|
اكتشاف القصيدة الجرجانية الجليلة كاملة من مخطوط قديم! محمد وقيع الله
|
اكتشاف القصيدة الجرجانية الجليلة كاملة من مخطوط قديم! محمد وقيع الله
ما كان معروفا من قصيدة إمام الدين والأدب والنقد، القاضي الإمام علي بن عبد العزيز القاضي الجرجاني، رحمه الله تعالى، هو نحو عشرين بيتا لا غير. وما ذاع منها ونال شهرة خاصة هي الأبيات التي تتحدث عن عزة نفس العالم، وهي الأبيات السبعة التي يقول فيها: يقولونَ لي فيْكَ انْقِبَاضٌ وإنَّمَا رَأَوا رَجُلاً عنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ مُحْجِمَا أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ ومَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا ولَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُلَّمَا ولمْ أَبْتَذِلْ في خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِيْ لِأَخْدِمَ مَنْ لَاقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَا أَأَشْقَى بِهِ غَرْسَاً وأَجْنِيْهِ ذِلَّةً إِذَنْ فَاتِّبَاعُ الجَهْلِ قَدْ كَانَ أَسْلَمَا ولَوْ أنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُم ولَوْ عَظَّمُوهُ فِيْ النُّفُوسِ لعُظِّمَا ولكن أهانوه فهانوا ودَنَّسُوا مُحَيَّاه بالأطماعِ حتى تَجهَّما! ولكن عثر أخيرا البحاثة الكبير الدكتور جليل العطية على مخطوط قديم مهجور ضم القصيدة كاملة في إحدى مكتبات الإستانة بتركيا. وقام العلامة الفاضل بنشر القصيدة كاملة لأول مرة، بمجلة مجمع اللغة العربية بدمشق. فكان كشفا أدبيا بهيجا دل على أن بعض مفاخر التراث الشعري الأدبي الفخم لما يكشف عنه النقاب بعد. والجرجاني صاحب هذه القصيدة هو غير الإمام الجرجاني صاحب كتابي (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة). وذاك هو الإمام عبد القاهر رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وأما هذا فإمام آخر عاصر عبد القاهر بجُرجان في القرن الرابع الهجري وكان أستاذا له. ولم يقل عنه شفافية ولا علو ذوق في أدب الضاد وتمييزه وتقويمه ونقده. يشهد على ذلك كتابه المنهجي التطبيقي الباهر في النقد الموازن عن (الوساطة بين المتنبي وخصومه). وقد اتصل القاضي عبد العزيز الجرجاني بالوزير الأديب الصاحب بن عبّاد. فاختص به ومكث عنده، وبلغ من المكانة لدية درجة عالية. وولي له قضاء جُرجان وقضاء الرِّيّ. ثم ارتقى به إلى رئاسة القضاء وبقي عليه إلى حين وفاته. وقد كتب تفسيرا للقرآن الكريم، وكتابا في الدلالة، وكتابا في الأنساب، وآخر في السيرة سماه تهذيب التاريخ. ويقول تاريخ الأدب إن مؤلفه عن (الوساطة بين المتنبي وخصومه) ظهر وقت أن كان الخلاف حول أبي الطيب شديدا. فمن النقاد من يبجله ويرتفع به، ومنهم من يراه شاعرا عاديا بل ضعيفا يقع في أخطاء لايقع فيها الناشئة من الشعراء. ومن هؤلاء الأواخر الصاحب بن عباد الذي أنشأ رسالة بعنوان (مساوئ المتنبي)! ولم يهتم الجرجاني برأي صاحبه الأديب الصاحب في المتنبي وجعل مهمته إحقاق الحق في موضوعه بما أنه قاض أدبي كما أنه قاض شرعي. ورجْعاً إلى موضوع القصيدة المكتشفة للجرجاني فقد أبان صاحبها عن قوة عارضة وطول نفس في صوغ القريض. إذ بلغ طول القصيدة أكثر من خمسين بيتا على قافية صعبة من البحر الطويل. وليس أمامنا سوى أن نتحف قراءنا ببعض مقاطعها بدءا بمطلعها العذب وفيه يقول: بأيَّامِنا بين الكثيبينِ فالحِمَى وطِيبِ ليالينا الحَميدةِ فيهمَا ووَصْلٍ وَصَلنا بين أعْطافِه المُنى بـِرَدِّ زمانٍ كان للَّهو تَوْأَمَا صَحِبْنَا بِهِ شَرْخ الشَّباب فدلَّنا على خُلَسٍ أفْضَى إليهنَّ نُوَّمَا فلم نَرضَ في أخلاقنا النُّصحَ مَذْهَبَا ولا اللَّومَ في أسـماعنا مُتَلَوَّما إذا شـاءَ غَاوٍ قادَ لَحْظَاً مُوزَّعاً على غَيِّه أو شَافَ قَلْباً مُقَسَّمَا أعِنِّي على العُذَّال أو خَلِّ بَيْنَنَا تُريْكَ دُموعيْ أَفْصَحَ القَوْلِ أَبْكَما وطَيْفٍ تَخَطَّتَ أعيُنُ النَّاسِ والكَرَى إلى ناظرٍ يَلْقى التَّبَاريحَ مِنْهُمَا تنَسَّم ريَّاهُ وبشَّرَهُ بهِ تناقُص ضُوءِ البدرِ في جِهَة الحِمَى وعَزَّ على العَيْنَيْنِ لو لمْ تُرَغَّبا من الطَّيْفِ في إلمامَةٍ أن تُهَوِّما ولمَّا غَدَا والبينُ يَقْسِم لحْظَهُ على مُكْمَدٍ أغْضَى ورأْسٍ تبسَّمَا فمِنْ قائِلٍ لا آمنَ اللهُ حاسداً وقائلةٍ لا روَّعَ البيْنُ مُغْرَمَا! ومما قاله في الترفع عن الدنايا هذه الأبيات: فِإنْ قُلْتَ جَدُّ العِلْمِ كَابٍ فِإنَّمَا كَبَا حِيْنَ لَمْ يُحْرَسْ حِمَاهُ وأُسْلِمَا وإنِّيْ إِذَا مَا فَاتَنِيْ الأَمْرُ لَمْ أَبِتْ أُقَلِّبْ كَفِّيْ إِثْرَهُ مُتَذَمِّمَا ولَكِنَّهُ إِنْ جَاءَ عَفْوَاً قَبِلْتُهُ وإنْ مَالَ لَمْ أُتْبِعْهُ هَلَّا ولَيْتَمَا وأَقْبِضُ خَطْوِيْ عَنْ حُظُوْظٍ كَثِيْرَةٍ إذَا لَمْ أَنَلْهَا وَافِرَ العِرْضِ مُكْرَمَا وأُكْرِمُ نَفْسِيْ أَنْ أُضَاحِكَ عَابِسَاً وأَنْ أَتْلَقَّى بالمَدِيْحِ مُذمَّمَا وكَمْ طَالِب رِقِّيْ بِنُعْمَاهُ لَمْ يَصِلْ إليْهِ وإنْ كَانَ الرَّئيْسَ المُعَظَّمَا ومَا كُلُّ بَرقٍ لاحَ لِيْ يَسْـتَفِزُّنِيْ وما كُلُّ مَا فِيْ الأَرْضِ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا ولكِنْ إذا مَا اضْطَرَّنِيْ الأَمْرُ لَمْ أَزَلْ أُقَلِّبُ فِكْرِيْ مُنْجِدَاً ثُمَّ مُتْهِمَا إلى أَنْ أَرَى مَنْ لا أَغَصُّ بِذِكْرِهِ إذا قُلْتُ قَدْ أَسْدَى إليَّ وأَنْعَمَا وإنِّي لَرَاضٍ عَن فَتَىً مُتَعَفِّفٍ يَرُوحُ ويَغْدُو لَيْسَ يَمْلِكُ دِرْهَمَا يَبِيْتُ يُرَاعِيْ النَّجْمَ مِنْ سُوءِ حَالِهِ ويُصْبِحُ طَلْقَاً ضَاحِكَاً مُتَبَسِّمَا ولَا يَسْأَلُ المُثْرِينَ مَا بِأَكُفِّهِمْ ولَوْ مَاتَ جُوْعَاً غُصَّةً وتَكَرُّمَا فَكَمْ نِعْمَةٍ كَانَتْ عَلَى الحُرِّ نِقْمَةً وكَمْ مَغْنَمَاً يَعْتَدُّهُ المَرْءُ مَغْنَمَا ومَاذَا عَسَى الدُّنْيَا وإِنْ جَلَّ قَدْرُهَا يَنَال بِهَا مَنْ صَيَّرَ الصَّبْرَ مِعْصَمَا! ومنها قوله في الغرض ذاته: إذا قِيْلَ هذا مَشْربٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى ولَكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا أُنَهْنِهُهَا عن بَعض ما لا يَشِينُهَا مَخَافَةَ أَقْوَالِ العِدَا فيمَا أو لِمَا فَأُصْبِحُ مِنْ عَتْبِ اللَّئِيمِ مُسَلَّماً وقَدْ رُحْتُ مِن نَفَسِ الكَريمِ مُعَظَّمَا فَأُقْسِمُ مَا غُرَّ امْرُؤٌ حُسِّنَتْ لَهُ مُسَامَرَةُ الأَطْمَاعِ إنْ بَاتَ مُعْدِمَا! والقصيدة على طولها المتمادي تعدُّ من جليل الشعر وفاخره. وجلها يدخل في باب الحكمة العزيزة السامية. وقد كانت تلك بعض قطوف منها تدل على طرازها. وعسى أن يتلقف هذه القصيدة السامية طلاب العلم الشريف ليجعلوها شعارا لهم وديدنا. فلا يسترقنهم الأثرياء الخبثاء. ولا يسترهبنهم الحكام السفهاء. ولا تدوسنهم أقدام الطَّغام اللئام.
|
|
|
|
|
|