|
مفهوم التطور والمنظور الاسلامى للوجود د. صبري محمد خليل / أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه / جامعه الخ
|
مفهوم التطور والمنظور الاسلامى للوجود د. صبري محمد خليل / أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه / جامعه الخرطوم [email protected] تمهيد: هذه الدراسة هي قراءه إسلاميه نقدية مقارنه لمفهوم التطور ، حيث تقدم أولا قراءه نقدية لمفهوم التطور في الفلسفة الغربية ، فتتناول بالعرض والتقويم المفهوم المثالي للتطور، والمفهوم المادي للتطور، ونظريه التطور العضوي عن داروين، ثم تعرض ثانيا لموقف المنظور الاسلامى للوجود من مفهوم التطور، فتتناول المنظور الاسلامى للوجود ومفاهيمه الكلية " التوحيد والتسخير والاستخلاف "،ثم تعرض لمفهوم الخلق القرانى ، وتبين انه يجمع بين الإيجاد من العدم والايجاد من ماده سابقه وخلال مراحل ، من خلال تمييزه بين الخلق والجعل من جهة ، وبين (الأمر) و(التسوية والتقدير والهدايه) من جهة أخرى، ثم تعرض الدراسة لمذهبي تفسير طبيعة الخلق وهما مذهب إيجاد الأنواع دفعه واحده ، ومذهب التطوير الالهى" الزيادة فى الخلق"، ثم تعرض الدراسة لأقوال بعض العلماء المسلمين التي تشير إلى التطوير الالهى وليس التطور الطبيعي كما يرى بعض الباحثين ، وأخيرا تشير الدراسة إلى أن المفهوم الاسلامى للتطور يرفض كل من المفهوم المثالي و المادي للتطور، ، ويقول بمفهوم روحي – انسانى للتطور، يتصف بالشمول ، ويجعل العلاقة بين الترقي الروحي والمادي علاقة تحديد وتكامل، وليست علاقة إلغاء وتناقض ، ويستند إلى المفهوم القرانى"الكدح إلى الله" . أولا: مفهوم التطور في الفلسفة الغربية: المفهوم المثالي (الهيجلى) للتطور: المفهوم الهيجلى للتطور هو محصله تطبيق المنهج المثالي الجدلي على مفهوم التطور، ومضمونه أن الفكر المطلق هو الوجود الأول، أما الأشياء والظواهر المادية فهي مجرد تجسيد له،هذا الفكر المطلق يتطور من خلال الجدل أولاً، والمادة تتبعه إلي حيث هو متطور، والجدل هو التطور من خلال صراع المتناقضات عبر ثلاث لحظات: الدعوى ونقيض الدعوى وجامع الدعوى ونقيضها، فهذا الفكر المطلق يتطور عبر ثلاث مراحل هي :أولا:المرحلة الذاتية وتتضمن اللذة والعاطفة والفضيلة،وهي تقابل لحظة الدعوى ، ثانيا:المرحلة الموضوعية وتتضمن الأخلاق والعرف والقانون ، وهي تقابل لحظة نقيض الدعوى ، ثالثا:المرحلة الجامعة للذات والموضوعية أو المرحلة المطلقة ، وتتضمن الفن والدين والفلسفة ، وتقابل لحظة جامع الدعوى ونقيضها . تقويم: وهكذا فان المفهوم الهيجلى للتصور قائم على إسناد الجدل"التطور من خلال صراع المتناقضات" إلى الفكر المطلق ( اى الإله) ، فهو بذلك يستند إلى التصور التشبيهي للإله، الذي ورثته أوربا من التراث الإغريقي ، الذي صوره قوة خاضعة للحركة خلال الزمان ، والتغير في المكان ، ويمكن للإنسان أن يتصورها،وآية هذا أن هيجل جعل الفكر المطلق يبدأ بأن لا يعي ذاته ،فيتجلى في الطبيعة ومن خلال التاريخ ،وغايته أن يعي ذاته، وهو ما يتناقض مع التصور الاسلامى ألتنزيهي لله تعالى، والقائم على أن علم الله تعالى مطلق ، كما يتضح لنا تناقض إسناد الجدل للفكر المطلق (الإله) مع التصور الاسلامى التنزيهى أن علماء الإسلام نفوا عن الله تعالى الأضداد، يقول الطحاوي (وهو متعال عن الأضداد والأنداد)، ويقول الغزالي (الذي لا ند له ،الفرد الذي لا ضد له ، الصمد الذي لا منازع له)، وأخيرا فان التطور انتقال من النقض إلى الكمال،والله تعالى في التصور الاسلامى التنزيهى مطلق الكمال. المفهوم المادي للتطور: أما المفهوم المادي للتطور فيتضمن العديد من المذاهب، أهمها المذهب الماركسي ، و الذي يستند إلى منهج مادي جدلي في تصوره لمفهوم التطور، و مضمون المفهوم الماركسي للتطور إنكار وجود الفكر المطلق ، والقول بان المادة هي الوجود الأول، أما الأفكار فهي تجسيد لها، فالمادة تتطور والأفكار تتبعها إلي حيث هي متطورة،ومحصلة تطبيق المادية الجدلية على التاريخ هي المادية التاريخية ،ومضمونها أنه داخل المجتمع يتطور أسلوب الإنتاج (البنية التحتية) ، بفعل التناقض بين أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج، بصورة صراع طبقي بين الذين يعبرون عن الأولى، والذين يعبرون عن الثانية ، وعندما نصل إلي الطفرة يكون المولود الجديد لأسلوب الإنتاج مولود من رحم أسلوب الإنتاج السابق وهكذا، كل هذا التطور في (البنية التحتية) ينعكس على البنية الفوقية وهي القانون والأخلاق والدين والفن… تقويم: إن إسناد الجدل إلي المادة قد ثبت خطأه علمياً ، حيث أن العلم اثبت أن المادة خاليه من التناقض،( اكتشاف التركيب الداخلي للذرة عند روزفورد ونظريه النسبية عند اينشتين...)، كما أن إسناد الجدل إلى المادة يتناقض مع منهج المعرفة الاسلامى ، لأنه يؤدي إلي تسخير بالإنسان لما هو مسخر له،إذ أن الإنسان (المستخلف) طبقا للقران الكريم هو الفاعل المغير المطور، و ليست الطبيعة إلا موضوع فعله، ويستعمل القرآن تعبير سخره للدلالة على هذه العلاقة: (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره) (الحج: 65). نظريه التطور العضوي: أما نظريه التطور العضوي فهي نظريه عرضها تشارلز داروين في كتابه (أصل الأنواع) الذي صدر لأول مره في عام 1859، ومضمون النظرية القول بوجود تطور في عالم الأحياء، اى أن التركيب المادي (العضوي) الحالي للكائنات الحية، لم يكن كذلك منذ بداية وجود هذه الكائنات الحية، ، بل أنه محصله تطور عضوي عبر مراحل زمنيه طويلة، ، وهذا التطور العضوي يتم طبقا لآليات متعددة منها الانتخاب الطبيعي الذي مضمونه أن ثمة انتخابا بين الأنواع تختاره الطبيعة ، ومنها التكيف البيئي، الذي مضمونه أن الكائنات الحية التي تتلاءم مع البيئة تبقى، والتي لا تتلاءم مع البيئة تنقرض ، ومنها الصراع من اجل البقاء ... تقويم: أولا:العلم: لم يكن داروين أول من قال بالتطور العضوي ، فقد كان هذا المفهوم موجودا في التراث الفلسفي الغربي (الاغريقى)، حيث قال به بعض الفلاسفة اليونانيين ومنهم اناكمندريس الذي افترض أن جميع الإحياء كانت أشبه بالأسماك ، وان الإنسان تطور عن نوع من الأسماك ، لكن داروين نقل هذا المفهوم من مجال الفلسفة إلى مجال العلم عندما التزم بالمنهج العلمي في تناوله للمفهوم، غير أن انتماء المفهوم للعلم لا يعنى بأنه صحيح بالضرورة ، حيث أن ما هو علمي هو محصله تطبيق المنهج العلمي على الظاهرة المعينة ، لكن ما هو علمي قد يكون صحيحا إذا وافق الواقع والسنن والقوانين التي تضبط حركته، وقد يكون خطاْ أذا خالف هذا الواقع والسنن والقوانين التي تضبط حركته، وهنا نشير إلى أن نظريه التطور العضوي هي نظريه علميه (بمعنى أنها محصله تطبيق المنهج العلمي في ظاهره الصلة بين الأنواع)، لكنها تنطوي على قدر كبير من الخطأ لعده أسباب أهمها :أولا: أنها تتناقض مع قوانين علم الوراثة، التي تثبت أن لكل كائن حي خريطة وراثية مختلفة عن الخريطة الوراثية للكائنات الأخرى،ثانيا : أن الطبيعة حتى في عالم الأحياء تتحول ولا تتطور ، وكما يقول د. عصمت سيف الدولة ( لقد كان المؤشر لانتباه داروين ملاحظته الفلاحين يقومون بتهجين حيواناتهم ليستولدوها سلالات جديدة أفضل، جديدة بمعنى أنها ما كانت لتولد بدون تهجين ،وأفضل بمعنى أنها أكثر مناسبة لما يريد الفلاحون ،كان أولائك الناس يطورون الواقع طبقا لقانونهم (الجدل)، بالتحكم في قوانين الحيوان(الوراثة)، فلما لاحظ داروين خلال رحلته اختلاف الأنواع فى عالم الحيوان، عمم ملحوظته الأول وظن أن ثمة انتخابا بين الأنواع تختاره الطبيعة، والواقع انه لم يلاحظ إلا كيف تؤثر الأنواع في الطبيعة وتتأثر بها ، فتغيير خصائصها بدون انتخاب أو اختيار، إنها تتلاءم مع بيئتها سلبيا فتتغير، ولا تغير بيئتها ايجابيا لتلائمها كما يفعل الإنسان، أما ما ظنه صله بين الأنواع ولم يعرف كيف تحدث ، فذلك ما عرفه مندل الذي كان معاصرا لداروين وان لم يكن حينئذ معروفا ،ولم يعرف إلا عندما اعترف العالم والعلم بعد ذلك بوقت غير قصير، بما كان قد اكتشفه من قوانين الوراثة ،ولم تعد الداروينيه - أو الداروينيه الحديثة كما يسمونها - إلا محصله دراسة فاعليه قوانين الوراثة في الأنواع ، وفيما بينها في نطاق قوانين التأثير المتبادل والحركة والتغير، التي تحكم العلاقة بين الأنواع وبيئتها، وقوانين الوراثة ذات دلا له مذهله على اتساق قوانين الطبيعة وخلوها من التناقض ، وهكذا نعرف أن الطبيعة حتى في عالم الأحياء تتحول ولا تتطور ...) (النظرية / ج1 / ص120-121). غير انه يجب تقرير أن نظريه التطور العضوي رغم أنها تنتمي إلى مجال العلم، إلا أنها تنتمي إلى فروع التي تنطوي تحت مجال فلسفه العلم(اى المفاهيم الكلية المجردة السابقة على البحث العلم في الظاهرة المعينة)،أكثر من انتمائها إلى فروعه التي تنطوي تحت مجال العلم التجريبي(اى الظواهر الجزئية العينية والقوانين التي تضبط حركتها)، لأنها لا تبحث في نوع معين في زمان ومكان معينين ، بل تبحث في الصلة بين كل الأنواع في كل زمان ومكان، فهي تعميم في الزمان والمكان، هذا فضلا عن أنها افتراض وليست قانون علمي تثبت التحقق من صحته بالتجربة والاختبار العلميين. ثانيا: الدين: إن نظريه التطور العضوي هي شكل من أشكال المفهوم المادي للتطور ، وكلاهما – فيما نرى - يتناقضان مع المنظور الاسلامى للوجود ومنهج المعرفة الاسلامى ، حيث يلزم منهما منطقيا نفى وجود فاعل مطلق اوجد الكائنات الحية المختلفة،أو نفى فاعليه هذا الفاعل المطلق،بصرف النظر عن الاعتقاد الذاتي لمن يعتقد بصحة هذه النظرية وهذا المفهوم ، وهنا يجب الاشاره إلى أن هناك بعض الكتاب الإسلاميين المحدثين المعاصرين ،الذين اعتقدوا بصحة هذه النظرية كليا أو جزئيا ، وحاولوا إثبات صحتها بالاستدلال ببعض النصوص،( ومنهم : الشيخ طنطاوي جوهري "تفسير الجواهر" ، و الأستاذ عبد الكريم الخطيب "التفسير القرآني للقرآن" ،والدكتور علي عبد الواحد وافي ، د. حسن حامد عطية " قضية الخلق " والدكتور عبد الصبور شاهين " أبي ادم : قصة الخلق بين الحقيقة والأسطورة"...). لكن هؤلاء الكتاب لم ينتبهوا إلى هذا التناقض بين ما يلزم منطقيا من هذه النظرية والإسلام كمنظور للوجود ومنهج،كما أن هناك الكثير من أوجه الخطأ في استدلالاتهم، ومن هذه الاستدلالات الخاطئة أن بعضهم اعتبر أن افتراض وجود سلف لأدم (عليه السلام ) من الكائنات الحية والتي انحدر منها ، هو الاجابه المطلوبة على السؤال: كيف عرفت الملائكة أن الإنسان سيفسد في الأرض ويسفك الدماء ، غير أن هذه الاجابه مرجوحة ، حيث أن الإجابات الراجحة عند العلماء هي : أولا: أنهم علموا ذلك بإعلام الله تعالى لهم ، وإن كان ذلك لم يذكر في السياق ( ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وابن قتيبة )، ثانيا: أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم على الأرض ، وهم الجن وليسوا كائنات حيه ( ابن عباس وأبي العالية ومقاتل) ، ثالثا: أنهم فهموا ذلك من الطبيعة البشرية ( ابن تيمية في منهاج السنة)، رابعا: أنهم فهموا من قوله تعالى ( خليفة ) أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ، ويردعهم عن المحارم والمآثم ( القرطبي في الجامع لأحكام القرآن) ، هذا فضلا عن أن هذه الاستدلالات - في مجملها - تقوم على أساس خاطئ هو جعل العلم هو الأصل (المطلق) والقرآن هو الفرع (المحدود) ،وذلك بتأويل النص القرآني ليتفق مع نظرية التطور العضوي،في حين أن هذه النظرية –وغيرها من النظريات العلمية - هي شكل من أشكال المعرفة الإنسانية المحدودة النسبية ، والتي تحتمل الصواب والخطأ ،وبالتالي فإن اعتبارها من القرآن يؤدي إلي نسبة هذا الخطأ إليه. وعلى سبيل المثال فان هناك من يستدل بالايه ( مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) (نوح : 14-13) باعتبار أنها تشير إلى مراحل خلق الإنسان كنوع ، بينما الايه تشير إلى مراحل تخلق الجنين في رحم امه، يقول الإمام الطبري في تفسير الايه ( وقد خلقكم حالاً بعد حال طورا نُطْفة وطورا عَلَقة وطورا مضغة ).
ثانيا: مفهوم التطور والمنظور الاسلامى للوجود: المنظور الاسلامى للوجود: يستند المنظور الاسلامى للوجود إلى ثلاثة مفاهيم قرانيه كليه هي التوحيد والتسخير والاستخلاف ، مفهوم التوحيد : ومضمونه إفراد الربوبية والالوهيه لله تعالى ، فهو بالتالي ينقسم إلى توحيد الربوبية الذي مضمونه أن الله تعالى ينفرد بكونه الفاعل المطلق"الدائم كونه فاعلا فتعبير ابن تيميه " ، يقول ابن تيميه في معرض رفضه لاستدلال المتكلمين على وجود الله بطريقه الأعراض الدالة على حدوث الأجسام ( إن هذا المسلك مبنى على امتناع دوام كون الرب فاعلا وامتناع قيام الأفعال الاختيارية بذاته) (ابن تيميه، درء التعارض،1/98.)، أما مضمون توحيد الإلوهية فهو أن الله تعالى ينفرد بكونه الغاية المطلقة" الغاية المطلوب بتعبير ابن تيميه"، يقول ابن تيمية ( .... ولكن المراد المستعان على قسمين: منه ما يراد لغيره ..... ومنه ما يراد لنفسه فمن المرادات ما يكون هو الغاية المطلوب فهو الذي يذل له الطالب ويحبه وهو الإله المعبود ومنه ما يراد لغيره)..فالتوحيد بقسميه(توحيد الربوبية و الالوهيه يتعلق إذا بإفراد الوجود المطلق - فعلا وغاية- لله تعالى، والوجود المطلق هو الوجود القائم بذاته وكل وجود سواه قائم به ، وبتعبير الغزالي( فهو القيوم لان قوامه بذاته ،وقوام كل شيء به ،وليس ذلك إلا الله تعالى)( الغزالي، المقصد الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى). الظهور الصفاتى والذاتي للربوبية : وللفعل المطلق الذي عبر عنه القران الكريم بمصطلح الربوبية، ظهور صفاتي وظهور ذاتي : الظهور الصفاتى : ومضمونه أن عالم الشهادة قائم على ظهور صفات الربوبية " اى ما دل على الفعل المطلق لله تعالى"، يقول ابن القيم( فالكون كما هو محل الخلق والأمر ، مظهر الأسماء والصفات ، فهو بجميعه شواهد وأدله وآيات دعا الله سبحانه عباده إلى النظر فيها)، ولهذا الظهور شكلين: الأول تكويني: يتمثل في الكون، والسنن الإلهية التي تضبط حركته يقول ابن تيميه(المخلوقات كلها آيات للخالق والفرق بين الايه والقياس إن الايه تدل على عين المطلوب الذي هو أيه وعلامة عليه)( ابن تيميه، مجموع الفتاوى،1/48)،والثاني تكليفي :يتمثل في الوحي ومفاهيمه وقيمه وقواعده يقول ابن القيم( القران كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته) ، ولهذا الوجود الشهادى درجتان هما: الوجود التسخيرى (الطبيعي) والوجود الاستخلافى (الانسانى)، لذا يتصل بتفسير الوجود الشهادى تناول مفهومي التسخير والاستخلاف : مفهوم التسخير: ومضمونه أن الكائنات التي لها درجه التسخير تظهر صفات ربوبيه الله تعالى على وجه الإجبار، فهي دائما آيات داله فعله المطلق ، وعلى يترتب على مفهوم التسخير قاعدتان هما:الموضوعية (بشكليها التكويني والتكليفى) والسببية . مفهوم الاستخلاف: ومضمونه إظهار الإنسان لربوبية والوهيه الله تعالى في الأرض، وذلك على المستوى الصفاتى، يقول الالوسى ( فلابد من إظهار من تم استعداده وقابليته، ليكون مجليا لي ، ومراه لاسمائى وصفاتي) (روح المعنى،ص223)، وإظهار صفات الربوبية يكون بتوحيد الربوبية والعبودية التي مضمونها تحديد الفعل الانسانى وليس إلغائه، ، أما إظهار صفات الالوهيه فيكون بتوحيد الالوهيه والعبادة التي لها معنى خاص ومعنى عام،ومضمون الأخير كل فعل يكون الله تعالى الغاية المطلقة ورائه كما قرر ابن تيميه، وبناء على ما سبق فان مضمون الاستخلاف أن تأخذ حركه الإنسان شكل فعل غائي محدود بفعل مطلق( الربوبية) وغاية مطلقه (الالوهيه) ، اى كدح إلي الله بالتعبير القرانى( يا أيها الإنسان انك كادح إلي بربك كدحا فملاقيه). الظهور الذاتي: ومضمونه ظهور ذات الفعل المطلق ، وقد عبر عنه القران بمصطلح التجلي كما في قوله تعالى (...فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 143)، ولهذا الظهور الذاتي شكلين:الأول :مقيد: ويتم في الحياة الدنيا وله شكل تكويني يتمثل في معجزات الأنبياء، وشكل تكليفي يتمثل في نزول الوحي على الأنبياء.والثاني : مطلق: ويتم في الاخره ، فالحياة الاخره هي درجه من درجات الوجود قائمه على الظهور الذاتي (التجلي) ، هذا التجلي يترتب عليه تغيير الوجود الشهادى المحدود بالزمان والمكان ،والقائم على الظهور الصفاتى، بوجود غيبي، قائم على الظهور الذاتى قال تعالى (كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ) ،وقال تعالى(يوم يبدل الله الأرض غير الأرض والسماوات)، وقال تعالى(وأشرقت الأرض بنور ربها)، غير أن هذا الظهور الذاتي أو التجلي( بالنسبة إلي الناس) ليس شاملا لجميعهم، بل هو مقصور على المؤمنين، وهو ما عبر عنه أهل السنة برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة،استنادا إلى العديد من النصوص كقوله تعالى (وجوهٌ يومئذٍ ناضرة، إلى ربِّها ناظرة). مفهوم الدرجيه: والوجود في المنظور الاسلامى للوجود قائم على مفهوم الدرجيه الذي أشارت إليه الكثير من النصوص كقوله تعالى ( وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ )، حيث أشار القران الكريم إلى درجيه الوجود الشهادى بدرجتيه(الوجود التسخيرى "الطبيعي" والاستخلافى"الانسانى") كما فى قوله تعالى(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ and#1751; إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )، كما أشار إلى درجيه الوجود الغيبي" الاخروى" كما في قوله تعالى (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) ، ومرجع هذه الدرجيه أن هذا الوجود قائم على الظهور الصفاتى (الوجود الشهادى- الحياة الدنيا)، أو الذاتي(الوجود الغيبي / الحياة الاخره) للفعل المطلق "الربوبية"،وكلاهما يتم خلال درجات ، ويرتبط هذا المفهوم بمفهوم آخر هو الكلية ، وطبقا له فان كل درجة من درجات الوجود تحد الدرجة السابقة عليها- كما يحد الكل الجزء- فتكملها وتغنيها ولكن لا تلغيها ، والفارق بين هذه الدرجات هو فارق في الشمول والتركيب،اى أن الدرجة السابقة هي اقل محدودية وبساطه ، والدرجة اللاحقة هي أكثر شمولا وتركيبا وهكذا. واتساقا مع هذا مفهوم وصف القران الكريم الله تعالى بأنه رفيع الدرجات) رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق )، هذا الوصف هو اشاره إلى أن له تعالى درجه الوجود المطلق ، الذي يحد كل وجود سواه، وبالتالي فان كل وجود سواه في درجه من درجات الوجود المحدود ، ويتصل بهذا وصفه تعالى بأنه واسع كما في قوله تعالى(إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(البقرة: 115)، ومحيط كما في قوله تعالى( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق: 12). كما انه اتساقا مع مفهوم الدرجيه وصف القران العلاقة بين الوجود الغيبي المطلق ، الذي ينفرد به الله تعالى والوجود الشهادى والغيبي المحدود لسواه تعالى بأنها علاقة تنزل وعروج كما في قوله تعالى ( من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )( المعارج : 3 ، 4 ). مفهوم الخلق: والخلق في المنظور الاسلامى للوجود هو ظهور الفعل المطلق في الإيجاد، والذي ينفرد به الله تعالى، في عالم الشهادة المحدود بالزمان والمكان، ومضمونه إيجاده للنوع المعين (المخلوق) ،في عالم الشهادة المحدود بالزمان والمكان، بعد أن كان غائباً عنه في عالم الغيب المطلق عن قيود الزمان والمكان، فهو (عند الله) إنزال هذا النوع من درجات الوجود المطلق (عالم الغيب)، إلى الوجود المحدود (عالم الشهادة)،لذا عبر القران عن الخلق في بعض المواضع بالإنزال كما في قوله تعالى (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ...) . التمييز بين الخلق والجعل: وقد ميز القران الكريم بين مصطلحي الخلق والجعل، دون أن يفصل بينهما، مع تأكيده الارتباط بينهما، ومرجع هذا التمييز أن مصطلح الخلق في القران يشير إلى مجمل الفعل المطلق في الإيجاد الذي ينفرد به الله تعالى، كما يشير إلى ظهور هذا الفعل المطلق ، في عالم الغيب المطلق عن قيود الزمان والمكان كما في قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) ( الأنعام :1)، وقوله تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) ( النور :36) ، أما مصطلح الجعل في القران فيشير إلى ظهور هذا الفعل المطلق في عالم الشهادة المحدود في الزمان والمكان، كما في قوله تعالى (وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ) ( يس : 34) . أنماط الخلق: وهذا الظهور للفعل المطلق في الإيجاد (الخلق)، لا يأخذ نمط واحد، بل أنماط متعددة تبعاً تعدد درجات الوجود (الغيبي والشهادى/ المطلق والمحمود) : الأمر: فهو يظهر كأمر لا يتم في زمان أو مكان، قال تعالى(إنما أمره أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون). التسوية: وهو يظهر كتسوية اى جعل النوع في أحسن الهيئات قال تعالى(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )،يقول ابن كثير في تفسير الايه ( أَيْ خَلَقَ الْخَلِيقَة وَسَوَّى كُلّ مَخْلُوق فِي أَحْسَن الْهَيْئَات...)، ويقول الطبري ( يَقُول : الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاء فَسَوَّى خَلْقهَا وَعَدَلَهَا ; وَالتَّسْوِيَة التَّعْدِيل)،ويقول القرطبي( وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ عَدَّلَ قَامَتْهُ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : حَسَّنَ مَا خَلَقَ . وَقَالَ الضَّحَّاك : خَلَقَ آدَم فَسَوَّى خَلْقه . وَقِيلَ : خَلَقَ فِي أَصْلَاب الْآبَاء , وَسَوَّى فِي أَرْحَام الْأُمَّهَات) التقدير: ويظهر كتقدير أي إيجاد فعلي للنوع المعين، في عالم الشهادة القائم على السببية، بعد إيجاد شروط (أسباب) وجوده ، قال تعالى (وما من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)،ورد في (لسان العرب) (القَدِيرُ والقادِرُ: من صفات الله عز وجل يكونان من القُدْرَة ويكونان من التقدير.وقوله تعالى: إِن الله على كل شيء قدير؛ من القُدْرة، فالله عز وجل على كل شيء قدير، والله سبحانه مُقَدِّرُ كُلِّ شيء وقاضيه. ... الليث: القَدَرُ القَضاء المُوَفَّقُ. يقال: قَدَّرَ الإِله كذا تقديراً، وإِذا وافق الشيءُ الشيءَ قلت: جاءه قَدَرُه). الهدايه : ويظهر كهدية (تكوينية) أي ضبط حركة النوع المعين بسنن إلهية كلية ونوعية بعد إيجاده، قال تعالى (الذي أَعْطَى كلَّ شيء خَلْقَه ثم هَدَى) ،ورد في (الصّحّاح في اللغة) (وقوله عز وجل: الذي أَعْطَى كلَّ شيء خَلْقَه ثم هَدَى؛ معناه خَلَق كلَّ شيء على الهيئة التي بها يُنْتَفَعُ والتي هي أَصْلَحُ الخَلْقِ له ثم هداه لمَعِيشته، وقيل: ثم هَداه لموضعِ ما يكون منه الولد، والأَوَّل أَبين وأَوضح)،وورد في (لسان العرب) (من أَسماء الله تعالى سبحانه: الهادي؛ قال ابن الأَثير: هو الذي بَصَّرَ عِبادَه وعرَّفَهم طَريقَ معرفته حتى أَقرُّوا برُبُوبيَّته، وهَدى كل مخلوق إِلى ما لا بُدَّ له منه في بَقائه ودَوام وجُوده). مذاهب تفسير طبيعة الخلق :ورغم ثبوت الخلق كمفهوم قرانى ، إلا انه مفهوم كلى الخلق ، لذا فان إجماع المسلمين على مفهوم الخلق لم يحول دون ظهور مذاهب إسلاميه (جزئية)،تحاول تفسير طبيعة الخلق، وهى في ذات الوقت ذات صله بمفهوم التطور،ومن هذه المذاهب : مذهب الإيجاد دفعه واحده : هذا المذهب يرى أن الله تعالى اوجد كل الأنواع دفعه واحده ( مطلقا)، ويستند هذا المذهب إلى تفسير الخلق بان (مقصور) على الإيجاد من العدم . تقويم: غير أن إيجاد الإنسان من العدم على مستوى الخلق ، وطبقا لنمط الخلق (الأمر) ، لا يتعارض مع ايجاده من ماده سابقه وعلى مراحل ، على مستوى الجعل ، وطبقا لأنماط الخلق التسوية والتقدير والهدايه ، حيث وردت الاشاره إلى ماده سابقه خلق منها الإنسان في العديد من النصوص كقوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)،وقوله تعالى(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأ مَّسْنُونٍ)،وقوله تعالى(الرحمن خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)،وقوله تعالى (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) ،وقوله تعالى (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (ص: 71- 79).كما وردت الاشاره إلى خلق الإنسان خلال مراحل كما فى قوله تعالى(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ) (السجدة : 7-9)، ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ*ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين ( (نوح: 14). وقد قرر القران الكريم أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ، قال تعالى(إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي على العرش) (الأعراف:54) ، وهناك مذهبين في تفسير طبيعة الأيام المذكورة في الايه ، المذهب الأول يرى أنها كأيام الدنيا، والمذهب الثاني يرى أنها أيام غير أيام الدنيا ، يقول ابن كثير في تفسير الايه ( وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّام هَلْ كُلّ يَوْم مِنْهَا كَهَذِهِ الْأَيَّام كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِر إِلَى الْأَذْهَان أَوْ كُلّ يَوْم كَأَلْفِ سَنَة كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِد وَالْإِمَام أَحْمَد بْن حَنْبَل وَيُرْوَى ذَلِكَ مِنْ رِوَايَة الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس)، ويقول القرطبي ( ...قَالَ الْقُشَيْرِيّ . وَقَالَ : وَمَعْنَى ( فِي سِتَّة أَيَّام ) أَيْ مِنْ أَيَّام الْآخِرَة , كُلّ يَوْم أَلْف سَنَة ; لِتَفْخِيمِ خَلْق السَّمَاوَات وَالْأَرْض . وَقِيلَ : مِنْ أَيَّام الدُّنْيَا )، والمذهب الذي نرجحه هو المذهب الثاني ، لأن الأيام – شانها شان اى شيء- تخضع لمفهوم العنيه القرانى، والذي مضمونه أن ذات الشىْ عند الإنسان يختلف عند الله ، لان وجود الإنسان محدود بينما وجود الله تعالى مطلق، قال تعالى (..وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ)(الحج:47)، وفى كل الأحوال فان القران يقرر أن الله تعالى خلق السموات والأرض خلال مده منيه(ستة أيام). كما أن هذا المذهب يتعارض مع تقرير الكثير من العلماء أن الإنسان هو آخر المخلوقات، يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) (...وحكي مُحَمَّد بْن الْجَهْم عَنْ الْفَرَّاء : " لَمْ يَكُنْ شَيْئًا " قَالَ : كَانَ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا . وَقَالَ قَوْم : النَّفْي يَرْجِع إِلَى الشَّيْء ; أَيْ قَدْ مَضَى مَدَد مِنْ الدَّهْر وَآدَم لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يُذْكَر فِي الْخَلِيقَة ; لِأَنَّهُ آخِر مَا خَلَقَهُ مِنْ أَصْنَاف الْخَلِيقَة , وَالْمَعْدُوم لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَأْتِي عَلَيْهِ حِين . وَالْمَعْنَى : قَدْ مَضَتْ عَلَيْهِ أَزْمِنَة وَمَا كَانَ آدَم شَيْئًا وَلَا مَخْلُوقًا وَلَا مَذْكُورًا لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلِيقَة . وَهَذَا مَعْنَى قَوْل قَتَادَة وَمُقَاتِل : قَالَ قَتَادَة : إِنَّمَا خُلِقَ الْإِنْسَان حَدِيثًا مَا نَعْلَم مِنْ خَلِيقَة اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَلِيقَة كَانَتْ بَعْد الْإِنْسَان)، ويقول ابن القيم في كتابه الفوائد (كان أول المخلوقات القلم ليكتب المقادير قبل كونها , وجعل آدم آخر المخلوقات , وفي ذلك حكم :الأولى : تمهيد الدار قبل الساكن .الثانية : أنه الغاية التي خلق لأجلها ما سواه من السموات والأرض والشمس والقمر والبحر والبر.الثالثة : أن أحذق الصناع يختم عمله بأحسنه وغايته كما يبدؤه بأساسه ومبادئه) مفهوم الخلق عند ابن تيميه: وهنا يمكن الاشاره إلى تقرير ابن تيميه إلى انه لا تناقض بين الخلق والإيجاد من ماده سابقه حيث يقول(وقد اخبر سبحانه انه "استوي إلى السماء وهى دخان ..."، فخلقت من الدخان... وقال أيضا " وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء"، فقد اخبر انه خلق السماوات والأرض في مده ومن ماده،ولم يذكر القران خلق شي من لاشىْ )(الفتاوى، ج18، ص235-236)، وقد أورد ابن تيميه هذا القول في معرض تناوله لقضية الخلق وصلته بمسالة قدم العالم، حيث بين خطا مذهبين : الأول هو المذهب الذي يتسق منطقيا مع مذهب إيجاد الأنواع دفعه واحده ، وهو مذهب المتكلمين من الاشاعره القائم على أن الله تعالى لم يزل لا يفعل ثم احدث الفعل ، حيث يرى أن هذا القول(لا نص فيه فنسبته إلى رسول الله أو الإسلام او القران كذب )(الفتاوى،ج18، ص222-223)،فهذا المذهب قائم على افتراض أن نفى نوع الفعل(قدم العالم) يقتضى نفى الفاعلية (الفعل المطلق المعبر عنه بالربوبية )، ويرى أن هذا المذهب يتناقض مع دوام الفعل الالهى ، فضلا عن انه يطرح مشكله وجود مرجح رجح هذا الفعل ،. أما المذهب الثاني فهو المذهب الذي يتسق منطقيا مع نظريه التطور العضوي وهو مذهب الفلاسفة القائم على الخلط بين قدم الفاعلية(الفعل المطلق المعبر عنه بالربوبية) وقدم نوع الفعل(قدم العالم)، حيث يرى أن هذا المذهب يؤدى إلى نفى الخلق لأنه يجعل العالم مقارنا لله أزلا وابدأ. مذهب التطوير الالهى "الزيادة في الخلق": أما هذا المذهب فيميز بين الخلق والجعل، وبين أنماط الخلق المتعددة من أمر وتسويه والتقدير والهدايه، وبالتالي يرى أن القول بإيجاد الأنواع دفعه واحده يجب تقييده بمستوى الخلق دون مستوى الجعل ، وبنمط الخلق (الأمر) دون أنماطه الأخرى (التسويه والتقدير والهدايه) ، غير أن هذا المذهب لا يرتب على ذلك الإقرار بصحة القول بحدوث تطور(ذاتي) لنوع إلى آخر ، وبدون تدخل فعل (موضوعي)، كما في نظريه التطور العضوي، بل يقول بحدوث تطوير لهذه الأنواع ككل بواسطة فاعل مطلق ، بمعنى انه لا يوجد نوع تطور من الآخر، بل يوجد نوع أضاف إليه فاعل مطلق ما لم يكن موجودا في آخر . وبتعبير آخر فان هذا المذهب يرى ان إيجاد هذه الأنواع لم يتم من خلال نمو (ذاتي) ، بل من خلال تنميه (موضوعيه) من خلال الاضافه، اى زيادة في الخلق بتعبير القران ، قال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقد أشار المفسرين إلى أن الزيادة في الخلق هنا غير مقصورة على الملائكة يقول الطبري (وَقَوْله " يَزِيد فِي الْخَلْق مَا يَشَاء " وَذَلِكَ زِيَادَته تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي خَلْق هَذَا الْمَلَك مِنَ الْأَجْنِحَة عَلَى الْآخَر مَا يَشَاء , وَنُقْصَانه عَنِ الْآخَر مَا أَحَبَّ , وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي جَمِيع خَلْقه يَزِيد مَا يَشَاء فِي خَلْق مَا شَاءَ مِنْهُ , وَيَنْقُص مَا شَاءَ مِنْ خَلْق مَا شَاءَ , لَهُ الْخَلْق وَالْأَمْر , وَلَهُ الْقُدْرَة وَالسُّلْطَان ) . وهناك العديد من الكتاب الذين تبنوا موقفا يقارب هذا المذهب ومنهم على سبيل المثال لا الحصر د.مصطفى محمود الذي يقول( وربما كان أفضل فهم لعملية التطور، أنها كانت تطويراً بفعل فاعل وبذات مبدعة خلاّقة ، ولم تكن تطوراً تلقائياً كما تصورها داروين وصحبه، ولم تكن مراحل متروكة للصدفة .. وإنما كانت تخليقاً مراداً ومخططاً خالق قادر حكيم.. وإنها هندسة وراثية لمهندس عظيم ليس كمثله شيء .)(حوار مع صديقي الملحد) موقف العلماء المسلمين من مفهوم التطور العضوي : وقد قرر بعض الباحثين أن بعض العلماء المسلمين سبقوا تشارلس داروين في اكتشاف التطور العضوي،غير أن تركيز هؤلاء الباحثين على إثبات الاسبقيه الزمنية للعلماء المسلمين على علماء الغرب، حال دون أن يتنبهوا إلى أن أقوال هؤلاء العلماء لا يمكن أن تندرج تحت إطار التطور العضوي – الطبيعي – المادي، لأنها لا تفيد معنى حدوث تطور(ذاتي) لنوع إلى آخر، وبدون تدخل فعل (موضوعي) ، ولكنها يمكن أن تندرج تحت إطار مفهوم التطوير الالهى ، لأنها تفيد معنى حدوث تطوير لهذه الأنواع ككل ، بواسطة فاعل مطلق، والدليل على ذلك أن هؤلاء العلماء يؤمنون- كمسلمين – بوجود عالم غيبي مطلق عن الزمان والمكان ، يحد - ولا يلغى - عالم الشهادة المحدود بالزمان والمكان، كما يؤمنون بمفهوم الخلق القرانى، الذي يجمع بين الإيجاد من العدم "الأمر" والإيجاد من ماده سابقه وعلى مراحل "التسوية والتقدير والهدايه "، وهو الأمر الذي يتأكد من خلال استخدامهم للعديد من المصطلحات التي تتصل بعالم الغيب أو مفهوم الخلق ... يقول القزويني في كتابه (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) (إن أول مراتب هذه الكائنات تراب وآخرها نفس ملكية طاهرة، فالمعادن متصلة أولها بالتراب أو الماء وآخرها بالنبات. والنبات متصل أوله بالمعادن وآخره بالحيوان، والحيوان متصل أوله بالنبات وآخره بالإنسان، والنفوس الإنسانية متصلة أولها بالحيوان وآخرها بالنفوس الفلكية). ويقول ابن مسكوية في كتابه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) (أن الموجودات مراتب، وكلها سلسلة متصلة… وكل نوع من الموجودات يبدأ بالبساطة ثم لا يزال يترقى ويتعقد حتى يبلغ أفق النوع الذي يليه، فالنبات في أفق الجماد، ثم يترقى حتى يبلغ أعلى درجة، فإذا زاد عليها قبل صورة الحيوان. وكذلك الحيوان يبدأ بسيطاً ثم يترقى حتى يصل إلى مرتبة قريبة من الإنسان.) .ويقول ابن خلدون في مقدمته (إنّا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض… انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدرج: آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخيل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب لأن يصير أول أفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدرج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القدرة "القردة فى بعض النسخ" الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق الإنسان بعده، وهذا غاية شهودنا.) . ويقول ابن طفيل في (حي بن يقظان) ، وهو يصف كيفيه تشكل جسم حي بن يقطان ( إن بطناً من الأرض تخمرت فيه الطينة على مر السنين والأعوام، حتى امتزج فيها الحار بالبارد والرطب باليابس ، وحدث فيها تكافؤ وتعادل في القوى ، وظهر في الوسط لزوجة ، بجسم لطيف في غاية الاعتدال " اى الروح" ، فتعلق به عنده "أي ارتبط بهيئة كإنسان"). ويقول إخوان الصفا وهم يصفون تشكل الكواكب (... ثم تستقر الأجسام على الشكل الكري "الكروي" ، الذي هو أفضل الأشكال ، فكان منه عالم الأفلاك والكواكب... ولما ترتبت هذه الأكر "الأجسام" كما أراد باريها، دارت الأفلاك بأبراجها وكواكبها... ثم تركبت على طول الزمان أنواع التراكيب ، فالنبات أشرف تركيبا من المعادن، والحيوان أشرف تركيبا من النبات، والإنسان أشرف تركيبا من جميع الحيوان...). ويقول ابن سينا في كتاب( الإشارات والتنبيهات ) (... وما يحدث في عالمنا, إنما ينتج عنه بمعاضدة الأفلاك ... وما يبقى في الأرض ووجد امتزاجا تحصل منه المعادن، وإن وجد امتزاجا أكثر يحدث النبات، وإن وجد امتزاجا أعلى يحصل منه الحيوان، وإن وجد امتزاجا أحسن وأعدل يحدث منه الإنسان ...) . المفهوم الاسلامى للتطور وسنه الكدح إلى الله : بناءا على ما سبق فان المفهوم الاسلامى للتطور يرفض كل من المفهوم المثالي (الهيجلى) للتطور، والمفهوم المادي للتطور، ونظريه التطور العضوي باعتبارها أحد أشكال المفهوم المادي للتطور، ويقول بمفهوم روحي – قيمي - انسانى للتطور، يتصف بالشمول ، ويجعل العلاقة بين الترقي الروحي والمادي علاقة تحديد وتكامل، وليست علاقة إلغاء وتناقض ، ويستند إلى مفهوم الكدح إلى الله ، الذي أشار إليه القران الكريم في قوله تعالى (يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )،ومضمونه أن الكدح إلى الله هو إحدى السنن الالهيه النوعية التي تضبط حركة الإنسان، ومضمونها الترقي الروحي/ المادي للإنسان، وهو ذو بعدين : بعد تكليفي يتمثل في مفاهيم وقيم وقواعد الوحي، وبعد تكويني يتمثل في السنن الالهيه التي تضبط حركه الإنسان، والأول لا يلغي الثاني، ولكن يحدده- كما يحدد الكل الجزء- فيكمله ويغنيه ، ويكون بمثابة ضمان موضوعي مطلق لاستمرار فاعليته ، فيحدد للإنسان نوع المشاكل التي يواجهها، وطرق العلم بها، ونمط الفكر الذي يصوغ حلولها ، وأسلوب العمل اللازم لحلها. مفهوم التطور الاجتماعي : اتساقا مع سنه "الكدح إلى الله" فان الإسلام لم ينكر مثلا مفهوم التطور الاجتماعي، بل حدده بمفهوم أمه التكليف، حيث أشار إلى القران الكريم إلى أطوار التكوين الاجتماعي، التي يتم من خلالها هذا التطور الاجتماعي وهى : الأسرة )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة )، فالعشيرة ( وانذر عشيرتك الأقربين)، فالقبيلة فالشعب ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، فالامه كوحدة – وطور – تكوين اجتماعي يتميز ب : أولا: أن مناط الانتماء إليه اللسان لا النسب(كما في الطور القبلي) لقول الرسول (صلى لله عليه وسلم)( ليست العربية بأحد من أب ولا أم إنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي)، ثانيا: الاستقرار في ارض خاصة ( أنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) ( الممتحنة:9). - للاطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زيارة العنوان http://drsabrikhalil.wordpress.com
|
|
|
|
|
|