|
العودة لسيادة حكم القانون/د. حسن بشير محمد نور - الخرطوم
|
د. حسن بشير محمد نور - الخرطوم
العودة لسيادة حكم القانون
جاء في الاخبار (صحيفة حريات الالكترونية ، 21 فبراير ، 2014م)، ان القيادي بالمؤتمر الوطني (الحزب الحاكم في السودان) د. محمد محي الدين الجميعابي والذي يشغل في نفس الوقت منصب رئيس منظمة (انا السودان)، تحدث عن زيادة كبيرة في أعداد الشواذ جنسياً وإنتشار واسع لظاهرة زنا المحارم في السودان، وقال حسب المصدر اعلاه (.. ان دراسة قامت بها منظمته كشفت هذه الزيادة الكبيرة في التردي القيمي والأخلاقي ، وعزا الأمر إلى إنعدام القدوة الدينية والسياسية وإرتفاع نسبة العطالة وسط الشباب..). واضاف في ندوة عن المخدرات نظمتها الأمانة الاتحادية بالمؤتمر الوطني أمس الأول (..ان الدراسة كشفت عن إنتشار كبير لمرض الأيدز بسبب تفشي اللواط والممارسات الشاذة) . كما اورد نفس المصدر اعلاه ان د. الجميعابي (.. سبق وأقر في حوار مع صحيفة (الإنتباهة) 8 مايو 2011 بفشل تجربة الإسلاميين في الحكم قائلاً : (من الأشياء التي يجب أن نتفق عليها أننا فشلنا في امتحان السلطة وكثير من الإسلاميين غادرت صدورهم المعاني الطيبة وطهر اليد وعفة اللسان فكان اختباراً سقطت فيه كثير من القيادات التنفيذية).لم يكتفي القيادي بالمؤتمر والوطني بذلك بل اشار الي ان (.. تفشي الفساد في ظل نظام الإنقاذ ... لا تستطيع قوانين النائب العام وتقارير المراجع العام أن توقفه ولا هو (شوية موظفين أكلوا ليهم شوية قروش) فهذا حديث ليس له قيمة .. الذين تحوم حولهم شبهات الفساد والثراء واستغلال المواقع هم قيادات الحركة الإسلامية في الصف الأول والثاني والثالث ) نفس المصدر اعلاه. أعادني هذا الحديث الذي اري انه مهم وشفاف حسب المعايير المتبعة في العمل السياسي في السودان، الي مقال كتبته بتاريخ 16 ديسمبر 2009م (انظر www.sudaneseonline.com منبر الرأي)، حول ضرورة الاحتكام لمؤشرات حكم القانون لضبط الممارسة السياسية والاقتصادية التي تتسبب في مثل هذه الامراض الخطيرة واخضاع مسببيها للمحاسبة القانونية حتي لا يتم افلات من عقاب ولا تسود شريعة الغاب. السبب في العودة لذلك الموضوع هو الاتفاق حول الحقائق التي ذكرها د. الجميعابي حول تفشي ظواهر خطيرة لم تكن مألوفة في السودان حتي زمن قريب. بهذا الشكل فان ظاهرتي الشذوذ الجنسي وزنا المحارم تضافان الي مشكلتي البطالة والعنوسة وسط الشباب لتعمق من الكارثة القومية التي تعاني منها البلاد. لم تتوفر الي معلومات حول تفشي الظاهرتين الاوليتين، الا انني ملم تماما، من حيث اهتماماتي البحثية والمهنية بهول واقع البطالة والعنوسة ، باعتبارهما وثيقتي الصلة بالازمة الاقتصادية العميقة التي تعيشها البلاد وهي ازمة لا يمكن الا ان تكون لها عواقب اجتماعية ونفسية مدمرة. من جانب اخر لا اتفق مع د. الجميعابي في تشخيصه للاسباب ووضعها في الجانب الاخلاقي – العقائدي فالموضوع اعمق من ذلك بكثير. ما ذهب اليه د. الجميعابي من ( المعاني الطيبة وطهر اليد وعفة اللسان) تكاد تكون مواعظ مثالية معممة يمكن ان تصلح علي مستوي التقييم الفردي (للاشخاص)، لكنها لا تصلح ان تكون معيارا عاما ومؤسسيا علي مستوي رشد الحكم والنظم السياسية والمؤسسية. من هنا لابد للسودان بجميع مكوناته ان يتجه نحو المعايير الدولية التي تنظم الحياة السياسية، الاقتصادية والاجتماية والتي تنظر في بناء المجتمع وهياكله ببنياته التحتية والفوقية. النظام السياسي، نظم القيم الاجتماعية والاخلاقية ترتبط في علاقة تبادلية مع النظام الاقتصادي في مجتمع محكوم بابعاد الزمان والمكان.كل هذا لا بد ان يتم وضعه في البرامج الخاصة بمسار التغيير المنتظر للاوضاع في السودان، المسار الذي يختمر الان، الا ان نهاياته غير محسومة ومفتوحة علي كل احتمالات الخير والشر معا. هذا الموضوع شائك وتدور حوله كثير من الاسئلة حول الادراك الفردي والجماعي للعلاقات والقيم الاجتماعية، ويعتبر هنا الفعل الاجتماعي امر مسلم به في سياق مسئوليات الدول في مجال تسييرها للقدرات الانسانية المرتبطة بالموارد وعلاقات الانتاج في نطاق نظام سياسي، اقتصادي واجتماعي متكامل وغير منفصل عن طبيعة مكونات المجتمع الانساني في البلد المعين. من الاشياء التي تسترعي الانتباه ما يجري الان في العالم حول وضع مؤشر لقياس مدي تقيد الدول حول العالم بحكم القانون، ويعتبر هذا امر مهم لتوجه اي دولة حول النجاح في وظئفها او ان تصبح دولة فاشلة. هنالك اليوم ما يعرف بمشروع العدالة العالمي ( World Justice Project ) في اطار مناقشة وضع مؤشر لحكم القانون (The Rule of Law Index ) . يهدف هذا المشروع الي تجميع الجهود العالمية عبر الحقول المعرفية المختلفة لتنمية و تطوير حكم القانون في مختلف دول العالم. يعتبر المؤشر الذي يجري اعداده اول مؤشر يعطي صورة مفصلة و شاملة لمدي تقيد" الدول" وانصياعها لحكم القانون. يهدف المشروع ايضا الي وضع وتطوير منهجية منضبطة علميا وصالحة للتطبيق في معظم دول العالم من حيث ملائمتها لتتبع التغير التراكمي في مدي تقيد الدول بحكم القانون علي مدار الزمن. الآلية التي سيتم إتباعها هي توفير قاعدة من البيانات المحايدة التي يمكن ان تساعد المسئولين الحكوميين وغير الحكوميين في معرفة نقاط الضعف والقوة والنقاط التي هي في مرحلة التشكل والتطور ، اضافة لوضع السياسات اللازمة في عدد من المجالات والأبعاد المرتبطة بمبادئ حكم القانون. تم التأكيد في هذا النقاش علي انه ( لكي يتم تقييم مبدأ حكم القانون في دولة ما فانه من الضروري ان يكون هناك "فهم" جيد للقوانين والمؤسسات في الدوله " و هذا في حد ذاته حسب وجهة النظر السائدة غير كاف" ، الامر الذي يستدعي الاهتمام ب " كيفية " تطبيق تلك القواعد والقوانين في " الواقع العملي " علي المعنين بها. من هنا يمكن تحديد المسئوليات وتشخيص الاسباب ووضع الحلول. انطلاقا من ذلك الفهم القائم علي سيادة حكم القانون يمكن التساؤل حول الاسباب التي تجعل السودان بلدا فاسدا بامتياز استنادا الي ما ذهب اليه المسئول في المؤتمر الوطني.
سؤال اخر هل تضع الاحزاب والقوي السياسية تلك المؤشرات في حساباتها وتستصحبها في برامج التغيير ومناهجه ، متي وجدت؟ لم يعد العالم يحتمل الفوضي والتخبط واي مسار غير منضبط بقواعد تحدد مجمل الحزم السياسية القائمة والمستهدفة ستؤدي الي عواقب بالغة الضرر بحياة الشعوب وتغوض آمالها في مستقبل مشرق يلبي تطلعاتها الي حياة كريمة.
يساعد المشروع المشار اليه في وضع اسس معيارية علي مختلف انواع القوانين ، منها الجنائي ، التجاري ، قوانين العمل و الصحة العامة و تأثيرها علي الحياة العامة و الموقف القانوني للدولة الخاضعة للتقييم. لذلك من المفيد تناول هذا الموضوع بجدية تامة وتنبيه المختصين في المؤسسات العامة ومنظمات المجتمع المدني و المشتغلين بالحق العام وسيادة حكم القانون في بلادنا ، بضرورة الاهتمام اللازم بهذا المؤشر و المشاركة في النقاش الدائر حوله ، لان السودان من أكثر المعنيين به في ضوء ما يمر به من تداعيات بالغة الخطورة، خاصة في ظل الفوضي التي اعقبت هبات الربيع العربي.
من الجوانب المهمة في هذا الاتجاه تحديد مصادر جمع المعلومات وهي التي تكسب المؤشر مصداقيته و قبوله. يتم الاعتماد علي مصدرين في جمع المعلومات ، من أجل توفير بيانات شاملة ومفصلة عن مدى تقيد الدول بمبدأ حكم القانون، المصدر الأول استطلاعات الرأي العام، باختيار مركز استطلاع للرأي رائدا في كل دولة ( في حالة وجوده بالطبع ، اذ لا توجد مثل هذه المراكز والمراصد في معظم الدول النامية ، مع ملاحظة اعتماد هذا المؤشر علي الحقول المعرفية المختلفة)، معتمدة على استطلاع عينة مقدرة بألف شخص في أكبر ثلاث مدن في كل دولة يشملها المؤشر في المرحلة المعينة. وهذا النوع من استطلاعات الرأي سوف يتم بصفة دورية ومنتظمة ، مرة كل ثلاث سنوات من أجل اختبار مدى تطبيق مبدأ حكم القانون على أرض الواقع ومراقبة تطوره عبر مرور الزمن، مما يعطي المؤشر المصداقية الضرورية. هذه المنهجية تعطي مثل تلك التصريحات الخاصة بتائج دراسات ما قوة وفاعلية من استنادها الي وضع قائم بالفعل ومقارنته بما كان عليه الحال من قبل ومن ثم الدخول الي الاسباب ووضع العلاج الناجع لمثل هذه الامراض الفتاكة تداركا لان يقصف الله الارض باهلها من هول المفاسد.
أعترف القائمون علي هذا المشروع باصطدامه بعدد من الصعوبات نسبة لكونه قد بدأ تصميمه بمحاولة التوصل إلى صياغة عملية يمكن من خلالها تعريف مبدأ حكم القانون، وللتوصل إلى هذا الأمر كان لابد للقائمين على إعداد المؤشر من مراجعة كل الأدبيات التي كتبت في هذا الموضوع. هذه المراجعة أظهرت أن هناك مجموعة من التحديات والصعوبات التي تواجه إعداد المؤشر.
كان من بين الصعوبات ضرورة مراعاة أن تكون العوامل والمؤشرات الفرعية - والتي على أساسها يمكن قياس مدى تطبيق مبدأ حكم القانون - متعارف عليها عالميًّا ومتلائمة مع كافة الثقافات الموجودة في العالم، دون أن تكون هناك تحيزات غربية أو أورو - أمريكية أو غيرها من التحيزات الثقافية الأخرى. لذلك حاول القائمون علي الاعداد و - إلى حد كبير - باشتقاق المبادئ التي يقوم عليها المؤشر من المعايير والأعراف الدولية المتعارف عليها، ومن خلال مراجعة الدساتير الوطنية والدراسات الأكاديمية في هذه المجالات. وتم تنقيح المؤشر من خلال سلسلة من المشاورات مع عدد من الخبراء المنتمين إلى ثقافات مختلفة وإلى حقول معرفية وأكاديمية متنوعة، للتأكد من قابليته وصلاحيته للتطبيق لمختلف الثقافات حول العالم. لم تتوفر لدينا معلومات عن الجهات التي تنتمي اليها دولنا و ثقافاتنا التي شاركت في الاعداد والنقاش ، لكن وحتي لا نكتفي بالتفرج و القدح غير المفيد ، فمن الافضل التعرف علي هذا الموضوع عن قرب و المشاركة فيه قبل فوات الاوان. يتيح ذلك تضمين ما يلزم من وجهات نظر ومرجعيات تضمن الحقوق وتراعي الخصوصيات.
من التحديات التي واجهت إعداد المؤشر أيضا ، أن ( أي محاولة للتوصل إلى تعريف شامل لهذا المؤشر تواجه بمعضلة الاختلاف بين ما يسميه الخبراء المفهوم البسيط “Thin” لمبدأ حكم القانون، أو المفهوم في حده الأدنى، والذي يركز على القواعد الرسمية والإجرائية من ناحية، والمفهوم المعقد “Thick” من ناحية ثانية. هذا الأخير يتضمن مجموعة من السمات الجوهرية المهمة، مثل الحكومة الذاتية "Self-government" ومجموعة الحقوق والحريات الأساسية).
ظهرت تلك المعضلة من جهة أولى في أنه لكي يكتسب المؤشر قبولاً واسعًا ويحقق أكبر استفادة ممكنة، لا بد أن يكون قابلاً للتطبيق على نطاق واسع بالنسبة لنظم سياسية واجتماعية مختلفة، والتي لا تتصف ببعض السمات التي توجد في النظم الديمقراطية، ومن جهة ثانية تم التأكيد - من قبل القائمين على إعداد المؤشر – على ضرورة أن يكون أكثر من مجرد منظومة من القواعد، على اعتبار أنه يجب أن يعبر عن منظومة من القوانين الإيجابية لحماية حقوق الإنسان الأساسية، يتم ضمانها وحمايتها تحت مظلة القانون الدولي، ولذلك فإن من الأفضل تسميتها بـ "الحكم بالقانون "Rule by Law" وليس "حكم نظام القانون" “Rule of Law System" . نتيجة للنقاش والجدل - حول التوفيق بين المفهوم البسيط والمفهوم المعقد لحكم القانون - والذي دار بين الخبراء ، تم التوصل إلى أربع مجموعات من المبادئ العالمية والتي تمثل في جوهرها أساسًا لمبدأ حكم القانون يمكن بيانها على النحو التالي:
أولاً: يجب أن تكون الحكومة والعاملين فيها ووكلاؤها مسئولين أمام القانون. ثانيًا: يجب أن تكون القوانين واضحة ومعروفة للجميع ومستقرة وعادلة، وتحمي الحقوق الأساسية للمواطنين، بما فيها أمن الأفراد وملكياتهم الخاصة. ثالثًا: إمكانية الوصول إلى العملية التي يتم من خلالها تنفيذ القانون بسهولة، وأن تكون عادلة وذات فاعلية.رابعًا: ضمان سهولة الوصول إلى العدالة من خلال مجموعة من القضاة والمحامين وممثلي السلطة القضائية الذين يتمتعون بالاستقلال والكفاءة، وأن يتوفر العدد الكافي منهم، وأن تتوافر لهم الموارد والإمكانيات التي تمكنهم من القيام بمهامهم على أكمل وجه، فضلا عن ضرورة أن تكون طريقة تشكيل وتكوين هذه العناصر عاكسة لتركيبة المجتمعات المحلية التي يعملون فيها. ما أحوجنا الي جميع تلك المبادئ و القيم التي تشكل صمام أمان لمجتمعنا من التشرذم و الضياع.
الدخول في مثل هذه المشاريع مهم للسودان لضمان توفيق المؤشرات التي يتم اعدادها مع القيم الاجتماعية والثقافية، حتي لا تفرض مستحقات تكرس لتفشي الظواهر التي اشار اليها د. الجميعابي، خاصة وان القيم الغربية المعاصرة تقنن لحقوق المثلية الجنسية التي تعتبر من الموبقات الكبري في مجتمعاتنا بمختلف مكوناتها الدينية والثقافية.
هذا المؤشر المهم سيتم تطبيقه علي نطاق واسع في العالم، لذلك يحتاج لمناقشة مفصلة ودقيقة من قبل المختصين في مجال القانون و القانون الدولي و القوانين الإنسانية الدولية، بدراسة تفاصيل المؤشر و تحديد رؤيتهم حوله. نعود للقول بان الكثير من التجاوزات، الجرائم والانحرافات المجتمعية ترتبط بالحقوق و الحريات الاقتصادية و ما يليها من سيادة حكم القانون، يدخل هنا الحق في الحياة، المحافظة علي الاجيال الناشئة وفتح الامل امامها، اضافة لضرورة توفير المنابر والمؤسسات المختلفة لممارسة مختلف انواع الانشطة البناءة وتشجيع الابداع وتنمية المهارات التي تشكل بديلا لنمو وتطور الرغبات الغرائزية التي من الممكن ان تحول الشباب الي كائنات غريبة حتي علي عالم الحيوانات التي تتعاشر بمقدار وفي مواسم محددة وتقوم برعاية صغارها والدفاع عنها حتي الموت. اضافة لذلك فان هذه الظواهر ترتبط بمؤشرات وشئون عديدة لا يخلو منها يوم و لا تحيد عنها قضية في السياسة ، الاقتصاد او الاجتماع، سواء ارتبط ذلك بالتنمية بمختلف مفاهيمها او بالعدالة الاجتماعية وقسمة الثروة وتوزيع الدخول او في مجالات محاربة الفقر و التباين الاجتماعي او الوظائف التوزيعية المختلفة للسياسة الاقتصادية العامة. مثل هذه الصرخات لا يجب الاستهانة بها او تسفيهها كما لا يجوز ان تتبع معها سياسة دفن الرؤس في الرمال. مع كل ذلك فان العودة الي حكم القانون والمساواة امامه امر في غاية الاهمية خاصة فيما يتصل بالقضاء علي ظاهرة الفساد الهيكلي السائدة التي تعتبر التربة المناسبة لنمو وازدهار جميع انواع الفساد الاخري وتفشي الشذوذ الاجتماعي.
|
|
|
|
|
|