|
قصة (فيل) الوالي وتسمم عمر البشير عبد المنعم سليمان
|
عانيت أشد المعاناة كي أكتب هذا المقال واحترت من أين أبدأ وبمن ؟ هل أبدأ بفساد عمر البشير وزوجته وأشقائه ؟ أم بعلي عثمان ومجموعة الأقطان ؟ هل أكتب عن فساد والي الخرطوم السابق ، أم الحالي ؟ هل أبدأ بوالي سنار أم بوالي القضارف ؟ هل أكتب عن غندور أم عن الضفدع أمين حسن عمر ؟
لكل مقال أزمة كما قال الصحفي الكبير "مصطفى أمين" ، ولكني إعترف بأن هذا المقال تجاوز حد الأزمة لأن الفساد في بلادنا تجاوز حد كونه ظاهرة حتى صار مبدأ . وهنا يكمن أس البلاء والشقاء في بلادنا .
ظللت في حيرتي هذه حتى توكلت في نهاية الأمر وقررت أن أحسم أمرها على الطريقة الفارسية ، وللإيرانيين طريقة عجيبة ولطيفة في حسم الأمور المتشابهات ، تُسمى بـ (فال حافظ) نسبة لشاعرهم الكبير حافظ الشيرازي ، حيث يقوم الشخص (المُحتار) - مثلي - بفتح عشوائي لصفحة من ديوان الشيرازي ، ثم يقرأ أول بيت شعر في الصفحة التي إختارها ، وما يتحدث عنه بيت الشعر يكون هو فأله وحظه في ذلك اليوم .
وعلى تلك الطريقة حسمت أمري ، حيث كتبت على (قوقل) : (فساد السلطة الحاكمة في السودان) ثم توكلت ونقرت ، فإختار لي أول خمسة مواضيع ، كانت كلها تتحدث عن فضيحة عبد الرحمن الخضر.
(1)
حمدت الله على خيار الكتابة عن فساد وفضيحة "الخضر" لما فيها من ترويح للنفس ومتعة تكسر الكآبة والملل ، وذلك لما تضمنته من كوميديا مصاحبة تجعل أسنانك تصطك ثم تسقط من الضحك ، وبالطبع لن يكون آخر فصول الكوميديا ذلك الإعلان الصحفي الشهير "المبرئ للذمة" من رفقاء الوالي إلى صلاة الصبح ، الذي شهدوا فيه أن (والينا) يحضر إلى المسجد قبل أن يتبين لرعيته الخيط الأبيض من الفجر، ولايغادره مهرولاً بل يقف يحادث الناس ويتبسط مع الجميع !بسط الله والينا (الحرامي) المتبسط . (آمين).
لكن ولكي تعم حالة الانبساط هذه ، دعونا نسبق رفقاء الوالي إلى صلاتي المغرب والعشاء حتى لا يخرجوا إلينا بإعلان آخر ، ونذكرهم بوالٍ (من السلف) ألا وهو "الحجاج بن يوسف الثقفي" الذي لم يكن يرتاد صلاة الصبح وحسب ، بل كان مرابطاً بصحن المسجد كل الأوقات يجلس بين جهابذة علماء القرآن والحديث والفقة والسيرة من الصحابة والتابعين أمثال أنس بن مالك ، عبد الله بن عباس ، و سعيد بن المسيب ، وحسن أولئك رفيقا ، حتى حفظ القران كله ، وأصبح عالماً بالقرآن والحديث لا يشق له غبار ولا يغيم له نهار، ومع ذلك لم يردعه ذلك ، فقطع آلاف الرؤوس المعارضة ، وأزهق مثلها من الأرواح البريئة.
(2)
تحكي رواية الكاتب البوسني الكبير "إيفو اندريتش" الموسومة بـ (فيل الوالي) ، والتي دلني عليها كاتبي المفضل الساخر الكبير"بلال فضل" ، عن بلدة بوسنية اختبرت أشكالا وألواناً من ظلم الولاة ، لكنها تحصنت بالصبر والإحتمال ، حتى تولى أمرها والٍ جديد سبقته إليها سمعته السيئة . ولما وصلها بصحبة (فيله) ، اعتبر سكان البلدة الفيل هواية غريبة لواليهم الجديد ، ولم يظنوا رغم خبرتهم الكبيرة في التعامل مع الطغاة إن (الفيل) ليس إلاّ وسيلة قمع جديدة منه ، فكان الفيل يسير يومياً بشوارع البلدة يعيث فسادا وتكسيراً وتحطمياً وينشر الفزع في نفوس أهل البلدة ، ولا يجرؤ أحد على زجر (فيل الوالي).
الحاكم المغتر بقوته لم يدرك أن ما ظنه وسيلة لفرض مظاهر الطاعة تحول إلى وسيلة لصناعة الكراهية ، فقد قرر أهل البلدة أن يعلنوا تمردهم بعد أن (طفح كيل) بالوالي والفيل، فاجتمعوا وخططوا لقتل الفيل ، وفجأة تحول الناس البسطاء المسالمين الذين لم يفكروا من قبل في العنف إلى خبراء في التخطيط للشر ، فشرعوا في فكرة تسميم (الفيل) ، لكن قبل أن ينفذوا الفكرة هبطت عليهم عدالة السماء بأن قرر الحاكم عزل الوالي فمات الأخير كمدا جراء صدمته ، ولم يلبث أن لحق به (فيله) فسقط ميتاً هو الآخر.
(4)
الكارثة ، أن المصيبة التي حاقت ببلادنا ليس لها مثيل في كل القصص والروايات ، ولم يخطر على بال أعظم روائي في العالم أن يكتب مثلها ، مصيبتنا تفوق العبقرية والخيال ويجل عنها الوصف ، فهي غير محصورة في الوالي ولا في أفياله المتخصصة في هدم وتكسير الأسواق ومطاردة الفقراء ، بل في الحاكم الفاسد نفسه ، وفي أسرته وعشيرته وبطانته وقضاءه ووكلاء نياباته ، ووزراءه وفي كل أركان حكمه.
لذلك ما لم تتوحد الجهود لإسقاط هذا الحاكم الفاسد ونظامه ، فإن أي محاولة لتسميم (فيل الوالي) أوعزل صاحبه ، لا تعدو أكثر من كونها إطالة لأمد الفساد والمفسدين ، فلا تضيعوا جهودكم في تفاهات عبد الرحمن الخضر وأفياله الصغيرة وهيا نسمم (عمر البشير) .
|
|
|
|
|
|