|
البيك عبدالله خليل .. رجلٌ أنصفه التاريخ ...فكيف نرد الاِعتبار لهذا القائد العظيم ؟ بقلم الطاهر على
|
الطاهر على الريح
التعامي عن الحقائق البائنة فى تاريخنا ولى حقيقتها حتى تقدح فى سير أبطالنا أمرٌ مريروقاسى ، وهو ديدن مادرج عليه ساستنا وكتابنا فى الحياة السياسة السودانية . قد نجد العذر للبعض منهم لأنهم ينهلون مما خطه علماء التاريخ وهم الذين يعلمون ببواطن الأمور ولكنهم يخفونها عمداً حسب نظرية الكيد السياسى والحسد وأحقاد الماضى الموروثة فى تاريخنا والتى كانت نتائجها كارثية فى نهاية المطاف فأورثتنا ما نحن فيه من مآسى وفتن وتمزق ، وربما تؤدى أيضاً الى ما لا يُحمد عقباه اِن لم تتداركنا فضيلة الاِعتراف بأخطائنا والعودة اِلى الضمير لنقف مع الذات ونزن الحق بعقولنا حتى تستقيم نفوسنا مع واقعنا المتأزم فنصنع المستقبل بمثل ما يُطرح من مشاريع تصب فى مصلحة الوطن ، مثل برنامج النظام الجديد الذى يدعو له الاِمام الصادق المهدى والذى اِن تتطلعنا اليه بعيون فاحصة ربما يجرنا الى مرافىء النجاة والمستقبل الزاهر، فهو لا يلغى الواقع بل يتعايش معه ،علنا بذلك نبدأ البداية الصحيحة هذه المرة .
نورد هذه الحقائق وفى قلوبنا غُصة لرجلٍ لم ينصفه التاريخ هو وحزبه ( الأمة ) بما ظللنا نطلقه على سعادة الأميرآلاى عبدالله بيك خليل مما لصق به من اِتهامات بتسليم السلطة الى العسكر فى عملية تسليم وتسلم دون النظر الى ما كان يُحاك ضدنا من دسائس الخديوية المصرية ومريديهم وذلك برغم تاريخه الحافل بالبطولات حيث كان ملء السمع والبصراِبان فترة النضال ضد الحكم الاستعمارى ، فكان أحد أبطال ثورة 1924م وكان أحد أعضاء جمعية اللواء الأبيض وأول عسكرى سودانى ينال درجة الأميرآلاى فى العسكرية السودانية وأحد مؤسسى مؤتمر الخريجين وعضو المجلس الأستشارى والجمعية الدستورية التى أتت بالتطور الدستورى الذى أدى اِلى اِستقلال الوطن ، وهو كذلك احد المؤسسين لحزب الأمة وكان أمينه العام ويؤمن اِيماناً قاطعاً بالنظام الديمقراطى ، وعُرف عنه الضبط والحزم بصرامته المعهودة واِعتداده بنفسه وهو يحمل هموم شعبه ويتفانى فى خدمته وفوق هذا وذاك كان ابن البلد عفيف اليد ، كريم وشهم ويأكل فى قدحه الغنى والفقير والطالب والغفير وكان ببيته مضيفة وداخلية للطلاب كما ذكر المؤرخون وحين سُئل لماذا لا يكتب مذكراته قال لأنها قد تضُر بأسرٍ كثيرة .
متى ينصفه تاريخنا والكل يرميه بتهمة تسليم السلطة الى العسكر ويقولون : أليس هو سكرتير حزب الأمة الذى سلم السلطة الى العسكر ؟ لكن أفعاله تدل على أنه هو من حافظ على سيادة الوطن واِستقلاله من التدخلات المصرية فى شئؤننا الداخلية وتدبيرها للمؤامرات لنسف النظام الديمقراطى والتخطيط لاِنقلاب عسكرى وهو ما بات معروفاً بأن النظام المصرى هو الذى يقوم بتدبيرالانقلابات العسكرية ضد الوطن من خلال عملائه بالسودان وذلك حتى يمكن اِستغلال الوطن وموارده التى يسيل لها لعابهم .
تعرض السودان فى العام 1958 م لأزمة سياسية عاصفة فى حكومة الائتلاف بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطى أفتعلتها الحكومة المصرية بتدخلاتها فى الشأن السودانى حين قامت باِحتلال حلايب ورفضها للسياسة السودانية بقبول المعونة الأميريكية فى حين كانت تأخذ هى أضعاف ما يأخذه السودان منها . كان الرئيس عبدالله خليل قدر المسئولية الوطنية عندما تصدى للرئيس جمال عبدالناصر فتم سحب قواته من حلايب بعد مواجهة القوات السودانية له ، وقد أكسب هذا الفعل الوطنى الزعيم عبدالله خليل اِحترام وثقة الجماهير واِزدادت شعبيته . كانت كل الدلائل تشير الى تقدم حزبه فى الانتخابات المقبلة ولهذا فقد أراد الرئيس عبد الناصر فرملت هذا التقدم فأستدعى بدوره الزعيم الأزهرى والشيخ على عبدالرحمن الأمين لمصر لتوحيد الحزبين الوطنى الاتحادى والشعب الديمقراطى . وقد كانت الفرصة سانحة للرئيس عبد الناصر حيث قام باٍستغلال الموقف واِنتهاك سيادتنا الوطنية حين جعل الزعيم الأزهرى يوافق على اِتفاقية مياه النيل المجحفة التى تم توقيعها 1929 م بين ابريطانيا ومصر فى غياب السودان ويصرح الشيخ على عبدالرحمن فى ذات الوقت بأنه يقف فى صف المعارضة لحكومة عبدالله خليل التى كان مشاركاً فيها . وقد أرسل سفيرنا بالقاهرة السفير يوسف مُصطفى التّني برقية للزعيم عبدالله خليل بهذا الاجتماع والمحاولات الجارية من قبل القيادة المصرية لتوحيد الاتحاديين مرة أخرى في حزب واحد لإنهاء الائتلاف الحاكم وإبعاد عبد الله خليل عن السلطة ، ولهذا يرى السفير يوسف مصطفى التنى بأن إنقلاب 17 نوفمبر كان خطوة إستباقية تهدف لتفادي إنقلاب عسكري كانت تخطط له القاهرة ويهدف لإسقاط الحكومة وضم السودان للحكم المصري بعدما إنسحبت القوات الإنجليزية من السودان عام 1956م . وفى وسط هذا الجو المشحون بالغموض والاضطراب أراد السيد عبد الله خليل تعديل هذا الاِعوجاج الناجم عن الاجتماعات الاتحادية بالقاهرة وطلب حينها من السيد محمد صالح الشنقيطى رئيس البرلمان وقتها بتأجيل جلسة اِفتتاح البرلمان فى 17 / 11 / 1958 م اِلى الثانى والعشرين من الشهر نفسه اِلا أن الشنقيطيى رفض بشدة هذا التأخير مما حدا بالسيد عبد الله خليل بالعمل بأخف الضررين وهو تسليم السلطة الى جيشنا والذى تقع عليه المسئولية المباشرة فى المحافظه على الوطن بحسب الدستور .
قام الزعيم عبدالله خليل بتسليم السلطة الى الجيش للحفاظ على سيادة الوطن رغم عدم موافقة حزب الأمة ورئيسه السيد الصديق المهدى على تسليم السلطة الى الجيش والذى كان يرى ضرورة الائتلاف بين الحزب الوطنى الاتحادى وحزب الأمة لعدم ثبات مواقف حزب الشعب الديمقراطى . وفى شأن عملية اِنقاذ الوطن وما ترتب عليها من تسليم السلطة للجيش واِنقاذ الوطن يقول الأستاذ محمود محمد طه كما ذكر الدكتور النور حمد :
( وذكر الأستاذ محمود محمد طه أن تصريحا نُسب لزعيم الحزب الوطني الاتحادي في أثناء وجوده في مصر، قال فيه أنه يعترف باتفاقية، 1929م، التي كانت حكومة السودان الشرعية قد ألغتها. فهي اتفاقية أُبرمت بين دولتي الحكم الثنائي، بريطانيا، ومصر، بينما كان السودان غائباً، بحكم وجوده تحت الاستعمار. ولذلك، فقد أعطت تلك الإتفاقية السودان نصيباً مجحفاً من مياه النيل، مقارنة بنصيب مصر! ) . ( ويرى الأستاذ محمود محمد طه أن إعتراف زعيم الوطني الإتحادي بتلك الاتفاقية الملغاة، كان بمثابة مساومة مع مصر لتعينه على العودة إلى الحكم. كما صرح في تلك الزيارة حزب الشعب، قائلاً إن حزبه يقف في المعارضة، مع أن حزبه كان لا يزال جزءاً من الإئتلاف الحكومي، وله فيه وزراء! ويمضي الأستاذ محمود في مخطوطته فيقول: ((في هذا الجو السياسي الذي يهدد استقلال البلاد، وسيادتها، بالتدخل الأجنبي، سلم السيد عبد الله خليل رئيس الوزراء، الحكم للجيش.. فكان انقلاب 17 نوفمبر 58 بمثابة إنقاذ للبلاد)). رغم رفضه المبدئي للانقلابات العسكرية، رأى الأستاذ محمود في تسلم عبود للسلطة إنقاذا للبلاد من التدخل المصري. فانقلاب عبود مثَّل لحظتها أخف الضررين. فتكوين حلف ختمي إتحادي تحت رعاية مصر، شكَّل في تلك اللحظة، محاولة للإلتفاف على النهج الاستقلالي الذي ترسخ. فاعتراف الأزهري في مصر، باتفاقية ملغاة صاغها المستعمران البريطاني والمصري في غياب السودان، وداخل أراضي الدولة المنتفعة من تلك الإتفاقية الملغاة، كان خطأً فظيعاً، يمكن أن يلقي بصاحبه في دائرة الخيانة العظمى. فالأزهري قدم للمصريين نصيب السودانيين من مياه النيل ثمناً لكي يعينوه على الرجوع إلى السلطة!! وهذا طلبٌ لمقعد السلطة بأي ثمن! أنذرت كل تلك المناورات المتهافتة بعودة الهيمنة المصرية، بعد أن تم إبعاد شبحها لحظة الإستقلال. أيضا، تردد في نفس تلك الأيام أن المصريين كانوا يسعون لتدبير انقلاب عسكري يطيح بالسلطة السودانية المنتخبة ديمقراطياً، والمجيء بسلطة جديدة موالية لهم. (أقوال السفير يوسف مصطفى التني، في كتاب الدكتور منصور خالد، الذي سبقت إليه الإشارة، ص 232).) اِنتهى .
وقف الزعيم عبدالله خليل ضد الطموح المصرى لاحتلال حلايب وكان قدر المسئولية الوطنية ووقف ضد قيام السد العالى لترحيل أهل وادى حلفا ولكن ضعف الحكم العسكرى هو الذى أدى الى قيام السد العالى واِغراق مدينة حلفا بمآذنها ونخلها وآثارها التى لاتُقدر بثمن وتهجير أهلها قسراً . فهل نطمح من كتابنا وساستنا الأعتراف بحقائق التاريخ باِنصاف الزعيم عبدالله خليل ورد الاِعتبار اليه كأحد أبطال السودان الأوفياء الذين صنعوا المجد لهذا الوطن .
|
|
|
|
|
|