|
هوامش علي رمس وطن/الفاضل عباس محمد علي
|
هوامش علي رمس وطن 21 فبراير 2014 الفاضل عباس محمد علي
كنت مشغول البال بسبب ظروف قاهرة أطلّت علي من السماء... وأورثتني عدم الاستقرار وعدم التركيز ...، وانغمستُ في استكناه جهة أخلد إليها بأي قبلة من من قبل الله الأربع، وأنا في أرذل العمر...فكسرتُ قلمي طوال الشهرين المنصرمين، وسكتُ عن الحديث المباح وغير المباح، ولم أخض مع الخائضين في الشأن السوداني...ولكني ظللت متابعاً ومحاولاً أن ألم بما يجري، خاصة وراء الكواليس. وفي هذه الأثناء، بدا الزمن وكأنه قد توقف تماماً فيما يختص بهذا الوطن الجريح،...السودان العزيز،...فما زال حارناً بنفس المكان الذي تركته فيه منذ نهاية نوفمبر2013 ....، وما زالت الحروب مستعرة...والمؤتمر الوطني يكذب ويكذب وينهب.....والحالة الاقتصادية والاجتماعية تتردي من سيء لأسوأ.........مع بعض المستجدات الكارثية ... والميلودرامية (وأساس الميلودراما التشويق والمفاجأة): • ولنبدأ بأم الأحداث الميلودرامية...،تلك التي تسلّي وتسامر بها السودانيون لبعض الوقت، كأنهم يتبادلون النكات في بيت عزاء،... وهي خطاب الرئيس البشير يوم 27 يناير 2014 بعنوان: "طرح وثيقة الإصلاح الشامل "الذي سبقته زفة إعلامية وتشويق (حندكة (وتصريحات إيحائية ثعلبية غير عادية، بما فيها حديث جيمي كارتر ) الكوز الأمريكي ( للصحفيين بعد مقابلته للرئيس السوداني في تلك الأيام....حتي ظن كثير من الناس...كل الناس...أن البشير قد أفاق من سكرة السلطة في آخر الأمر...وأنه بصدد قراءة بيان علي غرار بيان الفريق ابراهيم عبود في أكتوبر 1964 الذي أعلن فيه حل المجلس العسكري والحكومة والبرلمان، ودعا المعارضة للحوار....وكنت شخصياً من الرومانسيين الحالمين الذين جلسوا القرفصاء أمام أجهزة التلفاز بانتظار معجزة سماوية، أو خلاص ما ...وإذا بها خيبة أمل " راكبة جمل"... وكانت سذاجتنا مضرباً للأمثال......................... ....... naiveté par excellence. فلقد ضحك البشير علي ذقون الحاضرين بقاعة الصداقة، والجالسين علي البعد، ودغدغ مشاعرهم بكلمات مبهمة عن ثمة تغيير "وثبة " قادمة، ولكنه لم يفصح عن كنهها أو استحقاقاتها أومراحلها...وأفرط في تبرير أخطاء حكومته الربع قرنية، بل حمّل الآخرين مسؤولية تلك الأخطاء المزمنة....وعزا المشاكل العالقة مع الجنوب …مثلاً... ل"عدم انخراط الجنوبيين في محادثات مجدية"... وعزا باقي مشاكل السودان ل"تقبّض أعضاء الجسم الوطني"...... ثم لخص دعوته كلها في مقولة ماو تسي تونجية: قطبية سيد / "الوقت قد نضج لوثبة وطنية شاملة...والسودان منادي للوثوب".
"جيد لأماتنا"... أو كما كان الطيب السراج يقول في مثل هذه الحالات:" وا ك....أماه!!"... فما فات من أيامنا هو فقط بسبب "تقبّض أعضائنا"....وما سيأتي من أيامنا سيشهد "وثبة" إنقاذية من نوع أبو كديس...وسيظل ربّانها هو نفس الطاقم الإخواني الذي هبط بنا لهذا المستنقع...لنقفز منه " واثبين". لقد اتفق جميع المعلقين علي الخطاب، بمن فيهم الترابي، علي أنه مجرد تلاعب بالألفاظ وفهلوة ولف ودوران وإهدار للزمن...وهو لا يستحق أي قراءة أو دراسة نقدية تنظر فيما بين السطور... محاولةً أن تستشف ماهية علاقتة بالجسم السياسي السوداني...ولن أضيع زمنكم في هذا الخطاب الاستعراضي الركيك واللولبي المترع بالجلافة والسخافة والمحاكاة الصبيانية والهلاميات...ويكفي أن النظام نفسه – حسب تسريبات متنفذيه – قد تبرّأ منه وادّعي أنه قد تم تغييره في آخر لحظة ...." فالشينة منكورة!"...وسكت الإعلام عن ذكره، ومنعت الصحافة المحلية من تناوله أو نقده. المهم في الأمر،إن حكومة المؤتمر الوطني ما انفكت تراوح مكانها، وتحاول أن تشتري الزمن...وبينما هي "تعير وتبرطع" ذات اليمين وذات اليسار، تعقدت أمور الوطن، وأصبح كرجل تناوشته تصاريف الأيامٍ، فأعلن إفلاسه...وانهمرت عليه الشيكات المرتدة والمطالبات من كل صوب وحدب...وفقدت ممتلكاته جلّ قيمتها...وهو مجبر علي بيعها بأبخس الأثمان لينقذ ما يمكن انقاذه...وهذا حال السودانيين، حتي علي المستوي الفردي...إذ تراهم دائبين منهمكين في التخلص من آخر ما لديهم ببلادهم من "جخانين" وأرض ومقتنيات...وتراهم يضربون في بلاد الله.. .يسعون في مناكبها...ويبتغون من فضله...في هجرة لا شبيه لها إلا ما حدث للصوماليين، أو الإرتريين أيام هيلاسلاسي، أو أهل الجزر التى ضربها التسونامي بجنوب شرق آسيا عام 2004. والمعارضة التي كنا نسير خلفها لربع قرن كامل...خفت صوتها وطأطأت هاماتها كجنود النبي سليمان عليه السلام...بعد أن صعدت روحه للرفيق الأعلي... إلا من بعض جزر معزولة مستميتة وشيوخ خاضوا الزمان صراعا...كالمناضل فاروق أبو عيسي ومن تبقي معه من "قوي الإجماع"...والمناضل مبارك عبد الله الفاضل الذي لزم الحركات الحاملة للسلاح " الجبهة الثورية" بمكان ما بشرق إفريقيا...محاولاً أن يألف بين قلوبها ويلم شملها ويساعد في انخراطها تحت هيئة أركان موحدة...وهي قي حقيقة الأمر الجهة الوحيدة التي يمكن أن تخلص البلاد من هذا الكابوس الذي يخيم عليها...بالتناغم مع الحراك الجماهيري بمدن وسط وشمال وشرق السودان. أما أهل اليمين الإسلاموي/الطائفي....الصادق والترابي...ومن يتحلّق حولهما...فهم ما فتئوا يتقربون من النظام، حتي يصبحوا عما قريب يده التي يبطش بها وعينه التي يبصر بها وأذنه التي يسمع بها....إذ تجمعهم كلهم المصالح الدنيوية المتسربلة باستراتيجية "الدستور الإسلامي" ...ذلك الشيطان الرجيم الذى ظل محلقاً بالآفاق السودانية منذ منتصف الستينات...منذ أن شب هذان الزعيمان الطموحان عن الطوق...الصادق وصهره الترابي...وليست القيادة الإتحادية الحالية ببعيدة عن هذا المعسكر الجهنمي الذي يبيّت أسوا النوايا لبلادنا...غير مكتف بما أصابها حتي الآن من خراب ودمار وتقسيم وحروب وهجرات ومسغبة ومرض مستوطن وموت زؤام علي يد الإخوان المسلمين ونظامهم المشؤوم.
• وهذا يعيدنا للمستجدات الكارثية الأخري التي ألمت بالوطن...وبالمنطقة المجاورة في الآونة الأخيرة...وهي تحديداً الحرب التي تفجرت في الجنوب بين سلفا كير (وقبيلته – الدينكا) والدكتور رياك مشار (وقبيلته – النوير)...في تزامن مع الحروب التي ما زالت تمزق دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق.
وحرب الجنوب متوقعة، فبيئة التشظي الإثني هناك لا تختلف كثيراً عن البيئة التي ظلت سائدة في لبنان منذ عام 1974، حيث أن الجنوب يتألف من مجموعات قبلية متباينة، لها مليشياتها المسلحة التي انخرطت جميعها في الجيش الشعبي لتحرير السودان، الجيش الرسمي لحكومة جنوب السودان بعد استقلال الجنوب عام 2011، دون انصهار سياسي وثقافي ووطني حقيقي؛ ولقد وحّدها في الماضي الموقف المشترك ضد الشماليين وجيشهم الذي ما كانت لديه "قشة مرة"، وكان يبطش بالجنوبيين حيث ثقفهم، في بحر الغزال – منطقة الدينكا- أو في ديار الشلك والنوير بمنطقة أعالي النيل – ملكال – أو في الاستوائية، موطن جزء من الدينكا والقبائل الاستوائية الأخري كاللاتوكا والباريا والمورو والمادي والزاندي والتبوسة والفرتيت...إلخ...وكان جميع هؤلاء بدون فرز هدفاً للجيوش العربية الشمالية، منذ عهد الفريق ابراهيم عبود... حتي عهد الترابي / البشير...وهذا الأخير بالذات صنفهم جميعاً ك"عبيد" آبقين وكفار مناجيس، رأس رمح الحملة الصليبية الغربية،... واستحل قتلهم وسبي نسائهم وبيع أطفالهم في أسواق النخاسة...وزرع فيهم من الأحقاد والثأرات ما قاد للانفصال في نهاية المطاف. ولقد نشأت دولة جديدة بالجنوب عام 2011 من رحم الغيب - دون أي مقومات - : لا بنية تحتية ...من طرق وجسور وبريد وسكة حديد وطيران وبلديات وشرطة ومدارس ومستشفيات وخدمات صيانة بيئة أو أي شيء من هذا القبيل...وليس هناك أي مؤسسة، غير المليشيات الراق تاق الدينكاوية والنويراوية والشلكاوية التي أضغمت فجاة مع بعضها البعض،... وغير الحزب الحاكم: الحركة الشعبية لتحرير السودان...الذي أسسه الراحل جون قرنق – إبن الدينكا بور – وورثه ابن عمه سلفا كير...والدينكا هي أكبر قبيلة ليس فقط بالجنوب ، إنما في السودان كله...ولها عداوات تاريخية، ليس مع النوير أو الشلك، فثلاثتهم نيليون Nilotics وأبناء خؤولة وعمومة متجاورون... ولديهم العديد من القواسم المشتركة العظمي: كلهم أصحاب أبقار وطوال القامة وكرماء وأهل نخوة وشجاعة لا مثيل لها... ودراية بالحرب وفنونها (بالقنا والرماح والعصي)...وظلوا متعايشين سلمياً منذ آلاف السنين، وبينهم كثير من المصاهرات والتحالفات...وربما شيء من المخاشنات بين الفينة والأخري، بيد أنها ظلت عبر التاريخ تحسم بالمفاوضات والحلول السلمية، إذ أن الحرب غير مريحة لوجستيكياً وعملياً...وتتعارض مع مصالحهم اليومية كرعاة ظلوا يتقاسمون مراتع الكلأ بينهم بسلاسة ويسر وبترتيبات دقيقة وحساسة منذ قديم الزمن...ولكن العداوات التاريخية كانت مع القبائل الاستوائية. وما كنت شخصياً أتوقعه من مخاشنات في الجنوب بعد الإنفصال هي حرب لا تبقي ولا تذر بين الدينكا والنوير من جانب... وقبائل الإستوائية من الجانب الآخر، خاصة التبوسا والفرتيت والمادى والباريا واللاتوكا، فهؤلاء أقرب لقبائل شرق إفريقيا، وظلوا منذ قديم الزمن يتوجسون من الدينكا باعتبارهم الأكثر عدداً وثروات والأشد بأساً...وبينهم ثأرات تعود لمئات السنين من الغارات والسلب والنهب والاسترقاق لأبناء التبوسا والفرتيت بالذات...ليساعدوا في رعي قطعان البقر الدينكاوي المتكاثر arithmetically، وأذكر أن أول رئيس جنوبي منتخب لإقليم الجنوب بعد إتفاقية أديس أبابا عام 1972 كان الجنرال جوزيف لاقو، قائد الأنيانيا التي اضطلعت بالمقاومة وبحرب العصابات ضد الشمال... منذ بداية الستينات حتي "أديس أبابا" التي وقعها جوزيف لاقو شخصياً مع ممثلي حكومة النميري،... ولقد كان رئيس الجنوب في الفترة الانتقالية 1972-1978 هو أبيل ألير (الدينكاوي، ولكنه القاضي العادل والوطني والعلماني المتحضر وغير العنصري أو الethno-centric ، خريج جامعة هارفارد)، ثم جاءت انتخابات 1978 باللواء جوزيف لاقو...من قبيلة المادي بأقصي الجنوب الشرقي لولاية الاستوائية التي بينها وبين الدينكا ود مفقود...وجوزيف لاقو نفسه، رغم تعليمه وثقافته المتنوعة وتجاربه في الحرب والسلام (ومن ضمنها فترة تدريبة بإسرائيل)، لم يطب له المقام كرئيس للجنوب الذي كان يقود حربه ضد الشمال...ومكث بالقصر الرئاسي بجوبا لعام واحد فقط...إذ تفجرت خلافات عميقة بينه وبين الوزراء الدينكا والنوير والشلك بحكومته...ولقد شهدتُ له ندوة جماهيرية بجوبا عام 1979 قال فيها بالحرف الواحد مخاطباً أهل جوبا من الباريا واللاتوكا ورهطه المادي: (اعملوا حسابكم من الاستعمار بتاع الدينكا...والله نحن ما عندنا مشكلة مع المندوكورو "الشماليين"...المندوكورو قلبهم أبيض زي اللبن...المشكلة بتاعتنا صحي صحي هي الدينكا)...والله علي ما أقول شهيد، ويشهد كذلك زميلي آنئذ بهيئة تدريس جامعة جوبا الدكتور عبد الماجد بوب. ولقد تدخل النميري عندما أوشك برلمان الجنوب أن يطيح بجوزيف لاقو، فحل ذلك البرلمان، وأتي برئيس انتقالي مرة أخري للجنوب، أظنه ضابط اسمه قسم اللهِ عبدالله رصاص، وأخذ لاقو معه للخرطوم نائباً لرئيس الجمهورية، ليتمرغ في فساد حكومة مايو وهي تحتضر... حتي أتاها طوفان الانتفاضة في إبريل 1985. ولكن ما ترسخ لدي شخصياً من قناعة هي أن الدينكا وأهل الاستوائية، لو قطّعوا إرباً إربا ووضعوا في إناء واحد " حلّة" علي النار لعدة أيام ...لن "ينجضوا" ولن يصبحوا طعاماً متجانساً......أما أن تبدأ المخاشنات الآن بالنيليين أنفسهم – الدينكا والنوير- فذلك أمر يستدعي التأمل...ولا بد أن ثمة عوامل سياسية / إقتصادية، وليس قبلية، هي صاحبة القدح المعلي، وأحسب أنها قد تكون مجرد خلافات حول توزيع الغنائم، أو مجرد سوء تفاهم. علي كل حال، قال لي من أثق فيهم من المثقفين الجنوبيين: إن الكارثة الحقيقية التي حاقت بالجنوب هي الموت المفاجئ للدكتور جون قرنق، فهو يكاد يكون الوحيد الوطني المتجرد وصاحب الرؤية الشاملة والمستقبلية، ليس فيما يختص بالشمال والجنوب وحدهما، إنما بالنسبة للقارة بأكملها...فهو من مدرسة كوامي نكروما وجوليوس نايريري وسامورا ميشيل وأوغستينو نيتو...والثوريين الأفارقة الوطنيين الأوائل الذين كانوا يحلمون ليس فقط بالتئام اللحمة الوطنية المحلية، إنما طرحوا مشروعاً ضخماً، وليس مستحيل التنفيذ، وهو الولايات المتحدة الإفريقية. وما أن اختفي قرنق من الساحة حتي "قدلت" فيها الورلّة (جمع ورل - الإبن غير الشرعي للتمساح كما تقول الميثولوجيا السودانية)، وكلهم غارقون في الفساد حتي أذنيهم، وجماعة سلفا كير ليست بأفضل حال من رهط رياك مشار، (فكل من تظنه موسي تجده فرعوناً)، بمن في ذلك من كنا نحسبهم وطنيين تقدميين، باقان أموم ودينق ألور...إلخ. وبينما ولغ الطاقم الحاكم في شتي أنواع الفساد المالي والإداري، بتحريض وسمسرة من بعض الشماليين "التقدميين" بكل أسف، ظلت دولتهم معطلة ومتوقفة بالمكان الذي كانت عليه عند الانفصال،... ثم نضبت الموارد بعد أن توقف ضخ النفط علي إثر المشاكل التي تفجرت مع الشمال بسبب إقليم أبيي، وصار الجميع يقتاتون من سناماتهم، وتوترت الأجواء بين رفاق السلاح ثوار الأمس، وتفجرت الحرب...شأنها شأن تلك التي تدور في زائير وإفريقيا الوسطي والصومال ...أبناء عمومة يفتكون ببعضهم البعض، ولو تحاورت مع أي منهم حول السبب الحقيقي لتلك الحرب، فإنك لن تجد سوي الحجج الدائرية والمغالطات والتأتأة والمراوغة والظن بالباطل والمشاعر العدائية غير المبررة، فهي... just for the hell of it... حرب عبثية ليس إلا...وليس لها أي منطق يسندها سوي أن كل الفصائل ممتشقة سلاحها، ولما لم تجد الشماليين الذين درجت عليتصويبه نحوهم ...انقلبت علي بعضها البعض...مع تدخلات أجنبية هنا وهناك، حسب أجندات كل طرف متدخل. وبالطبع، تتحمل حكومة الخرطوم الجزء الأكبر من مسؤولية هذه الحرب...فالحركة الشعبية لتحرير السودان التي فاوضوها في ماشاكوس ونيفاشا بكينيا 2002 /2005 لم تطالب بالإنفصال التام، بل كانت تتحدث عن "السودان الجديد"،... وبعدمه، فترة انتقالية من ست سنوات كاملة، علّ الشمال يحقق أثناءها من انجازات تجعل الوحدة جاذبة،... وإن لم يقد ذلك لالتئام الوطن بصورة كاملة، فلربما ينظر في أمر دولة فدرالية أو كنفدرالية، يتمخض عنها وضع شبه مستقل بالجنوب، علي غرار أوكرانيا بالاتحاد السوفيتي السابق...في إطار سودان موحد، بعملة واحدة، ولا داعي لإيجاد دولة مستقلة تماماً... تحتاج لميزانية وطن مساحته ثلاثمائة ألف ميل مربع ، ولتكاليف سفارات وبعثات واسفار وخطوط جوية ونيلية... وخدمات إلخ ، وهي مواجهة بإزالة آثار حرب دامت لنصف قرن، وبتشييد البنية التحتية من الصفر. ولكن حكومة الإخوان المسلمين بالخرطوم، تحت إمرة الجناح الشوفيني المتطرف... ووصاية التنظيم العالمي لهذه الجماعة المافيوزية، وربما بتحريض من قوي أخري شرق أوسطية أكثر جهلاً وشوفينية، أرادت أن تحافظ علي "عروبة السودان " كصحن الصيني، بلا شق أو طق، وأن تمهد الأرض بصورة أكثر نجاعة للإمارة الإسلامية الموعودة بشمال السودان، المتاخم لمصر،... وأرادوا أن يتخلصوا من العنصر الإفريقي باللحمة السودانية، فدفعوا الجنوب دفعاً نحو الانفصال، وتراهم اليوم يفعلون نفس الشيء مع أهل دارفور وجبال النوبة وجبال الإنقسنا بجنوب النيل الأزرق...وأحسب أن الغرب لا يمانع في ذلك، بل يشجعه....لأنه يسعي لكلما يفت في عضد الأمة العربية ويشتت شملها. ومن آيات التحريض والتآمر الشمالي الإخواني علي الانفصال : • عدم الوفاء بالشروط المضمنة في اتفاقية نيفاشا من استكما للتحول الديمقراطي، ومن بسط للحريات، أو علي الأقل إزالة القوانين الاستثنائية التي لا زالت مطبقة، ومن جرائها ما يحدث حتي يومنا هذا من اعتقال للناشطين وتعذيب بمكاتب الأمن ورقابة قبلية وبعدية للصحف ومحاكمات ومضايقات للصحفيين...تلك الاعتقالات التي شملت قبيل الانفصال قادة الحركة الشعبية باقان أموم وياسر عرمان - وهم أعضاء أصحاب حصانة بالبرلمان (المجلس الوطني - (لأنهما شاركا في تظاهرة سلمية بأحد شوارع الخرطوم. • وأهم شيء فشلت حكومة الخرطوم في القيام به طوال ست سنوات الفترة الانتقالية هو عدم بذل أي مجهود تنموي بالجنوب، وعدم استقطاب أي دعم لذلك الغرض من الدول العربية... التى لو كانت تدرك بأن الأمة ستفقد رقعة بمساحة وموارد دول الخليج العربية مجتمعة – باستثناء السعودية – لما ترددت في بذل النفس والنفيس للأخذ بيد ذلك الجزء العزيز من السودان...وكل ذلك لا تتعدي تكلفته ملياري دولار...علماً بأن دولاً اخري مثل أصدقاء الإيقاد – امريكا وبريطانيا والنرويج –، بالإضافة لألمانيا، كانت ستدلي بدلوها إذا أحست بأن مشروع البنية التحتية بالجنوب أمر جاد وتحفه الشفافية، خاصة وقد وعدوا بذلك الدعم عند توقيع اتفاقية نيفاشا في يناير. 2005 • ولقد كان معظم الشباب والقوي الجنوبية القادرة علي العمل فيما قبل انفصال 2011 متواجدين ومستكينين بمدن وقري الشمال، ومعظمهم أيدي عاملة كالشماليين المغتربين بالدول العربية النفطية....ولكنهم هرولوا نحو الجنوب ذرافات ووحدانا بعد الانفصال...خوفاً من معاقبتهم علي تصويتهم لصالح الانفصال...ولكن في أغلب الظن ابتعاداً عن الأجواء الشوفينية التي كانت سائدة، وطبول الحرب العرقية التي تعالي إرزامها...بترويج سخيف من أمثال الجهلول الأكبر الخال الرئاسي...ولو بقيت تلك القوي بالشمال لكانت برداً وسلاماً عليه، كأيدي عاملة قوية وأمينة،... والفراغ الذي تركه الجنوبيون في هذا المضمار...يسده حالياً الإرتريون والأحباش وأمة لا إله إلا الله من مشارق الأرض ومغاربها...ومن ناحية أخري فقد حط أولئك الفارون رحالهم بجنوب لم يكن متأهباً لاستقبالهم...وليس به أي بنية مؤسسية...ولم يجدوا مأوي أو طعام يسد الرمق...وبالقطع لم يجدوا مصدراً للرزق من أي نوع.
هذا هو الموقف الراهن بالشمال والجنوب في هذه اللحظة...والمحادثات التي ظلت تدور بأديس أبابا تراوح مكانها، وستظل تفعل لسنين طويلة قادمة...وليس هنالك حل بالنسبة لحروب الشمال/الشمال والجنوب/الجنوب والشمال-الجنوب إلا بزوال النظام الإخواني الموجود في الخرطوم...وإيجاد وضع علماني ديمقراطي، بكل من الشمال والجنوب، يستوعب التناقضات ويؤسس للتعايش االسلمي , يسمح لجيوش العطالي بالجنوب أن تجد متنفساً بالشمال...وذلك عن طريق إعادة الكرة لملعب نيفاشا 2005 مرة أخري...واعتبارها منصة جديدة للتأسيس، علي غرار المنصة التي كان يطالب بها جون قرنق...حيث تجتمع كل القوي السياسية الشمالية والجنوبية لتتفق علي "سودان جديد"...مع استبعاد الحكومة الأمريكية هذه المرة...إذ أن كل الدلائل تشير إلي أن الأمريكان لا يفهمون ولا يرغبون في شيء غير المحافظة علي دولة جنوب السودان المسيحية التي يزعمون أنهم انتزعوها من فك أسد...وهي النجاح الوحيد للدبلوماسية الأمريكية بالعالم الثالث منذ أكثر من ثلاث حقب...وفي سبيل ذلك، أي الإبقاء علي حكومة جنوب السودان، فهم يتآمرون هذه الأيام مع تنظيم الإخوان المسلمين، بدعوي إطفاء النيران، لإقناع حكومة البشير بالتنازل كذلك عن جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، بمنح تلك الشعوب حق تقرير المصير...المفضي لا محالة للانفصال...والمؤتمر الوطني مستعد لدفع تلك الفاتورة للبقاء في السلطة...وربما تم تقديم ضمانات معينة تحت الطاولة...مثل إعفاء الرئيس البشير من مواجهة محكمة الجنايات الدولية...والولايات المتحدة، شأنها شأن حكومة المؤتمر الوطني السودانية، تمقت تلك المحكمة ، ولم توقع علي اتفاقية روما التي أسستها ...و لا يهمها إذا بقي السودان موحداً أو تشتت أيدي سبأ! وتقول السابلة أن الوحيدين الرافضين لهذا الترتيب هم تلامذة قرنق النجباء - ياسر عرمان وعبد العزيز الحلو ومالك عقار- وهنالك همس يدور حول كيفية التخلص منهم (لا قدر الله)، وتستطيع أن تستنتج الإرهاص لذلك من سخرية حسين خوجلي قبل يومين من ياسر عرمان (عامل نفسه خليفة قرنق!)....في برنامجه المطوّل (الذي يخوجل فيه عامل نفسه م ح هيكل)...وليت عرمان أبدأً علي طريق جون قرنق...طريق السودان الحديث! وليت لنا ألفاً من آل ياسر! ألا يكفي أن الجنوبيين في انتخابات 2010 الرئاسية صوتوا لياسر عرمان بنسبة 85% رغم أنه انسحب...فقط ليلقنوا الشماليين درساً تاريخياً مفاده: لو كان الشماليون مثل ياسر عرمان فنحن لا نمانع في أن يحكمونا إلي أبد الآبدين! ليس ما قلته أعلاه تخرصات وهمية، أو كوابيس أو أضغاث أحلام....ولكنه مبني علي الكثير من القراءة المتأنية للأحداث وعلي المهاتفات والتسريبات التي خرجت من أديس أبابا مؤخراً... إن وحدة السودان ياسادتي مهددة بشكل خطير ومباشر...وأرجو أن ينتبه الوطنيون السودانيون لما يدور بتلك البقعة المسماة أديس أبابا هذه الأيام...إنها نيفاشا جديدة،…. علي حين غرة من شعب السودان….أو "سمبك" جديد يعد "لخوزقتنا" به. ألا هل بلغت ...اللهم فاشهد! والسلام.
|
|
|
|
|
|