|
مفهوم إسلامية لدى الأستاذ الإمام جعفر شيخ إدريس محمد وقيع الله
|
مفهوم إسلامية لدى الأستاذ الإمام جعفر شيخ إدريس محمد وقيع الله (1)
لعل أكثر المراقبين لهذا الضرب من النشاط العلمي الذي يأخذ عنوان إسلامية المعرفة أو أسلمتها أو تأصيلها في إطار التصور الإسلامي للعلم والفكر لا يعرفون أن هذا المشروع بدأ - على الأقل في صيغته التنفيذية الإجرائية - بمبادرة من فكر الأستاذ الإمام جعفر شيخ إدريس. وأن مشروع المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطون قد تأسس اهتداء بفكره وتوجيهه المبكر. وبالطبع فقد سبق ذلك تمهيد فكري قوي تولاه الإمام ابن إدريس بأبحاث ومداولات فكرية كثيرة استمع إليها العلماء باهتمام وجادلوا فيها وتم تمحيص الأمر حتى استوى على قدر من الوضوح النظري. وأقول قدرا من الوضوح النظري لأن المشروع ما يزال غامضا يشوبه الالتباس في أنظار الكثيرين من الأكاديميين الإسلاميين والمسلمين وغير المسلمين.
شرح القضية لقد حاول الإمام جعفر شيخ إدريس توضيح قضيته ولكن باختصار مدقق فقال إن الكثير من المثقفين والأكاديميين المسلمين يظنون أن:" للعلم منهجا واحدا متفقا عليه بين كل العلماء الذين يدرسون الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية دراسة علمية، وأن هذا المنهج يُمكّن سالكه من الوصول إلى الحقائق الواقعية وتصويرها كما هي تصويرا أمينا، وتفسيرها التفسير الصحيح الذي يتناسب معها، تصويرا وتفسيرا لا علاقة لهما بمعتقدات العالِم الباحث المفسر، ولا بآرائه الفلسفية، أو قيمه الخُلقيّة، أو أهدافه الذاتية، أو حقبته التاريخية، أو بيئته الثقافية ". وما قاله الأستاذ الإمام حق ولكنه قد يحتاج إلى مزيد شرح. ودعنا نأخذ وجهة نظر أخرى من تراث فلسفة العلوم في الغرب تتفق مع ما ذهب إليه الشيخ الإمام. فأصحاب فكرة النظرية الانقلابية الكبرى في بنية العلوم (برادايم) يقولون إن العلوم الطبيعية خاصة لا تنمو نموا تراكميا عبر الزمن. وإنما تصاب أحيانا بهزات زلزالية قوية تهدُّ بعض نظرياتها الكبرى والوسطى. ثم تنشأ على أنقاضها نظريات أخرى تقدم تفسيرات مغايرة تغييرا نوعيا لما كانت تقدم من تفسيرات للظواهر العلمية التي انشغلت بمعالجتها. ومثال ذلك في تاريخ العلوم انهدام نظرية بطليموس في تفسير الكون وقيام نظرية كوبرنكس محلها. فقد سادت النظرية الأولى زمنا طويلا ولم تفلح آليات البحث العلمي في اكتشاف خطئها. ولكن هذه الآليات نفسها تمكنت في وقت لاحق من اكتشاف الخطأ الكبير الذي انطوت عليه النظرية البطليموسية وذلك لاختلاف القيم الوجودية التي سادت تلك الفترة المتأخرة في التاريخ الأوروبي! وإذن فللقيم الوجودية دور كبيرا في تشكُّل البرادايم وبقائه وليس الدور الوحيد هو دور آليا البحث العلمي. دور القيم في مجال البحث العلمي وطالما أن للقيم دورها في تطور المعارف العلمية البحتة (ودع عنك مؤقتا المعارف العلمية الإنسانية والاجتماعية) فما الذي يمنع إذن من أن يكون للمبادئ والقيم الإسلامية دور في هذا المجال؟! يرد الإمام ابن إدريس على من يرفضون اقتحام الإسلام لهذا المجال المعرفي ويتحدث عنهم بقوله إنهم إنما تصوروا الموضوع باعتباره مظهرا من مظاهر النظرة الدينية المتزمتة التي أفسدت بزعمهم الحياة الاجتماعية والسياسية وتريد أن تمد يدها إلى الحقائق الموضوعية العلمية فتزيفها وتلوي أعناقها لتتواءم مع دعاواها الدينية الضيقة. فهؤلاء يظنون بغير الحق أن مشروع إسلامية العلوم:" هو أشبه ما يكون بفعل عالم الأحياء السوفيتي لايسنكو الذي حاول أن يجعل علم الأحياء موافق للإيدلوجية الشيوعية فأنكر بعض الحقائق المتعلقة بعلم الوراثة واستغل منصبه الإداري ليمنع نشر أي دراسة تخالف نظرياته، فأدى ذلك إلى تدهور هذا العلم في البلاد الروسية حتى اضطرت الدول الشيوعية فيما بعد إلى تدارك الأمر فأفسحت المجال للعلماء لكي يعبروا عن اعتقادهم بصحة ما أنكر لايسنكو ". وربما ظن هؤلاء المرتابون بتدخل القيم الإسلامية في مجال البحث العلمي:" أن تكون دعوة جوفاء لا حاصل لها إلا تبديل أسماء بأسماء، أي أن الداعي إلى الإسلامية في أي علم من العلوم سيأخذ بما قال الغربيون من حقائق، وبتفسيرهم لتلك الحقائق أو بأخذ منهجهم العلمي في إدراك الحقائق الطبيعية والاجتماعية ثم يسمى ذلك علم نفس أو اقتصاد أو اجتماع إسلامي ". التجرد المستحيل وبمنطق عالم راسخ في فلسفة العلوم يقدم لنا الإمام ابن إدريس صورة العلم الواقعية كما يلي: إذا كان المقصود بالتجرد من الاعتقادات والميول والأفكار أن يخلي العالم ذهنه من كل شيئ ويقبل على بحثه بعقل مجرّد، فهذا شرط يستحيل تطبيقه، وعلى فرض إمكانه فإنه لا يكون شرطا لحصول العلم بل سببا في عدم حصوله. وقد علل الأستاذ الإمام استحالة تجرد العالِم عن القيم بعدة أسباب أهمها: 1- لا يستطيع أي إنسان أن يكف لحظة واحدة وهو يقظان عن نجوى النفس والتعلق بالخواطر والآمال ومدار كل ذلك على القيم الاعتقادات الذاتية. ولابد أن يتخلل شيئ من ذلك بحثا علميا يعكف عليه العالم دهرا طويلا. 2- إن التجارب العلمية تقوم على الملاحظة، وهذه تتم في ضُوء سؤال البحث وفرضياته. وملاحظات العالم وافتراضاته إنما تتم على أساس قيمه الوجودية الكبرى وباستلهامها:" فالعاِلم لا يبدأ بحثه بالمشاهـدة ولا بالتجربة، ماذا يشاهد؟ وماذا يجرب؟ إنه يبدأ بفكرة ثم يشاهد من الطبيعة أو المجتمع ما يراه متعلقا بتلك الفكرة أو يجري تجربة معينة ذات علاقة بإثبات تلك الفكرة أو نفيها ". 3- إن العلم أمر تراكمي يضاف الجديد المكتشف منه ي إلى قديم سبق التوصل إليه:" والتجربة التي تجري تفترض صحة معلومات سابقة، فلو أن كل باحث بدأ تجربته وهو خالي الذهن حتى من تلك المعلومات الخاصة بمجال بحثه لما نمى العلم وما تطور ". وبعد ذلك يقر الشيخ الإمام بوجود قدر من التجرد ويقول إنه قدر مرغوب ومطلوب مثل أن يكون العالم مستعدا لقبول نتائج التجربة أيا كانت وعدم العمل على تطويع نتائج التجربة لتواكب هواه أو هوى المجتمع الذي يعيش بكنفه. ولكن المثل الأعلى شيء وممارسات العلماء الواقعية شيء آخر، وما ضربنا بهذه المثل قبل قليل من حديث البرادايم يعضد حديث الشيخ.
|
|
|
|
|
|