|
في ذكرى استقلال السودان/فيصل عبدالرحمن علي طه
|
في ذكرى استقلال السودان
في يناير 1968 احتفل اصدقاء المغفور له بإذن الله الامام عبدالرحمن المهدي بذكرى الاستقلال بدار حزب الأمة بحي الأمراء بأم درمان. كان بضمن المتحدثين المرحوم عبدالرحمن علي طه الذي إرتجل كلمة طويلة تناول فيها كيف بدأت صلته بالإمام عبدالرحمن وبعض الجوانب من تار يخ الحركة الاستقلالية. سنقتطف في هذا المقال بعض ما جاء في تلك الكلمة. وكان قد سبق ذلك إذاعة تسجيل لحديث بصوت الإمام عبدالرحمن. قال عبدالرحمن علي طه: «كنت أود أن أبدأ حديثي هذا بقول المتنبئ - عيد بأية حال عدت يا عيد- ولكن شعر المتنبئ هذا متشائم ومسرف في التشاؤم. لذا عدلت عن ذلك خاصة بعد أن سمعت الكلمة القيمة التي سمعتموها معي بصوت السيد عبدالرحمن المهدي. عدلت لأنني تخيلت أن روحه الطاهرة ترفرف على هذ الجمع تحييكم وتسأل أسئلة كثيرة. تقول وتسأل «ما هو الحال بعدي؟ إنني أحببت الشعب السوداني بكافة طبقاته لا فرق عندي بين اتجاه واتجاه... لأنني عرفته شعباً قوياً متماسكاً يعمل جميع أفراده على استقلال السودان ويعملون بعد ذلك على صيانة هذا الاستقلال.. فماذا حدث بعدي؟» إن هذا السؤال سيظل حائراً لأنني لا استطيع الإجابة عليه. تذكرون جميعاً إنه القائل «لا شيع ولا طوائف ولا أحزاب ديننا الاسلام ووطننا السودان». كأني بروحه الطاهرة تسألنا: «ماذا فعلتم بهذا الشعار وأين أنتم منه؟» فالإسلام إذا تحدثنا عنه - المرمى والمقصد - الذي كان يرمي إليه السيد العظيم لطال بنا الحديث... لذلك سأنصرف عن هذه النقطة وستظل الإجابة حائرة إلى أن تجد الجواب.
بداية العلاقة بالإمام وعن بداية صلته بالإمام عبدالرحمن المهدي قال عبدالرحمن علي طه: «آسف أن أسرد هذا التاريخ لأنني أعتقد أن القليلين فقط يدركون هذا الأمر. كنت في معهد التربية ببخت الرضا في عام 1943 حين جاءني رسول يقول إن الامام عبدالرحمن بالدويم وسيحضر بعد ساعة لتناول وجبة الفطور معك. ولم يكن لي في ذلك الوقت أي معرفة بالإمام. أكبرت وعظمت الإمام الذي يسعى بدلاً أن يقول للرسول مره ليحضر إني أريد أن اتحدث معه - بل حضر بنفسه - ألا ما أعظمه. جاء إلى منزلي وتناولنا وجبة الفطور ثم قال لي: يا عبدالرحمن إن الشعب السوداني ناصر الإمام المهدي حتى انتصر وحتى انتزع استقلال السودان من الغاصبين. وهذا الشعب أنا مدين له بأشياء كثيرة أهمها نصرته للإمام المهدي ولا أدري مكافأة للشعب السوداني غير أن أعمل لاسترداد استقلاله، ولكني أريد رجالاً أعول عليهم فهل أعول عليك؟». فكانت إجابتي كالآتي: «يا مولاي لولا أن المسألة تخرج بي عن حدود الأدب واللباقة لقلت لسيادتك: إن استقلال السودان هو أملي الوحيد في هذا الحياة ولكنني أريد رجالاً أعول عليهم فهل أعول عليك؟ فضحك رحمه الله ولم يزد بكلمة واحدة. ومن ذلك الحين تبايعنا إلى أن أخذه الله إلى رحمته. إنني على عهده باقٍ مع إخوته الذين شرفوا هذا الحفل». تكوين حزب الأمة وعن وقائع تشكيل حزب الأمة ذكر عبدالرحمن علي طه في كلمته «حضرنا إلى الخرطوم وشرعنا في وضع دستور حزب الأمة. وهنا نقطة عابرة لا بد من ذكرها بأنني دفعت رسم الدخول للامام عبدالرحمن في حزب الأمة. فأنا عريق في هذا الحزب إلى أن القي الله... عندما انتهينا من وضع الدستور سأل السيد سرور رملي السيد عبدالرحمن قائلاً: نريد يا مولاي الإمام أن نعرف موقفك من هذا الحزب؟ هل أنت رئيس هذا الحزب أم سكرتيره قبل أن نمضي في العمل ولا بد من أن نتبين الموقف. فأجاب السيد عبدالرحمن إجابة الرجل الذي يعرف رسالته في هذه الحياة. فرد قائلاً «إني جندي في الصف ولكن الله سبحانه وتعالى وهبني بعض الإمكانيات المادية ما لم يتيسر للكثيرين منكم فسأهب هذه الإمكانيات وسأهب صحتي وولدي وكل ما أملك لقضية السودان». بروتوكول صدقي - بيفن ومضى عبدالرحمن علي طه للقول: «إلى أن جاءت سنة 1946 وبروتوكول صدقي - بيفن وقصته معروفة ولا أريد أن أكررها. ولكن لا بد من وقفة قصيرة لأنني أقرأ في الصحف وأسمع في الاذاعة هذه الأيام الحملات التي لا يمكن أن توصف بالدقة. وليس من عادتي وليس من عادات رجال حزب الأمة أن يهاتروا لأننا نؤمن بما آمن به السيد الإمام... ونؤمن بالمدرسة التي تلقينا الدراسة فيها على يد السيد الإمام وأن المهاترة لا تخدم أي غرض وأن السودانيين كلهم إخوة. ففي ذلك الحين عندما طرحت مسألة سيادة السودان... جاءت تلغرافات إلى السودان تطلب من بعض السودانيين أن يبتهجوا بالمناسبة السعيدة... وهي فرض السيادة المصرية على السودان. ولا ندري ماذا كان سيحصل لو أن حزب الأمة تباطأ وتكاسل وقال ليس بالأمر حيلة. لكن رجال حزب الأمة بقيادة السيد الإمام نجل الإمام المهدي الذي حمل السيف لينتزع الاستقلال فعل ما فعل مما لا أريد أن اتطرق له خوفاً من التطويل». ولفائدة القارئ نذكر بإيجاز أنه تم في 25 أكتوبر 1946 التوقيع بالأحرف الأولى على مشروع معاهدة مساعدة متبادلة وعلى مشروع بروتوكول خاص بالسودان ومشروع بروتوكول خاص بالجلاء. وقد وقَّع من الجانبين إسماعيل صدقي وايرنست بيفن وإبراهيم عبدالهادي ولورد استانسجيت ورونالد كامبل السفير البريطاني في القاهرة. واتفق على أنه إذا لم تدخل الحكومة المصرية أي تعديل على هذه الوثائق بعد عرضها عليها رسمياً، فإن بيفن سيوصي الحكومة البريطانية بقبولها. نص مشروع بروتوكول السودان على «أن السياسة التي يتعهد الطرفان الساميان المتعاقدان باتباعها في السودان في نطاق وحدة مصر والسودان تحت تاج مصر المشترك ستكون أهدافها الأساسية تحقيق رفاهية السودانيين وتنمية مصالحهم وإعدادهم إعداداً فعلياً للحكم الذاتي وتبعاً لذلك ممارسة حق اختيار النظام المستقبل للسودان. وإلى أن يتسنى للطرفين الساميين المتعاقدين بالاتفاق التام المشترك بينهما، تحقيق هذا الهدف الأخير بعد التشاور مع السودانيين، تظل اتفاقية سنة 1899 سارية وكذلك المادة 11 من معاهدة سنة 1936 مع ملحقها والفقرات من 14 إلى 16 من المحضر المتفق عليه المرافق للمعاهدة المذكورة نافذة، وذلك استثناء من حكم المادة الأولى من المعاهدة الحالية». اعتبر صدقي مشروع البروتوكول المرة الأولى التي تعترف فيها بريطانيا بشكل قاطع وصريح في وثيقة دولية بسيادة مصر على السودان. وقال صدقي إن من شأن هذا الاعتراف القضاء نهائياً على السياسة البريطانية التي تفترض وجود سيادة مصرية - بريطانية مشتركة على السودان، وكذلك إزالة الفكرة الخاطئة التي كانت سائدة بين ممثلي الحكومات ورجال الفقه عن حقوق مصر في السودان. وأشار صدقي إلى ميزة كبرى لمشروع البروتوكول وهي «أنه سيجعل سيادة مصر وحدها على السودان في نظر جميع الدول أمراً لا جدال فيه. وقد يكون لذلك في المستقبل أهمية كبرى فيما لو طرحت يوماً أمام هيئة الأمم المتحدة، مسألة تتعلق بالسودان». كما قال صدقي إن سروره بمشروع البروتوكول دفعه «للاتصال ليلاً بالقصر الملكي بالإسكندرية لإبلاغه بأن تاج مصر قد ازدان بدرّةٍ جديدة، وأن ملك مصر قد عاد إلى الحدود التي رسمتها الطبيعة وسجلها التاريخ». ومع انَّ الوثائق التي وقَّعت بالأحرف الأولى في لندن في 25 أكتوبر 1946 ويضمنها مشروع بروتوكول السودان لم تنشر إلا بعد عدة أسابيع من تاريخ توقيعها، إلا أن إسماعيل صدقي قال للصحفيين المرافقين له عند مغادرته لندن في 26 أكتوبر 1946: «لقد وعدتكم في مصر أنني سأجيء لكم بالسودان وقد بررت بوعدي». وفي نفس التاريخ أذاعت وكالة رويترز تصريحاً أدلى به صدقي إثر وصوله إلى القاهرة وقال فيه: «لقد صرحت في الشهر الماضي أنني سأجيء بالسودان لمصر. واليوم أُقرر أنني نجحت في مهمتي، ذلك أن الوحدة بين مصر والسودان تحت التاج المصري قد تقررت بصفة نهائية». أثار تصريح صدقي أزمة سياسية كبرى في لندن والقاهرة والخرطوم وهذا بالرغم من محاولة رئيس وزراء بريطانيا كلمنت اتلي تطويقها. فقد أعلن اتلي في مجلس العموم في 28 أكتوبر 1946 أنه مع ان المحادثات المصرية - البريطانية تناولت علاقة السودان مع كل من مصر وبريطانيا، إلا أنه لا يتجه النظر إلى إدخال تغيير على ما يجري العمل به اليوم من حيث نظام السودان وإدارته أو إلى المساس بحق السودانيين في تقرير مستقبلهم. وقال اتلي إن التصريحات التي نسبت إلى صدقي مضللة إذا قصد منها الإعلان عن الوصول إلى اتفاق. ووصف اتلي ما جرى بين صدقي وبيفن بأنه محادثات تمهيدية، ولذلك لم يتم التفاوض على أي شيء بصفة نهائية. ابتهج دعاة وحدة وادي النيل بتصريح إسماعيل صدقي بشأن قيام الوحدة بين مصر والسودان تحت التاج المصري. فقد أبدى إسماعيل الأزهري الذي كان آنذاك في لندن ارتياحه لتصريح صدقي وقال: «إن مصر ستقدم للسودان مساعداتها في سبيل نهضته الاقتصادية. وإن من شأن هذه الحركة وضع أساس متين لمستقبل السودان». كما قال يحيى الفضلي «إننا لم نستغرب أن يجيب الإنجليز هذا المطلب العادل لأننا نعلم أن من مصلحة بريطانيا اكتساب صداقة شعب الوادي العظيمة القيمة». وقال أيضاً إن السودانيين يتوقون إلى اليوم الذي تقوم فيه حكومة سودانية لحماً ودماً تدير شؤون السودان الداخلية في ظل وحدة وادي النيل تحت التاج المصري. ولكن بيان رئيس وزراء بريطانيا كلمنت اتلي في مجلس العموم في 28 أكتوبر 1946 بأنه ليس هناك اتجاه لإجراء تغيير في النظام الإداري القائم في السودان خفف من فرحة دعاة وحدة وادي النيل بتصريح إسماعيل صدقي وأوجد في نفوسهم حالة من الشك بشأن طبيعة ما اتفق عليه صدقي وبيفن. فبينما كان طلاب كلية غردون يتأهبون في 30 أكتوبر 1946 للتظاهر ابتهاجاً بقيام وحدة وادي النيل ناشدهم رئيس اتحاد الطلاب عبدالقادر مشعال وبعض أعضاء اللجنة بالهدوء لعدم وضوح الموقف. وأبلغهم يحيى الفضلي بأنه تلقى برقية من إسماعيل الأزهري يطلب فيها التريث. كما أبلغهم يحيى الفضلي أن أزهري قال في برقيته إن بيان اتلي جعلهم يقابلون تصريح صدقي بتحفظ. استنكر حزب الأمة تصريح إسماعيل صدقي واتهم البريطانيين بالخيانة. وقرر مجلس إدارة حزب الأمة مقاطعة المجلس الاستشاري ومجالس المديريات والبلديات ومؤتمر إدارة السودان الذي كان قد بدأ أعماله في 24 أبريل 1946. كما أعلن حزب الأمة الجهاد العام وبعث ببرقيتين إلى كل من إسماعيل صدقي وكلمنت اتلي احتج فيهما على التسليم بسيادة مصر على السودان ووضع السودان تحت التاج المصري. وقال فيهما أيضاً «إن السودانيين لن يرضوا بأن تكون حريتهم ثمناً لمصالح بريطانيا. وسيعمل الحزب لتحقيق استقلال البلاد وتحريرها من الاستعمار المصري والبريطاني بكل وسيلة مهما تكن وعليكم وحدكم تقع التبعات». لا ينفسح المجال هنا لبسط القول حول بروتوكول صدقي - بيفن. غير أني أدعو من يرغب في الاستزادة ان يطالع كتابي الموسوم «الحركة السياسية السودانية والصراع المصري - البريطاني بشأن السودان 1936 - 1953» ليقف على تفاصيل أوفى عن البروتوكول وما انتهى إليه.
إلغاء المعاهدة والاتفاقيتين ورد في كلمة عبدالرحمن علي طه أيضاً قوله «انتقل بعد ذلك دفعة واحدة إلى عام 1951. تعلمون أنه عندما أعلن النحاس إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي 1899 بشأن السودان واصدار مرسوم بأن يلقب الملك فاروق بملك مصر والسودان، تبع ذلك دعاية واسعة في السودان. ولعل بعضكم سمع الخطب في المساجد التي أصبحت تدعو إلى فاروق ملك مصر والسودان. ولكن هذا ما كان يمكن أن يستمر، ذلك والسيد الإمام وسنده من الرجال على قيد الحياة. أذكر أننا كنا آنذاك في المجلس التنفيذي للجمعية التشريعية فقال أحدنا للحاكم العام: إذا استمرت هذه السياسة على هذا النمط فإن حزب الأمة صمم على إنزال العلمين بالقوة... وإن حزب الأمة لن يرضى بهذا العبث بمقدرات الشعب وتطلعاته والدعوة لفاروق في مساجد السودان. فكان رد الحاكم العام: لا تستطيعوا أن تفعلوا ذلك لأنني سأتدخل بالقوة بوصفي الممثل لدولتي الحكم الثنائي. وانتهت المناداة في المساجد للملك فاروق ملكاً على مصر والسودان». لفائدة القارئ أيضاً نفصل فيما يلي ما أجمله عبدالرحمن علي طه بشأن الغاء النحاس للمعاهدة ولاتفاقيتي السودان ومرسوم تلقيب الملك فاروق بملك مصر والسودان. ففي 8 أكتوبر 1951 أعلن رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس أمام مجلسي البرلمان أنه قد أصبح من المستحيل على مصر أن تصبر أكثر مما صبرت، وأنه ما دام السعي المتواصل لتحقيق مطالب البلاد عن طريق الاتفاق قد ثبت فشله، فقد آن الآوان للحكومة المصرية لأن تفي بالوعد الذي قطعته في خطاب العرش في 16 نوفمبر 1950 وتتخذ على الفور الإجراءات اللازمة لإلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899 بشأن إدارة السودان. وفي سياق تبريره لإلغاء اتفاقيتي 1899 قال النحاس إن الاتفاقيتين «عقدتا في وقت لم تكن مصر تملك فيه عقد المعاهدات السياسية. وكان الإكراه والإملاء واضحين فيهما وفي الملابسات التي سبقت عقدهما أشد الوضوح. فقد وقعهما وكيل نظارة الخارجية والمعتمد البريطاني. وهما خاصتان بإدارة السودان. ولم ينصا على أجل لانتهاء الوضع الذي فرضتاه. فهو وضع مؤقت أملته السيطرة البريطانية على أمور مصر في ذلك الحين فلا بدّ أن يزول بزوالها». وقال النحاس كذلك إنه بإلغاء المعاهدة واتفاقيتي الحكم الثنائي «يعود الوضع في السودان من تلقاء نفسه إلى ما كان عليه قبل الاحتلال، فتستبعد كل علاقة للإنجليز بالسودان ولا تبقي إلا الوحدة الطبيعية التي تربطه مع مصر على مر الزمان. ويتعين بعد ذلك استكمال جميع أركان الوضع الشريعي بتعديل المادتين 159 و160 من الدستور المصري وتدارك ما كان الضغط البريطاني قد أكره الحكومة المصرية عليه عند وضع الدستور من حذف النص على وحدة الوطن وعلى تلقيب الملك بملك مصر والسودان. وهذا ما يتكفل به المرسوم المقدم إليكم باقتراح تعديل المادتين 159 و160 من الدستور ومشروع القانون المتضمن لهذا التعديل. كما يتعين إصدار قانون بشأن النظام الذي يجب أن يحل في السودان محل النظام القائم الآن». وقد نص مشروع قانون نظام الحكم في السودان الذي قدمه النحاس إلى مجلسي البرلمان على أن يكون للسودان دستور خاص تعده جمعية تأسيسية تمثل أهالي السودان، وأن يكفل الدستور النظام الديمقراطي النيابي وإنشاء مجلس وزراء من أهل السودان واشتراك الهيئة النيابية مع الملك في ممارسة السلطة التشريعية مع الاحتفاظ بالشؤون الخارجية وشؤون الدفاع والجيش والنقد لكي يتولاها الملك في جميع أنحاء البلاد. ويلاحظ أن مشروعات القوانين التي قدمها النحاس إلى البرلمان المصري تنسجم إلى حد كبير مع برنامج «وفد السودان في نضاله من أجل قضية الوادي» الذي أعلنه رئيس الوفد إسماعيل الأزهري في بيان أصدره في أبريل 1947. وقد اشتمل برنامج الوفد على العناصر التالية: أولاً: إنهاء الحكم الثنائي وجلاء الإنجليز عن السودان. ثانياً: إعلان قيام دولة وادي النيل الشاملة لحدود مصر والسودان المعروفة تحت التاج المصري مع وحدة السياسة الخارجية والدفاع تحت قائد الجيش الأعلى جلالة ملك وادي النيل. ثالثاً: إصدار مرسوم بقيام حكومة من السودانيين لإدارة سائر شؤون السودان الداخلية على أساس ديمقراطي صحيح. ويعين جلالة الملك هذه الحكومة مباشرة ويخرج من اختصاصها شؤون الدفاع والسياسة الخارجية. رابعاً: تشكيل لجنة مشتركة من المصريين والسودانيين لدراسة وتنسيق الشؤون المشتركة. خامساً: قيام مجلس تمثيلي في السودان للتشريع والنظر في شؤون السودان الداخلية على أن تؤلف هيئة سياسية لتتسلم الأعمال من الحكومة القائمة وتقوم بإجراء انتخابات المجلس التمثيلي، ثم يجري تأليف الحكومة السودانية بالطرق الدستورية. وغني عن القول فقد كان «وفد السودان» يقتصر آنذاك على الأحزاب الاتحادية. أيد حزب الأشقاء (جناح أزهري) إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899. كما أيد نظام الحكم الذاتي الذي قررته مصر للسودان. وكان إسماعيل الأزهري قد حضر إلقاء بيان 8 أكتوبر 1951 من شرفة الزوار بالبرلمان المصري. وقال عقب ذلك إن البيان جاء معبراً عن الأماني والأهداف الوطنية التي أجمع عليها الشعب في وادي النيل في الشمال والجنوب. وأبدى أزهري إعجابه بتأييد السودانيين الشامل الكامل لحكومة الشعب بعد أن قامت الشواهد على إخلاصها وتفانيها في استمساكها بالأهداف العليا للوادي. واستطرد أزهري يقول: «إن من واجبنا ألا ندّخر جهداً ولا طاقة في كفاحنا للمستعمرين الغاصبين للشطر الجنوبي لوادي النيل، ولن نقيم لأرواحنا ولا لدمائنا وزناً في سبيل تحرير بلادنا وتحقيق أهدافها بجلاء الإنجليز من وادي النيل وتحقيق وحدته تحت تاج مليك مصر والسودان فاروق المفدى». كما أيد حزب الأشقاء (جناح نور الدين) بيان 8 أكتوبر 1951 تأييداً مطلقاً، إذ قرر المجلس الأعلى لهذا الجناح في اجتماع عقده في 17 أكتوبر 1951 أن المرسوم الملكي الخاص بنظام الحكم في السودان جاء محققاً لمبادئ الحزب بالجملة والتفصيل. وأعرب حزب وحدة وادي النيل أيضاً عن تأييده لإلغاء الحكم الثنائي. وقال رئيسه الدرديري أحمد إسماعيل «إن إعطاء السودان الحكم الذاتي تحت التاج المصري بالطريقة التي أعلن عنها يتفق مع وجهة نظرنا السياسية ومبادئنا التي ارتبطنا بها. بل إن ذلك هو نفس ما اتفق عليه وفد السودان بعد انسحاب الاستقلاليين منه. ولم يكن هناك اعتراض عليه إلا من حزب الاتحاديين الذي رفض وحدة الجيش وقبل وحدة الدفاع». ورحب حزب الاتحاديين بإلغاء المعاهدة واتفاقيتي الحكم الثنائي باعتبارهما خطوة عملية لتحقيق مطالب وادي النيل المتمثلة في الخلاص من براثن الاستعمار البريطاني. وقال حزب الاتحاديين إنه يقف على أهبة الاستعداد للقيام بدوره الوطني بجانب الشعب المصري في الكفاح المشترك وسيعمل حتى تتحقق مطالب السودانيين التي رسمتها مبادئ الاتحاديين بقيام الحكومة السودانية الديمقراطية الحرة في اتحاد مع مصر تحت التاج المصري. وقد اعترض رئيس الحزب حماد توفيق على ما جا ء في المرسوم الخاص بنظام الحكم في السودان بشأن وحدة الجيش لأن الحكم الذاتي لا يتحقق في رأيه إلا إذا كان للسودان جيشه الخاص. ولاحقاً أصدر حزب الاتحاديين بياناً أبدى فيه اعتراضه على نظام الحكم الذي قررته مصر للسودان، ودعا إلى أن يقرر السودانيون بأنفسهم بواسطة جمعية تأسيسية نوع الحكم الذي يريدونه. كما دعا الحزب إلى ضم الصفوف على أساس حق تقرير المصير بواسطة الجمعية التأسيسية بعد خروج الإنجليز. وأيدت الجبهة الوطنية إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899 واعتبرتها خطوة جريئة وحاسمة من قبل مصر. وأكدت تمسكها بأهدافها التي بينتها لدولتي الحكم الثنائي كتابة في مناسبة سابقة. ولكن الجبهة الوطنية رفضت المرسوم المصري الخاص بنظام الحكم في السودان، وقالت إنه جاء منافياً لروح الديمقراطية والعدالة ومجحفاً بحقوق السودانيين لأنه سلبهم حقوقهم الشرعية. ووصفت الجبهة الوطنية الوضع الذي قررته مصر للسودان بأنه عبودية سافرة لأنه يربط السودان بها إلى الأبد ويحرم السودانيين من تقرير مصيرهم. وعبّرت الجبهة الوطنية عن خيبة أملها في الحكومة التي نص المرسوم على قيامها في السودان لأنها حكومة لا جيش لها ولا سلطان لها على شؤونها الخارجية. واتهمت الجبهة الوطنية الحكومة المصرية بتجاهل رأي السودانيين وإسقاطهم من حسابها، وبأنها دأبت على ألا تقبل من آراء السودانيين إلا ما يتفق مع أهدافها مما أفسد العلاقة بين السودانيين أنفسهم وجعلهم شيعاً تقاتل بعضها البعض. وبشأن الخطوات التي يمكن للسوادنيين أن يتخذوها بعد إلغاء مصر لمعاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899 الذي أنهى الحكم الثنائي، فقد دعت الجبهة الوطنية السودانيين إلى أن يتقدموا بقضيتهم إلى هيئة الأمم المتحدة أو غيرها من الهيئات الدولية للمطالبة بقيام هيئة شرعية في الحال لتراقب سير البلاد نحو هدفها. وقد انتقد مبارك زروق موقف الجبهة الوطنية من الدستور المصري الخاص بالسودان. وذهب زروق إلى أنه خلافاً لما ترى الجهبة الوطنية فإن الدستور الذي أقرته الحكومة المصرية للسودان لا يرمي إلى دمج السودان في مصر لأنه أتاح للسودان حكومة سودانية خالصة. وقال زروق إنه إذا كان سبب موقف الجبهة هو النص على وحدة السياسة الخارجية والجيش والدفاع والنقد، فإن كل هذه المسائل قد خرجت تماماً من اختصاص الحكومة المصرية واحتفظ بها الملك الذي يتولى سلطاته بواسطة وزرائه السودانيين في السودان وبواسطة وزرائه المصريين في مصر. ومن ثم فإن الحكومة السودانية الخالصة ستشترك اشتراكاً عملياً في رسم سياسة الشؤون الموحدة، وأما الاندماج فإنه يترك جميع السلطات في يد حكومة مصر. وأعلن حزب الأمة في 10 أكتوبر 1951 عن ترحيبه بإلغاء اتفاقيتي الحكم الثنائي لأن ذلك يعيد للسودانيين سيادتهم على بلادهم. ولكن حزب الأمة رفض «الحكم الذاتي المصري المشوه المبتور» واعتبره استعماراً سافراً لأنه يقيد السودانيين بفرض تاج مصر الدائم على بلادهم ويحرمهم حق تقرير المصير. وذهب حزب الأمة إلى أن مشروع الحكم الذاتي المصري وضع على كاهل السودانيين التزامات جعلته أقل بكثير من الحكم الذاتي الذي حدده حزب الأمة من قبل «وهو عبارة عن حكومة سودانية خالصة تستمد سلطاتها من برلمان سوداني كامل السلطات كخطوة أولى تسبق تقرير المصير بواسطة الشعب بمحض اختياره وكامل حريته». ورفض حزب الأمة قول النحَّاس بأن مصر والسودان وطن واحد لأن السودان «بلد قائم بذاته وبحدوده الجغرافية المعترف بها دولياً، والشعب السوداني شعب له مميزاته الخاصة وتتوفر لديه كل مقومات الاستقلال. وليس من حق مصر أن تضع أي تشريع يفرض على السودانيين نوعاً خاصاً من الحكم». بعث حزب الأمة برقيات إلى رئيس مجلس الأمن ورئيس وزراء مصر ووزير خارجية بريطانيا جاء فيها انه بإلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899، فإن السودان قد استرد سيادته، وأن حزب الأمة لا يرضى بغير حكومة سودانية مستقلة. وجاء فيها كذلك أن محاولة مصر فرض التاج المصري على السودان ومنحه دستوراً حسب رغبتها وبغير استشارة السودانيين «أكبر إهانة موجهة من مصر للسودانيين الذين سيقاومون ذلك بكل الوسائل ويعتبرون مثل هذا الإجراء مما يهدد الأمن في بلادهم». وبعد أن صدر في 15 أكتوبر 1951 قانون إنهاء العمل بأحكام معاهدة سنة 1936 وأحكام اتفاقيتي سنة 1899 أعلن حزب الأمة للشعب السوداني وللعالم بأسره أنه يعتبر أنَّ إدارة السودان الحالية التي نتجت عن معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي الحكم الثنائي قد أصبحت بدون سند قانوني منذ مساء 15 أكتوبر 1951، وأن سيادة السودان التي سلبتها هذه المعاهدات ظلماً وقهراً قد عادت إليهم، وأن الفترة القادمة لهذه الإدارة ستكون بمثابة فترة انتقال لتقرير المصير. وأعلن حزب الأمة كذلك أنه قد أعد مشروعاً عملياً يمكّن السودانيين في أقرب فرصة من إعلان سيادتهم رسمياً بواسطة هيئة شعبية منتخبة انتخاباً حراً ومن تقرير مصير السودان بالطرق الديمقراطية وتحديد نوع الحكم فيه.
مفاوضات الهلالي انتقل عبدالرحمن علي طه بعد ذلك للحديث عن المفاوضات التي تمت بين رئيس وزراء مصر احمد نجيب الهلالي والاستقلاليين في العام 1952. وكان ذلك بحق حدثاً فريداً. فباستثناء حكومة الهلالي التي تولت الحكم في مارس 1952 وحكومة حسين سري التي خلفتها في أول يوليو 1952 كانت كل حكومات العهد الملكي الأخرى ترفض التعامل مع حزب الأمة أو حتى الاستماع لوجهة نظره بشأن مصير السودان وذلك من منطلق أنه داعية انفصال. فبعد حريق القاهرة في 26 يناير 1952 وتصاعد العمل الفدائي في منطقة قناة السويس، كثفت الحكومة الأمريكية عبر وزير خارجيتها أشيسون وسفيرها في القاهرة كافري من الضغط على الحكومة البريطانية للاتفاق مع الحكومة المصرية على صيغة تمكن من الاعتراف بسيادة مصر الرمزية على السودان وتترك دون تغيير وضع السودانيين وحقهم في تقرير المصير. فقد كانت الحكومة الأمريكية ترى أن الاعتراف بالتاج المصري الرمزي على السودان هو السبيل الوحيد المتاح لإقناع مصر بقبول الترتيبات الغربية للدفاع عن الشرق الأوسط واحتواء الشيوعية حتى لا تتمدد في أي فراغ قد يحدث إذا انسحبت القوات البريطانية من قناة السويس. ومن جانبها كانت حكومة السودان تذكر الحكومة البريطانية بتعهداتها للسودانيين وتحذرها من أن أي تغيير في مركز السودان دون استشارة أهله ستترتب عليه اضطرابات أسوأ من تلك التي حدتث بعد التصريح الذي أدلى به اسماعيل صدقي في اكتوبر 1946 عن الاتفاق الذي تم بينه وبين إيرنست بيفن بشأن السودان. وفي فبراير - مارس 1952 طرحت الحكومة الامريكية اقتراحاً لتسوية مسألة السودان. تضمن هذا الاقتراح تعيين حاكم عام محايد ولجنة دولية للإشراف على الحكم الذاتي. ويقضي الأقتراح كذلك بأن يسند إلى الملك فاروق لقب «صاحب» أو «لورد» النوبه ودارفور وكردفان وسنار. ومن الواضح أن هذا الاقتراح قد قصد به إحياء فرمان الباب العالي الصادر في 13 فبراير 1841 ونقلت بموجبه إلى محمد علي ولاية مقاطعات النوبة ودارفور وكردفان وسنار وجميع توابعها ولكن حكومة السودان نبهت إلى ضرورة استشارة السودانيين. وحذرت من أن إحياء هذا اللقب ربما يفسر في السودان على أنه إحياء للحكم التركي القديم. وخلال مباحثات أجراها السفير البريطاني مع الهلال في 15 ابريل 1952 بشأن صيغة تقترحها بريطانيا بشأن مسألة الدفاع، أوضح الهلالي أن الاتفاق على هذه الصيغة يتوقف على الاتفاق على صيغة بشأن مسألة السودان. وأكد الهلالي للسفير أنه لن يقبل أي صيغة بشأن السودان ما لم تعترف تلك الصيغة بإسناد لقب «ملك مصر والسودان» لفاروق. تبودلت بين الطرفين البريطاني والمصري دون جدوى عدة صيغ لاستئناف المباحثات. على أية حال يبدو أن الهلالي أيقن في نهاية الأمر أنه لا سبيل لتجاوز عقبة السودان إلا بالحوار المباشر مع الحركة الاستقلالية ومحاولة إقناعها بقبول التاج الرمزي المؤقت خلال الفترة الانتقالية التي تسبق تقرير المصير والقضاء على الحجج البريطانية بشأن استشارة السودانيين. ففي النصف الأول من مايو 1952 طلب الهلالي من يحيى نور الخبير الاقتصادي لمصر في السودان توجيه الدعو للسيد عبدالرحمن المهدي أو من ينوب عنه لزيارة القاهرة للتباحث حول مستقبل السودان السياسي وعلاقته بمصر. لايجاد علاقة قانونية بين مصر والسودان تحل محل الاتفاقيتين والمعاهدة التي ألغيت، اقترح الهلالي أن يوافق الوفد الاستقلالي على التاج الرمزي المؤقت خلال فترة الانتقال. وقال إن التاج الذي تتمسك به مصر لا يغير الأوضاع الحاضرة في السودان ولكنه يحمي حقوق مصر لأن مصر إذا تخلت عن التاج بعد الغاء الاتفاقيتين والمعاهدة فكأنما محت إسمها بنفسها من السودان وسلمته للانجليز لينفردوا به لأنها لا تملك حتى الحق في تعيين الحاكم العام. رفض الوفد الاستقلالي اقتراح الهلالي بشأن التاج الرمزي لأن التاج معناه السيادة في نظر الناس ولا يمكن أن يفسروه بغير ذلك. وذكر الوفد أنه طالما أن الناس قد نفروا في الماضي من السيادة التي جاء بها صدقي في عام 1946، فليس بإمكان الوفد أن يعود الآن ليقول للناس جئناكم بسيادة مصر على السودان. ورفض الوفد كل العروض التي قدمها الهلالي. وعن هذه العروض ذكر عبدالرحمن على طه في كلمته إن الهلالي قال لهم «حلوا لنا هذه العقدة ولنا عندكم ما تشاءون إذا رغبتم ماء ... مدارس ... مساجد... مستشفيات. كل ذلك يمكن تحقيقه في لمح البصر. فقط اقبلو التاج المؤقت وحلوا لنا هذه العقدة القانونية». وكان ردهم: «نستطيع أن نعطيك ورقة نكتب فيها عاش السودان حراً مستقلاً وأكتب أنت فيها ما تشاء. وإذا كنتم تريدون مدارس ومستشفيات في مصر نستطيع نحن من رزقنا المحدود تحقيق ذلك».
لقاء إيدن عرض عبدالرحمن علي طه في كلمته كذلك للقاء السيد عبدالرحمن المهدي بانتوني ايدن وزير خارجية بريطانيا في 11 اكتوبر 1952 الذي شارك هو فيه وتولى مهمة الترجمة للسيد عبدالرحمن حيث قال إن ايدن أبلغهم بأن الحكومة البريطانية تنوي التصديق على قانون الحكم الذاتي في المستقبل القريب. وحري بالذكر أن إيدن التقى في نفس التاريخ بممثلي ما كان يعرف بأحزاب الجبهة الوطنية وقد كانوا مبارك زروق ويحيى الفضلي وعلي أورو وميرغني حمزة والدرديري احمد اسماعيل وخضر عمر ومحمد أمين حسين. في مستهل هذا الاجتماع قال مبارك زروق إن الجبهة الوطنية غير مقتنعة بمسودة الدستور لأنها لا تعبر عن رغبات أغلبية السودانيين. في رده على ذلك قال إيدن إنه يشعر أنه من الانصاف أن يخبر الوفد من البداية أن الحكومة البريطانية تنوي التصديق على مسودة قانون الحكم الذاتي في المستقبل القريب. وذكر ايدن للوفد بأن الحكومة البريطانية سبق أن عبّرت علناً عن رضائها عن احتمال سريان الدستور بنهاية العام. وقد يسألنا القارئ وما هو قانون الحكم الذاتي وما هي الجهة التي قامت بوضعه؟
قانون الحكم الذاتي في 29 مارس 1951 شكل الحاكم العام لجنة لتعديل الدستور استجابة لقراري الجمعية التشريعية في 6 و9 ديسمبر 1950 وذلك للنظر في المسائل المشار إليها في القرارين ولترفع إليه توصيات حول الخطوات القادمة التي تتخذ للتقدم إلى الحكم الذاتي الكامل. عُين القاضي استانلي بيكر رئيساً للجنة وضمت عضوية اللجنة عبدالله خليل وعبدالرحمن علي طه (حزب الأمة) والدرديري محمد عثمان وميرغني حمزه (الجبهة الوطنية) وعبدالله ميرغني وحسن عثمان اسحق (حزب الاتحاديين) ومحمد أحمد محجوب وعبدالفتاح المغربي، ومحمد أحمد أبو سن، وبوث ديو، وعبدالماجد أحمد، وابراهيم قاسم مخير. ونص أمر تشكيل اللجنة على أن ينضم إلى عضويتها عند النظر في قواعد الانتخابات يوسف إدريس هباني، ويوسف العجب، وبنجامين لوكي، واستانسلاوس بياساما. عقدت لجنة الدستور أول اجتماع لها في 22 ابريل 1951 حيث استقر رأي الأغلبية على أن تنظر اللجنة في سمات الدستور قبل المسائل المتعلقة بالانتخابات. وفي الاجتماع الثاني الذي عقد في 9 مايو قبلت اللجنة مسودة تقدم بها بعض الأعضاء كأساس للنقاش. وبحلول 18 يونيو 1951 كانت اللجنة قد غطت كل سمات الدستور المقترح وكان هناك اتفاق على معظمها. ولكن ثمة مسائل أثارت بعض الصعوبات ولذلك خولت اللجنة رئيسها استانلي بيكر أن يستشير بشأنها أحد الخبراء في الشؤون الدستورية أثناء قضاء عطلته الصيفية في انجلترا. ولكن إلغاء الحكومة المصرية في اكتوبر 1951 لاتفاقيتي 1899 ومعاهدة سنة 1936 تسبب في اضطراب أعمال لجنة الدستور وأدى إلى حلها في 26 نوفمبر 1951. فقد أخفق اعضاء اللجنة في تجاوز الخلاف الذي نشب بينهم حول مسألة ايلولة السيادة على السودان بعد إلغاء مصر للاتفاقيتين والمعاهدة. على أية حال كانت لجنة الدستور في تاريخ حلها قد أجازت السمات الرئيسية للدستور ولكنها لم تبحث المسائل المتعلقة بالانتخابات. وضُمن جزء كبير من توصيات اللجنة في مشروع قانون الحكم الذاتي الذي قدم للجمعية التشريعية في 2 ابريل 1952 وبعد أن أجازته رُفع في 8 مايو 1952 إلى دولتي الحكم الثنائي ويعتبر مشروع هذا القانون الحلقة الأخيرة في سياسة التطور الدستوري التي تعهدت إدارة السودان بأن تصل بالسودانيين عبر مؤسساتها إلى مرحلة الحكم الذاتي وتقرير المصير. وقد قبل حزب الامة هذه السياسة ورفضتها الاحزاب الاتحادية. ولعله من المهم أن نذكر أن مشروع قانون الحكم الذاتي كان الأساس للمفاوضات التي جرت في القاهرة في اكتوبر 1952 بين حكومة ثورة 23 يوليو والأحزاب السياسية السودانية الاستقلالية منها والاتحادية. ففي اجتماع ممثلي الأحزاب الاتحادية المنضوية تحت لواء الجبهة الوطنية بأنتوني إيدن في 11 أكتوبر 1952 وفي المذكرة التي قدموها له باسم جبهة الكفاح الوطني، أعلن هؤلاء رفضهم لمشروع دستور الحكم الذاتي وعزمهم على مقاطعة أية انتخابات تجري بموجبه في ظل النظام القائم في السودان مهما كانت إجراءات الإشراف المتخذة سواء كانت مشتركة أو خارجية. وفي 21 أكتوبر 1952 عقدت الأحزاب الاتحادية اجتماعاً بفندق سميراميس بالقاهرة حضره إسماعيل الأزهري، ومحمد نور الدين، والدرديري محمد عثمان. وحماد توفيق والدرديري أحمد إسماعيل، والطيب محمد خير، وفي أعقاب هذا الاجتماع أصدرت الأحزاب الاتحادية بياناً قالت فيه إنها عندما نادت في الجبهة الوطنية المتحدة لتحرير السودان بمبدأ الجلاء وتقرير المصير، فإنما فعلت ذلك إيماناً منها بأن هذا هو المبدأ الحق الذي يتمشى مع حقوق الشعب الطبيعية. وفي نفس البيان أكدت الأحزاب الاتحادية أنه لن يصدها شيء عن السير في ما رسمته من مقاطعة الدستور والاشتراك في انتخاباته تحت ظل النظام القائم في السودان. ويبدو أن الأحزاب الاتحادية تراجعت في الأسابيع التالية عن هذا الموقف. فقد أورد خضر حمد في مذكراته نص المشروع الأول الذي قدمته الأحزاب الاتحادية للحكومة المصرية بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير. وبمطالعة هذا المشروع نلاحظ أنه قبل في الأساس بمشروع دستور الحكم الذاتي الذي أقرته الجمعية التشريعية. ولكن المشروع اقترح أن تتمثل السلطة الدستورية العليا أثناء فترة الانتقال في هيئة تسمى «اللجنة المفوضة» وتتكون من رئيس للجنة ترشحه الحكومة البريطانية وتعينه الحكومة المصرية ومن ثلاثة أعضاء اثنان منهم سودانيان يعينان بالاتفاق بين حكومتي مصر وبريطانيا وثالثهما مصري تعينه حكومة مصر. كما اقترح المشروع الاتحادي أن تقوم في السودان خلال فترة الانتقال حكومة ائتلافية توزع مقاعدها بنسبة مقاعد الأحزاب الممثلة في البرلمان. ولكن في 1 نوفمبر 1952 وقَّع قادة الأحزاب الاتحادية وهم إسماعيل الأزهري، ومحمد نور الدين، وحماد توفيق، ودرديري محمد عثمان، وعلي البرير مع محمد نجيب، وحسين ذو الفقار، وصلاح سالم، وثيقة ذكروا فيها أنهم أُحيطوا علماً بالاسس التي تم الاتفاق عليها بين الحكومة المصرية والاستقلاليين في 29 أكتوبر 1952، وأنهم اعتبروا تلك الأسس «حداً أدنى لما يمكن أن تقبله الحكومة المصرية في مباحثاتها مع الحكومة البريطانية بشرط أن تعمل الحكومة المصرية بكل السبل للوصول إلى المشروع المعدل الذي تقدمنا به». كما أعلن قادة الأحزاب الاتحادية في نفس الوثيقة أنه مع احتفاظهم بمبادئهم التي تقوم أساساً على الجلاء والاتحاد مع مصر عن طريق تقرير المصير «فإننا لغرض تنظيم الجلاء، وإيجاد الجو الحر الملائم لممارسة تقرير المصير، قد ارتضينا أن تكون هناك فترة انتقال لا تزيد عن ثلاث سنوات لتصفية الإدارة الحالية على أن نشترك أثناءها في انتخابات البرلمان بعد وضع الضمانات التي رأيناها كافية لحرية وسلامة تلك الانتخابات». وعندما سئل إسماعيل الأزهري في 6 نوفمبر 1952 عن وعده الأول بمقاطعة المؤسسات الدستورية، أجاب بأنه وعد بذلك «عندما كانت المؤسسات تقوم على الوحي البريطاني، أما الآن ومصر الرشيدة تقود المعركة، فنحن مطمئنون كل الاطمئنان إلى الهدف القريب والبعيد». في 2 نوفمبر 1952 سلم محمد نجيب السفير البريطاني في القاهرة رالف استيفنسن مذكرة ضمنت وجهة نظر الحكومة المصرية بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير. إشتملت المذكرة على 16 بنداً وارفق بها ملحقان أحدهما يتعلق بسلطات الحاكم العام التقديرية التي يباشرها بموافقة لجنة الحاكم العام ويتعلق الثاني بالتعديلات التي ترى الحكومة المصرية إدخالها على مسودة قانون الحكم الذاتي. وقد أُسست المذكرة المصرية إلى حد كبير على الاتفاق الذي أبرمه الاستقلاليون مع الحكومة المصرية في 29 اكتوبر 1952. وحري بالذكر أن قانون الحكم الذاتي الذي اتفقت عليه الحكومتان البريطانية والمصرية في 12 فبراير 1953 قد اصبح بموافقة البرلمان في يوم السبت 31 ديسمبر 1955 دستور السودان المؤقت. وقال مبارك زروق زعيم الأغلبية وهو يقدمة للبرلمان إنه عُدل ليتفق مع قيام جمهورية ديمقراطية ذات سيادة. فحلت لجنة السيادة محل الحاكم العام واجريت بعض التعديلات الطفيفة التي يستلزمها الحكم الديمقراطي.
إتفاق الاستقلاليين مع الحكومة المصرية تم التوقيع على الاتفاق بين الوفد الاستقلالي والحكومة المصرية في 29 اكتوبر 1952. رحبت مصر في ديباجة الاتفاق بممارسة أهالي السودان الحكم الذاتي التام، وصرحت بأنها تحتفظ للسودانيين بحقوقهم في السيادة على بلادهم إلى أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم، وإذا ما قرروا مصيرهم في حرية تامة أن تحترم قرارهم. واتفق الطرفان في البند الأول من الاتفاق على أن يقرر السودانيون مصيرهم في حرية تامة إما باعلان استقلال السودان عن كل من مصر وبريطانيا وأي دولة أخرى، او الارتباط مع مصر. اثناء المفاوضات رفض الجانب الاستقلالي هذا البند وانسحب من المفاوضات على نحو ما روى عبدالرحمن علي طه في كلمته في الحفل. فقد قال: «عدنا إلى مصر وانتهينا من وضع الحكم الذاتي الفوري. وكان الاتفاق ينص على جلاء القوات الاجنبية... سودنة الادارة... وتقرير المصير على وجهين اما الاستقلال أو الاتحاد مع مصر. فهنا وقف الجانب الاستقلالي وقطع المفاوضات نهائياً لأن الحرية لا تعرف إلا وجهاً واحداً وهو الحرية. وكان رأي الجانب السوداني هو أنه لن يرجع للسودان بحرية ذات وجهين. ورجعنا للسيد الإمام وكان الأمر صدمة عنيفة عليه. فقال: اسمعوا لو لم تقطعوا هذه المفاوضات ما كنت أظن أنكم سودانيون إطلاقاً. فعلاً وجه جميع الحاضرين بالثقة. وأضاف السيد الامام: قطعتم المفاوضات وهذا حسن. ولكن تقولون أن ظنكم في السودانيين حسن. هل استشرتموه في الأمر فقالوا إننا نريد القيد ولا نريد الحرية المطلقة؟ أما أنا فمن رأيي إذا وافقتم عليه أن توقعوا الاتفاقية ونعود إلى أهلنا وظننا فيهم حسن ولا بد من أن السودان سيستقل. فما كان من جانبنا إلا أن نقبل هذا الرأي فوقعنا الاتفاقية وعدنا إلى أهلنا وحدث الاستقلال فعلاً». في ختام كلمته قال عبدالرحمن علي طه: «إنني أحس أن روح الإمام تطل على هذا الجمع وتسأل متفقدة عن أصدقاء الإمام وعن أعوان الإمام الذين آزروه مؤازرة صادقة والذين بادلوه ثقة بثقة وحباً بحب واحتراماً باحترام... تسأل هذه الروح أين أحبابي أولئك؟ والإجابة على ذلك... إنهم في هذه الدار باقون ما بقيت الحياة».
|
|
|
|
|
|