|
حنتوب الجميلة: مستر بروان يُسقط عني قسط حنتوب الأخير
|
الأستاذ الطيب السلاوي (دخلت حنتوب الثانوية عام 1949 وتحرجت فيها في 1952. وهذه قصة مستر وود معلم الرياضيات الذي تسبب في إعفائي من القسط المدرسي الأخير من مصاريف المدرسة). كان المستر وود قد تخطى ألأربعين الآ قليلا ممتلىء الجسم تماما . كل جزء منه يفيض لحما وشحما خاصة فى منطقة البطن والإليتين . لو رآه الشاعر قيس بن غيلان المكنى بالأعشى لوضع اسمه مكان "هريرته" فهو "هركول فنق درم مرافقه". لكن أخمصه لم يكن ب"الشوك منتعل" ولم يكن يمشى الهوينى. فقد كان خفيف حركة لا تخطئها العيون وفى قدر من النشاط وفير. لم تكن نظارته الطبية ذات العدسات السميكة تفارق وجهه وإلا فهو "طلطميس" فى إظلام دامس لا يكاد يرى أصابعه. ويظل يتلمس طريقه فى كل خطوة يخطوها. مستر وود كان خفيف دم ضاحكا ممراحا ذا طرف وساخر. التعليقات اللاذعة اللماحة الذكية على طرف لسانه يرسلها فى سرعة متبوعة ب"كتكتة" من الضحك المتواصل مما يجعل الجلوس الى حلقات درسه متعة لا يدانيها إمتاع أو مؤانسه أثناء تدريسه. ذات يوم شاهد أحد الطلاب وقد اطال فتح درجه مخفيا رأسه داخله. فنزل مستر وود من على منصة الفصل فى هدوء ووقف عند الطالب ( فاتح الدرج) وسأله عما كان يفعل. فكان رد الطالب وقد طار صوابه: (نصنق) (اي لا شيء) فرد عليه مستر وود (ليف أتانصايد) (دعها في الداخل). وبامتعاض ردد الطالب كلمة (نصنق) فرد مستر وود " أى دد نوت مين يو ليف" نصنق" انصايد.. اي مينت يو ليف يور هيد ذات هاز" نصنق" انصايد أت انصايد يور ديسك") (لم أقصد أن تترك "نصنق" بداخل الدرج بل أن تترك رأسك الخالي الداخل داخل درجك). الخواجه كان بحق غزير مادة سبر أغوارها وتمكن من ناصيتها. ومضى فى أبعاد تدريسها سنين عددا فى جو من الدعابة والمرح. وكان لا يسمح خلاله للبعض من الطلاب، الذين كانوا يحاولون تخطى الخطوط الحمراء التى وضعها اسوارا فاصلة بين الجد واللعب، من الأقتراب منها. ناهيك عن تخطيها. كان لصيق المتابعة لهذا الصنف من الطلاب تقريعا ######رية وتحجيما لهم أمام زملائهم خاصة ان كانوا من المتقاعسين عن أداء الواجبات اليوميه، او ممن يفاجئهم بأسئلته حالما يجدهم خارج محيط الدرس غير منتبهين. لهؤلاء كان يضاعف لهم الواجبات وإلا مؤخراتهم لا محالة ذايقة من لسعات ضرباته ما لا يقل عن التلاث والرباع. وقد تصل الى نصف الدسته فى حالات تكرار التقاعس عن أداء المطلوب منهم القيام به، أو تأخروا فى تسايم الكراسات في مواعيدها المحددة.
اثناء فترة وجود ألأستاذ زيدان فى حنتوب، قبل انتقاله منها الى وادى سيدنا فى عام 1951 نائبا للناظر، كان المستر وود هو الذي يدرس طلاب " سيت (الفرقة) 4" فى صفوف السنتين التالثة والرابعة. وهم الطلاب الذين كانوا فى حاجة الى مزيد من صبر وأناة معلمى الرياضيات، وربما معلمى اللغة ألأنجليزية كذلك، للأخذ بأيديهم رفعا لمستوياتهم فى المادتين. والأمل منعقد أن يتمكنوا من الحصول على درجة "كريديت 6 " على أقل تقدير فى امتحان الرياضيات، ودرجة النجاح فى اللغة ألأنجليزيه من شهادة كمبردج. كريديت 6 كانت هى أدنى المستويات من درجة "جيد " التى تلى درجة النجاح (بّاص 7 ) التى كان لا يؤخذ بها فى تقويم درجات التنافس لدخول الجامعه فى تلك السوابق من القرون. تولى مستر وود قيادة شعبة الرياضيات خلفا لمعلم الأجيال أمين زيدان كما خلفه على تدريس طلاب فصل ( سيت 1 ) النابهين فى مادة الرياضيات الأولية والإضافية المتطلعين الى دراسة الهندسة تخصصاً فى أقسامها المدنية أو المعماريه أو البيئيه أو الزراعية وغيرها، مما يندرج تحتها من مجالات التخصصات التى كانت مادة الرياضيات أولى متطلبات دراستها. سعد بتدريس مستر وود كل من جلسوا إلى حلقات درسه خاصة طلاب (سيت 1 ) المتميزين السابرين أغوار الرياضيات. عرفنا المستر وود دائم الحركة داخل الفصول وخارجها. أيام نوبتجيته كان يُرى وهو يجوب أرجاء حنتوب الى ما بعد إطفاء ألأنوار عند العاشرة مساء حاملاً بطاريته مرسلة أنوارها القوية الباهره. أكيد كانت أكبر البطاريات المحمولة "يدا" حجما فى حنتوب. لعله لم يوجد أكبر منها إلا الرتائن التى يستعان بها عندما يتوقف إمداد التيار الكهربائى عن حنتوب. وكنا نرى أنفاسه تعلو وتهبط ممتشقا عكازته المنحنية قليلاً فى أحد طرفيها التى كثيراً ما أصابت انحناءتها تلك ما كان يسعى فى ارض حنتوب من هوام وعقارب وثعابين فى مقتل.
رغم ترهل جسم المستر وود واكتنازه شحما ولحما كان دائم المشاركة فى تحكيم مباريات دورى كرة القدم بين الداخليات عصر أيام السبت من كل أسبوع. وبسبب ضعف أبصاره واستخدامه النظارات ذات العدسات السميكه، التى كان يضطر لربطها خلف أذنيه، كان أحيانا يجد شيئاً من العنت من بعض الطلاب أو من غيرهم احتجاجا على بعض قراراته أو تشككا فى ولوج الكرة بين القائمتين وتحت العارضة. إذ من عجب لم تكن هناك شباك على المرمى مما يجعل فى كثير من الأحيان الحكام والمشاهدين على حد سواء فى شك إن كانت الكرات السريعة قد ولجت المرمى أو طاحت من خارجه. المستر وود كان المسؤول عن ادارة وتنظيم تمارين منشط السباحة خلال شهرى مارس وإبريل من كل عام عندما تغيض مياه النيل ألأزرق فى بداية فصل الصيف الى ادنى مستوياتها. كان يجيد الغطس منافسا للزميلين ساكنى داخلية النجومى مامون احمد حمود وعلمى أحمد دعاله الصومالى، النطاسيين البارعين فى لاحق الزمان. وسعدت بالحديث إلى دوعالي عبر الهاتف من مدينة واشنطن عندما جاء مدينة نيويورك مندوبا للصومال ورئيسا لبعثتها لدى الأمم المتحده سنين عددا. ولعل الخبثاء من الظلاب كانوا يسخرون أن مياه النيل ألأزرق كانت تشهد ارتفاعا ملحوظا حالما ينزل المستر وود داخل منطقة الغطس التى كان يجرى تغيير موقعها من عام الى آخر اعتماداً على مدى عمق المنطقة توخياً لسلامة الغاطسين.
ومثلما كان الأستاذ زيدان سبباً فى لقائى بالسيد زياده أرباب وزير المعارف ودخولى مكتبه لأول مرة فى حياتى، كان المستر وود سببا مباشراً فى لقائى المستر براون وجها لوجه ودخولى مكتبه لأول مرة خلال الأربع سنين التى قضيتها طالبا فى حنتوب. ذلك اننى كنت قد حصلت على عمل مؤقت أثناء شهور العطلة الصيفية عام 1952 فى مصلحة المالية بالخر(.........)م. وكانت تجربة ثرة ومثيرة استفدت منها ماديا وتجربة حياتية ديوانية مكتبية فريدة. أهم من الجانب المادى أن تعلمت الطباعة على الآلة الكاتبة ذات الحروف الإنجليزيه عندما كانت اللغة ألأنجليزية هى لغة الداوين الحكوميه حتى عام 1956 فحلت اللغة العربية مكانها وبدأ استجلاب ماكبنات الطباعة ذات الحروف العربيه. كانت تلك العطلة الصيفية عام 1952 ( من بداية شهر يونيو الى نهاية شهر اغسطس) بداية لعملى فى مصلحة الماليه خلال العطلات الصيفية لسنوات قادمات. وكادت ان تفضى بى للانخراط فى العمل الدائم فى وزارة المالية طوال حياتى بعد تخرجى فى جامعةالخرطوم عام 1958. كان قسم شؤون الموظفين (الذى كان تابعا لمصلحة المالية قبل أن يصبح بعد استقلال السودان مصلحة حكومية ذات شخصية اعتبارية. ولكنها ظلت تتبع لوزارة المالية المركزيه تحت مسمى ديوان شؤون الخدمة. وقد بدأ وضع الخطة لحصر عدد موظفى حكومة السودان من غير السودانيين ( الأجانب "ألأكسباتريتس" من ألأنجليز والمصريين) الذين يتوقع توقفهم عن العمل فى السودان اما لإنتهاء عقود خدمتهم للعمل مع حكومة السودان، أو الاستغناء عن خدماتهم التى كان من الممكن ان يقوم به السودانيون، ولا حاجة لبقائهم تخفيضا للوظائف ذات الرواتب العالية. وفى مثل تلك ألأحوال تجب مغادرتهم البلاد بعد حصولهم على تعويضات مجزيه كفوائد ما بعد الخدمه أو كتعويض عن سنين متبقية قد تم الإستغناء عن اعمالهم قبل انقضاء مدتها. كان قسم شؤون الخدمة يعمل جاهدا لحصر الأسماء وتحديد قدر التعويض لكل منهم وفق معايير محددة مما جعله (فسم شؤون الموظفين) فى حاجة إلى عدد إضافى من العاملين المؤقتين لاكمال المهمه. فاستعان ينفر كريم من الآباء والأعمام من أرباب المعاشات وآخرين كان من بينهم اثنان من رفاق الدراسة تقدمانى بعام واحد فى حنتوب. وقد سعدت بالعمل معهما وهما يعملان فى همة ونشاط شاركتهما فيه بما تيسر من قدرات وامكانات جسمانية فى نقل الملفات جيئة وذهابا عبر المكاتب .
فى نهاية العطلة الصيفية وأنا اغادر مصلحة المالية فى آخر يوم عمل لى بالمالية التقانى أستاذنا الجليل مامون بحيرى الذى كان قد التحق بمصلحة المالية قبل ثلاث سنوات بعد أن سعدنا بتدريسه لمدة أربعة اشهر فى حنتوب عام 1949 . سألنى عن تجربتى فى قسم شؤون الموطفين وعما إذا كنت سأعيدها مرّة اخرى اذ سنحت الفرصة مستقبلاً. وطلب منى التوجه الى مكتب أحد البريطانيين فى الطابق العلوى وهو من كان يشغل وظيفة كبير ضباط شؤون الخدمه (سينيور استابلشمينت أوفبسر). وعرفت اسمه (جورج ساندرسن) من توقيعه على خطاب موجه لشخصى عبر فيه عن شكره على ما قمت به من العون والمساعدة فى ذلك القسم خلال تلك الشهور الثلاثه فضلا عن اسهامى المقدّر فى عمليات الطباعة على الآلة الكاتبة متمنيا لى نجاحا مستقبليا. سعدت كثيراً بذلك الخطاب ومن مصلحة المالية انطلقت الى محطة السكة حديد للحاق بقطار القضارف الذى يغادر محطة الخرطوم فى الواحدة وعشر دقائق بعد الظهر ليصل مدينة ود مدنى في السابعة تماما من ذات المساء. واستقر الخطاب بين صفحات احد الكتب داخل شنطة ملابسى الحديديه التى سعدت هى ألأخرى بوجود الجديد من الأردية والقمصان مع صندل بنى جديد ورد نوعه محلات "باتا " فى سوق الخرطوم لأول مرة ذلك العام. لم أشأ ان انتعله الا فى حنتوب مع الجديد من الأردية و القمصان. وصلت حنتوب وبدأنا الفصل الدراسى الثانى من عامنا الدراسى الأخير لنلتقي خلاله بالمستر وود يدرس مجموعتنا طلاب (سيت 3 ) لمدة أسبوعين تغيب خلالهما الأستاذ الطاهر العاقب عن حنتوب. وظل خطاب المستر ساندرسن كبير ضباط شؤون الخدمه يتنقل بين صفحات الكتب والكرسات إلى أن استقر به المقام بين صفحات كراسة الرياضيات التى دفعت بها الى المستر وود تحمل واجبا فى مادة الرياضيات دون أن أتذكر أن ذلك الخطاب كان يقبع بين صفحات الكراسة. كانت المفاجأة أن كنا طالبين فقط أعلن المستر براون فى الاجتماع اليومى الصباحى عن رغبته فى لقائهما فى الساعة الثانية عشر ظهراً. ظللت لثلاث ساعات مشدود الأعصاب متوتر النفس تنتابنى شتى الهواجس. طبعا طلعت "كيت" أثناء الثلاث حصص التاليه الى أن انتهت الخامسة من حصص ذلك اليوم فى الساعة الحادية عشر وخمسة وخمسين دقيقه. فانطلقت الى مكتب الناظر وأنا أمني النفس الوصول الى مكتبه قبل زميلى الآخر. ولكنه كان قد سبقنى الى داخل المكتب. وما هى الا دقايق معدودات إلا وجاء خارجا من المكتب منشرح النفس منفرج الأسارير حالما لمحنى المستر براون عند باب النمليه أشار لى بالدخول.
توكلت على الحى الذى لا يموت ودخلت و نفسى تفيض بكثير من الهواجس ولكنها سرعان ما زالت لما رايت مستر براون مبتسما فى وجهى. أبلغنى بأنه استعان بالمستر فوكسلى رائد فصل رابعه ابن خلدون وبالأستاذ بدوى طيب ألأسماء تيوتر داخليتى أبو لكيلك. وأنه تلقى منهما معلومات حسنة عن شخصى. وكانت المفاجأة أنه رفع خطاب المستر ساندرسن كبير ضباط قسم شؤون الخدمه وأبلغنى أنه تلقاه من مستر وود الذى وجده (الخطاب) بين طيات كراسة الرياضيات. وأنه جد سعيد بمحتوى الخطاب ومضى يسائلنى عما كنت أقوم به من عملي فى مصلحة المالية. وأحسست بالمزيد من اغتباطه لما أبلغته عن عمل ألأخوين الكريمين عثمان صالح الرئيس الثالث فى داخلية أبو عنجه فى العام المصرم ومعاويه فريجون من طلاب ذات الدفعه من داخلية دقنه اللذين تخرجا فى ديسمبر 1951. ثم سالنى عن سبب وجودى فى مطار وادى سيدنا فى منتصف أغسطس حيث كان لى معه لقاء عندما ذهبت فى معية نفر من للأسره لأستقبال الوالد القادم من بريطانيا على نفس الطائره التى اقلته فى رحلة العودة الى السودان مع أسرته قبيل نهاية العطلة الصيفيه فى ذلك العام. ساءلنى مستفسرا عن الوالد وعن عمله وسبب ذهابه الى بريطانيا. وقبل أن ينهى حديثه أبلغنى أنه اطلع على ملفى ألأكاديمى وانه لاحظ تقدمى المضطرد منذ بداية السنة الثالتة. ولذا ه قرر اعفائى من القسط الثالث والأخير من المصروفات ذلك العام البلغ قدره عشر جنيهات. وكان المستر براون قد درج عل تخفيض مصروفات الدراسة عمن يتقدمون فى دراستهم فى نهاية كل عام. وأنه طلب من عبد المنعم افندى فهمى إعادة المبلغ للوالد بريديا على عنوانه. فى نهاية المطاف سألنى ان كنت سأسير على خطى الوالد فى مجال الحسابات أم سألتحق بقسم شؤون الخدمه بعد اكمال دراستى سواء فى حنتوب أو فى كلية الخرطوم الجامعيه اذ قدر لى الألتحاق بها إن شاء الله. كانت إجابتى مثيرة له عندا أبلغته أنى أنوى العمل فى مجال التعليم فقط ولا أفكر فى أى عمل آخر. لاتزال ابتسامته التى تحولت إلى فرحة كبرى فانتفض واقفاً وسألنى عن سبب اختيارى التدريس مهنة المستقبل. رددت عليه بأنى أحببت التدريس منذ صغرى فضلاً عن إعجابى بمن تعلمت على أيديهم إضافة إلى أن العمل فى مجال التعليم هو استمرار للحياة بين طلاب العلوم والمعارف أثرى حياتهم وأتعلم منهم وتبقى الصلات بيننا على مر الزمان. طبعا اسباب خطرت على بالى على قدر ما أسعفنى به ذهنى من بعد توتر وانقباض نفسى يدا يزول تدريجيا.
فى طريقى إلى خارج مكتب المستر براون، الذى أعاد إلىّ خطاب شؤون الخدمة، التقانى عبد المنعم افندى فهمى (أمين المدرسه، البيرسر) وهو من خريجى فسم المعلمين فى كلية غردون فى ديسمبر 1928. وأبلغنى أن نائبه سعيد أفندى محمد نور، الذى كان فى مهمة رسمية فى الخرطوم، التقى الوالد فى ديوان المراجع العام وسلّمه العشرة جنيهات واسترد منه إيصال 15 الذى كان قد أُرسل اليه حينما بعث بالمصروفات قبل ثلاث أسابيع. ذلك زمان مضى بما فيه ومن كان فيه من معلمين أخيار .. هل من عوده هل؟ ونطوى الصفحه وانتقل بكم إلى معلم بريطانى آخر.
|
|
|
|
|
|