|
الصالح العام وقارص الكلم عند قضاءٍ سَامِق ملتزم بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان كاتب وأكاديمي فلسطيني جام
|
الصالح العام وقارص الكلم عند قضاءٍ سَامِق ملتزم بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان كاتب وأكاديمي فلسطيني جامعة الأزهر بغزة
علمت أن زميلاً أودِعَتْ ضده شكاوى من أرباب عمله يتهمونه فيها بقذفهم وقدحهم والإساءة إليهم والتشهير بهم. بغير كثير من المتابعة، فهمت أن هذا الزميل غير راضٍ عن سلوك أرباب عمله، فعبّر عن معارضته لهم وعدم رضاه عن أسلوب إدارتهم للمؤسسة التي يعمل فيها بالقول وليس بالفعل. عبّر الزميل عن رأيه بطريقة واضحة ومباشرة وصريحة، فكان رأيه ونقده من الوضوح والصراحة والمباشرة على نحو لم يستطع أرباب عمله احتماله فاعتبروه وكأنه قد هتك حجاب الشمس فأرادوا تغييبه وراءها (أي وراء الشمس) كما يقولون. كادوا له كيداً دفعهم- من خلال وصايا مستشاريهم- إلى أن يودعوا ضده شكاوى تتهمه بالإساءة إليهم والتشهير بهم عبر قذفهم وقدحهم، وهو ما أنوي الحديث عنه في هذا المقال، مركزاً على حرية الرأي والتعبير والإعلام ضمن ما يعرف بـ "جرائم النشر". صحيح أن المعارضين والمنتقدين والمخالفين لطالما واجهوا مصاعب وعراقيل وعقوبات أو جزاءات بسبب آرائهم أو أفكارهم، سواء عبروا عنها بصراحة تعني المواجهة أو بطريقة التفافية غير مباشرة ليأمنوا من خلالها بطش السلطان ويتجنبوا عقوبة القانون، ولكن ملفات القضاء عالي المنزلة تطفح بقضايا الرأي والكلام والصحافة والإعلام، وهو ما أجدني الآن راغباً في الإشارة إلى بعض منها على سبيل المثال لا الحصر، استناداً إلى ما قرأته لكثيرين من بينهم السيد أحمد عز الدين وللمستشار هشام البسطويسي، نائب رئيس محكمة النقض المصرية. 1) في 6/11/1924 أصدرت محكمة النقض المصرية حكمها بنقض حكم كانت محكمة جنايات مصر قد أصدرته بمعاقبة صحفي تمت إدانته بتهمة إهانة مجلس النواب والشيوخ في مقال نشره ووصف فيه فريق الأغلبية في المجلسين بأنه "يعبد الحكومة ولا يحب الوطن، وأنه عبد لشهواته، وأنه جائع منحط، وأن وظيفته التهام الوطن، وأنه محب للمال، ومن السهل استرضاؤه، وأنه غير حريص على مصلحة الوطن، وأنه ######## وكذاب وعديم الفهم وقصير النظر". وفوق ذلك، فقد وصف رئيس مجلس النواب بأنه "جاهل لا يدري عمله، وأنه لا إرادة له". أصدرت محكمة النقض حكمها القاضي بنقض حكم الإدانة الذي كانت محكمة جنايات مصر قد أصدرته ضد هذا الصحفي. وهكذا برأت محكمة النقض ذلك الصحفي، نظراً لعدم توفر القصد الجنائي عنده. وقد رأت محكمة النقض أن تبحث جميع ظروف الدعوى، ما أعانها على التوصل إلى أن قصد الصحفي ناشر المقال إنما كان من أجل تحقيق الصالح العام للبلاد وليس إحداث الضرر للأشخاص المقذوفين.
2) في 2/3/1926، أصدرت محكمة النقض المصرية حكماً يقضي بنقض حكم كان قد صدر بإدانة صحفي في تهمة إهانة رئيس الوزراء لنشره مقالات وصف فيها رئيس الوزراء بالجهل وقصر النظر وانعدام الذكاء والفطنة، كما وصف فيها أعضاء مجلس النواب بالانحطاط والدناءة والطمع والجشع. وقد نقضت محكمة النقض الحكم القاضي بإدانة الصحفي فأصدرت حكمها ببراءته، حيث اعتبرت كلامه نوعاً من النقد، قائلة في حيثيات حكمها: "إنه وإن يكن الصحفي قد استعمل في النقد شيئاً كثيراً من الشدة وقوارص الكلم، إلا أنها (أي الشدة في النقد) جاءت من باب المبالغة والرغبة في التشهير بالفعل في ذاته كما هي خطة المتهم في كتاباته المستفادة من عبارته من المبالغة في المقال".
3) وفي عام 1928 ، نقضت محكمة النقض المصرية حكماً بإدانة صحفي بإهانة وسب رئيس مجلس النواب وأحد الوزراء حين وصفه "بأنه وحماره يتراكبان، فمرة يكون إلى أعلى وأخرى إلى أسفل". كانت محكمة الجنايات قد أصدرت حكمها بإدانة الصحفي لأنها رأت في ما قاله في المقذوفين دليلاً على توفر القصد الجنائي في السب والإهانة، غير أن محكمة النقض المصرية قضت بنقض حكم الإدانة لأنها قدرت أنه من الخطأ افتراض سوء القصد والنية لمجرد ذكر هذه الأوصاف. ففي كثير من القضايا المشابهة لهذه القضية، رأت محكمة النقض أنه- في جرائم النشر الصحفي- لا يكفي القصد الجنائي العام الذي يكفي في نفس الجرائم إذا وقعت في وسائل غير الصحف، ولكنها اشترطت للإدانة ثبوت فعلي بأن القصد من النشر ليس النفع العام، وإنما الإضرار بالمقذوف، وذلك تأسيساً على أن المتهم- حتى وإن استخدم أوصافاً شديدة وفظة وعنيفة- فإنه يبقى في نطاق حقه في ممارسة النقد دونما قصدية منه للإضرار الشخصي بالمقذوف.
4) في عام 1926، وصف الدكتور/ محمد حسين هيكل سعد زغلول- الذي هو رئيس الوزراء آنذاك وزعيم الأمة بلا منازع- بالخائن واتهمه بممالأة الإنجليز والاتفاق سراً على تقديم تنازلات عن حقوق مصر والمصريين. لكن محكمة جنايات القاهرة برأته في حكم جاء في حيثياته: "إنه بالاطلاع على تلك المقالات، فإنها نسبت لرئيس الوزراء ممالأة الإنجليز وملاينتهم وملاطفتهم والاتفاق معهم، ولا ترى المحكمة في تلك العبارة ما يمكن اعتباره ماساً بكرامة رئيس الحكومة باعتباره من رجال السياسة المعرضة أعمالهم بحكم طبيعة وظائفهم للنقد السياسي".
5) في 27/2/1933، وفيما يتعلق بالرقابة على تفسير الأوراق والمحررات، فقد استقر قضاء محكمة النقض على أن "لها في جرائم النشر حق تقدير مرامي العبارات التي يحاكم عليها الناشر من ناحية أن لها بمقتضى القانون تصحيح الخطأ في التطبيق القانوني على الواقعة بحسب ما هي منبثقة في الحكم، وبأن لها الحق في الاطلاع على المقال موضوع الاتهام وتحديد معنى ألفاظه لمعرفة ما إذا كان المقصود منه تحقيق النفع العام أو مجرد الإضرار بالأشخاص المقذوفين. وعلى ذلك، فقد استقر قضاء محكمة النقض على أن استعمال قارص الكلم بدافع الحرص على المصلحة العامة هو أمر مباح ويستثنى من المؤاخذة. أما فيما يتصل بالأسلوب الالتفافي والمداورة في تفسير العبارة، فقد قضت محكمة النقض المصرية بأن "المداورة في الأساليب الإنشائية بفكرة الفرار من حكم القانون لا نَفْعَ فيها للمداور ما دامت الإهانة تتراءى للمطلع خلف ستارها وتستشعرها الأنفس من خلالها، إنما تلك المداورة مخبثة أخلاقية شرها أبلغ من شر المصارحة فهي أحرى بترتيب حكم القانون".
6) في عام 1947، أصدرت محكمة جنايات مصر حكماً يقضي ببراءة صحفي اتهم بسب رئيس الوزراء في مقال نشره في جريدة الوفد المصري قال فيه "إن رئيس الوزراء ذو ماضٍ أثيم، وأنه مفرط في حقوق المواطنين، ومتآمر مع الإنجليز ومزيف لإدارة الشعب"، كما قال في مقال آخر بعنوان "الباشوات الرسميون": "إنه- أي رئيس الوزراء- يستخدم نفوذه بحكم مركزه السياسي لخدمة الشركات على حساب الشعب". وقد جاء في حيثيات الحكم الذي قضت محكمة الجنايات به "إن المقال الأول يبدو من سياق عبارته أن المتهم ضمنه نقداً لسياسة المفاوض المصري واستهجانه لعدم تمسكه بجميع المطالب المصرية، مستخدماً ألفاظاً عنيفة ليبرز بها رأيه في علة انقطاع المفاوضات... وأن هذه الألفاظ لا يقصد بها السب، بل هي نقد لموقف خصم سياسي إزاء سياسة البلاد ومصلحتها العليا التي توجب أن يدلي كلٌ برأيه في المسائل العامة التي تمس كيان الجماهير بألوانها وأن الكاتب لا يحاسب على نظره وتقديره لموقف غيره من الرجال العموميين ما دام هذا النقد للمصلحة العامة ولم يقصد منه مجرد القدح وأنه ذكر بحسن نية لعدم قيام ما يدعو المتهم إلى سبه والتشهير به. وأما المقال الثاني، فإنه نقد بناه المتهم على أن معظم الشركات الموجودة بمصر يملكها عدد قليل من الأجانب، وأن أفراداً قلائل من بينهم رئيس الوزراء المقذوف يستأثرون بعضوية مجالس إداراتها وأنه يعلل به موقف المقذوف من قانون الشركات، وأن هذا المقال بذلك قد تضمن الدليل المثبت للوقائع التي استخلص منها الكاتب تعليقاته وعباراته فتكون من قبيل النقد المباح الذي وجهه الكاتب بحسن نية للمجني عليه بصدد السياسة المالية للبلاد". أما النائب العام، فقد طعن في حكم البراءة الذي أصدرته محكمة جنايات مصر، غير أن محكمة النقض المصرية رفضت طعن النائب العام في 15/6/1947.
7) في عام 1948، كتب صحفي مقالاً بعنوان "صحيفة سوابق المفاوض المصري" وصف فيه عهد صدقي باشا بأنه: "اشتهر بحوادث التعذيب وانتشرت فيه رائحة الفضائح التي تمس نزاهة الحكم"، كما وصف حسين هيكل باشا بأنه "بنطلون كل وزارة ومسؤول عن كل فضائحها وتصرفاتها"، ووصف محمود النقراشي باشا بأنه "اشترته الرجعية الإنجليزية وإنه صاحب اليد الطولى في تزوير انتخابات عام 1948"، ووصف علي ماهر باشا بأنه "كان ولا يزال المتآمر الأول بين الرجعيين المصريين على النظام الديمقراطي"، ووصف حسين سري باشا بأنه "رئيس الوزراء الوحيد الذي هاجت الجماهير الجامحة في عهده بسبب إسرافه في تملق السادة الإنجليز، وأنه صاحب المناورات الحقيقية لإبعاد الشعب عن الحكم". في 2/5/1946، برأت محكمة جنايات مصر الصحفي في حكم جاء في حيثياته أن "جميع ما ذكره لا يخرج عن حدود النقد المباح، إذ لم يتدخل في الشؤون الخاصة للمجني عليهم، بل كان محور مقاله إظهار الأعمال العمومية لكل من حضرات المجني عليهم، فإذا كان قد قسى في لهجة واشتد في عباراته فقد كان رائد المصلحة العامة. وعليه، فإن سوء النية غير متوفر". لكن المدهش أن النيابة العامة قد طعنت في حكم البراءة الصادر عن محكمة الجنايات، غير أن محكمة النقض رفضت طعن النيابة العامة، حيث قالت في حيثيات حكمها برفضه: "إنه بغض النظر عما جاء في الحكم المطعون فيه بصدد القصد الجنائي، فقد تضمن في الوقت ذاته ما يفيد أن المتهم كان فيما نسبه إلى المجني عليهم في الحدود المرسومة في القانون، للنقد الذي لا عقاب عليه".
8) وفي عام 1965، رفضت محكمة النقض المصرية طعن مدير الأدوية في وزارة الصحة المصرية على الحكم الذي كانت محكمة جنح بولاق قد أصدرته ببراءة صحفي يعمل في جريدة "أخبار اليوم"، حيث نشر مقالاً نسب فيه استخدام مدير الأدوية في وزارة الصحة وسائل احتيال للسفر إلى الخارج، قاصداً النزهة بزعم استيراده للأدوية. وقد سافر ولكنه استورد أدوية فاسدة ولا تصلح للاستخدام الآدمي. وقد رددت المحكمة في قضائها ما خلاصته أن سند إباحة حق النقد هو استعمال الحق وما يقتضيه من وجوب توافر الشروط العامة لهذا الاستعمال ومنها صحة الواقعة أو الاعتقاد بصحتها وطابعها الاجتماعي لتحقيق المصلحة الاجتماعية التي تقوم عليها تلك الإباحة، ذلك لأن المجتمع لا يستفيد من نشر خبر غير صحيح أو نقد يقوم على تزييف الحقائق وتشويهها أو يتناول واقعة تمس الحياة الخاصة لشخص معين ولا يهم المجتمع في شيء. كذلك، فإنه يشترط لإباحة هذا الحق موضوعية العرض واستعمال العبارة الملائمة بأن يقتصر الصحفي أو الكاتب الناقد على نشر الخبر أو توجيه النقد بأسلوب موضوعي، فلا يلجأ إلى أسلوب السخرية والتهكم، أو يستعمل عبارات توحي لقارئه بمدلول مختلف أو غير ملائم أو أقسى من القدر المحدود الذي يقتضيه عرض الواقعة أو التعليق عليها، وفي ذلك قالت محكمة النقض المصرية: "إنه وإن كان للناقد أن يشتد في نقد أعمال خصومة ويقسو عليهم ما شاء، ألا أن ذلك كله يجب ألا يتعدى حد النقد المباح، فإذا خرج ذلك إلى حد الطعن والتشهير والتجريح فقد حقت كلمة القانون عليه. أما ملاءمة العبارة فمعناها ثبوت ضرورتها لتعبير الناقد عن رأيه بحيث يبين بأنه لو كان استعمل عبارات أقل عنفاً، فإنه فكرته لم تكن لتحظى بالوضوح الذي يريده وأن رأيه لن يكون له التأثير الذي يهدف إليه. أما قاضي الموضوع فهو صاحب السلطة المطلقة في تقدير التناسب بين العبارة من حيث شدتها وبين الواقعة موضوع النقد من حيث أهميتها الاجتماعية. هذا، ويشترط للإباحة حسن النية ويعني أن يكون الهدف من نشر الخبر أو توجيه النقد هو تحقيق مصلحة المجتمع لا التشهير والانتقام.
9) "ملعون أبو المحافظ" هو عنوان لمقالة تهكمية ساخرة نشرها في صحيفة "المسلة" المصرية الكاتب الساخر، بيرم التونسي، الذي كتب يقول: "بينما كنت أمشي في شارع الأزهر بالقاهرة احتك بي نشال ولهف المحفظة التي في جيبي. ولما اكتشفت السرقة هتفت من أعماقي: "ملعون أبو المحافظ". والسبب أنني كنت قبل ذلك أضع النقود في جيبي، ولكن أحد أصدقائي نصحني باقتناء محفظة لحفظ النقود، فإذا بالنشال اللعين ينشل النقود والمحفظة، وهذا هو السبب الذي جعلني أصرخ "ملعون أبو المحافظ". جراء ما كتب، فقد خضع بيرم للمحاكمة حيث وجهت له تهمة القذف، إلا أن محكمة الجنايات أصدرت حكمها ببراءته من تهمة السب والقذف لأن ظاهر كلامه لا يدلل على توفر القصد الجنائي لديه، ولأن نص كلامه لا يوحي بأنه يقصد مُحافظ العاصمة، ولكنه سب المَحافظ (بفتح الميم) والتي تعني جمع محفظة التي سرقها النشال وفيها النقود، وليس المُحافظ (بضم الميم) والتي تعني المحافظ المسؤول الإداري والقانوني عن مدينة القاهرة.
وبعد، فإن تلك المؤسسة التي أودع أربابها شكاوى كيدية ضد ذلك الزميل بدعوى قذفهم وقدحهم والإساءة إليهم والتشهير بهم، حَرِيٌّ بها وبرؤسائها أن يفهموا قبل غيرهم-وأكثر من سواهم- أن حرية الكلام والتعبير والتفكير والنشر والإعلام إنما هي أم الحريات وأولها، وحَرِيٌّ بهم أيضاً أن يعرفوا كيف يفرقون بين ما هو مباح في النقد وما هو محظور، فضلاً عما هو مستثنى من المؤاخذة، الأمر الذي ينبغي له أن يدفعهم إلى الاطلاع النابه على قانون العقوبات الفلسطيني 74/ 1936، وكذلك على قضاء محكمة النقض المصرية، لا سيما فيما يتصل بقضايا الرأي والفكر والتعبير والنشر.
أما آخر الكلام، فكيف يمكن للمثقف والأكاديمي والباحث والصحفي والمفكر والإعلامي والأستاذ الجامعي أن يكتب منطلقاً من ضميره الإنساني ووعيه السياسي وحسه الوطني في ذات الوقت الذي يتوقع فيه في كل لحظة أن ما يكتبه سوف يفتح له باب السجن واسعاً على مصراعيه؟! وهل للمثقفين الذين يكتبون وينتقدون أن يكسروا أسلات أقلامهم؟! وهل ما عاد لهم إلا أن يفتشوا عن صنعة أخرى؟! أم هل يطل علينا زمن قريب يكون فيه الكاتبون والأدباء والناقدون والعلماء والفنانون أكثر صلابة وشجاعة وجرأة وشموخاً، فيما يكون القانون هو السيد حيث تقضي المحاكم بمقتضى قضاء سامق ومستقل؟!
الصالح العام وقارص الكلم عند قضاءٍ سَامِق ملتزم بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان كاتب وأكاديمي فلسطيني جامعة الأزهر بغزة
علمت أن زميلاً أودِعَتْ ضده شكاوى من أرباب عمله يتهمونه فيها بقذفهم وقدحهم والإساءة إليهم والتشهير بهم. بغير كثير من المتابعة، فهمت أن هذا الزميل غير راضٍ عن سلوك أرباب عمله، فعبّر عن معارضته لهم وعدم رضاه عن أسلوب إدارتهم للمؤسسة التي يعمل فيها بالقول وليس بالفعل. عبّر الزميل عن رأيه بطريقة واضحة ومباشرة وصريحة، فكان رأيه ونقده من الوضوح والصراحة والمباشرة على نحو لم يستطع أرباب عمله احتماله فاعتبروه وكأنه قد هتك حجاب الشمس فأرادوا تغييبه وراءها (أي وراء الشمس) كما يقولون. كادوا له كيداً دفعهم- من خلال وصايا مستشاريهم- إلى أن يودعوا ضده شكاوى تتهمه بالإساءة إليهم والتشهير بهم عبر قذفهم وقدحهم، وهو ما أنوي الحديث عنه في هذا المقال، مركزاً على حرية الرأي والتعبير والإعلام ضمن ما يعرف بـ "جرائم النشر". صحيح أن المعارضين والمنتقدين والمخالفين لطالما واجهوا مصاعب وعراقيل وعقوبات أو جزاءات بسبب آرائهم أو أفكارهم، سواء عبروا عنها بصراحة تعني المواجهة أو بطريقة التفافية غير مباشرة ليأمنوا من خلالها بطش السلطان ويتجنبوا عقوبة القانون، ولكن ملفات القضاء عالي المنزلة تطفح بقضايا الرأي والكلام والصحافة والإعلام، وهو ما أجدني الآن راغباً في الإشارة إلى بعض منها على سبيل المثال لا الحصر، استناداً إلى ما قرأته لكثيرين من بينهم السيد أحمد عز الدين وللمستشار هشام البسطويسي، نائب رئيس محكمة النقض المصرية. 1) في 6/11/1924 أصدرت محكمة النقض المصرية حكمها بنقض حكم كانت محكمة جنايات مصر قد أصدرته بمعاقبة صحفي تمت إدانته بتهمة إهانة مجلس النواب والشيوخ في مقال نشره ووصف فيه فريق الأغلبية في المجلسين بأنه "يعبد الحكومة ولا يحب الوطن، وأنه عبد لشهواته، وأنه جائع منحط، وأن وظيفته التهام الوطن، وأنه محب للمال، ومن السهل استرضاؤه، وأنه غير حريص على مصلحة الوطن، وأنه ######## وكذاب وعديم الفهم وقصير النظر". وفوق ذلك، فقد وصف رئيس مجلس النواب بأنه "جاهل لا يدري عمله، وأنه لا إرادة له". أصدرت محكمة النقض حكمها القاضي بنقض حكم الإدانة الذي كانت محكمة جنايات مصر قد أصدرته ضد هذا الصحفي. وهكذا برأت محكمة النقض ذلك الصحفي، نظراً لعدم توفر القصد الجنائي عنده. وقد رأت محكمة النقض أن تبحث جميع ظروف الدعوى، ما أعانها على التوصل إلى أن قصد الصحفي ناشر المقال إنما كان من أجل تحقيق الصالح العام للبلاد وليس إحداث الضرر للأشخاص المقذوفين.
2) في 2/3/1926، أصدرت محكمة النقض المصرية حكماً يقضي بنقض حكم كان قد صدر بإدانة صحفي في تهمة إهانة رئيس الوزراء لنشره مقالات وصف فيها رئيس الوزراء بالجهل وقصر النظر وانعدام الذكاء والفطنة، كما وصف فيها أعضاء مجلس النواب بالانحطاط والدناءة والطمع والجشع. وقد نقضت محكمة النقض الحكم القاضي بإدانة الصحفي فأصدرت حكمها ببراءته، حيث اعتبرت كلامه نوعاً من النقد، قائلة في حيثيات حكمها: "إنه وإن يكن الصحفي قد استعمل في النقد شيئاً كثيراً من الشدة وقوارص الكلم، إلا أنها (أي الشدة في النقد) جاءت من باب المبالغة والرغبة في التشهير بالفعل في ذاته كما هي خطة المتهم في كتاباته المستفادة من عبارته من المبالغة في المقال".
3) وفي عام 1928 ، نقضت محكمة النقض المصرية حكماً بإدانة صحفي بإهانة وسب رئيس مجلس النواب وأحد الوزراء حين وصفه "بأنه وحماره يتراكبان، فمرة يكون إلى أعلى وأخرى إلى أسفل". كانت محكمة الجنايات قد أصدرت حكمها بإدانة الصحفي لأنها رأت في ما قاله في المقذوفين دليلاً على توفر القصد الجنائي في السب والإهانة، غير أن محكمة النقض المصرية قضت بنقض حكم الإدانة لأنها قدرت أنه من الخطأ افتراض سوء القصد والنية لمجرد ذكر هذه الأوصاف. ففي كثير من القضايا المشابهة لهذه القضية، رأت محكمة النقض أنه- في جرائم النشر الصحفي- لا يكفي القصد الجنائي العام الذي يكفي في نفس الجرائم إذا وقعت في وسائل غير الصحف، ولكنها اشترطت للإدانة ثبوت فعلي بأن القصد من النشر ليس النفع العام، وإنما الإضرار بالمقذوف، وذلك تأسيساً على أن المتهم- حتى وإن استخدم أوصافاً شديدة وفظة وعنيفة- فإنه يبقى في نطاق حقه في ممارسة النقد دونما قصدية منه للإضرار الشخصي بالمقذوف.
4) في عام 1926، وصف الدكتور/ محمد حسين هيكل سعد زغلول- الذي هو رئيس الوزراء آنذاك وزعيم الأمة بلا منازع- بالخائن واتهمه بممالأة الإنجليز والاتفاق سراً على تقديم تنازلات عن حقوق مصر والمصريين. لكن محكمة جنايات القاهرة برأته في حكم جاء في حيثياته: "إنه بالاطلاع على تلك المقالات، فإنها نسبت لرئيس الوزراء ممالأة الإنجليز وملاينتهم وملاطفتهم والاتفاق معهم، ولا ترى المحكمة في تلك العبارة ما يمكن اعتباره ماساً بكرامة رئيس الحكومة باعتباره من رجال السياسة المعرضة أعمالهم بحكم طبيعة وظائفهم للنقد السياسي".
5) في 27/2/1933، وفيما يتعلق بالرقابة على تفسير الأوراق والمحررات، فقد استقر قضاء محكمة النقض على أن "لها في جرائم النشر حق تقدير مرامي العبارات التي يحاكم عليها الناشر من ناحية أن لها بمقتضى القانون تصحيح الخطأ في التطبيق القانوني على الواقعة بحسب ما هي منبثقة في الحكم، وبأن لها الحق في الاطلاع على المقال موضوع الاتهام وتحديد معنى ألفاظه لمعرفة ما إذا كان المقصود منه تحقيق النفع العام أو مجرد الإضرار بالأشخاص المقذوفين. وعلى ذلك، فقد استقر قضاء محكمة النقض على أن استعمال قارص الكلم بدافع الحرص على المصلحة العامة هو أمر مباح ويستثنى من المؤاخذة. أما فيما يتصل بالأسلوب الالتفافي والمداورة في تفسير العبارة، فقد قضت محكمة النقض المصرية بأن "المداورة في الأساليب الإنشائية بفكرة الفرار من حكم القانون لا نَفْعَ فيها للمداور ما دامت الإهانة تتراءى للمطلع خلف ستارها وتستشعرها الأنفس من خلالها، إنما تلك المداورة مخبثة أخلاقية شرها أبلغ من شر المصارحة فهي أحرى بترتيب حكم القانون".
6) في عام 1947، أصدرت محكمة جنايات مصر حكماً يقضي ببراءة صحفي اتهم بسب رئيس الوزراء في مقال نشره في جريدة الوفد المصري قال فيه "إن رئيس الوزراء ذو ماضٍ أثيم، وأنه مفرط في حقوق المواطنين، ومتآمر مع الإنجليز ومزيف لإدارة الشعب"، كما قال في مقال آخر بعنوان "الباشوات الرسميون": "إنه- أي رئيس الوزراء- يستخدم نفوذه بحكم مركزه السياسي لخدمة الشركات على حساب الشعب". وقد جاء في حيثيات الحكم الذي قضت محكمة الجنايات به "إن المقال الأول يبدو من سياق عبارته أن المتهم ضمنه نقداً لسياسة المفاوض المصري واستهجانه لعدم تمسكه بجميع المطالب المصرية، مستخدماً ألفاظاً عنيفة ليبرز بها رأيه في علة انقطاع المفاوضات... وأن هذه الألفاظ لا يقصد بها السب، بل هي نقد لموقف خصم سياسي إزاء سياسة البلاد ومصلحتها العليا التي توجب أن يدلي كلٌ برأيه في المسائل العامة التي تمس كيان الجماهير بألوانها وأن الكاتب لا يحاسب على نظره وتقديره لموقف غيره من الرجال العموميين ما دام هذا النقد للمصلحة العامة ولم يقصد منه مجرد القدح وأنه ذكر بحسن نية لعدم قيام ما يدعو المتهم إلى سبه والتشهير به. وأما المقال الثاني، فإنه نقد بناه المتهم على أن معظم الشركات الموجودة بمصر يملكها عدد قليل من الأجانب، وأن أفراداً قلائل من بينهم رئيس الوزراء المقذوف يستأثرون بعضوية مجالس إداراتها وأنه يعلل به موقف المقذوف من قانون الشركات، وأن هذا المقال بذلك قد تضمن الدليل المثبت للوقائع التي استخلص منها الكاتب تعليقاته وعباراته فتكون من قبيل النقد المباح الذي وجهه الكاتب بحسن نية للمجني عليه بصدد السياسة المالية للبلاد". أما النائب العام، فقد طعن في حكم البراءة الذي أصدرته محكمة جنايات مصر، غير أن محكمة النقض المصرية رفضت طعن النائب العام في 15/6/1947.
7) في عام 1948، كتب صحفي مقالاً بعنوان "صحيفة سوابق المفاوض المصري" وصف فيه عهد صدقي باشا بأنه: "اشتهر بحوادث التعذيب وانتشرت فيه رائحة الفضائح التي تمس نزاهة الحكم"، كما وصف حسين هيكل باشا بأنه "بنطلون كل وزارة ومسؤول عن كل فضائحها وتصرفاتها"، ووصف محمود النقراشي باشا بأنه "اشترته الرجعية الإنجليزية وإنه صاحب اليد الطولى في تزوير انتخابات عام 1948"، ووصف علي ماهر باشا بأنه "كان ولا يزال المتآمر الأول بين الرجعيين المصريين على النظام الديمقراطي"، ووصف حسين سري باشا بأنه "رئيس الوزراء الوحيد الذي هاجت الجماهير الجامحة في عهده بسبب إسرافه في تملق السادة الإنجليز، وأنه صاحب المناورات الحقيقية لإبعاد الشعب عن الحكم". في 2/5/1946، برأت محكمة جنايات مصر الصحفي في حكم جاء في حيثياته أن "جميع ما ذكره لا يخرج عن حدود النقد المباح، إذ لم يتدخل في الشؤون الخاصة للمجني عليهم، بل كان محور مقاله إظهار الأعمال العمومية لكل من حضرات المجني عليهم، فإذا كان قد قسى في لهجة واشتد في عباراته فقد كان رائد المصلحة العامة. وعليه، فإن سوء النية غير متوفر". لكن المدهش أن النيابة العامة قد طعنت في حكم البراءة الصادر عن محكمة الجنايات، غير أن محكمة النقض رفضت طعن النيابة العامة، حيث قالت في حيثيات حكمها برفضه: "إنه بغض النظر عما جاء في الحكم المطعون فيه بصدد القصد الجنائي، فقد تضمن في الوقت ذاته ما يفيد أن المتهم كان فيما نسبه إلى المجني عليهم في الحدود المرسومة في القانون، للنقد الذي لا عقاب عليه".
8) وفي عام 1965، رفضت محكمة النقض المصرية طعن مدير الأدوية في وزارة الصحة المصرية على الحكم الذي كانت محكمة جنح بولاق قد أصدرته ببراءة صحفي يعمل في جريدة "أخبار اليوم"، حيث نشر مقالاً نسب فيه استخدام مدير الأدوية في وزارة الصحة وسائل احتيال للسفر إلى الخارج، قاصداً النزهة بزعم استيراده للأدوية. وقد سافر ولكنه استورد أدوية فاسدة ولا تصلح للاستخدام الآدمي. وقد رددت المحكمة في قضائها ما خلاصته أن سند إباحة حق النقد هو استعمال الحق وما يقتضيه من وجوب توافر الشروط العامة لهذا الاستعمال ومنها صحة الواقعة أو الاعتقاد بصحتها وطابعها الاجتماعي لتحقيق المصلحة الاجتماعية التي تقوم عليها تلك الإباحة، ذلك لأن المجتمع لا يستفيد من نشر خبر غير صحيح أو نقد يقوم على تزييف الحقائق وتشويهها أو يتناول واقعة تمس الحياة الخاصة لشخص معين ولا يهم المجتمع في شيء. كذلك، فإنه يشترط لإباحة هذا الحق موضوعية العرض واستعمال العبارة الملائمة بأن يقتصر الصحفي أو الكاتب الناقد على نشر الخبر أو توجيه النقد بأسلوب موضوعي، فلا يلجأ إلى أسلوب السخرية والتهكم، أو يستعمل عبارات توحي لقارئه بمدلول مختلف أو غير ملائم أو أقسى من القدر المحدود الذي يقتضيه عرض الواقعة أو التعليق عليها، وفي ذلك قالت محكمة النقض المصرية: "إنه وإن كان للناقد أن يشتد في نقد أعمال خصومة ويقسو عليهم ما شاء، ألا أن ذلك كله يجب ألا يتعدى حد النقد المباح، فإذا خرج ذلك إلى حد الطعن والتشهير والتجريح فقد حقت كلمة القانون عليه. أما ملاءمة العبارة فمعناها ثبوت ضرورتها لتعبير الناقد عن رأيه بحيث يبين بأنه لو كان استعمل عبارات أقل عنفاً، فإنه فكرته لم تكن لتحظى بالوضوح الذي يريده وأن رأيه لن يكون له التأثير الذي يهدف إليه. أما قاضي الموضوع فهو صاحب السلطة المطلقة في تقدير التناسب بين العبارة من حيث شدتها وبين الواقعة موضوع النقد من حيث أهميتها الاجتماعية. هذا، ويشترط للإباحة حسن النية ويعني أن يكون الهدف من نشر الخبر أو توجيه النقد هو تحقيق مصلحة المجتمع لا التشهير والانتقام.
9) "ملعون أبو المحافظ" هو عنوان لمقالة تهكمية ساخرة نشرها في صحيفة "المسلة" المصرية الكاتب الساخر، بيرم التونسي، الذي كتب يقول: "بينما كنت أمشي في شارع الأزهر بالقاهرة احتك بي نشال ولهف المحفظة التي في جيبي. ولما اكتشفت السرقة هتفت من أعماقي: "ملعون أبو المحافظ". والسبب أنني كنت قبل ذلك أضع النقود في جيبي، ولكن أحد أصدقائي نصحني باقتناء محفظة لحفظ النقود، فإذا بالنشال اللعين ينشل النقود والمحفظة، وهذا هو السبب الذي جعلني أصرخ "ملعون أبو المحافظ". جراء ما كتب، فقد خضع بيرم للمحاكمة حيث وجهت له تهمة القذف، إلا أن محكمة الجنايات أصدرت حكمها ببراءته من تهمة السب والقذف لأن ظاهر كلامه لا يدلل على توفر القصد الجنائي لديه، ولأن نص كلامه لا يوحي بأنه يقصد مُحافظ العاصمة، ولكنه سب المَحافظ (بفتح الميم) والتي تعني جمع محفظة التي سرقها النشال وفيها النقود، وليس المُحافظ (بضم الميم) والتي تعني المحافظ المسؤول الإداري والقانوني عن مدينة القاهرة.
وبعد، فإن تلك المؤسسة التي أودع أربابها شكاوى كيدية ضد ذلك الزميل بدعوى قذفهم وقدحهم والإساءة إليهم والتشهير بهم، حَرِيٌّ بها وبرؤسائها أن يفهموا قبل غيرهم-وأكثر من سواهم- أن حرية الكلام والتعبير والتفكير والنشر والإعلام إنما هي أم الحريات وأولها، وحَرِيٌّ بهم أيضاً أن يعرفوا كيف يفرقون بين ما هو مباح في النقد وما هو محظور، فضلاً عما هو مستثنى من المؤاخذة، الأمر الذي ينبغي له أن يدفعهم إلى الاطلاع النابه على قانون العقوبات الفلسطيني 74/ 1936، وكذلك على قضاء محكمة النقض المصرية، لا سيما فيما يتصل بقضايا الرأي والفكر والتعبير والنشر.
أما آخر الكلام، فكيف يمكن للمثقف والأكاديمي والباحث والصحفي والمفكر والإعلامي والأستاذ الجامعي أن يكتب منطلقاً من ضميره الإنساني ووعيه السياسي وحسه الوطني في ذات الوقت الذي يتوقع فيه في كل لحظة أن ما يكتبه سوف يفتح له باب السجن واسعاً على مصراعيه؟! وهل للمثقفين الذين يكتبون وينتقدون أن يكسروا أسلات أقلامهم؟! وهل ما عاد لهم إلا أن يفتشوا عن صنعة أخرى؟! أم هل يطل علينا زمن قريب يكون فيه الكاتبون والأدباء والناقدون والعلماء والفنانون أكثر صلابة وشجاعة وجرأة وشموخاً، فيما يكون القانون هو السيد حيث تقضي المحاكم بمقتضى قضاء سامق ومستقل؟!
|
|
|
|
|
|