|
الدكتور حيدر ابراهيم علي وادمان جلد الذات بقلم مبارك مجذوب الشريف
|
الدكتور حيدر ابراهيم علي وادمان جلد الذات بقلم مبارك مجذوب الشريف
سنار تزييف التاريخ احتفال بخمسمائة سنة من الركود، هذا هو عنوان المقال الذي خطه قلم الدكتور حيدر ابراهيم على ونشر في موقع حريات الالكتروني بتاريخ 6/12/2013 المقال في رأيي مثال جيد للخلط التاريخي والمعرفي وضبابية الرؤية اليسارية وانحسارها بحيث لم تعد ترى الأشياء إلا من نافذة جلد الذات والذي يصل لمرحلة احتقار الذات، وتبني المواقف المضادة للتيار المنافس لها وهو التيار الاسلامي، حتى اصبحت مجرد صدى لأفعال الآخرين بعد ان كانت رائدة في الفكر والأدب. ابتدر الكاتب مقاله بمقولة للمؤرخ عبد الله العروي ورد فيها (المؤرخ الذي يستخرج العبرة من الماضي يعرف بالضبط من كان على صواب، ومن كان على خطأ يقينا منه أن للتاريخ غاية هي الحرية) هذه المقولة التي انبهر بها كاتبنا ووضعها في صدر المقال هي مثال (لرص) الجمل في غياب الروح النقدية التي تقف عند العبارات وتتناول مدلولها وتبحث عن استقامة العبارة والجملة المفيدة. نبدأ بالتساؤل: ما هي (العبرة من الماضي) التي سيستخرجها هذا المؤرخ أو ذاك ومن ثم يكون في موقف يعرف (بالضبط) من هو على خطأ ومن هو على صواب إن كانت العبرة من الماضي نفسها ليست شيئاً متفقاً عليه؟ هل العبرة من الماضي هي نافذة واحدة يتناوب المؤرخون الوقوف عليها ليطلوا منها على منظر واحد ونتوقع منهم جميعا الإتفاق على تفاصيله؟ بكل تأكيد أن (العبرة من الماضي) أمر متغير بتغير الأجيال واختلاف الحضارات، فلو اخذنا معركة كررى وجعلناها نموذجا للعبرة من الماضي فهل سيضمن لنا الدكتور أن العبرة من الماضي التي سيخرج بها مؤرخ سوداني ستكون هي نفس العبرة من الماضي التي سيخرج بها مؤرخ انجليزي؟ هل العبرة من الماضي التي سيخرج بها مؤرخ مسلم لمعركة خيبر هي نفس العبرة من الماضي التي سيخرج بها مؤرخ يهودي؟ ولنفترض ان للعبرة من الماضي نافذة واحدة، سيكون السؤال هو: من هذا المؤرخ الذي سيتفق عليه الناس ويرون أنه قد أفلح في استخراج العبرة من الماضي وعرف بالضبط من هو على خطأ ومن على صواب؟ وهل عبارة (يعرف بالضبط) عبارة علمية في مجال تتعدد فيه الآراء وتختلف فيه وجهات النظر؟ هذا نموذج لانبهار الصفوة المثقفة عندنا بالعبارات الفضفاضة والجمل خاوية المعنى وتزيين مقالاتهم واحاديثهم بها وكأنها (جوهر صدر المحافل). ندخل الآن إلى صلب المقال والذي بني على عدة محاور أهمها وجود مشكلة تتعلق بكتابة تاريخ السودان وقد نتج عنها كما يرى الدكتور حيدر ضعف الحس التاريخي لدى السودانيين، وهناك محور سماه الكاتب تضخم الذات والنرجسية القومية التي افرزت بعض الشطحات وأورد الكاتب امثلة لهذه الشطحات وهما: 1- ان السودان مركز دائرة الوجود 2- الاحتفال بمرور خمسمائة عام على قيام دولة سنار الاسلامية وقد عالج الكاتب هذين المحورين لا بمشرط الجراح ولا حتى بمشرط الحجام بل باسلوب احتقار الذات، ومن ثم توصل إلى خلاصة مفادها أن أهل السودان هم حثالة الحضارة وسنتاول هذين المحورين بالنقاش لنري على أرضية تقف. المحور الأول وجود مشكلة تتعلق بكتابة تاريخ السودان يقول الدكتور وهو (يناول) الذات السودانية سوطاًً: (وقد يقول المرء بكثير من الخجل، أنه لولا (آركل) و (شيني) و(رايزنر) و(جريفث) و(جنكر) و(هينتز) ،لما عرفنا شيئا عن تاريخنا القديم.وللقارئ أن يتأمل في عناء الحفريات، والبحث عن الآثار في أرجاء البلاد تحت مناخ السودان الفظيع لقادمين من اوربا.) ويقول الدكتور في سياق آخر (ويعود الفضل ل(آدامز) في تقديم تاريخ النوبه والعصور الوسطي. وكل التفاخر بالأنساب الحالي يرجع لجهود (هارولد ماكمايكل)في حفظه لوثائق الأنساب،وكتاباته عن تاريخ العرب في السودان،) وحتى يؤكد لنا الدكتور أن السودانيين يستحقون ضربات سوطه وبجدارة فقد قال: ( قصدت من هذه المقدمة المسهبة، توثيق حقيقة ضعف الحس التاريخي لدينا نحن السودانيين) هكذا أذن توصل الدكتور إلى (حقيقة) ضعف الحس التاريخي لدينا نحن السودانيين دون خلق الله أجمعين واجتهد جهده في التوثيق لهذا الضعف، وعلينا أن نلاحظ لفظ (حقيقة) واقتباسه لمقولة العروي التي ورد فيها عبارة (يعرف بالضبط) لنفهم الكيفية التي يفكر بها الدكتور وتبنيه لهذه العبارات حتمية الدلالة. نسأل الدكتور حيدر: ما قوله في المصريين هل نصفهم ايضا بضعف الحس التاريخي ؟ هل كان القوم في مصر يعرفون شيئاً عن تاريخهم القديم لولا حملة نابوليون بونابرت؟ هل كانوا سيعرفون شيئا عن اللغة الهيروغليفية وهي لغة اجدادهم لولا شاب صغير السن هو شامبليون وفكه لطلاسم الكتابات المدونة على حجر رشيد؟ كم من البعثات الفرنسية والبريطانية والنرويجية والامريكية سرحت في ارض مصر بحثا وتنقيباً؟ من أين جاءت فكرة تقسيم السلالات الحاكمة في مصر إلى اسر؟ من الذي اكتشف مقبرة توت عنخ آمون؟ وبعيداً عن مصر نسأله: كم من بعثات التنقيب والحفر الاوروبية جابت الجزيرة العربية واليمن وبلاد الشام والعراق واكتشفت ما اكتشفته؟ الم يكتشف الفرنسيون المسلة التي كتبت عليها قوانين حمورابي؟ من الذي اسس لابحاث كثيرة في الأدب العربي وفقه اللغة وخرج بنتائج لم يخرج بها اصحاب اللغة نفسهم؟ أليس جل هؤلاء كانوا مستشرقين أمثال لويس ماسينيون وكارل بروكلمان ومرجليوث وغيرهم؟ إنّ جهل شعوب الشرق الأوسط وافريقيا بتاريخها القديم ظاهرة عامة يمكن النظر اليها وتفسيرها من باب صراع الحضارات لا من باب (ضعف الحس التاريخي)، فالجهل بالتاريخ شيء وضعف الحس التاريخي شيء آخر مختلف تماما، فجميع ما قدمه الدكتور من أمثلة هي من باب الجهل بالتاريخ، اما ضعف الحس التاريخي فيتمثل في قيام البعض بتدمير متعمد لحضارة بلدهم او مساعدة الآخرين على سرقتها أو تدميرها، أو العبث بها أو الإساءة إليها، وقد يكون بعض هذا البعض عالماً وقد يكون من عامة الناس، ولا علاقة لغياب الحس التاريخي مع المسائل التي اوردها الدكتور في نقده لممارسات الشخصية السودانية بل ان هذه الممارسات يمكن تسميتها ضعف الحس الحضاري، ونورد هنا امثلته: (وقد إنعكس غياب الحس التاريخي في التعامل مع الزمن أو الوقت واحترام المواعيد واستثمار الوقت،وما الحياة إلا حاصل جمع هذه الساعات والأيام المهدرة.ويتبع هذا التعامل العبثي مع الوقت ،عدم المثابرة أي مواصلة أي ّعمل أو نشاط حتي نهايته بنفس روح البداية. فلدينا كثير من المشروعات علي المستوي الشخصي أو العام غير المكتملة.ويمكن للسوداني أن يوقف دراسته في السنة الثالثة بالجامعة مثلا دون وجود أي عذر مقنع.كذلك علاقة السودانيين بما يسمي”الموعد النهائي” مثل تسليم بحث أو ورقة،أو تسديد فاتورة أو قسط.واشتهرنا بيوم الوقفة أي قبل العيد بيوم. وطريقة رجل الثواني التي كانت تثير الاعجاب ب”دريسة”الذي دائما ما يحرز هدفه بعد خروج الجمهور.كذلك الفنان الذي يتدلل علي الجمهور ولا يحضر إلا متأخرا.هذه ممارسات تبدو ثانوية ولكنها تنعكس في مجمل جدية الشخصية.) علينا في هذا السياق الانتباه لولع الدكتور بجلد الذات علينا كلما سنحت له الفرصة، فقد خلط الدكتور بين مسائل ثلاث هي الجهل بالتاريخ وضعف الحس التاريخي وضعف الحس الحضاري، فكل ما أورده الدكتور من أمثلة لا علاقة له بالحس التاريخي بل هي ممارسات غير حضارية تفيد أن هناك أشواطاً إضافية يجب قطعها في مضمار الحضارة، وحتى يخفف الدكتور وقع سياطه على بني جلدته فليعلم أن ما ذكره من ممارسات ليست سودانياً صرفاً بل ممارسات يمكن ان تجدها لدى شعوب كثيرة تتشارك معنا النطاق الحضاري لدول العالم الثالث. ولم يكتف الدكتور بهذا الجلد للعامة من الناس بل مد طرف السوط إلى النخبة فقد عزى ما يراه قلة اهتمام من جانب الدكتور مكي شبيكة وتلاميذه بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي إلى خلل في الشخصية إذ يقول: (وأظن أن السبب يعود الي نزوع في الاكاديمي والمثقف السوداني عموما،الذي يهاب التجديد والمغامرة.وهو يميل كثيرا للمجاملة، ويخشي المواجهة أيّا كانت طبيعتها) ولا أدري على ماذا بنى هذا الحكم؟ لأننا لو نظرنا إلى أي صحيفة سودانية لوجدنا من المواجهات بين المثقفين الشيء الكثير، بل لا يتردد بعض المثقفين في مهاجمة السلطة أياً كانت سواء بالكتابة أو بالقول، وهل ينسى الدكتور أن هذا المثقف السوداني تمكن من إشعال ثورتين أودت بالحكام في اكتوبر عام 1964 وفي ابريل عام 1985؟ هل ينسى الدكتور أن مثقفي البلاد الأخرى احتاجوا لحوالي نصف قرن من الزمان اعتباراً من عام 1964 للوصول لمرحلة المثقف السوداني؟ ما قوله في أدب الطيب صالح وفيه الكثير من التجديد والمغامرة؟ ما قوله في قصائد التيجاني يوسف بشير المتمردة؟ ما قوله في كتابات منصور خالد؟ ما قوله في كتبات محمود محمد طه؟ ولكن الدكتور مولع بوصم بني جلدته بكل نقيصة. يواصل الدكتور مسلسل الجلد فيقول: (فالتاريخ السوداني شائك ومعيب في كثير من تجلياته، فتاريخنا مثقل بعار ممارسة الرقيق وهذا مما يتجنب المؤرخون معالجته بموضوعية(احمد سكينجا هو الاستثناء). ومرة أخرى يطلق الدكتور الأحكام القطعية دونما أي دليل، تاريخنا مثل تاريخ أي شعب في العالم فيه المشرق وفيه المظلم، على الأقل نحن لم ندمر الحضارات كما فعل المغول ولا سرقنا ثروات الشعوب كما فعلت بريطانيا وفرنسا وايطاليا وغيرها من الدول الاستعمارية، ولا أشعلنا الحرب العالمية الأولى ولا الثانية ولا غزونا العراق ولا أفغانستان ولا ..ولا.. فما هو المعيب والشائن في تاريخنا؟ هل هي ممارسة الرق؟ وهل سلم مجتمع في العالم من ممارسة الرق؟ ألم يكن الرق هذا الشيء البغيض ممارسة إنسانية عامة ومرحلة في تاريخ تطور العقل البشري والحس الإنساني انتهت ولله الحمد بالقضاء عليها؟ ما هو رأي الدكتور في من قام بشحن ملايين الأفارقة في أسوأ حال إلى العالم الجديد؟ ما رأيه في من طبق سياسة الفصل العنصري؟ المحور الثاني تضخم الذات والنرجسية القومية تناول الدكتور هذا المحور من خلا مثالين هما: 1- ان السودان مركز دائرة الوجود 2- الاحتفال بمرور خمسمائة عام على قيام دولة سنار الاسلامية يقول الدكتور: (يشتط كثير من الكٌتّاب في الحديث المبالغ فيه عن دور السودان في العالم والتاريخ البشري.وقد استوقفتني شطحتان تدعيان وضوح الفكر والنظرة الشاملة.إذ تقول الاولي بأن السودان هو “مركز دائرة الوجود”.أما الثانية فهي أكثر جنوحا وخطرا لأن الدولة تتبناها من خلال الاحتفال بمرور 500 عام ميلادي(سبق الاحتفال بالعام الهجري)علي قيام دولة سنار الإسلامية.وهي تستند علي فكرة”إنسان سنار واطروحة المخلص”.(حسن مكي:الثقافة السنارية،ص74 وقبل ان نمضي في مناقشة المثالين نسأل الدكتور ما الفرق بين نموذج مثقف يتبنى الاحتقار الكامل للذات السودانية وتموذج مثقف آخر يتبنى تضخيماً لهذه للذات ؟ اعتقد أن النموذجين ببعدهما عن الوسطية وجهان لعملة واحدة، يصيب النموذج الأول الأنسان السوداني بالاحباط ويدمر معنوياته، ويملأه النموذج الثاني بالغرور والاوهام الفارغة فيقعد به عن السعي والتحصيل والإجتهاد. الانسان السوداني مثله مثل باقي البشر له حسناته وله سيئاته، يستطيع ان يبدع وأن يعمل وأن يخترع ليس شراً كله ولا خيراً كله، ولكنه يطمح ليكون خيراً كله ..هكذا ببساطة. وسنناقش الآن النموذجين: 1- ان السودان مركز دائرة الوجود الفكرة نفسها فكرة بشرية ولا جديد فيها بمعنى أنها توجد اينما وجد بشر، فاليهود مثلاً ينظرون إلى انفسهم باعتبارهم شعب الله المختار، ونظر الاغريق إلى أنفسهم كابناء للآلهة وغيرهم برابرة، والالمان آمنوا بفكرة تفوق الجنس الآري، والمصريون يقولون ان مصر أم الدنيا، كما أن فكرة االعولمة الحديثة ما هي الا محاولة لصب البشر في قالب الحضارة الغربية باعتبارها قلب العالم النابض. لا اقول ذلك دفاعاً عن الفكرة بل لتبيان أنها ليست اختراعا سودانياً خالصاً، ومتى ما عرفنا أن هناك غيرنا يفكر بنفس الطريقة ولديه نفس الطموح فلندخل معهم في دائرة التنافس الشريف لتحقيق هذا المركز، لا أن نركن إلى التسليم بأننا مركز دائرة الوجود فعلاً ، يمكننا أن نقول نحن لسنا ذلك ولكن يمكننا أن نكون كذلك، والخلل في مقولة الاستاذ محمود هو انه قد قرر فعلاً أن السودان (هو مركز دائرة الوجود) فقام بنقل احتمال ما سوف يكون إلى شيء يرى انه كائن بالفعل. 2- الاحتفال بمرور خمسمائة عام على قيام دولة سنار الاسلامية أختار الدكتور هذه (الشطحة) كما سماها عنواناً لمقاله (سنار تزييف التاريخ احتفال بخمسمائة سنة من الركود) وهي انتقاد لمقولة الدكتور حسن مكي: ” عاش المسلمون ثلاثة قرون لا يكادون يسمعون خبرا سعيدا حتي جاء ذلك الخبر السعيد والبشري الطيبة بكسب الإسلام لأرض بكر تعادل أضعاف الأندلس في قلب قارة إفريقيا.كسب الإسلام في إفريقيا ببزوغ نجم مملكة سنار الإسلامية وخسرت المسيحية بأفول ممالك النوبة وعلوة المسيحية”.(ص35) قبل أن نمضي في تفنيد أقوال الدكتور حيدر يستحسن أن نقف قليلاً عند مقولة حسن مكي (عاش المسلمون ثلاثة قرون لا يكادون يسمعون خبرا سعيدا) لأن بها خطأ تاريخي جسيم، فلو رجعنا ثلاثة قرون للوراء منذ عام 1504 وهو تاريخ معركة سوبا، سنجد أن كثيراً من الأخبار الهامة قد حدثت ابرزها معركة عين جالوت عام 1260 والتي انكسرت فيها جحافل التتار امام جيوش الملك المظفر سيف الدين ق(.........)، و كان ايضا هناك حدث آخر مهم جداً وهو سقوط القسطنطينية في عام 1453، تلك المدينة التي استعصت على المسلمين زهاء سبعة قرون وبسقوطها انفتحت الابواب واسعة للدخول إلى القارة الأوروبية بحيث وصلت الجيوش العثمانية إلى أسوار قيينا. تجاهل تلك الأخبار والقفز إلى أن معركة سوبا تمثل حدثاً يتجاوز في اهميته تلك المعارك، هذا قول يحتاج إلى إعادة نظر، ليس هذا وحسب بل أن معركة سوبا نفسها لم يكن الصوت الجهادي فيها هو الصوت العالي، وهذا نتيجة لضعف القاعدة الثقافية الأسلامية التي تشكل الأرضية المناسبة لاشعال نار الجهاد، فكتب الفقه الاسلامي والفقهاء كانوا عملة نادرة والطرق الصوفية لم تتمكن بعد من نفوسا الناس، ومن أوائل الطرق الصوفية التي وفدت للسودان الطريقة القادرية وفد جاء اول شيوخها وهو تاج الدين البهاري في منتصف القرن الرابع عشر، أي قبل سقوط سوبا بحوالي نصف قرن، وبالتالي فمن الصعب اعتبار ان الدافع الديني كان هو المحرك الوحيد لتحالف الفونج والعبدلاب، بل كانت هناك عوامل اخرى بعضها اقتصادي وبعضها يتمثل في اختلال ميزان القوى بين مملكة سوبا التي دخلت مرحلة ضعف عام، وتزايد قوة التجمعات القبلية حولها والتي كانت اعدادها تنمو باستمرار، ومن ثم كانت هناك حاجة لتغيير الخريطة السياسية بحيث تجد تلك القوى الجديدة مساحة اوسع للتعبير عن تطلعاتها، وكان أن نظمت هذه الحشود ذات الخلفية القبلية المتباينة العلاقة بينها تحت الشعار العريض الجامع بينها وهو الأسلام ورتبت فيما بينها لمرحلة ما بعد سقوط سوبا وتمكن هذه الترتيبات رغم كل المشاكل والصراعات التي حدثت فيما بعد، تمكنت من الصمود لمدة ثلاثة قرون انتهت بالغزو التركي المصري في عام 1821م. والغريب ان الدكتور حيدر يعترف بذلك ولكن يورده فقط في مجال الهجوم فقد كتب: (كان السودانيون غير محظوظين فلم يدخل إليهم الإسلام من البداية علي يدي رجال اتقياء وورعين ولم يرسل لهم العلماء والفقهاء،فقد كان الحكام نهمين للبقط فقط. ولذلك كان من العادي أن نقرأ في التاريخ:”ولم تشتهر في تلك البلاد مدرسة علم أو قرآن.ويقال أن الرجل كان يطلق المرأة ويتزوجها غيره في نهارها من غير عدة”يعلق باحث:-”ولا غرابة في هذه الحال فالعرب الطارئون علي السودان الذي خضع للفونج كانوا، حتي زوال سلطان العنج،في حال من البداوة لا يتيسر معها تأسيس مدرسة ولا نشر علم.فكان إسلامهم إذا إسميا، ولعلهم قد نسوا كثيرا من تعاليم الدين وأحكامه،لبعد صلتهم بمواطن العلم والعلماء. كانوا علي هذه الحالة من الجهل حتي قدم الشيخ محمود العركي من مصر وعلم الناس العدة وسكن النيل الابيض وبني قصرا يعرف الآن بقصر محمود”.(عبدالعزيز عبدالمجيد:التربية في السودان،ج1،ص57) إذن أورد الدكتور بنفسه الدليل على ان معركة سوبا لم تكن جهادية دينية، لأن اسس الاسلام الاساسية تكاد ان تكون مجهولة فما بالك بالفقه الجهادي؟ وخلافاً لرؤية الدكتور حسن مكي نقول أن رمزية هذا الحدث تهم السودان اكثر مما تهم العالم الاسلامي، ففيه اتحاد بين مجموعات عرقية متباينة، وفيه وجود شعار عريض جامع هو الاسلام دون الدخول في تفاصيل المعتقدات، وفيه اقتسام للثروة والسلطلة بين تلك المجموعات وبعضها افريقي وبعضها عربي. واي احتفال بهذه الذكرى واي احتفاء بها يجب ان ينظر إلى قيام سلطنة سنار من هذه الزوايا. اتحاد بين مجموعات عرقية مختلفة، تحت شعار جامع يوحدها، مع برنامج لتقاسم السلطة والثروة. ويهاجم الدكتور حيدر حسن مكي فيقول: (فالكاتب يختزل التاريخ إلي صراع أديان فقط ،لذلك يبتهج لخراب مدينة سودانية حضارية هي سوبا، لأنها مسيحية ولا تغفر لها سودانيتها عند إسلاموي يحتقر فكرة الأوطان،ويتوق ل:”أمة محمد”.) ونشاطر الدكتور حيدر الأسف في خراب أي مدينة سودانية مع أن فكرة السودان كدولة في ذلك الوقت لم تتشكل بعد، ولكن لا بأس من تذكيره بقيام مملكة اكسوم المسيحية بغزو مملكة مروى السودانية ذات الحضارة العريقة وقيامها بتدميرها بالكامل ومحوها من الوجود. أما كون أن حسن مكي يتوق (لأمة محمد) فليس في هذا ما يعيب، فالشيوعيون يتوقون لنشر المذهب الماركسي وجعله اممياً والمسيحيون يتمنون أن يجد جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها الخلاص على يد يسوع المخلص، والمسلمون يتوقون إلى امة محمد التي تجمع بين الابيض والاسود والعجمي والعربي بحيث تكون قبلة كل هؤلاء واحدة، هذا إذن طموح بشري مشروع كل يعمل له حسب معتقده وفكره. ولا يشبع الدكتور حيدر من جلد الذات رغم انه ينكر ذلك فيقول: (هذه رؤى تاريخية ضارة لأنها قادت السودانيين إلي تضخم شوفيني ونرجسية قومية،فلم يعرفوا قدر أنفسهم، وعاشوا الغيبوبة التي أودت بهم إلي أدني موقع في تطور العالم حصريا، عكس أوهامهم. ووضعية السودان الحقيقية تثبتها كل تقارير الأمم المتحدة والمتخصصون في التنمية.ففي هذه اللحظات التي اكتب فيها،جاء تقرير منظمة “الشفافية العالمية” مدرجا السودان ضمن أفسد خمس دول في العالم وماقبل الأخير بين177 دولة،قبل الصومال فقط.وصدر تقرير الأمم المتحدة الإقليمي مبينا أن للسودان أعلي نسبة في انتشار مرض الإيدز في منطقة شرق المتوسط وشمال إفريقيا. وقبل أيام في ورشة العنف الأسرى، كشف مدير دائرة الجنايات بشرطة ولاية الخرطوم اللواء(محمد احمد علي) تسجيل بلاغين تحرش و عنف ضد الاطفال يوميا بالولاية.(الاهرام اليوم 14/11/2013).هذه مجرد نماذج قليلة للغاية لضيق الحيز المتاح. انتهى نص الدكتور حيدر. لاحظوا العبارت القاطعة التي يستخدمها الدكتور مثل (وعاشوا الغيبوبة التي أودت بهم إلي أدني موقع في تطور العالم حصريا) هل لنا أن نضع خطاً تحت كلمة (حصرياً)؟ ألم أقل لكم أن الدكتور يتظر للسودانيين كحثالة البشر؟ وإلا فما هو أدنى موقع في تطور العالم؟ والأدهى أنه حصرياً لنا لا يشاركنا فيه مشارك. والغريب انه يستند في هذا الحصر إلى تقارير تصدرها منظمات غربية لا تخلو من الغرض، وعلى أي حال نسأله متى كان للمنظمات (الإمبريالية) مصداقية لدى اليساريين،؟ فاذا كانت الامبريالية ومنظماتها ونظامها الديمقراطي وتمسكها بالرأسمالية يقدمان النموذج الأمثل للبشر فلماذا يكون البعض عندنا يسارياً؟ ويواصل الدكتور مسلسل الجلد يقول: (يواجه السودان إشكالية ومشكلات بنائية تاريخية،لأنه يحمل تاريخا يجعله أقرب الي الوهم منه للحقيقة والواقع.فقد كان موقعه سببا في عدم الاستقرار طوال تاريخه.) لاحضوا ظاهرة الانبهار بالنص ورص الكلمات (اشكالية ومشكلات بنائية تاريخية) ونسأله من قرر أن تاريخنا اقرب للوهم منه إلى الحقيقة وما هي الأدلة على هذا الوهم؟ هل لمجرد ان كاتبا ما نادي بالإحتفال بقيام دولة إسلامية في سنار فإن تاريخنا تحول إلى وهم؟ ويتساءل الدكتور حيدر: (هل تحول السودان فعلا إلي دولة عربية إسلامية تمثل نموذجا للمسلمين بعد عام1504 مع قيام سلطنة الفونج؟) نقول: عام 1504 هو مجرد محطة في طريق التحول والذي بدأ بصورة سلمية قبل فترة طويلة استمرت أكثر من ألف ومائتي عام بعد معركة دنقلا وتوج بمعركة سوبا واستمر بعدها، حيث أتي بعد ذلك العلماء والمتصوفة واكملوا عملية التحول للثقافة العربية الاسلامية التي كانت بطيئة من قبل وقاموا بتسريع خطواتها، ثم بدأت ثمار هذا التحول تظهر حين ظهرت كتابات سودانية واشعار بالفصحى والعامية بعضها مدون في كتاب الطبقات وتبعها انخراط في الحياة الثقافية التي كان الأزهر يمثل أهم رموزها بظهور الرواق السناري ورواق دارفور في الازهر و حملات كسوة الكعبة من قبل سلاطين الفور. واستمر هذا التحول في التجذر والانتاج حتى وصلنا لمرحلة نالت فيها رواية سودانية مكتوبة باللغة العربية موقع افضل مائة رواية في الأدب العالمي وهي موسم الهجرة للشمال، وانتج عبد الله الطيب مؤلفاً ضخما رفد به الأدب العربي وهو المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها. حاول الدكتور حيدر ان يجيب بنفسه على تساؤله: (هل تحول السودان فعلا إلي دولة عربية إسلامية تمثل نموذجا للمسلمين بعد عام1504 مع قيام سلطنة الفونج؟) وقرر ان الاجابة على السؤال تستدعي من (من البداية لابد من الإقرار حقيقة أن العرب لم يتخلوا عن نظرتهم العنصرية والدونية تجاه (السودان) في مقابل البيضان بسبب اللون وخضوعهم حتى زمن متأخر لتجارة الرقيق) نقول: لا ندري لم يغلف الدكتور معلوماته بغلاف (الحقيقة) ويطالبنا (بالاقرار) بما يراه حقيقة؟ كلمة رقيق كانت تشمل في تاريخ العرب ليس الأسود فقط بل الأبيض أيضا، فسلمان الفارسي وصهيب الرومي كانا من فئة العبيد رغم بياض لونهما، وحتى زيد بن حارثة كان عبداً رغم انه عربي وينتمي لقبيلة معروفة، والمماليك حكام مصر كان يؤتى بهم من بلاد الشركس والقوقاز ومن التركمان وبلاد السند والهند ومع ذلك لا يشفع لهم بياض اللون ويقدم الدكتور إتفاقية البقط كدليل لهذه النظرة الدونية العنصرية، لأن فيها نصاً يقول: ((وعليكم في كل سنة ثلثمائة وستون رأسا تدفعونها إلي إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب) والدكتور يتجاهل ان كل المجتمعات البشرية في ذلك الحين ينتشر فيها الرق، ولكن نسأل الدكتور: من أين يأتي النوبة انفسهم بالرقيق؟ هل كانوا يرسلون ابنائهم وبناتهم للمسلمين؟ كلا كانوا يرسلون الرقيق مما يليهم من شعوب داخل العمق السوداني ويشنون الغارات عليهم ثم يرسلون الحصيلة بصورة سنوية للمسلمين، وفي المقابل وحسب اتفاقية البقط كان على المنسلمين تزويد النوبة بالحبوب والاحتياجات الأخرى، كما ان الاتفاقية منعت المسلمين من دخول بلاد انلوبة منعاً باتاً وسمحت لهم بالعبور فقط (ترانزيت) وعبارة (اواسط رقيق بلادكم) لا تخاطب النوبة بكونهم رقيقاً بل تطلب منهم إرسال اواسط رقيق بلادهم مما يدل على النوبة انفسهم كانوا يمارسون الرق ويسترقون غيرهم وينظرون إلى غيرهم من الشعوب بدونية وعنصرية، ولعل الدكتور لو القى نظرة على االرسومات في العابد النوبية لوجد الرقيق وهم يقدمون للملوك. يقول الدكتور: وكثيرا ما يراودني سؤال: لماذا لم يحاول(عبدالله بن أبي السرح) إدخال السودانيين في الإسلام أو طلب دفع الجزية المعهودة؟ ومن قال لك انه لم يحاول؟ كل ما في الأمر ان بلاد النوبة استعصت على المسلمين حرباً لدرجة أن المسلمين أطلقوا عليهم اسم رماة الحدق لمهارتهم في الرمي، وظلت الحرب بينهما سجالاً قروناً من الزمن، وحتى اتفاقية البقط كانت اتفاقية بين طرفين متعادلين، كل طرف عليه التزام، ولو كان للمسلمين القوة الكافية لدخول بلاد النوبة فما الذي يجعلهم يوقعون اتفاقية لا تعترف لهم بحق الاقامة وتلزمهم بتزويد النوبة بالحبوب مقابل التزام النوبة بالرقيق؟ يقول الدكتور (كان السودانيون غير محظوظين فلم يدخل إليهم الإسلام من البداية علي يدي رجال اتقياء وورعين ولم يرسل لهم العلماء والفقهاء،فقد كان الحكام نهمين للبقط فقط.) هنا مغالطة تاريخية، لم يجري ارسال علماء للسودان لأن البلاد كانت مسيحية بالكامل ولم تفتح بعد، وطالما ان هناك بقط فمعنى ذلك ان البلاد لم تصبح اسلامية، ومتى ما اصبحت اسلامية سيتوقف البقط، لا يمكن الجمع بين الاثنين عدم ارسال العلماء واستمرار البقط. وخلافاً لرأي الدكتور نقول بل كان السودانيون محظوظين، فقد دخل السلام بلادهم بهوادة ولين واسلم الكثيرون عن قناعة لا بالسيف، ثم جاء المتصوفة وتسامحوا كثيراً مع اخطاء الناس في العقيدة والسلوك وأخذوا ينقلونهم درجة درجة إلى تعاليم الدين وابقوا على كثير من العادات والتقاليد فلم يمسخوا هوية الشعب، وكانت النتيجة هذا الشعب الذي يشهد له الكثيرون بحسن المعشر ودماثة الخلق، ويشهدون له ايضاً بشدة البأس حين الغضب، وما كتابات تشيرشل واشعار كبلنج ببعيدة. تخلف هذا الشعب الحضاري جزء من منظومة تخلف شملت شعوب افريقيا وآسيا والشرق الاوسط، وهو ليس قدره الدائم، وان كان اجدادنا في مروى طوروا الهيروغليفية المصرية لتكون ابجدية شبه كاملة واقاموا مناجم الحديد وشيدوا حضارات مزدهرة فلا شك ان الأبناء موعودون بالمساهمة في تقدم الحضارة دون احتقار للذات ولا نرجسية جوفاء.
|
|
|
|
|
|