|
الحوار تحت أسنة رماح الجنجويد !/د.أحمد عثمان عمر
|
منذ إنتفاضة سبتمبر 2013م الباسلة التي أدخلت النظام المأزوم في السودان في حال من الرعب والهستيريا المشبعة بعنف غير مسبوق كان حصيلته ما يقارب مائتي شهيد، دخل النظام في متاهته التي ما فتئت تعمق أزمته وتنذر بزواله كل ساعة. فمثلما كان من ضمن تداعيات هذه الهبة يقين الرئيس بضعف مراكز القوى داخل حزبه وعجزها عن حماية النظام المحاصر بالأزمة الإقتصادية والإنسداد السياسي والغارق في الفساد حتى أذنيه، كان من ضمن تلك التداعيات محاولته للإمتثال لمقتضيات الهبوط الناعم والقبول بتنفيذ المشروع الأمريكي المسوق إقليمياً لتعويم النظام، والذي منعته مراكز القوى من تنفيذه عندما طرح في خضم ما عرف بثورات الربيع العربي. واستناداً لهذا التوجه، ضرب الرئيس قيادة مراكز القوى المتمثلة في علي عثمان ود. نافع، وجردها من مناصبها التنفيذية وهمشها داخل الأطر الحزبية بالتبعية، بإعتبار أن الحزب هو حزب حكومة وليس حزب حاكم، من يخرج من عضويته من مركز القرار والسلطة، يخرج من دائرة الفاعلية السياسية،ويبقى فقط التأمل في مدى هكذا خروج. أيضاً قام الرئيس بطرح توجهه العام في خطاب الوثبة الشهير الذي تم تحضير المجتمع السوداني له بمستوى رفع من التوقعات والآمال بشكل غير صحي، لأن الخطاب جاء أقل بكثير من تلك التوقعات وأغرق في التنظير والتعقيد اللفظي، وما كان له أن يكون إلا كذلك. فالرئيس بالرغم من أنه ضرب قيادة مراكز القوى، إلا أنه لم يكن حتى تلك اللحظة بل حتى اللحظة الراهنة قد تخلص من كامل نفوذها وذيولها، ولا هو قضى عليها بضربة قاضية. بالإضافة إلى ذلك لم يحصل الرئيس من القوى المعارضة على أي ضمانات لمستقبله الشخصي ومستقبل الفاسدين من أسرته، مما حتم أن يكون الخطاب تمهيدياً لوقوعه في قلب الصراع المحتدم داخل المؤتمر الوطني ومعارك كسر العظم فيه، وكذلك الصراع مع قوى المعارضة بشقيها المدني والعسكري. ولكن لم يخل الخطاب من مغازلة لشيخ الحركة الإسلامية د. الترابي بالتلميح إلى أن المؤتمر الوطني يثوب الآن إلى مشروعه الذي يستلزم الإنتقال من دولة التمكين لدولة الحريات ، مما يمهد لوحدة الحركة المذكورة على أساس المشروع الأصلي. أعقب خطاب الوثبة الذي دعا فيه الرئيس لحوار وطني، محاولات لجر المعارضة جراً إلى هذا الحوار دون تكامل لأسسه أو توفر لمتطلباته، حيث إستجاب شق منها أبرزه حزب الأمة والمؤتمر الشعبي، ورفض شق آخر الدخول في حوار لم تتوفر شروطه. ولحساسية الحديث عن الشروط وكأنها أمر خارج عن مسألة الحوار يرغب الشق الرافض في فرضه على الرئيس وفريقه الذي يبحث عن خلاص رغم الإدعاءات والغطرسة والأكاذيب، كان على هذا الشق من المعارضة المجتمع في قوى الإجماع الوطني، أن يوضح بأن ما أسماه شروط هو أسس ومقومات الحوار التي لا يمكن أن يقوم بدونها. إذ أن أساس الحوار - على عكس التفاوض- هو التكافؤ بين المتحاورين. فإذا كان التفاوض من الممكن أن يتم بين منتصر ومهزوم ، فإن الحوار علمياً لا يكون إلا بين المتكافئين. ولا يمكن الحديث عن تكافؤ في وقت تقيد القوانين المقيدة للحريات القوى المعارضة، وتقصف الطائرات القرى الآمنة للقوميات التي خرج منها ثوار المعارضة المسلحة، وتصادر الصحف ويوقف الكتاب، ويعتقل جهاز الأمن من يريد، ويقبع جزء من أشاوس إنتفاضة سبتمبر في معتقلات النظام، ويحاكم المعارضون بالإعدام لأسباب سياسية. لا يمكن أن يتم الحوار بين شخص و شخص آخر يطبق الأول بكلتا يديه على عنقه، ويمنعه حتى من حرية التنفس ناهيك عن الحديث أو التحاور. ولا خير في حوار لا يتحول إلى هم جماهيري، تتاح فيه الفرصة لكل قواه بالإتصال بجماهير الشعب وعكس ما يدور في جلسات الحوار إليها، والإستئناس يرأيها والإحتكام إليها في حال الإختلاف. ففي ظل توازن القوى الماثل، النظام على ضعفه لا تستطيع المعارضة مكافأته إلا عبر حشد الجماهير خلفها و رفع قدرتها في المطالبة بحقوق الجماهير بمساندة شعبها وقواه الحية. والحوار أيضاً يستلزم تكافؤ الفرص لمناقشة قضايا متفق عليها ( أي أن تكون للحوار أجندة واضحة)، تحدد بصورة ديمقراطية بين القوى المتحاورة لا أن يفرضها الحزب الحاكم ورئيسه. وأن يرأس ويدير الحوار جهة متفق على نزاهتها وقدرتها على السماح بالوصول لمخرجات متفق عليها عبر آلية مقبولة للجميع. إذ أن مخرجات الحوار غير محسومة بل من الممكن أن ينتهي الحوار دون أن يتم التوصل لمخرجات منه بالأساس. وحتى تكون هذه المخرجات في مصلحة الشعب، لا بد أن يكون لهذا الشعب أيضاً الحق في المشاركة في هذا الحوار عبر مؤسسات مجتمعه المدني، وأن يسمح له في حرية كاملة بالتعبير عن رأيه ببسط الحريات وإلغاء القوانين التي تمنعه من المشاركة، بل والحسم وليس فقط الإستماع إلى القوى المتحاورة. وبما أن الحوار نظرياً من الممكن أن يكون بلا سقف زمني وأن ينتهي فقط بعد سماع رأي كل جهة حول القضايا المطروحة، وهذا بالطبع لا يتناسب وخطورة الأوضاع بالبلاد، كان لا بد من تحديد سقف زمني لهذا الحوار وتحويله لصيغة تقوم على إعتراف صريح من المؤتمر الوطني بفشله في إدارة البلاد وخطأ تجربته في التمكين، وقبوله صراحةً الإنتقال من دولته لدولة كل الشعب السوداني القائمة على المواطنة، ليدور الحوار حول كيفية هذا الإنتقال وتداعياته. بدون ذلك يصبح الحوار مجرد تمرين عبثي يمدد في عمر النظام، ويقود في أفضل الأحوال لدولة مؤتمر وطني معدلة بإستيعاب واحتواء القوى المعارضة داخلها ليس إلا، دون مخاطبة جذور المشكلة وفتح الطريق أمام شعبنا للإنتقال من حال إلى حال. والواضح هو أن المؤتمر الوطني غير مستعد لدفع إستحقاقات الحوار، ويريد عبر طرحه للحوار تبريد الساحة السياسية واستيعاب آثار إنتفاضة سبتمبر بتعويم النظام بدلاً من تفكيكه. ففي تقديري أن التيارين المتصارعين داخل المؤتمر الوطني، متفقين على عدم تفكيك النظام وعلى أن تبقى دولة الفساد، ولكنهما مختلفين حول آلية التعويم. فتيار البشير يرى أن تعويم النظام يمر عبر حشد أكبر قدر من القوى السياسية داخل حكومة جامعة تنتج عن الحوار الوطني ولا تمس أي من مكتسبات التمكين بل تكون واجهة للحكم يحكم من تحتها بالفعل النظام القائم بالفعل، وتيار مراكز القوى أو ما تبقى منه لا يرى سبباً لهذا الحوار ويؤمن فقط بضرب هذه القوى السياسية والاستفادة من ضعفها، خصوصاً في ظل إنحسار الإحتجاجات بعد الإنتفاضة كأمر طبيعي في قوانين الثورات التي لا يدركها هذا التيار ذو العقلية الأمنية المحضة وإن إحتوى على سياسيين. والمؤكد أيضاً هو أن مجموعة الرئيس التي دعت للحوار ، قد فشلت في إقناع قوى الإجماع الوطني والحركات المسلحة بالدخول في الحوار. وهي تدرك أن الحوار الذي سوف تديره في غياب هذه القوى في أحسن أحواله سوف ينتج حكومة قائمة على تحالف أهل القبلة المدعو له تاريخياً، والذي سوف يعيد إنتاج الأزمة والفشل من جديد، ويمنع من تعويم النظام ويقلل من فرص وفائه بإستحقاقات المشروع الأمريكي المدعوم إقليمياً. وهذا بالطبع سوف يقلل من فرص الرئيس في ترتيب أوضاعه مع محكمة الجنايات الدولية، ويعقد مهمة رفع العقوبات الأمريكية وتدفق المساعدات ومعالجة أزمة الدين الخارجي. ولكنها في نفس الوقت، تدرك أن هذا التحالف سوف يطيل عمر النزاع لفترة قصيرة لا تمانع في الركون إليها كحل مرحلي لأزمتها المستحكمة الراهنة، مع خوفها من فشل مثل هذا الحوار في إقناع بعض القوى المشاركة فيه بالإلتحاق بركب النظام دون أفق للتغيير. هذا الضعف لتيار الحوار التعويمي داخل المؤتمر الوطني، يقوي بلا شك التيار الآخر الرافض للحوار من أساسه والطامح في إستمرار النظام بصورته الراهنة مع عدم ممانعته في القيام بأي مغامرات في سبيل منع التغيير مهما كان شكلياً. والأمر كذلك يكون المنطقي هو أن يلجأ التيار الذي يؤمن بالقوة وحدها للجوء إلى أدواتها الحاسمة لحسم الصراع لمصلحته، ويكون الجيش هو أول الجهات المتهمة بأنها مصدر الخطر على النظام. ففي مثل هذه الظروف، لا يمكن لنظام إنقلابي شمولي أن يثق في الجيش مهما كانت التدابير الإحترازية التي إتخذها من بناء قوات نخبة مؤدلجة داخله، وبناء مليشيات موازية له، وتقوية جهاز الأمن ليصبح قوة ضاربة قادرة على حسمه وهزيمة أي إنقلاب يقوم به منسوبيه لإستلام السلطة، وتشريد كادره المهني وكل من هو مشكوك في ولائه. فالجيوش بطبيعتها تتأثر بواقع المجتمع وتنتج معارضين للنظم المعادية لشعوبها كما تنتج مغامرين. وبقراءة حدة الصراع بين التيارات داخل المؤتمر الوطني مع حالة الرئيس الصحية وتعثر الحوار، يصبح ظهور الجنجويد في العاصمة القومية وهم الذراع الضاربة للرئيس وجهاز أمنه، أمراً طبيعياً. فظهورهم يرسل رسائل للتيار المتربص بتيار الرئيس بأن المذكور قادر على لجمهم وهزيمتهم وهزيمة كل من تسول له نفسه الإنقضاض على السلطة، وأن الرئيس قادر على اللجوء إلى عنف منفلت فيما إذا تحركت أي مجموعة ضده. وفي نفس الوقت يرسل رسائل للقوى المعارضة التي قبلت الحوار والتي لم تقبله، يوضح للأولى سقف ومآلات الحوار وفي هذا السياق يأتي إعتقال الإمام الصادق المهدي وفقاً لطلب الجنجويد أنفسهم، وللثانية أن القوة التي قمعت إنتفاضة الشعب في سبتمبر حاضرة لقمع أي تحرك جديد. والمفارقة هي بالطبع أن الجنجويد لم يقم بإحضار قوتهم المسماة بإسم الدلع "قوات الدعم السريع" للعاصمة التيار الرافض للحوار، بل جلبهم تيار الحوار وعلى رأسه الرئيس لتأمين سلطته وقمع وتخويف خصومه. أي أن الجنجويد الذين جلبوا ليتم الحوار تحت أسنة رماحهم، هم جزء من أدوات الحوار بحيث يتم عبر إحضارهم تأكيد مخاوف القوى التي وافقت على الحوار تحت دعاوى أن بديل الحوار هو صوملة السودان، وفي نفس الوقت منع خصوم الرئيس في كل المواقع من التحرك ضده لأن الخطة "ب" قد أصبحت الآن الخطة "أ" والوحيدة. ولكن بالطبع لجوء الرئيس لهذا الخيار، يؤكد وبشكل سافر أن الحوار الماثل حوار لا جدوى منه، مآلاته المرسومة هي تعويم دولة الإستبداد الفاسدة الماثلة، وقمع كل من لا يمتثل لهذا المخطط المرسوم. ولا شك في أن الرهان على إمكانية إجبار القوى السياسية على المشاركة في مثل هكذا حوار وقبول مخرجاته المحددة سلفاً، يمكن إفشاله فقط عبر الركون إلى شعبنا العظيم صانع المعجزات لإجتراح المآثر. فالمطلوب الآن هو عمل جماهيري صبور ودؤوب يرفض هذا الحوار، ويطالب بحوار مستحقاته مدفوعة وأسسه متوفرة . وحسناً فعل حزب الأمة بموقفه الأخير من الحوار المزعوم، ونتمنى أن يصمد ويستمر على هذا النهج بعد خروج رئيسه من الحبس قريباً كما هو متوقع. وندعو كل القوى التي استجابت لدعوة الرئيس الذي لا يستطيع دفع مستحقات الحوار ، أن تعلن مقاطعتها له مجدداً. فأسس الحوار التي ذكرناها في مقدمة هذا المقال، تستلزم فوق ما سبق ذكره، إخراج قوات الجنجويد من العاصمة القومية، وعدم الإستقواء بها في مواجهة القوى السياسية الموافقة والمعارضة للحوار ، ومن قبل ذلك عدم الإستقواء بها في مواجهة أبناء شعبنا ذوي الصدور العارية الذين أرعبوا النظام في سبتمبر. وعلى أقل تقدير نتوقع من القوى التي قبلت الحوار من غير أحزاب الحكومة، أن ترفض الحوار تحت أسنة رماح الجنجويد. ولشعبنا الصامد الصابر قول واحد لا ثاني له، هو أن هذا الحوار يجب أن يلحق بمؤتمر الحوار الوطني الذي عقده النظام في بداية مشواره، وأن يذهب ونظامه إلى مزبلة التاريخ. و هبوا لإنتفاضتكم يرحمكم الله ! د. أحمد عثمان عمر 28/5/2014م
|
|
|
|
|
|