|
الصاغ محمود أبوبكر ..صائغ (أكواب بابل ) هل للشعر ميعاد لا يخلفه ؟
|
ربما لم يشددني شاعر إلى شعره مثلما شدني الشاعر (محمود أبوبكر )..فأنا اشتريت أول نسخة من ديوانه ( أكواب بابل من ألسنة البلابل) وعمري دون السابعة عشرة ..وطريقتي في شراء أي ديوان شعري أن أفتح صفحاته كيفما اتفق وأقرأ الأبيات التي ألاقيها فإذا وجدتها موزونة ذهبت إلى موضع آخر كي أطمئن أنها ليست محض صدفة ..وقد فتحت الديوان فوجدت فيه الأبيات شجاها غريدي فنحنا معا كما يسعد الأخدع الأخدعا ووجدت تحتها شرحا ..الأخدعان وريدان بجانبي العنق ،فإذا فصد أحدهما فنزف ،نزفالآخر معه مشاركة ..وما كنت محتاجا لإكمال بحثي في صفحات أخريات .. وبخاصة أنني شعرت بنفسي مأسورا لمعرفة هذا الشاعر الجزل اللغة والغريب الألفاظ .. وبرغم مشغوليات التحصيل فكنت أنتهز الفرصة إذا شعرت بالملل ،فأقرأ من الديوان ما يتيسر عليّ فهمه وأعاتب نفسي أنني لم أصل لمستوى هذا الشاعر اللغوي .. وما كانت صعوبة اللغة تزجرني عن متابعة قراءة الديوان .. وكان الإبحار في شعر الشاعر محمود أبو بكر عندي إمتاعا بغير حدود ، ففيه المعنى والمبنى وسحر البيان العربي المبين ،ثم هو من بعد ينمّ عن روح سليمة وطبع راقٍ وتمكن غير ذي حد في التعبير بالشعر العروبي عن كل ما يكنه القلب من عواطف ..الحب والشجاعة والتوله بالوطن ..في غير ما كثير بحث عن قافية أو بحر شعري ،بل تأتيه المعاني طائعة بغير عناء .. في قصيدته المطولة التي سمى بها ديوانه ، (أكواب بابل من ألسنة البلابل )، خير دليل على ذلك فقد كتب هذه القصيدة الفريدة في نوعها في أربع قصائد مختلفة القوافي والأبحر في ليلة واحدة وهو في تحد مع رفاقه في السلاح، أيام كان الجيش يسمى (قوة دفاع السودان )،وهو يحارب مع قوات الحلفاء ضد ( دول المحور )في بدايات الأربعينات من القرن الماضي ،وكان هو آنذاك موجودا في ليبيا مع جيش الحلفاء لإيقاف التغلغل الإيطالي في إفريقيا في شكل حزام يخترق القارة من غربها إلى شمالها .. ولربما كان لليل الهادئ آنذاك تأثيره على نفس الشاعر فجلس يكتب : يا طيف هند وما يدنو ولا ابتعدا فيستجم عليل في الذماء شدا وما لقيناه لولا أن تحملنا في عالم الغيب كنٌّ كان منفردا لألاء مطلعه من خلف برقعه من جوف مخدعه يستلهم الغردا إذ أنت ضائعة طيبا ولي كبد يا هند ضائعة مما أضعت يدا وذات روق يروق العين منظره كأنه صعدة لانت بمن قصدا واطّلع بعض أصحابه على القصيدة فاقترح عليه أن يغير حرف الروي مع ثبات البحر الشعري بمثل نونية ابن زيدون : أضحي التنائي بديلاعن تدانينا وناب عن طيب لقيانا تحافينا بنّا وبنتم فما ابتلت جوانحنا شوقا إليكم وماجفت مآقينا فما لبث أن كتب مستجيبا للرجل الذي ظن أن اقصيدة السابقة فيها ضربة حظ،وما لبثت قواقي الشعر أن أتته طائعة : يا طيف هند وما يدنو فيدنينــــــا مما نعاني ولا ينأى فيدفينــــــــــا وما لقيناه لولا أن تحملنـــــــــــا في عالم الغيب كنٌّ كان يؤوينــــا لألاء مطلعه من خلف برقعـــه من جوف مخدعه بالنشر يطوينـا إذ أنت ضائعة طيبـا ولي كبــد يا هند ضائعـــو مما يلاقينــــــــــا وذات روق يروق العين منظره كانه السمـهريات انثنت لينــــــــا ثم يطلب آخرون أن يقول نفس المعنى بنفس الوزن والقافية مع تغيير المفردات اللفظية بالقافية والمحافظة علي المعني فيندفع كاتبا من وحي غير محسوس : يا طيف هند إذا ما زرت وادينــــــا ملأت أحشاءنا نارا فوافينـــــــــا وجئ نحاجيك: ما ريم له حــور من جوف مخدعه بالحسن يسبينـــــا كأنه صدف قد ضــــــــم لؤلــؤه كعالم ضم بين الصدر مكنونـــــــــــاِ في زاخرمثل بحر الكون ملتطـم ما يستطعن عليه الفلك يجرينـــــــــــا ولكن هل توقف الحاضرون عن امتحان الشاعر؟ لقد طلبوا منه أن يقول المعاني نفسها من بحر عير البحر وقافية غير القافية ،بل وزادوا طلبا بأن بكون من بحر الكامل بحرف الروي الراء ، فما لبث الشاعر أن أنشد ،بغد أن أسعفته قريحته الحاضرة : طيق يلوح خياله للناظر لا واصل يشفي ولا بالنافر كلا ولا نحن التقينا قبلها إلا بكنٍّ في الغيوب مخامر لألاء مطلعه وراء لفاعه من خلف مخدعه نميم الداعر متضوع طيبا ودون شميمه كبد تضيع على عواء الآبر حتى تألق بارق من مثلها بملاءة لم تدّخر للداخر مدوا لها روقين فانثنيا معا كالسمهرية في يمين الآطر وبعدها سكنت بلابل الحاضرين بعد أن تيقنوا أن شاعرنا يمتاح من بحر شعري ليس بمنقطع ، وكان ظنهم فيه أنه ذو حفظ جيد لأوابد الشعر ..وأنّى هذا؟ ما سطرت في هذه المقطوعات الأربع هو جزء من قصائد أربع ، وعلى نسقها من جزالة ألفاظ وروعة أداء وجمال معان ، جاء ليطرح قضية أدبية قديمة ،وهي قضية التدفق الشعري على بعض الشعراء في أحايين متباينة وعلى غير موعد بحيث لا تترك الشاعر إلا أن يكون متأهبا بورقه وأقلامه حتى لا تهرب منه شوارد الشعر المباغتة .. وتحضرني هنا قصص تروى عن أبي الطيب المتنبي ،أحمد بن الحسين الكوفي،الذي كان يستغرق الليل كله وهو يكتب قصائده التي سينشدها أمام ممدوحه صباحا، وهو في ليلته تلك يوقد شمعة كبيرة تنيرها فيكتب ويشطب ويضع اللفظ أو يهذبه حتى يرضى عن القصيدة ولا ينتبه إلى الشمس التي تضوئ المكان وهو في حال استغراقه في جو القصيدة ! هذه اللجظة الشعرية المتدفقة يعرفها من يكابدون لحظات الخلق الشعري عندما تنثال ويفيض الشعر على نفس الشاعر ،فإما أن يسجلها أولا بأول أو تضيع في زحمة الذاكرة بحيث لن تعود ثانية ..ولقد حكى لي أحد كبار شعرائنا عن أنه كان في إحدى أجمل بقاع السودان ،وأعني به جبل مَرَّةَ في غرب السودان ، بجباله المشرئبة تعانق السماء وشلالاته ذات التدفق في صوت آسر يذهب بالالباب وأمطاره التي لا تنسى عادتها في السقوط يوميا في انهمار بديع ولكن المياه تنسرب إلى الأرض الواطئة في خرير عذب إلى الجداول .. يا لهذا المنظر الطبيعي الخلاب الذي لا يبارح مخيلتي بعد أن زرته منذ أكثر من ثلاثين عاما.. حكى لي صديقي أنه كان بدأ يكتب لوحة شعرية عن الجبل ولم تكتمل القصيدة بسبب سفره المفاحئ، وكانت قصيدة بتراء ، ولكن ،وفي صباح خريفي ممطر بغير شدة ولا اصطخاب رعود،وجد الشاعر نفسه ثانية في اجواء جبل مرة ،فما ترك اوراقه القديمة التي سجل فيها بداية قصيدته عن جبل مرة حتى انهاها !! وكانت تسجيلا شعريا باللغة الفصحى يضاف إلى ما كتبه شعراء اللغة الدارجة في وصف هذا الجبل العظيم ألا أبديت من غرف الجنان وأظهرت المحاسن للعيان؟ وأزلفت السلاف لنا حلالا مزاجا قد شربن بلا دنان إذًا تأتيك من عدن عطور تشفّ عن المشاعر والمعاني ومن رضوان تأتلف التحايا على الجبل المتوج بالجمان ويستمر الاندياح الشعري بنفس قوة الأبيات السابقة : أيا رباه هبني بعض عمر بهاتيك الفراديس الحسان أجدد طيب أيام توالت ولكن قد مضين بلا تواني ويا زمنا أصاخ إلى حديث روته نوابس الطير المجان أعرني بضع لحظات قصار فكل العمر إلا ذاك فاني ولكن كيف لي ابقى وعهدي كما الشعراء مختلف الزمان وهذا أحمد الكوفي قبلي يعلمــُني مفارقـــــة الجـــنان وقصة أخرى تحكي عن نابغة الشباب الذي غاله الموت وهو لم يتجاوز الخمس وعشرين عاما ،التجاني يوسف بشير ، الذي كان يداهمه خاطر الشعر وهو في منتصف الليل ،وداره بلا إنارة ،فيخرج كراسة بيضاء وقلم رصاص ويكتب ما عنّ له من أبيات بخط كبير واضح حتى يستطيع قراءة ما كتب صبيحة اليوم التالي .. فهل كانت الأبيات ستنتظره حتى انبلاج الصبح؟ وشاعر حكى لي أنه أخرج مسجلا صوتيا ،وكان الليل فات منتصفه وهو في حالة من التعب عجيبة ، فوضع المسجل في حالة التسجيل ،وبدأ في قراءة شعرية بدون تحضير ولا أوراق ،وانسربت الأبيات تجري من لسانه وهو لايكاد يعي :هل الأبيات موزونة؟ هل هي متناسقة ؟ إلى أن شعر أنه ليس من مزيد ،فأغلق المسحل الصوتي إلى صباح اليوم التالي وجلس يسحل ما قاله عفو الخاطر في الليلة السابقة ،فما وجد فيها غير بيتين يحتاجان قليل معالجة فأصلحهما ثم أرسل بنتاجه الشغري إلى مجلة عالمية فاجأته بنشرها هذه القصيدة بأسرع مما نشرت له صويحبات لها من قبل. وأعود إلى الشاعر محمود أبي بكر ،فأقول إنه ربما أكثر الشعراء غرابة في قصائده وكيفية كتابتها فالأصل فيها الطول والإجادة ..بل هي تصل إلى مرحلة تجاوز الأربعمائة بيتا عدًّا، وفيها كثير من القصص التي تميل إلى المأساوية والتصوير النفسي ، ربما كان هذاا يحتاج إلى مقال آخر . عبد السلام كامل عبد السلام يوسف منزل رقم 55 مربع 3 حلة حمد الخرطوم بخري الرمز البريدي 13311 هاتف 0129092503
|
|
|
|
|
|