|
شخص مثل سعاد! محمد محمود
|
لاشك أن قلوب الذين يحلمون بغَدٍ تسوده الديمقراطية والاشتراكية والمساواة التامة بين المواطنين في السودان (وباقي العالم) انقبضت واغتمّت وغلّفها أسى عميق عندما نعى لهم الناعي موت سعاد إبراهيم أحمد. ماتت سعاد؟ وهل يموت شخص مثل سعاد؟ كيف تموت سعاد التي لم تكن مجرد جسد ولحم وعظم وإنما كانت أيضا تجسيدا حيّا لفكرة كبيرة وحلم كبير حملته بين جوانحها ودافعت عنه دفاع من لا يأبه بالموت ولا يخاف منه؟ كيف يتوقّف ذلك العقل العاشق للحقيقة؟ كيف يَكُفّ عن خفقانه ذلك القلب الذي يحتضن كل المسحوقين؟ كيف تسكن تلك العاطفة الغاضبة التي تريد القضاء على قبح العالم؟ كيف تموت سعاد؟
منذ شبابها الباكر انحازت سعاد للمسحوقين، كرهت الظلم بكل أشكاله وأحبّت قيم العدل والمساواة. كانت متمردة، ولا شك أنها لم تكن تختلف في ذلك عن الكثيرات من نساء جيلها. إلا أنها كانت محظوظة بوقوف أمها بجانبها وإصرارها على إكمال ابنتها لمشوارها التعليمي بدلا من الخضوع لتقاليد الزواج المبكّر. وكانت محظوظة عندما انفتح أفقها على الفكر الاشتراكي (في تجليه الماركسي). وعندها تحوّل تمردها لوعي ثوري يرى صورة كبيرة ويصبّ طاقتها في مجرى حركة كبيرة تعمل على تغيير مجموع الواقع بكل بنياته. كان ذلك بالطبع رهانا تاريخيا قبلته سعاد وتحمّلت مسئوليته، مثلما تحمّلها الآخرون الذين انضموا لصفوف الحزب الشيوعي السوداني، بكلّ ما انطوى عليه ذلك من إيجاب وسلب.
لا يساورني الشكّ أن سعاد ماتت وهي حزينة. رأت بأم عينها كيف أن أحلام جيلها وطموحاتهم الكبيرة بعد نشوة الاستقلال قد عصفت بها هيمنة واستبداد المشروع الإسلامي. رأت كيف داس مشروع الدولة الإسلامية حريات الناس وكرامتهم وكيف مزّق نسيج السودان وأحال أهله لمشردين في وطنهم وباقي العالم. ورغم أنها ظلت مرفوعة الهامة سافرة الرأس، إلا أنها رأت كيف انحطّت ثقافة "المرأة ناقصة عقل" بوضع المرأة وأخضعتها للدونية النوعية التي تفرضها الشريعة، وكيف تحوّلت الكثيرات لأشباح كأنها انبعثت من القرون الوسطى وهن يتّشحن ببراقعهن أو ينسحبن من الفضاء العام لأن "المرأة مكانها البيت". لا شك أن جيل سعاد الذي تشرّب الحداثة وقيم تحرّر المرأة في الخمسينيات والستينيات قد صدمته هذه النكسة في أوضاع المرأة صدمة عميقة، ولا شك أن هذه الصدمة اكتسبت حِدّة خاصة عندما رأين كيف أن بعض مظاهر هذا الخطاب الانتكاسي قد تسرّبت لداخل حركة المرأة نفسها. إلا أن سعاد كانت تدرك أيضا إدراكا عميقا أن التغيير عملية تاريخية معقّدة وأن مسيرته تخضع لتقلبات صاعدة وهابطة، ولذا فقد كانت فلسفة حياتها هي النضال المستمر، وكانت إجابتها الدائمة لمن يسأل عن حالها "أقاتل".
لا أشكّ أن سعاد كانت ستفرح وينتشي قلبها وهي ترى النساء وقد أحطن بجثمانها وشاركن الرجال لحظة دفنها. هذه الروح المتحدّية الحرّة هي ما أورثته سعاد لمن عرفنها وعرفوها، وهي الروح التي لن تحرّر النساء فحسب وإنما الرجال أيضا. هذا هو ما يجعل كل من عرفوا سعاد ومن يحملون حلم التغيير بين جوانحهم يقولون: وهل يموت شخص مثل سعاد!
محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان [email protected]
|
|
|
|
|
|