|
مقالات تمنيت لو كتبتها (1 – 3) مقال الاستاذ حسن اسماعيل بعنوان (وردي... كل الارض منفي) حسين الزبير
|
مقالات تمنيت لو كتبتها (1 – 3) مقال الاستاذ حسن اسماعيل بعنوان (وردي... كل الارض منفي) حسين الزبير
خانتني الذاكرة في استقبال الذكري الثانية لرحيل الفنان العظيم محمد وردي، و لم اعلم انها اتت الا بعد قراءتي لقصيدة رائعة لشاعرنا في تورنتو الفنان حسين شنقراي، و علي الفور بدأت في كتابة مقال اركز فيه علي شعره و غنائه بالنوبية، لكن اتتني صحيفة الخرطوم بمقال الكاتب المبدع حسن اسماعيل، فاكتفيت بمقاله عن الكتابة و اكتفيت به عن اي كتابات اخري في هذه المناسبة.
الاستاذ حسن ايقظ فيني الحزن الدفين، بل "نفض" الرماد عن جمرة الحزن التي كادت ان تتحول "هبوتا" ، فتوهجت حمراء قانية و كانها اكتسبت حجما جديدا ... كيف لا و قد جعاتني كلماته احس بفداحة الفقد ، رغم اننا لا نقول الا "انا لله و انا اليه راجعون". .. هذا الكاتب المتمكن من ناصية البيان و القادر علي الرسم بالكلمات صورا تماثل فتوغرافيا الكاميرات الحديثة، صور لنا في بداية مقاله كيف كان وقع الاحساس بالخطب الجلل علي مخلوقات الله كلها في صواردة: النخيل والارض و الطيور و ذوات الثدي و السحب و النيل و الساقية و حسان القرية. اقرأ معي ايها القارئ العزيز:
(اتكأت نخلة علي اختها في جزيرة صواردة قبل ساعة من منتصف ليلة السبت و قالت بوجع طاغ و هي تضع يدها اسفل قلبها "اشعر (بانقباض), لا ادري سببه" ردت اختها بصوت خفيض "و انا ايضا" ، كان (قادوس) في الساقية التي تسقيها ينكسر فجأة و في ذات لحظة التشاكي تلك، و طائر (البقر الابيض اللون الطويل الساقين) يفلت منقاره من فم صغيره الذي كان يودع في حلقه حصاد حبات الظهيرة، و ام من ذوات الثدي تفلت ضرعها بفزع من فم رضيعها و تشرع اذنيها امام وجهها و تتلفت في الفضاء الدامس و خطوط ارتعاشية تعبث بهدوء قلبها بصخب، و منديل ابيض يفلت من مشجبه و يعود الي الارض متسخا، و سحب بيضاء تقطع ونستها فجأة و ترمي بصرها نحو الخرطوم (والدنيا آخر الشتاء)، كان مغزل الحرير يفلت و لاول مرة و يشك اصبع فتاة باذخة الحسن و تختلط بين ايديها كل رؤوس الخيوط و الخطوط و شباك نافذتها ينغلق فجأة و كانه لا ينتظر احدا ... و مياه النيل تجمح فجأة كمهر ينسحب من السباق و يرفع اقدامه في الهواء باضطراب و النيلان الازرق و الابيض يتقهقران الي الوراء دون ان يشك الناظر اليهما بانه قد تعاطي شيئا! كان وردي يلملم اطرافه و يرسل انفاسه الي الرفيق الاعلي)
لله درك يا رجل و انت "تنحت" لجظة الفجيعة في خلايا قلوبنا بمدية حادة ، و فجأة و كانه تذكر انها سنة الحياة و الاجل المحتوم ، يرضي بقضاء الله و يرحل من دنيانا ليصور لنا استقبال رفاق رحلة الابداع الذين سبقوه الي دار البقاء ، و ظننا بالعلي القدير انهم في اعلي الجنان ، اقرأ معي ايها القارئ الكريم :
(و اسماعيل ود حد الزين يمد يده المعروقة بفعل الشوق من فوق سموات الحب السابعة ويحتضن وردي بعد كل هذا الغياب و كان صلاح احمد ابراهيم يلوح باصبعه باشارة الظافر للرائع الحلنقي و قد اشرف علي آخر لمسات جلسة الانس التي تململ مقعدها الخالي في انتظار فارس السمر الأنيق)
ثم يصور حزن محبي وردي و انتظار اخوة له في دار البقاء ، و يجعل الامر شدا و جذبا بينهم، حتي يرضي بحكم الله العلي القدير و يفرر احقية السماء به ، لكن يجعل انتمائه للسماء تفردا آخر يجعله كنخلة في مزرعة الذرة الشامية في شواطئ صواردة، فيقول:
(و ان لم يكن وردي سماويا و من هناك فمن اين يكون؟)
ايه العظمة دي يا حسن ، ما بكيتنا و اشجيتنا ، و اسعدتنا و طالت قاماتنا اعتزازا به و بارثه، و اقشعرت ابداننا بحالة لا يستطيع وصفها غير حسن اسماعيل!
و لا ينسي كاتبنا المبهر ان يثمن الجهد المضني الذي بذله الفنان ليرتقي سلم المجد و ليورثنا و الاجيال القادمة فنا تقتات به ارواحنا ، لا مع الوجبات بل مع الشاي (اسكت كب)، و في لحظة الوهن الجسدي يدخل عليه المتنبي ، و لا اعرف ان كان يعلم الاستاذ حسن ان المتنبي كان شاعره المفضل، في غرفة الانعاش ليقول له:
(اذا كانت النفوس كبارا .... تعبت في مرادها الاجسام)
و لا ينسي هذا الكاتب الواعي بدور الفن في حياة الشعوب ، و اثره علي الافراد و الوطن ان يقيم لنا مشروعه الفني ، مقارنا به مشاريع السياسة التي ظلت و لا تزال تفقد توازنها فتقع في حفرة ثم تستبدلها بدرديحة، فيقول:
(و وردي لم يكن مغنيا يرفع عقيرته امام جوقة من العازفين و يجري علي لسانه مجرد مفردات منظومة تتحرك علي اثرها اعطاف الآخرين ... الرجل كان صاحب مشروع كما لكل الناس مشاريع و اهداف و رسالة . و وردي لا يتميز فقط بانه كان صاحب مشروع و لكن تميزه ياتي في اطار نضوج و اكتمال مشروعه في بلد فشلت فيها كثير من مشاريع الفكر و السياسة و الثقافة و الاجتماع ... يأتي وردي في مركز الخمسة الاوائل لاصحاب المشاريع المكتملة و الناضجة و المجمع عليها و المجربة بتكرار كثيف و حازت علي ثقة علامات النجاح الكاملة )
و رغم اشادته بمشروع وردي و تفرده ، لا في الساحة الفنية فقط ، بل علي الاطلاق في مناح الحياة كلها ، كمشروع فريد و كامل و ناضج ، مشروع سوداني نفاخر به الامم ، و نستطيع ان نلبسه قلادة ، يجعل جوازنا الاخضر الملطخ بطين السياسة و غبار الفساد ، ياخذ من بريق هذه القلادة فيصبح لونه ذاك الاخضر المضمن في الوان قوز قزح، فيقول:
(نعم احبتي وردي كان واحدة من حالات النجاح الشحيحة التي تقف وحدها تدافع كلما قذف الآخرون في ثيابنا تهم (البرود الوطني) و الكسل و الدعة و قلة الطموح و شح الحماسة في التماس النجاح الشخصي و العام، كان وردي هو الصفحة البيضاء التي نقدمها في احيان كثيرة لنبرئ بها جوازات سفرنا الخضراء المغبرة بكثير من شوائب السياسة و الاقتتال الاعمي و الانبطاح البهائمي المدفوع بالغرائزالبدائية الاولي ، كان وردي هو رأس الخبز الناضج و المطهي باتقان و المشبع حد الاكتفاء دون ان تكركر بطن الذين يتناولونه بكل شره و اقبال)
فعلا اتمني ان اكتب مقالا في هذه الروعة من بديع الصور و غني المعاني و موسيقي التسلسل لغة و ابداعا في الدفاع عن وجهة النظر ، بل و الاخذ "بتلاليب" القارئ حتي لا يرمش له جفن قبل ان يكمل القراءة.
استاذي حسن اسماعيل ، من هذه اللحظة انا في انتظار الذكري الثالثة ، لا لاجدد الاحزان او احييها ، بل لاحتفي معك مرة اخري بوردي قامة الغناء السامقة و نخلة العطاء الخالدة. دمت لنا و دام لنا قلمك و اسأل الله ان يمتعك بالصحة و العافية ، و يزيدك علما و نورا.
و آخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام علي اشرف الخلق و المرسلين.
|
|
|
|
|
|