يرى الدكتور أحمد المعتصم أن الحلنقة هم العنج مستدلاً على ذلك باسمهم الذي يعني في اللغة الأمهرية السوط، وهذا السوط هو ما نعرفه في كل أنحاء السودان بسوط العنج. وأتفق مع الدكتور في كل المقدمات التي ساقها في الربط بين الحلنقة والعنج، ولكني أرى ضرورة التوضيح أن الحلنقة جزء من الشعب الكبير المعروف بالعنج. فهل ارتبطت أصول الاسم المبكرة بالشرق ؟
وقد تعدت الروايات الشفاهية عن العنج مناطق النيل ووصلت إلى سواحل البحر الأحمر، فقد نقل أحمد المعتصم عن مخوطة "واضح البيان في ملوك العرب بالسودان" لعبد الله بن الأرباب الحسن بن شاور أن عبد الله جماع "خضعت له جميع البلاد إلا منطقة العنج في جهات البحر الأحمر فتحها ابنه الشيخ عجيب بعد أن علم أن شيخ عربان العنج مخالف للشرع المحمدي"
ويدل امتداد ارتباط تراث العنج حتى البحر الأحمر بالانتشار الواسع لاسم للعنج ودلالته على سكان مملكة علوة، وبما أن كل المادة الواردة عن العنج تربطهم بفترة مملكة علوة السابقة لانتشارة العربية الاسلام ودخول القبائل العربية فإن ذلك يوضح امتداد حدود مملكة علوة. فهل امتدت حدود مملكة علوة على كل المناطق التي انتشر فيها تراثهم؟ ليس هنالك ما يمنع ذلك، بل هو الأكثر ترجيحاً. كما يلاحظ أن المخطوط وصف العنج بأنهم عرب، كما وصف زعيمهم بشيخ العرب، ويوضح هذا أن صفة العرب في التراث السوداني الشفاهي والمخطوط اللاحق لانتشار الاسلام واللغة العربية أصبحت تطلق على كل القبائل التي تحثت اللغة العربية بغض النظر عن انتمائها العرقي.
وهكذا يتضح من خلال ما وصل إلينا من معلومات حول العنج في المصادرالعربية – كما في الإشارات الأولى والثانية والثالثة أعلاه – أن العنج هم: • النوبة سكان مملكة علوة، وأن لفظ العنج كان يستخدم للملوك مملكة علوة ولسكانها الذين تفرقوا في البلاد بعد سقوط دولتهم، وأنهم اختلطوا بالسكان ودانوا بالاسلام، وحلت اللغة العربية محل لغتهم الأصلية ولم يصبح لهم كيان مستقل يميزهم عن باقي السكان. كما يتضح من خلال ما ورد في المخطوطات المحلية والروايات الشفهية أن العنج كانوا سكان: • سكان غرب السودان كما في الروايات المحلية لقبائل الحمر والفنكور والداجو وكاتول • وسكان مناطق وسط وشمال وشرق السودان كما اتضح من تتبع أحمد المعتصم الشيخ ومخطوطة شيخ التجانية. • إذاً فالعنج هو الاسم العام الذي أطلق على كل سكان مملكة علوة.
التجمعات السكانية الأخرى وإلى جانب العنج وردت الاشارات إلى أسماء بعض الجماعات السكانية الأخري في مملكة علوة والتي ربما كانت تندرج تحت اسم العنج وهي: الديجون وأهل تفلين والكرنينا ومرنكا وكرسي وتكنة ونوبة النيل الإبيض والتبان وكنكا. الديجيون عرف ابن سليم الديجون بأنهم جنس مولد بين العلويين والبجة على نهر عطبرة. ويبدو أن وضع ابن حوقل الديجيين على نهر عطبر يحتاج إلى بعض المراجعة، فابن سُليم زار مناطق النيل لكنه لم يعرج إلى المناطق الشرقية وكتب مادته عنها عن طريق الروايات التي وصلته عن الديجيين - كما ذكر- أثناء وجوده في مملكة مقُرة. فأغلب الظن أن الديجيين الذين ذكرهم منسوبون إلى دُجن وهي منطقة دلتا القاش، فهم "الدجيون" واختلط الأمر على مُخْبر ابن سُليم وجعلهم على نهر عطبرة بدلاً من القاش. أهل تفلين وردت الإشارة إلي أهل تفلين عند ابن حوقل (صورة الأرض ص 74) ولم يذكر أسمهم بل نسبهم إلى منطقة تفلين التي ذكر أنها تقع بين أعالى خور القاش شرقاً وحتى حدود مملكة علوة غرباً. قال ابن حوقل يصف وادي القاش ودلتاه: "والنهر المعروف بالدجن يأتي من بلد الحبشة فينقطع في أعمال دجن ومزارعها، ودجن هذه قرى متصلة ذوات مياه ومشاجر وزرع وضرع. وإلى وسط هذا الوادي تفلين قرى أيضاً للبادية منهم، ينتجعونها للمراعي حين المطر، ولهم ملك مسلم يتكلم العربية من قبل صاحب علوة. ويختص أهل تفلين بالإبل والبقر ولا زرع لهم، فيهم مسلمون كثيرون من غير ناحية على دينهم يتجرون ويسافرون إلى مكة وغيرها." اتفق الباحثون أن الدجن أو الدكن كما يرد بعض الأحيان هو وادي ودلتا القاش، وقد عرفت دلتا القاش ببلاد التاكا. ويبدو وادي القاش- من وصف ابن حوقل - مأهولاً بالسكان، وفي وسطه تفلين. وقد يفهم من حديث ابن حوقل أن بعض أهل تفلين مستقرين على الوادي وبعضهم بدواً ينتجعون قرى تفلين للرعي، ولكنه أضاف أيضاً أن أهل تفلين يختصون بالابل والبقر ولا زرع لهم، وربما أراد بهؤلاء البدو منهم.
ويوضح نص ابن حوقل أن حدود مملكة علوة تمتد شرقاً حتى وادي القاش أي منطقة كسلا الحالية حيث امتدت مملكة تفلين التي كانت تابعة للملكة علوة. كما يوضح النص انتشار الاسلام المبكر في المنطقة الشرقية لمملكة علوة، وقيام مملكة اسلامية وانتشار اللغة العربية منذ القرن الثالث الهجري (9 م) وهو الوقت الذي كتب فيه ابن حوقل. وربما كان انتشار الاسلام وقيام المملكة قد سبق هذا التاريخ. كما اتضح نشاط مملكة تفلين وعلاقاتها التجارية بالعالم الاسلامي، وقد أشرنا من قبل إلى أن مملكة علوة كانت منفتحة في علاقاتها بالعالم الاسلامي بعكس مملكة مقُرة. الكرنينا ذكر ابن سليم أن الكرنيكا يسكنون "الجزيرة الكبرى الواقعة بين البحرين" ويقصد بالبحرين هنا النيلين الأبيض والأزرق، فهو يعبر بـ "البحرين" بدلاً من النيلين كما يعبرعامة السودانيين اليوم. ولم يذكر عنهم سوى القصة التي رواها عن زراعتهم والتي لخصها أيضاً أبو صالح الأرمني. وفيما يلى ما أورده ابن سليم : "ومما في بلده من العجائب: أنّ في الجزيرة الكبرى التي بين البحرين جنساً يعرف بالكرنينا لهم أرض واسعة مزروعة من النيل والمطر، فإذا كان وقت الزرع خرج كل واحد منهم بما عنده من البذر، واختط على مقدار ما معه وزرع في أربعة أركان الخطة يسيراً، وجعل البذر في وسطه الخطة وشيئاً من المزر، وانصرف عنه فإذا أصبح وجد ما اختط، قد زرع وشرب المزر، فإذا كان وقت الحصاد، حصد يسيراً منه ووضعه في موضع أراده ومعه مزر، وينصرف، فيجد الزرع قد حصد بأسره، وجرّن فإذا أراد دراسه وتفريته فعل به كذلك، وربما أراد أحدهم أن ينقي زرعه من الحشيش، فيلفظ بقلع شيء من الزرع فيصبح، وقد قلع جميع الزرع، وهذه الناحية التي فيها ما ذكرته بلدان واسعة مسيرة شهرين في شهرين يزرع جميعها في وقت واحد، وميرة بلد، علوة ومتملكهم من هذه الناحية، فيوجهون المراكب، فتوسق، وربما وقع بينهم حرب."
"قال: وهذه الحكاية صحيحة معروفة مشهورة عند جميع النوبة والعلوة، وكل من يطرق ذلك البلد من تجار المسلمين لا يشكون فيه ولا يرتابون به، ولولا أنّ اشتهاره وانتشاره مما لا يجوز التواطؤ على مثله، لما ذكرت شيئاً منه لشناعته، فأما أهل الناحية، فيزعمون إن الجنّ تفعل ذلك، وأنها تظهر لبعضهم، وتخدمهم بحجارة ينطاعون لهم بها، وتعمل لهم عجائب، وأنّ السحاب يطيعهم."
أندا جعل الدمشقي أندا من أصناف النوبة ويسكنون "جزيرة عظيمة من جزائر النيل تسمى أندا، وهم بها، لا يستترون بشئ البتة ." وربما أندا هو اسم الجزيرة الكبرى التى كتب عنها وعن سكانها ابن حوقل وابن سليم. مرنكة ذكر ابن حوقل أن مرنكة تقطن على نهر أور في أعالي بلاد علوة والذي يجري من الشرق إلى الغرب ويصب في النيل، ويقصد بنهر أورالنيل الأزرق. ولم يورد عنها سوى أنه قبيلة من النوبة.
كرسى وصف ابن حوقل كرسى بأنهم أمة كثيرة من النوبة، وتقع ديارها على نهر أتمتي المتفرع من أعلى نهر أور، ونهر أتمتي هو الدندر. وتمتد ديارهم على النهرحتى بلاد الحبشة ... وأهل كرسى أصحاب زفال وهو الجلد الذي يتزرون به عرضاً ويستخرج طوله من عند الأفخاذ فيغرز عند السرة فيما انعقد من الزفال. وقد ذكر الدمشقي "أزكرسا" ووصفهم بأنهم صنف من النوبة، ربما كانوا هم الكرسى رغم أنه وضعهم بعيدين عن النيل.
تكنة اتفقت آراء المؤرخين الذين كتبوا عن تكنة – ابن الفقيه والمسعودي وياقوت الحموي – على أن موقع تكنة أقصى جنوب بلاد علوة، ولم توصف بانتمائها للنوبة مثل الكنينا وأندا وكرسى بل وصفوا بأنهم أمة من السودان عراة، أرضهم تنبت الذهب ، وأطنب ياقوت الحموي في وصفهم وتضمن وصفه من السمات الخيالية الغريبة التي دأبت المصادر العربية على إيرادها عن الشعوب النائية والبعيدة عنهم، ونثبته هنا كمثال لما يرد في بعض تلك المصادر. قال ياقوت: "عراة لا يلبسون ثوباً ألبتة إنما يمشون عراة، وربما سبي بعضهم وحمل إلى بلاد المسلمين، فلو قطع الرجل أو المرأة على أن يستتر أو يلبس ثوباً لا يقدر على ذلك ولا يفعله، إنما يدهنون أبشارهم بالأدهان. ووعاء الدهن الذي يدهن به قلفته فإنه يملأها دهناً ويركي رأسها بخيط فتعظم حتى تصير كالقارورة، فإذا لدغت أحدهم ذبابة أخرج من قلفته شيئاً من الدهن فدهن به ثم يربطها ويتركها معلقة. وفي بلادهم ينبت الذهب."
نوبة النيل الأبيض أشارابن حوقل إلى سكان النيل الأبيض من النوبة، ولم يورد معلومات عنهم، ولم أعثر لهم على ذكر في المصادر الأخرى. ذكر ابن حوقل: "ومن غربي النيل نهر يجري من ناحية الغرب كبير غزير الماء يعرف بالنيل الأبيض وعليه قوم من النوبة." الأحديين تناول ابن حوقل منطقة متوغلة في الصحراء غربي النيل الأبيض أطلق عليها اسم امقل ذكرأنها تقع بين علوة وبين الأمة المعروفة بالجبليين. وتقع بلد امقل على بعد خمسة مراحل من علوة ثلاثة منها في الصحراء. وقال إنها:
"ناحية كبيرة ذات قرى لا تحصى وأمم مختلفة ولغات كثيرة متباينة لا يحاط بها ولا يبلغ غايتهم يعرفون بالأحديين، وفيهم معادن الذهب الجيد والتبر الخالص والحديد متصلين بالمغرب إلى ما لا يعرف منتهاه، زيهم زي المغاربة، أرباب جمال وخيل ورازين غير تامة الخلق لقصرها وقرب لبودها، وسلاحهم فيه درق كدرق المغاربة بيض وحراب، وسيوفهم أيضا غير تامة، وفيهم جند يلبسون السراويلات المفتحة الطوال ونعالهم كنعال المغاربة وهم على النصرانية، وهم في طاعة ملك علوة. التبان وكنكا أشار إليهم الدمشقي ولم يحدد موقعهم، "وذكر أنه يوحد بأرضهم معادن الحديد، ولا يعيش
بأرضهم حيوان لشدة حرها" وكنكا ذكرهم أيضاً الدمشقي ولم يحدد موقعهم ولم يورد معلومات عنهم.
الخاتمة في النهاية أود أن أشير إلى أن دراسة تاريخ أصول وتكوين المجتمعات من الدراسات الأساسية التي تؤدي إلى ربط المجتمعات بتراثها وبخاصة المجتمعات متعددة الأعراق والثقافات كما هو الحال في مجتمعنا السوداني. ولذلك ينبغي علينا التركيز على هذا النوع من الدراسات والتشجيع على ارتيادها رغم الصعاب التى تحيط بها والتي يأتي شح المصادر في مقدمتها.
وقد حاول هذا البحث التعرف تسليط بعض الضوء على سكان مملكة علوة، ويرى الباحث - بما توفر لديه من معلومات – أنه يمكن القول أن حدود مملكة علوة شملت حدود جمهورية السودان الحالية. وأن المملكة تمتعت بموارد مائية وثروات زراعية ومعدنية غنية أدت إلي كثافة سكانية واضحة، وأنه كانت هنالك العديد من التجمعات السكانية التي أشارت إليها المصادر بأسمائها المحلية، وأن اسم العنج كان الاسم العام الذي عُرِف به سكان المملكة.
وبما أن مملكة علوة قد انهارت قبل نحو خمسة قرون فقط، فإنه ينبغي علينا التعرف على أولئك السكان في مجتمعاتنا المعاصرة التي تكونت بعد انهيار مملكة علوة، خاصة وأن كل الأسماء التي عرفت بها تلك التجمعات قد اختفت حالياً. أين أولئك الناس الآن؟ وأين مواطنهم؟ وما هي أسماؤهم الجديد؟
الهوامش
|
|
|
|
|
|