نلسون مانديلا من السيرة الذاتية إعداد: بقادى الحاج أحمد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-15-2024, 03:50 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-09-2014, 05:54 PM

مقالات سودانيزاونلاين
<aمقالات سودانيزاونلاين
تاريخ التسجيل: 09-12-2013
مجموع المشاركات: 2052

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
نلسون مانديلا من السيرة الذاتية إعداد: بقادى الحاج أحمد


    لم ينعم علي أبي يوم مولدي إلا باسمي: روليهلاهلا ، ولكنني ورثت عنه الحياة وقواما بدنيا صلبا ونسبا متصلا بعائلة تيمبو الملكية.
    ولدت في الثامن عشر من يوليو عام 1918 في قرية صغيرة تسمي مفيتزو على ضفة نهر امباشي بمقاطقة أومتاتا عاصمة إقليم ترانسكاي. وكانت تلك السنة نهاية الحرب العالمية الأولى. وهي سنة وباء الإنفلونزا الذي أودى بحياة الملايين في جميع أنحاء العالم.
    يقع إقليم ترانسكاي على مسافة ثمانمائة كيلومتر شرقي كيب تاون وخمسمائة وخمسين كيلومترا جنوب جوهانسبيرغ ، إذ يقع بين نهر كاي وحدود إقليم ناتال.
    كان والدي غادلا هنري مفاكانيسوا سيدا بحكم السلالة والعرف معا ، وقد نصب زعيما لقرية مفيتزو على يد ملك التيمبو.
    تعود أصول قبيلة التيمبو عبر عشرين جيلا إلى الملك زويدي ، كانوا يقطنون على سفوح جبال دراكنسبيرغ حيث اندمجوا في عشائر الكوسا. والكوسا شعب يقوم على الوراثة ، أبا عن جد ، فخور بنفسه ويتكلم لغة بليغة التعبير لكلماتها رنين جميل ، ويؤمن إيمانا راسخا بأهمية القانون والتعليم وحسن الأدب. ويتميز نظام الكوسا الاجتماعي بالإعتدال والإنسجام وهو نظام يعرف فيه كل فرد رجلا كان أو أمرأة ، مكانه اللائق به. وينتمي كل فرد من هذا المجتمع إلى عشيرة تمتد سلالتها إلى جد معين ، وتحمل عشيرتي اسم ماديبا نسبة إلى أحد السادة التيمبو الذين حكموا إقليم ترانسكاي في القرن الثامن عشر. وكثيرا ما أنادى اليوم باسم عشيرتي ، ماديبا كناية عن الإحترام والتقدير.
    كان والدي فارع الطول أسود البشرة ذا قوام منتصب مهيب ، وهي صفات أرجو أن أكون ورثتها عنه ، وكانت تعلو جبينه خصله من الشعر الأبيض. وطالما كنت في طفولتي أفرك مقدمة شعرى بالرماد الأبيض تقليدا له. كان رجلا صارما لا يتردد في استعمال العصا لتأديب أبنائه، وكان عنيدا للغاية، وهذه صفة أخرى أخشي أن يكون الإبن قد ورثها عن أبيه.
    عندما بلغت السادسة عشر من عمري رأى السلطان أنني بلغت سن الرشد وأن قد حان الأوان لانتقالي إلى مرحلة الرجولة. وتقضي تقاليد الكوسا أن يتم ذلك بطريقة واحدة فقط الا وهي الختان. فعاداتنا لا تسمح للإبن الذي لا يختن بأن يرث أباه أو يتزوج أو يترأس الحفلات وجلسات الطقوس الدينية. والرجل عند الكوسا لا يصبح رجلا بل يظل صبيا ما لم يختن ، والختان هو الوسيلة التي يدخل بها الصبيان إلى مجتمع الرجال.
    والختان ليس مجرد عملية جراحية وحسب بل تصاحبه سلسلة محكمة من الطقوس والشعائر التي تنقل الفتي من الطفولة إلى الرجولة ويوم الختان بالنسبة للكوسة أمثالي هو تاريخ بداية رجولتي. أعدت مراسم حفل ختان جماعي شارك فيه سته وعشرون من فتيان القريه كان على رأسهم جاسٍتس الذي أقيم الحفل من أجله بالدرجة الأولى وكانت مهمته الآخرين مجرد صحبته. في أوائل السنة الجديدة انتقلنا إلى كوخين من الأعشاب في أحد الوديان المعزولة ويعرف باسم تايهالارها على ضفاف نهر امباشي وهو المكان التقليدي الذي تقام فيه مراسم ختان ملوك التيمبو. وتجري العادة بعزل الفتيان عن المجتمع في هذين الكوخين طوال فترة الختان التي تعتبر من المواسم المقدسة.
    لقد غمرتني السعادة للمشاركة في تلك الطقوس وأحسست بأنني أؤدي عملا عظيما بإحيائي لتقاليد قومي ووجدت نفسي متحفزا للإنتقال من الطفولة إلى الرجولة.
    وصلنا تايهالارها عن طريق النهر قبل بضعة أيام من موعد الختان ، وقضينا آخر أيام الطفولة تلك في صحبة مجموعة من الفتيان القادمين للختان حيث عشت بينهم جوا مفعما بالود والروح الأخويه. كان المكان الذي نزلنا به مجاورا لبيت المدعو باناباخى بلاي أغني وأشهر طفل في تلك المجموعة. وكان بلاي شخصية جذابة وبطلا من أبطال المصارعة بالعصي وكان نجما يحيط به لفيف من المعجبات اللائي كن يزودننا بأشهى وأطيب أنواع الطعام. كان بلاي أميا لا يقرأ ولا يكتب ولكنه كان من أذكي الفتيان في المجموعة ، وكان يٌمتعنا بسمره وما يقصه علينا من حكايات عن المناجم حتي كدت أقنع بأن حياة المناجم أكثر سعادة من حياة الملوك. فقد كان لعمال المناجم في تصورنا هاله خاصة ، وكنا نراهم أقوياء وشجعانا والمثل الأعلى للرجولة. وأدركت فيما بعد أن تلك الحكايات المبالغ فيها هي التي كانت تدفع بالشبان والأحداث إلى الهروب من القرى والأرياف والانخراط في العمل في مناجم جوهانسبيرغ حيث تدهورت حالتهم الصحية ولقي كثير منهم حتفهم ، غير أن العمل في المناجم آنذاك كان من الطقوس التقليدية – كما هو الحال بالنسبة لمراسم الختان – وخرافة خدمت أصحاب المناجم أكثر مما خدمت مصالح شعبنا وأمتنا.
    كان من عادات الختان أن يؤدى الفتي عملا جريئا قبل حفل الختان نفسه ، وكانوا قديما يغيرون على قطعان البقر أو يخضون معركة من المعارك. أما اليوم فقد اتسمت هذه الأعمال الاستعراضية بالدهاء أكثر من كونها بطولات حربية. وقبل مغادرتنا تايهالارها بليلتين اتفقنا على أن نسرق خنزيرا ، وكان في مكيكيزويني رجل يملك خنزيرا مسناً خططنا لخطفة بإغرائه بشيء من رواسب البيرة المحلية المشهورة برائحتها النفاذة المفضلة لدى الخنازير وضعناها في مهب الريح المتجهة نحو الخنزير فاستهوته بسرعة وخرج من الحظيرته يقتفي أثرها حتي وصل إلى الفخ الذي كنا نصبناه له وقع في أيدنا ، ذبحناه وأوقدنا له نارا شويناه عليها واستمتعنا بلحمه تحت ضوء النجوم ، كانت وجبة شهية لم أذق قبلها أو بعدها لحم خنزير ألذ مما أكلت تلك الليلة.
    في اللية السابقة ليوم الختان أقيم حفل ساهر تخلله غناء ورقص شاركت فيه بالغناء والتصفيق نسوة من القرى المجاورة. تعالت الأصوات بالطرب والغناء والموسيقي واشتد رقصنا سرعة واهتياجا فنسينا لعدة ساعات ما كان ينتظرنا عند الصباح.
    بدأت الأستعدادات للختان مع بزوغ الفجر وقبل أن تغيب النجوم عن سمائها، فذهبنا برفقة الأهل والأقارب للاغتسال في مياه النهر البارده لتطهير أجسامنا تمهيدا للختان الذي حان موعده عند منتصف النهار. طلب منا الوقوف في صف واحد بالقرب من النهر حيث اجتمع لفيف من الآباء والآمهات والأقارب من بينهم السلطان نفسه وعدد من الأعيان والمستشارين. بدأت المراسيم بقرع الطبول ولم نكن نرتدى شيئا سوى الدثار ، وأمر كل منا أن يفترش دثار على الأرض وأن يمد رجليه إلى الأمام. انتابني التوتر والخوف ولم أكن أعلم كيف سيكون موقفي عند اللحظة الحاسمة. فالخوف أو الصراخ كانا من علامات الضعف وعارا ينال من رجولة المرء ، وعليه فقد كنت مصمما على الا الحق بنفسى أو بزملائي أو ولي أمري عارا أو إهانة. لم تكن وسائل التخدير تستعمل عند الختان وكان على المرء أن يقاسي الألم في صمت لأن العملية اختبار لشجاعته وقوة عزيمة.
    لمحت بطرف عيني الى يميني رجلا نحيفا متقدما في السن يظهر من الخيمة وينحني أمام أول صبي في الصف. اهتاج الحاضرون وأصابتني قشعريرة خفيفة لشعور بأن العملية أوشكت أن تبدأ.
    فجأة سمعت أول الفتيان يصيح: ندي يندودا: أصبحت رجلا!! وهو ما علمونا أن نقوله لحظة الختان ، وبعد لحظات سمعت جاستٍس يصيح بصوت مختنق مرددا العبارة نفسها ، ولم يبق بيني وبين الختان سوى اثنين من الصبية ، ويبدو أنني غفلت تماما عما يجرى من حولي إذ إنني لم أشعر الا والخاتن قد جلس أمامي. نظرت بحدة في عنيه وكان شاحب الوجه يتصفد عرقا رغم برودة الطقس ، فتحركت يداه بسرعة خاطفة وكأنهما تحت سيطرة قوية خارقة ، ودون أن ينبس ببنت شفة مسك بقلفتي وشدها الى الأمام ثم نزل بحربته في حركة واحدة فشعرت وكأن نارا تأججت في عروقي ودفنت ذقني في صدرى من شدة الألم ، وبدا لي أن بضع ثوان قد مرت قبل أن أتذكر العبارة التقليدية ثم صحت أصبحت رجلا!!
    ألقيت بنظرى الى الأسفل فرأيت جرحا أنيقا نظيفا كالخاتم ولكني أحسست بالخجل لأنني شعرت بأن الآخرين كانوا أقوى وأكثر ثباتا مني إذ لم يتأخروا في اطلاق صيحة الرجولة كما تأخرت. وأصابني شىء من الكآبة لضعفي أمام الآلم ولو للحظات ولكنني بذلت كل جهدي كي أخفي ما أنا فيه من ألم. فقد يبكي الصبي ولكن على الرجل أن يخفي ألمه!!
    بختاني خطوت تلك الخطوة الهامة في حياة كل رجل من أبناء الكوسا وأصبح بإمكاني أن اتزوج وأن أملك بيتا خاصا بي وأن أحرث أرضي الخاصة ، وأصبح من حقي حضور مجالس القبيلة وأن يؤخذ كلامي مأخذ الجد.
    منحت ضمن مراسم الختان اسما جديدا وهو داليبهونغا ومعناه مؤسس بونغا وهي الهيئة التقليدية التي تحكم ترانسكاى ، وكنت فخورا أن أنادى بهذا الاسم الجديد الذى يعتبر لدى التقليديين من الكوسا أفضل من الاسمين اللذين منحتهما سابقا: روليهلاهلا ونلسون.
    بعد تلك الضربة الخاطفة من يد ذلك الخاتن الماهر جاء أحد مساعديه فالتقط القلفة من الأرض ورابطها في أطراف الدثار الذي كنت جالسا عليه. ضمدوا جراحنا باستخدام أوراق نباتات ناعمة على طرفها أشواك تمتص الدم وغيره من السوائل والإفرازات ، وعند انتهاء المراسم عدنا الى الكوخ وقد أوقدت فيه نار بالحطب الرطب تنطلق منها سحب الدخان الكثيفة التي يعتقد أنها تعين الجروح أن تندمل بسرعة. طلب منا أن نستلقي على ظهورنا في الكوخ المليء بالدخان وأن نبسط إحدى الساقين ونثني الأخرى. لقد دخلنا عالم الرجولة.
    كان يعولنا أحد المشرفين فشرح لنا التعليمات التي ينبغي علينا ان نلتزم بها لننضم الى عالم الى عالم الرجال على الوجه الأكمل. كان أول واجبات المشرف أن يدهن أجسامنا العارية الخالية من الشعر بالُمغرة البيضاء من أعلى الرأس حتي اخمص القدمين فاصبحنا كالأشباح. وكان اللون الأبيض رمزا لطهارتنا ولا زلت أذكر خشونة ذلك الطلاء على جلدي.
    وفي الليلة التالية ليوم الختان إذا بأحد المشرفين يتسلل الى داخل الكوخ عند منتصف الليل ليوقظنا بهدوء واحد تلو الآخر ويأمرنا بالخروج كي يدفن كل منا قلفته بعيدا عن الكوخ. وكان الغرض من تلك العملية – حسب التقاليد – هو تغييب تلك النتفة الجلدية قبل ان يفوز بها السحرة فيستعملونها في الأغراض الشريرة ، ولكنها ترمز كذلك الى دفن شبابنا وطفولتنا. لم أجد في نفسي الرغبة لمغادرة الكوخ الدافىء والمشي في الظلام ولكنني اتجهت نحو الأشجار وبعد بضع دقائق أخرجت قفلتي ودفنتها في التراب ، وبذلك شعرت أنني قد تخلصت تماما من كل ما تبقي من طفولتي.
    كان المقيمين في كل كوخ ثلاثة عشر رجلا ومكثنا فيها حتي اندملت جروحنا. وكان علينا أن نتوشح الدثار خارج الكوخ كي لا نظهر عراة أمام النساء. وكانت تلك الفترة مفعمة بالهدوء وكأنها فترة إعداد روحي لما ينتظرنا من أعباء الرجولة وتحدياتها.
    في اليوم المقرر لخروجنا اتجهنا إلى نهر امباشى في الصباح الباكر لنغسل المغرة البيضاء عن ابداننا ، وبعد الإغتسال والتجفيف صُبغت أجسامنا مرة أخري بمغرة حمراء. كانت التقاليد المتبعة تقتضى ان يقضي الرجل ليلته تلك مع إمراة ، ربما أصبحت زوجة له فيما بعد ، فتتساقط الصبغة عن جلده نتيجة احتكاك جسدها بجسده. ولكن الذي حدث بالنسبة لي هو أنني تخلصت من المغرة بمزيج من الدهون والشحوم.
    عند انتهاء فترة العزلة تضرم النار في الكوخين بما فيهما من أمتعة وتنقطع صلتنا بالطفولة كاملا ، ويقام بالمناسبة احتفال كبير احتفاء بانضمامنا إلى عالم الرجال إذ يجتمع حشد من الأقارب والأصدقاء وأعيان القبائل المحلين لإقاء الخطب والغناء وتوزيع الهدايا. كان نصيبي من تلك الهدايا ثورين وأربعة خراف ، وأصبحت لأول مرة صاحب ثروة لا عهد لي بها من قبل وأصبحت مالكا بعد أن كنت لا أملك شيئا ، لم تكن الهدايا التي استلمتها تساوي شيئا أمام تلك التي قدمت لجاسيس الذي حصل على قطيع كامل من الماشية ، ولكنني أحسست بالنشوة والزهو ولم أشعر بغيرة تجاه صديق جاسيس. فهو إبن السلطان ، انا لا أعدو أن أكون أحد مستشاريه. غمرني طول ذلك اليوم شعور بالقوة والاعتزاز فأخذت أمشي فخورا مرفوع الرأس وبدأ يراودني الأمل بأنني سأصبح يوما ما صاحب ثروة وجاه وممتلكات كثيرة.
    كان المتحدث الرئيسى في ذلك اليوم الزعيم ماليغقيلي إبن دالينديبو ، الذى احال خطابه فجأة أحلامي الجميلة إلى ظلام دامس. أفتتح حديثه على الطريقة التقليدية أثني على احترامنا لتقاليدنا العريقة ومحافظتنا عليها ثم التفت نحونا وتغيرت لهجة حديثه بصورة مفاجئة واستطرد يقول:
    انظروا إلى أبنائنا الجالسين أمامنا. أنهم شباب تبدو على وجوههم كل علامات الصحة والوسامة. أنهم زهرة قبيلة الكوسا. ومحط فخر شعبنا العريق. لقد خٌتنوا بالأمس في تقليد يحمل إليهم وعدا بأنهم أصبحوا رجالا، ولكنني أقف أمامكم اليوم لأقول إنه وعد كاذب وخادع لا يمكن ان يتحقق – نحن الكوسا وجميع الشعوب السوداء في جنوب أفريقيا – شعوب مهزومة. إننا عبيد في وطننا ، نقيم على ترابه ولا نملكه. لا قوة لنا ولا سلطانا في أرض وٌلدنا عليها، ولا نتحكم في مصيرنا بقليل أو كثير.
    سيذهب هؤلاء الشباب إلى المدن لعيشوا في الأكواخ ال########ة وليحتسوا الخمور الرديئة لأننا لا نملك الأرض التي بإمكانهم أن يعيشوا عليها مع أبنائهم وأحفادهم في سعادة وازدهار. أنهم سيذهبون للعمل في مناجم الرجل الأبيض فلا يرون الشمس أبدا ولا يتنفسون الا الهواء الملوث حتي تتقطع رئاتهم ويتقيأون أحشائهم ويٌنهك أجسامهم... كل ذلك من أجل أن يعيش الرجل الأبيض في نعيم ورخاء لا مثيل لهما.
    إن من بين هؤلاء الشبان زعماء لن يحكموا لأننا لا نملك السلطة لنحكم أنفسنا بأنفسنا، وجنود لن يعرفوا القتال لأننا لا نملك السلاح الذي نقاتل به، ورجال علم لن يعلموا أحد لأننا لا نملك مراكز للعلم والتدريس. إن قدرات هؤلاء الشباب وملكاتهم وتطلعاتهم ستهدر جريا وراء لقمة العيش وهم يؤدون أبسط الأعمال وأحقرها في خدمة الرجل الأبيض. إن الهدايا التي قدمناها لهم اليوم لا تساوي شيئا لأننا عاجزون على أن نقدم لهم تلك الهدية الكبرى: الحرية والأستقلال.


    لا أستطيع أن احدد بدقة اللحظة التي تحولت فيها الى السياسة وأيقنت بأنني سأكرس بقية حياتي للنضال من أجل التحرير. فأن يكون المرء أفريقيا في جنوب أفريقيا يعني أنه يولد مُسيسا سواء أقر بذلك أو لم يقر. فالأفريقي يولد في مستشفي خاص بالأفريقيين فقط، وتقله الى البيت حافلة مخصصة للأفرقيين فقط ، ويسكن في حي للأفريقيين فقط ويتلقي التعليم – إن تلقاه – في مدارس للأفريقيين وحدهم.

    انتهت فترة الحظر على نشاطي في أوئل سبتمبر 1955م. كانت آخر إجازة أخذتها عام 1948م وأنا عضو من الوزن الخفيف في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي لم تتعد مسؤولياتي حضور اجتماعات اللجنة التنفيذية في ترنسفال لم تتعدى مسؤولياتي حضور اجتماعات اللجنة التنفذية في الرنسفال والحديث في بعض الاجتماعات العامة. أما الآن فقد بلغت الثامنة والثلاثين من العمر وأصبحت في المستوى الأدني من الوزن الثقيل في الحزب وزاد وزني مثلما زادت مسؤولياتي. بقيت سنتين مشدودا لمهنتي القضائية ونشاطي السياسى وقصرت في حق أسرتي في ترانسكاى.


    وصلت حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في ديسمبر من ذلك العام دعوة لحضور مؤتمر الحركة القومية لتحرير أفريقيا الشرقية والوسطي والجنوبية
    Pan – Africa Freedom Movement for East Central and Southern Africa (PAFMECSA).
    التي أصبحت فيما بعد تعرف بأسم منظمة الوحدة الأفريقية ، المزعم عقده في أديس أبابا في فبراير 1962م ، تهدف الحركة الى الجمع بين الدول الأفريقية المستقلة ودعم حركات التحرر في القارة الأفريقية. وكان من شأن المؤتمر أن يوفر للحزب أول وأروع فرصة للاتصال والحصول على الدعم والتمويل والتدريب لأعضاء حركة (أمكا).
    الهدف من الزيارة أكثر من مجرد حضور المؤتمر. فقد كنا نسعي للحصول على الدعم السياسي والمالي لقواتنا العسكرية الجديدة ثم وهذا هو الأهم ، التدريب العسكري لرجال الحركة في أكبر عدد ممكن من البلدان الأفريقية.
    نزلنا في أحد الفنادق في تنجانيقا ووجدنا رجال من السود والبيض جالسين في شرفة الفندق يتجاذبون أطراف الحديث ، لم يسبق لي من قبل أن رأيت مكانا عاما أو فندقا خاليا من التمييز العنصري. أحسست للمرة الأولي بالحرية وبأنني في بلد يحكمه أفريقيون.
    ورغم انني كنت مطاردا من قبل السلطات في وطني شعرت بوطأة الظلم تنزاح عن كتفي. حيثما ذهبت في تنجانيقا وجدت أناسا بلون بشرتي الذي لم يعد سٌبة أو لعنة. أحسست للمرة الأولي بأن عقلي وشخصيتي وليس لون بشرتي هو العامل الأساسي في الحكم علي. ومع شعوري بالحنين الى الوطن أحسست كانني في وطني الحقيقي.

    توقفت الطائرة في الخرطوم واتجهنا نحو الجمارك وكان أمامي في الطابور جو ماثيوز وخلفي باسنر وزوجته. ونظرا الى أنني لم أكن أحمل جواز سفر أعطيت وثيقة من ورقة واحدة في تانجانيقا كتب عليها: " هذا هو نسون مانديلا مواطن من جمهورية جنوب أفريقيا ، مصرح له بمغادرة تانجانيقا والعودة إليها ". أبرزت تلك الوثيقة لموظف التصريحات المتقدم في السن في الطرف الآخر من المنضدة فتفرس في وجهي وابتسم ثم قال:
    - مرحبا بك يا بني في السودان.
    صافحني ثم ختم على الوثيقة. وعندما جاء دور باسنر أبرز للرجل العجوز وثيقة تشبه وثيقتي ففحصها بإمعان ثم سأله بازعاج:
    - ما هذه الوريقة؟ إنها ليست وثيقة رسمية!
    - أخبره باسنر بكل هدوء أنها أعطيت له في تانجانيقا لأنه لا يحمل جواز سفر ، فرد عليه بازدراء:
    - لا تحمل جواز سفر وأنت رجل أبيض؟
    - رد باسنر قائلا إنه تعرض للإضطهاد في وطنه لأنه كافح من أجل حقوق السود. ولكن الموظف السوداني نظر إليه في ريبة وقال:
    - كيف ذلك ، وأنت رجل أبيض؟
    تبادلنا نظرة مع جو ماثيوز وهمس لي بالا أتدخل لأننا ضيوف على السودان ولا ينبغي أن نسىء الى مضيفينا. ولكن باسنر إضافة الى أنه كان رئيسي في العمل ، كان من البيض الذين عرضوا أنفسهم للخطر في سبيل تحرير الرجل الأسود ولم أكن لأسمح لنفسي بالتخلي عنه في ذلك الموقف. توقفت قريبا من الموظف السوداني أهز رأسي مؤمنا على إجابات باسنر لتزكية ما يقول فتفهم الموظف موقفي وخفف من حدته ثم ختم الوثيقة وقال لباسنر في هدوء:

    - مرحبا بك في السودان.


    المرجع:

    نلسون مانديلا زعيم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي – رحلتي الطويلة من أجل الحرية – ترجمه من اللغة الإنجليزية عاشور الشامس.























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de