|
بثلاثة ألف درهم فقط .. من يشتري أعراض السودانيين من عمر البشير ؟ عبد المنعم سليمان
|
مازحتني نهاية العام الماضي ، موظفة الجوازات الجميلة في مطار (أوليفر تامبو) بجوهانسبرج وهي تنظر إلى جواز سفري أثناء إجرءات الدخول : ( هل لا تزال حكومتكم تجلد النساء)؟
ورغم ابتسامتها الأخاذة وطريقتها (الرطبة) في طرح السؤال ، إلاّ أنني لم استطع الرد عليه ، حيث تملكتني حينها حالة (ثِقل) مفاجئة ، ثِقلاً في الظل وفي اللسان وفي الوزن ، حتى أنني شعرت بالحقيبة التي كنت أحملها على كتفي أثقل عليه من سياط جلاد على ضحيةٍ بريئة. همهمت للموظفة في صوت خفيض بكلمات غير مفهومة قبل أن أسرع مُكباً على خيبتي نحو باب الخروج .
(1)
لا أذيعكم سراً إن قلت أنني الآن على أتم الإستعداد للصراخ بأعلى صوتي ، وسط أكبر المطارات العالمية ، مردداً : (أنني من البلاد التي تجلد فيها النساء)، لقد أصبحت على إستعداد نفسي للتحاور بشأن عقوبة جلد النساء التي استعرت منها العام الماضي ، بعد أن حققت القوانين في بلادنا طفرة كبرى (إلى الخلف) من مرحلة جلد النساء بالسياط إلى شنقهن بالحبال ، والفضل في ذلك يعود (من قبل ومن بعد) إلى (تطور) شريعة أمير المؤمنين المشير الركن "عمر حسن البشير" ، والحمد لله الذي لا يشكر على مكروه سواه.
(2)
بالأمس قضت محكمة (الحاج يوسف) بضاحية الخرطوم بحري ، بإعدام "مريم يحي إبراهيم" بعد أن أدانتها بالرِّدة عن الإسلام والتحول إلى المسيحية.
إن هذا الحكم وبغض النظر عما يكتنفه من إنحطاط وعودة لعهود الظلام ومحاكم التفتيش ، فإنه يشعرنا نحن السودانيين بالخزي والعار، فلو أن هذا القاضي كان ينتمي لجماعات طالبان أو داعش أو بوكو حرام لتفهمنا حكمة (بالنظر إلى النسخ الرديئة من تفسيرات الدين الإسلامي) التي تلقنها هذه الجماعات لمنسوبيها ، ولكن أن يصدر الحكم من محكمة سودانية رسمية يفترض أنها تراعي في قوانينها طبيعة الإنسان السوداني المنفتح والمتفهم والمتسامح ، فهذه هي الكارثة الكبرى ، فماذا حل ببلادنا يا ترى وماذا حدث لمن يحكموننا ؟ .
لست هنا للدخول في جدل عقيم حول ما يسمى بـ (الردة) وحدها ، ورأيي فيها دون وجل أو خجل أنها جريمة وحشية مُحطة بالإنسان ومُسيئة لسماحة الأديان ، حتى أنني اتمنى أن توضع ضمن الجرائم الموجهة ضد الإنسانية ، مثلها مثل أي عقوبة تحط وتنتهك حياة وكرامة الأشخاص ، ولا اعتقد أن عاقلا في هذا العالم يصدق أن هذه الجريمة (الحكم بالردة) من قيم السماء ! ومن يصدق أن ذلك من قيم الإسلام فأنصحه بتناول قرصين من حبوب (البروزاك - Prozac ) وأضمن له أن يتخلص من شهوة القتل وكل مشاكل الإكتئاب والقلق في أقل من اسبوعين .
(3)
ما أود الخلوص إليه ، هو أن أبعد شخص عن القيم الأخلاقية و الدينية في هذا الكون هو "عمر البشير" رغم تشدقه ليل نهار بأنه صاحب رسالة سامية وحامي بيضة الدين ، فما فعله هذا الرجل يعجز كل كفار قريش مجتمعين على فعله ، وما فعله أبوجهل وأبي سفيان أيام الجاهلية لا يرقى إلى جرائم عمر البشير، ولو كانا بيننا الآن لتوجب علينا أن نعتذر لهما ، نقبل رأس أبوجهل و (نبوس) لحية أبوسفيان ، ونحن نتوسل قائلين : (أمسحوها في وجوهنا يا كفار قريش).
فالأمر هنا ليس أمر دين كما يريد أن يصوره نظام هذا الرجل الذي لم يسلم السودانيين من لسانه ويده ، لذلك فإن حكم الردة الذي أصدره قاضيه لا يعدو أكثر من كونه محاولة لصرف الأنظار عن القضايا الحقيقية التي أصبحت تحاصره هو ونظامه ، فوثائق الفساد التي تدينه وأسرته ورهطه إستشرت حتى أصبحت مبذولة في يد العامة بشوارع الخرطوم ، ومعدلات الفقر إرتفعت لدرجة غير مسبوقة بشهادة المنظمات الدولية المختصة ، وما يسمى بالحوار الوطني الكذوب اكتشفت كل القوى السياسية الرئيسة إن الهدف الحقيقي منه هو إطالة عمر النظام وبشيره ، الذي تطارده المحكمة الجنائية الدولية ، لذا فإن كل هذه المعمعمة قُصد منها صرف الأنظار وخلق محور وهمي آخر لإلهاء الجماهير عن القضايا الحقيقية !
(4)
هذه المعمعة في حقيقتها (ردة) ، ولكنها ردة من نوع آخر ، ردة كبرى عن أخلاق السودانيين وسماحتهم وأمانتهم ، وردة عن الحريات العامة والشخصية ، وردة عن التحول الديمقراطي الذي تُلعلع به أجهزة النظام في الخرطوم صباح مساء ، وأن هذه الردة ستستمر حتى يدخلنا الرجل ونظامه في الهوة السحيقة التي أصبحنا قاب قوسين أو أدنى منها ، ولا يوجد حل لإيقاف هذه الردة المتواصلة وهذا التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقى سوى برحيل هذا الرجل ونظامه عبر انتفاضة شعبية عارمة ، أو إنتظار عرض من "عمر بن الخطاب" آخر .
وفي القصة أن أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه ، نادى على الشاعر الحُطيئة الهجّاء الشهير ، الذي لم يوفر أحداً إلا وهجاه ، طالباً منه التوقف عن ذم الناس وسبهم ، فرد الحطيئة قائلاً : إذاً تموت عيالي جوعاً يا أمير المؤمنين ؟ فإشترى منه عمر بن الخطاب أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم ، وأخذ منه العهد على ذلك . ذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى رحاب ربه راضياً مرضيا ، وبقى عمر البشير ، فمن يشتري منه أعراض السودانيين بثلاثة آلاف درهم ؟
|
|
|
|
|
|