|
الهجرة من الخطاب التقليدي الى الخطاب الحداثي بقلم / نوري حمدون – الأبيض - السودان
|
= الهجرة من الخطاب التقليدي الى الخطاب الحداثي بقلم / نوري حمدون – الأبيض - السودان = قبل ألف و أربعمائة و أربعة و ثلاثون عاما خرج الرسول (ص) مهاجرا من مكة مسقط رأسه و موطنه الأول الى يثرب المدينة التي يعيش فيها أخواله . كان الرسول قد بدأ دعوة إصلاحية شاملة في مكة يدعمه فيها الوحي الإلهي الذي أطل عبر جبال مكة و الأرض المجدبة التي لا تعرف الزرع و لا الضرع . و لذلك لم يعرف اليأس طريقا الى قلبه و لا الحيرة دربا الى عقله . شكلت الهجرة فتحا جديدا لتلك الدعوة حتى خلنا أنه لولا الهجرة لما كانت الدعوة و لا كان الإسلام . فلقد تهيأت السبل و الظروف و الأسباب للإسلام بسبب الهجرة كي ينمو و يكبر و ينتشر . و بعد ذلك هاجر الإسلام نفسه من الجزيرة العربية الى كل أصقاع الدنيا و لم يعد أحد يتكلم عن الهجرة الجغرافية – من مكان الى مكان . و بسبب ذلك , فإن إستدعاء ذكريات الهجرة الأولى للرسول (ص) يجبرنا أن ننظر الى الهجرة بمنظار جديد .. منظار مختلف . = الهجرة المطلوبة اليوم هي هجرة من الخطاب التقليدى الى الخطاب الحداثى . فالإسلام وصل الينا في شكل نصوص أساسية تتمثل في القرآن و أحاديث الرسول (ص) . كما وصل الينا عبر ما كتبه الفقهاء و العلماء الأفاضل على مر العصور . و ما خلفه أولئك الفقهاء و العلماء هو ما نسميه الخطاب التقليدي . و في عصرنا الحالي إبتدأ الناس في البحث من جديد في ذلك التراث و مضاهاته بالنصوص الأساسية , فلعل إعادة النظر تسفر عن أمر جديد . و ما كاد الناس يفرغون من مراجعة الجزء الأول من أجزاء التراث حتى بدأت ملامح أمر جديد بالتكون . و في نهاية المطاف صار بالإمكان الحديث عن فهم آخر لما جاء الينا من روافد التراث المختلفة . و هذا الفهم الجديد هو الذي نسميه الخطاب الحداثي . = أمور كثيرة يمكن الحديث عنها و مناقشتها مما ورد في الخطاب التقليدي . و لكننا في هذه السانحة نحب التركيز على أمور ثلاثة . = أولا .. الخطاب التقليدي يتحدث عن أن المطلوب هو قيام المجتمعات بتطبيق أحكام الإسلام على الناس كافة عبر سلطة الخلافة . بينما يرى الخطاب الحداثى أن المطلوب هو قيام الفرد بتطبيق أحكام الإسلام على فردانيته عبر سلطة الخليفة الذي هو الفرد الحر القادر المريد . إعادة قراءة التراث أوضحت ان الإسلام إنما هو خطاب للفرد المسلم المؤمن . و يظهر ذلك أولا من خلال تطبيق العبادات صلاة و زكاة و حجا و صياما . إن البعد الجماعي لهذه العبادات هو نتيجة لإلتزام الفرد ( كل فرد ) بواجبه تجاه تطبيق العبادات . و تظهر فردانية الخطاب الإسلامي ثانيا في الموبقات المنهي عنها مثل السكر و السرقة و الزنا و القذف و الحرابة . ففي الخطاب الحداثي فإن المسلم المرتكب لهذه الموبقات هو المعني بالعقوبات المرتبطة بها . فالسكران و السارق و الزاني و القاذف و المحارب هو الذي يندم لإرتكابه تلك الموبقات , و هو الذي يتوب عنها توبة نصوحة , و هو الذي يوبخ نفسه و يطلب معاقبتها بالجلد أو القطع أو النفي من أجل أن تتطهر روحه التي بدأت تستشعر الإيمان . فعقوبة هذه الجرائم مربوطة بإعتراف الجاني . و إلا فإن الشبهات تمنع إقامة الحدود . و أول و أقوى الشبهات مع تلك الموبقات هي إنكار الجاني . و لأجل صعوبة تطبيق الحدود بدون إعتراف الجاني إبتكر الفقهاء و العلماء ما أسموه بالتعزير .. و هو إصطناع عقوبة بديلة لمن لم يثبت في حقه دليل إقامة الحد . التعزير بدعة فقهية لا تعرفها النصوص الأساسية . و من أخذ به فهو كمن إختار شيئا من مواد القانون الروماني أو الفرنسي أو الإنجليزي . التعزير إحدي إبداعات القانون العربي المرتبط بدولة الخلافة . ففي الخطاب التقليدي لابد من وجود سلطة خارج الفرد مثل دولة الخلافة لتجبر الفرد و تكرهه بقوة القانون على تطبيق أحكام الإسلام و ذلك على عكس مراد الإسلام تماما . أما في الخطاب الحداثي فإن الفرد هو الذي يدفع نفسه بنفسه لتطبيق العبادات , و هو الذي يدفعها بنفسه أيضا لتطبيق الحدود , و هو دائما الذي يدفعها لتطبيق كافة مفردات الإسلام . إن الهجرة من الفهم التقليدي للفهم الحداثي هي أهم نتيجة لإحتفالنا بقدوم العام الهجرى الجديد . = ثانيا .. الخطاب التقليدي يتحدث عن أن المطلوب هو تأكيد الأفضلية المطلقة للمسلم على غير المسلم . و المسلم في الخطاب التقليدي هو المؤمن برسالة الرسول محمد (ص) . بينما المسلم في الخطاب الحداثي هو من أسلم وجهه لله و عمل عملا صالحا . و نصوص القرآن تتحدث عن إسلام ابراهيم و موسى و عيسى قبل محمد (ص) . الآية تقول أن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين , من عمل منهم عملا صالحا فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون . فالأفضلية في الخطاب التقليدي هي لمن عمل عملا صالحا .. حيث أن الإيمان بالله مقره القلوب التي لا يستطيع الإطلاع على مكنونها إلا أصحابها على الأرض و إلا الله في عليائه . فالأفضلية في الخطاب الحداثي هى لمن يعمل العمل الصالح بغض النظر عن دينه أو جنسه أو لونه أو ثقافته . و لأن العمل الصالح هو الإسلام , فهو أيضا الدين الذي قال عنه القرآن أنه الإسلام . = ثالثا .. الخطاب التقليدي يتحدث عن أفضلية الرجل على المرأة في كثير من المجالات . إلا أن الخطاب الحداثي لا يعرف إلا مجالا واحدا يتفوق فيه الرجل على المرأة و هو ( العضلات ) . و لكن في المقابل فالخطاب الحداثي يعرف مجالا واحدا ايضا تتفوق فيه المرأة على الرجل لإنفرادها به و هو ( الولادة ) . و تأسيسا على أفضلية الرجل في الخطاب التقليدي خرج الفقهاء و العلماء بأفهام غير حقيقية لكثير من نصوص القرآن . فأولا .. اعتبروا أن التعدد في الزواج حق مطلق للرجل يأتيه أنا شاء دون ضابط أو قانون . بينما الخطاب الحداثي يعتبر التعدد وضعا إستثنائيا , و مع ذلك فلا يجب أن يتم بدون ضوابط . و لأن الأصل في المؤسسة الزوجية هو التوافق و التراضي كان لابد من وجود موافقة الزوجة الأولى لإتمام التعدد . و من أجل ضمان التوزيع العادل للحقوق و الواجبات في تلك المؤسسة التي تضم الزوج و الزوجات و الأطفال فالأنسب أن لا يتم التعدد إلا عبر المحكمة . و ثانيا .. دعموا أفضلية الرجل على المرأة بالقول أنه هو الذي يهجر في المضاجع و هو الذي يضرب ضربا غير مبرح . و لكن الخطاب الحداثي عندما يؤكد على نظرية الهجر و الضرب فإنه يذكر أنها نظرية مرتبطة بالمرأة الناشز التي هي الزوجة الغير طبيعية . و يجب قبل اللجوء الى الضرب إثبات أن الزوجة قد صارت ناشزا حتى لا يعد الضرب عدوانا على الزوجة . فالمعروف أن نصوص الإسلام كافة تحرم العدوان على الآخر بكل أشكاله و قالت ان من يعتدى فإن الله لا يحب المعتدين . و قد أثبتت أضابير المحاكم أن الكثير من النساء قد تعرضن للضرب ظلما و عدوانا نتيجة للفهم العقيم لحق الرجل في ضرب زوجته الطبيعية حين حكم عليها منفردا بأنها ( ناشز ) . و عليه فالخطاب الحداثي يضبط إستخدام حق الضرب بضابط المحكمة التي هى الجهة الوحيدة لإثبات النشوز . و ثالثا .. يتحدث الخطاب التقليدي عن عدم وجود التساوى في الحقوق و الواجبات في الإسلام بين الرجل و المرأة . فالرجل هو الأكثر حقوقا و الأكثر واجبات على السواء . و يدعمون هذا الفهم بالقول أن للذكر مثل حظ الأنثيين في مسألة الميراث . بينما الخطاب الحداثي يؤكد على أن القرآن قد جعل للذكر فقط مثل حظ الأنثى في غالبية مسائل الميراث . لقد أعطى القرآن الثمن و السدس و الثلث و الربع للرجل بالتساوي مع المرأة في معظم مسائل الميراث . و هذا جعل الخطاب الحداثي يؤكد على أن نصيب الذكر المضاعف لا يتحقق إلا في حالة الإخوة الوارثين . فالحالة الغالبة هي التي تشكل القانون .. و الغالب هنا هو التساوى في الحقوق في مسائل الميراث .. و هذا يؤكد تساوى الرجل و المرأة الأصيل في الحقوق و الواجبات تماما كما جاء في أدبيات العصر الحديث مثل الديمقراطية و حقوق الإنسان . = إن إعادة قراءة التراث في نصوصه الأساسية و الفرعية قد أثبتت أن الإسلام لا يتعارض مع مبادئ الديمقراطية و حقوق الإنسان . و إن التعارض المزعوم إنما يلتمس وجوده في أذهان أصحابه الفقهاء و العلماء في العصر القديم و الحديث على السواء . و عليه فإن الخطاب الحداثي عندما يستصحب أفكار الحداثة مثل الديمقراطية و حقوق الإنسان فإنه يقوم بالهجرة المطلوبة اليوم بعد عصور عديدة ساد فيها الخطاب التقليدى الذي لا نرغب في أن نحاكمه أو ندينه .. إننا على العكس نعتقد أنه و إن جانب الصواب في كثير من القضايا إلا أنه قد كان حسن النية . = الهجرة من الخطاب التقليدي الى الخطاب الحداثي بقلم / نوري حمدون – الأبيض - السودان
|
|
|
|
|
|