|
طبقية الحكم بين السادية والمازوخية/ د.أمل الكردفاني
|
"جميع الحيوانات متساوية .. ولكن بعضها أكثر مساواة من الآخرين"
دستور "مزرعة الحيوان" (جورج أورويل – 1944م)
* الإسقاطات النفسية عند الطبقات الحاكمة ال########ة :
من هم أعداء ماوتسي تونج ؟ لكي نعرف الإجابة علينا أن نعود القهقرى إلى ميلاد ماو ، فهو ابن الفلاح الفقير ، الذي عانى معاناة كبيرة حتى استطاع أن يختلط بالطبقة الوسطى من خلال دراسته في الجامعة ، ثم وصل بعدها إلى الحكم عبر السلاح . نعم استطاع ماو أن ينتصر على مأساة فقره مادياً ، لكن مأساته المعنوية ظلت تنتصر عليه وظل ماضيه البائس يلاحقه ، إن الشعور بالدونية الذي لاحق ماو كان الدافع (اللا شعوري) ضد الطبقات الأعلى ، ولذلك كتب في تحليلٍ لطبقات المجتمع الصيني عام 1926:
"أعداؤنا هم الطبقة الوسطى وطبقة المثقفين" . ثم أضاف طبقات أخرى ، أعلى ، وهو أيضاً (وبشعور الدونية الطاغي) رفع من طبقة الفلاحين التي ينتمي إليها والده فأسماها (البرجوازية الصغيرة) ، أي أنه ورغم علمه بأن طبقة الفلاحين ليست برجوازية ولا صغيرة ، إلا أنه لم يشأ أن يسبغ على نفسه درجة البروليتاريا . هذه الإنتقاصات النفسية أثرت على ماو وهو يقوم بتقسيم الطبقات كما يحلو له ، بل بلغ به حقده الشديد على طبقة المثقفين والبرجوازية أن قام بعمل بالغ الخطورة ، فقد أجبر المحامين والأطباء والمهندسين على العمل كفلاحين وفي تكسير الجبال (إنتقاماً نفسياً مُسَبَّباً بتبريراتٍ أيدولوجية) ، وأدى ذلك بالمقابل إلى بداية إنهيار الصين حتى جاءت عملية الإصلاح التي قادها "دينج" .
إن خطورة تولِّي الطبقات ال########ة للحكم أكثر رُعباً – في نظري- من جائحة طاعون كاسح يبيد الأخضر واليابس ، فالطبقات ال########ة لا تصل إلى الحكم إلا وهي محملة برواسبها التاريخية والنفسية والإجتماعية ، فالكره لطبقة الإنتلجنسيا أو البرجوازية أو حتى الطبقة الأرستقراطية راسخ في أعماق اللا وعي (العقل الباطن) ، والشعور بالدونية يؤثر في سياسات الحكام بشكل واضح ، ونحن ومن خلال هذا المقال سنرى بعض هذه التأثيرات على الحكم في السودان ، كما يلي :
أولاً: الإسقاطات النفسية البنائية والتدميرية :
سنبدأ أولاً ببائع الحليب الذي كان ووالده وإخوته يعملون أُجَراء في مزرعة ذلك اليهودي المسمى بكافوري ، وكان بائع الحليب من الموالين (أموياً) لقبيلة الجعليين بحوش بانقا ، وهي قرية بدائية كان أهلها وحتى قبل سنوات قليلة يتغوطون في الخلاء ، وبؤساء ، استطاع بائع الحليب أن يترقى في الجيش ثم لينقض على السلطة بليل. وهكذا فجأة تحول من طبقة ########ة إلى رئيس للدولة ليتغوط لأول مرة في حمام حديث، غير أن هذا التغيير الإيجابي لم يستطع أن يمحو الماضي ، وكان عليه أن يستعين بإسقاطاته النفسية البنائية ، فأخذ يبني على مزارع اليهودي (كفوري) قصوراً لأهله . فلماذا تخير هذا المكان رغم أن أرض الله واسعة ورغم أن الأراضي من الدرجة الأولى متوفرة وبكثرة؟ لا يحتاج السؤال إلى إجابة .
غير أنه وإذا كانت الإسقاطات النفسية لدى البشير بنائية ، فإن الإسقاطات النفسية لدى نائبه لم تكن كذلك ؛ بل كانت تدميرية بالكامل ، فالنائب الأول للرئيس كان والده يعمل حارساً بحديقة الحيوان ، ولم يكن هذا الماضي شفيعاً لهذه الحديقة العتيقة التي تعتبر من أقدم وأضخم حدائق الحيوان في أفريقيا ، بل كان هذا الماضي يعمق شعور النائب الرئاسي بالدونية والنقص ، فما قضى برهة حتى دمر حديقة الحيوان التاريخية هذه وترك أرضها لاستثمارات معمر القذافي .
أما ابن الجزار (مستشار الرئيس) ، فهو لم يستطع كبح روائح الدم التي اعتاد اشتمامها مع والده إلا أنه ترقى من جزار للبهائم إلى جزار للبشر ، قام نافع علي نافع بعمليات تعذيب بربرية وهمجية ، وحالات اغتصاب همجية لم تتوقف على النساء بل شملت الشباب من الرجال ، وخاصة من زملائه وأساتذته في الجامعة من أبناء الناس المحترمين ، يحكي الدكتور فاروق محمد إبراهيم استاذ العلوم بجامعة الخرطوم في رسالته التي بعث بها إلى البشير قائلاً :
" إن ما يميز تجربة التعذيب الذي تعرضت له في الفترة من 30 نوفمبر إلى 12 ديسمبر 1989م ببيت الأشباح رقم واحد الذي أقيم في المقر السابق للجنة الانتخابات أن الذين قاموا به ليسوا فقط أشخاصا ملثمين بلا هوية تخفوا بالأقنعة, وإنما كان على رأسهم اللواء بكري حسن صالح وزير الدفاع الراهن ورئيس جهاز الأمن حينئذ, نافع علي نافع الوزير ورئيس جهاز حزب المؤتمر الوطني الحاكم اليوم ومدير جهاز الأمن حينئذ" .
ثم حكى الدكتور مستطرداً قصة عملية الإغتصاب التي طالت أحد الشباب في بيت الأشباح قائلا للبشير بشجاعة لم تعد متوفرة في رجال هذا الزمان الكيزاني الخنزيري :
" إلا أن الواجب يقتضي أن أدرج حالة موظف وزارة الإسكان السابق المهندس بدر الدين إدريس التي كنت شاهداً عليها, وكما جاء في ردي على دعوة نائب رئيس المجلس الوطني المنحل الأستاذ عبدالعزيز شدو للمشاركة في حوار التوالي السياسي بتاريخ 18 أكتوبر 1998 (مرفق), فقد تعرض ذلك الشاب لتعذيب لا أخلاقي شديد البشاعة, ولم يطلق سراحه إلا بعد أن فقد عقله وقام بذبح زوجته ووالدها وآخرين من أسرته. كان في ثبات وصمود ذلك الشاب الهاش الباش الوسيم الأسمر الفارع الطول تجسيد لكرامة وفحولة وعزة أهل السودان. وكان أحد الجنود الأشد قسوة - لا أدري إن كان اسم حماد الذي أطلق عليه حقيقياً- يدير كرباجه على رقبتينا وجسدينا نحن الاثنين في شبق. وفي إحدى المرات اخرج بدرالدين من بيننا ثم أعيد لنا بعد ساعات مذهولاً أبكم مكتئبا محطما كسير القلب. ولم تتأكد لي المأساة التي حلت بِبَدرالدين منذ أن رأيته ليلة مغادرتنا لبيت الأشباح منتصف ليلة 12 ديسمبر 1989 إلا عند اطلاعي على إحدى نشرات المجموعة السودانية لضحايا التعذيب هذا الأسبوع, ويقتضي الواجب أن أسرد تلك اللحظات من حياته وأنقلها لمن تبقى من أسرته, فكيف بالله نتداول حول الوفاق الوطني بينما تبقى مثل هذه الأحداث معلقة هكذا بلا مساءلة".
وهكذا ؛ تقلد ابن الجزار منصب الجزار العام الحكومي ، وبدأ في عمليات التعذيب المتكررة ، ليخفي شعوره بالدونية ووالنقص عبر إذلال أبناء الأسر المحترمة ، وقد قال نافع في البرنامج التلفزيوني معلقاً على رأي المحامي فاروق أبو عيسى :
"لولا الإنقاذ لما فكَّر شخصٌ مثلك في أن يحكم" .
هو بالتالي ، وبشكل لا واعي ؛ كشف عن كرهه للطبقة الأرستقراطية التي كانت تسيطر على الحكم وهما (آل المهدي) و (آل الميرغني). نعم استطاع نافع أن يرتفع إلى مقام الحكام ولكنه لم يستطع أن يرتفع بمقامه الإجتماعي الذي نشأ عليه . فإذا كانت الإسقاطات النفسية لدى البشير بنائية (كافوري مثالاً) ، فإن الإسقاطات النفسية لدى (نائبه ومستشاره) كانت تدميرية بكل ما تعنيه هذه الكلمة.
ثانياً : التشبه بالطبقة الأرستقراطية :
من آثار الشعور بالدونية والنقص لدى من ينتقلون فجأة من الدرجات الدنيا من الهيراركية الإجتماعية إلى السلطة ، أنهم يحاولون دائماً محو الماضي عبر بناء تمثيلي وتشابهي بالبنية الإرستقراطية ؛فها نحن نرى البشير ونافع وعلي عثمان يتقربون من الأسر الأرستقراطية القديمة ، فهم من يعقدون زيجاتهم ومن يسيرون في أتراحهم ، وهم أيضاً من تتم دعوتهم إلى الولائم ، بل وبلغ الأمر من حالة التقمص الطبقي أن أصبحوا أعضاء في نوادي الأرستقراطيين ، كنادي الفروسية والتنس وخلافه ، وهم من لم يركبوا يوما إلا عربة كارو يقودها حمار أجرب أو في أحسن الفروض بغل أشهب ، ويذكرني هذا بنهاية رواية مزرعة الحيوان التي تعكس واقعنا المشاهد بخير تصوير ، فالخنازير التي استولت على مزرعة الحيوان أخذت تتشبه بعدوها السابق (الإنسان) ؛ فأضحت تسير على رجلين ، وأضطرت لذلك أن تغير الشعار الذي كان سائداً عند الثوار : "الخير في الأقدام الأربعة والسوء في القدمين": إلى :
" الخير في الأقدام الأربعة ، والخير الأكثر في القدمين " .
بل وبلغت حالة تشبه الخنازير بمستعبدها وسيدها وعدوها الأول (الإنسان) مبلغاً بحيث أخذت وجوهها الخنزيرية – في آخر الرواية- تتحول إلى وجه إنسان .
ثالثاً : تأثير الإسقاطات النفسية على قرارات الحكم:
من القصص الطريفة في هذا الموضوع الشيق والذي يستطيع أن يتطور أكثر من ذلك ؛ هو حالة والي ولاية الخرطوم ؛ فهذا الوالي من كسلا ، أبوه فلاح لديه فدادين بالسواقي ، وهو من أصول شايقية ، ومن المعروف أن نساء قبيلة الشايقية كانوا – وإلى وقت قريب- يتعاطون الصعوت (التنمباك) ، وما أن وصل الوالي إلى الحكم حتى منع إصدار تراخيص محلات بيع التنمباك ؛ غير أن هذه ليست هي القضية ؛ فالقضية المضحكة أنه قال :
- التنمباك ما بيشبهنا .
وأترك للقارئ الحصيف تحليل هذا الإعلان الجماهيري .
لكن الأخطر من هذه الواقعة ؛ أن هذه الطبقة ليس لديها خلفية عن إدارة الدولة ؛ فهي تخسر كل علاقاتها الدولية ، ولا تستطيع إدارة هذه العلاقات ، بل تبدأ في فقدانها بل واستعداء الآخرين ، إن المفايهم البدائية التي تأتي بها هذه الطبقات تنعكس على أسلوب الحكم بشكل واضح ، فلقد رأينا كيف أنَّ أول الشعارات البائسة التي خرج لنا بها هؤلاء هو شعار (أمريكا روسيا قد دنا عذابها) ، لم يكن هؤلاء يدركون أن العالم قد تغير وأن جدار برلين قد انهار وأن الإتحاد السوفييتي قد تفكك ، كانوا تائهين ومشوشين . وفي مزحة قيل بأن أحد السفراء الأمريكان سمع البشير يهتف (أمريكيا روسيا قد دنا عذابها ) فلما ترجموا له هذه الكلمات قال السفير ساخراً:
- both of them ?
بعد ذلك انهار هذا الشعار ، وبدأ عذاب البشير ومعه الشعب المسكين ، حتى بعد أن رضخ بالكامل (المازوخية) لكل شروط الأمريكان . ففصل أكثر من ربع مساحة الدولة وسلم أسماء المجاهدين في أفغانستان والعراق والصومال والشيشان للـ (C. I. A) وغير ذلك . ولكن بعد فوات الأوان.
قلت بأن المجتمعات ال########ة عندما تصل إلى السلطة فهي تحمل معها رواسبها الإجتماعية والثقافية والإقتصادية ، ومن ضمن هذه الرواسب ؛ تلك التمايزات العرقية العنصرية التي تخْـفَـتُ وتتضاءل حتى تختفي تماماً بتطور الإنسان المعرفي والإجتماعي من جيل إلى جيل ، إلا أن وصول أصحاب الطبقات ال########ة إلى السلطة لا يؤدي إلى محو هذه المفاهيم بقدر ما يكرسها ويرسخها ، ولذلك فليس من المستغرب أن نسمع مسئولاً يقول : "نحن الأصلاء" أو "الأصيلون" ، ليس من المستغرب أن يتساءل البشير عن قبيلة المحامي الكبير والأمين العام للمحامين العرب فاروق أبو عيسى ، أي أنه يعيِّر فاروق أبو عيسى بكونه ليس من قبائل الشمال بل ممن تطلق عليهم الطبقات ال########ة مسمى الحلب (من المغاربة والأتراك والأقباط والسوريين ..الخ) . هذا في الواقع ليس تقليلاً من مقام فاروق أبو عيسى الإجتماعي فأبو عيسى من أسرة معروفة ومحترمة ، ولم يعمل لا في بيع الحليب ولا حارس حديقة حيوان ولا جزار بل ولا فلاح من قبل . وأساساً ؛ الأسر المحترمة من الطبقة البرجوازية لا تلتفت كثيراً لاختلاف القبائل ، خاصة وأن لها معرفة بتاريخ المجموعات المهاجرة من المغاربة ودورها في نشر الإسلام ، ودور الأتراك في نشر المدنية وبناء الدولة الحديثة ونظم الإدارة ، أو دور الأقباط في التجارة الدولية ..الخ.
قلنا أن التساؤل حول قبيلة هذا او ذاك (في حقيقته النفسية) ليس –بذاته- تقليلاً من شأن المسئول عنه بل في الواقع هو إسقاط نفسي يحاول به أي شخص أن يرفع من قدره المتواضع عبر الحط من قدر الآخرين.
وإثر هذه الرواسب رأينا التعامل مع مشكلة دارفور ؛ حيث تم التمزيق المتعمد للنسيج الإجتماعي في دارفور بدعم قبائل ضد أخرى ، فأهل دارفور -وبحسب العقلية البائسة لأراذل القوم من المسئولين- ليسو سوى (عبيد يقتلون عبيداً) . وهكذا تم تعميق العنف والقتل والاغتصاب والإبادة الجماعية ، غير أن ما فعلوه انقلب عليهم وجعل الله كيدهم في نحرهم ، فأصبحت دارفور شوكة في أدبارهم تمتد حتى حناجرهم. وهاهو البشير يفضحنا أمام العالم أجمعه وهو يحوم بطائرة مستأجرة في السماء ، باحثاً عن مجرد مرور عابر فلا يستطيع إلى ذلك سبيلاً. فاللَّهُمَّ لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا .
رابعاً: أثر تقلد الطبقات ال########ة للحكم على الطبقات الأعلى:
نحن لا نحتاج إلى الكثير من القول لنشرح هذا الأثر فقد أغنانا ماو تسي تونغ عن ذلك ، فما قام به هو ما حدث من البشير ومجموعته ، لقد بدأوا أول ما بدأوا بتدمير الطبقة الوسطى عبر إحالات جماعية للصالح العام ، وخاصة الموظفين من الأسر المرموقة (الطبقة الوسطى) ، وتم تصفية القضاء من جهابذة القانونيين من أبناء الأسر المحترمة ، وتم استبدالهم بأبناء الطبقات ال########ة في المجتمع ، ثم بدأوا بتدمير التعليم بكافة مراحله المدرسية أو الجامعية أو فوق الجامعية ، وذلك لأن التعليم هو أول مغذٍ ومنتج للثقافة و للطبقة المثقفة ، ثم حاولوا بشتى السبل تدمير الطبقة الأرستقراطية ، وبالفعل نجحوا جزئياً مع بعض الأسر وفشلوا مع أخرى ؛هذه الأخيرة كانت قادرة على التماسك في مواجهة الهجمة الشرهة والشرسة من الطبقات ال########ة التي تحركت مسعورة ومسرعة للخروج من أزمتها النفسية وشعورها بالنقص.
ثم تحول الأمر إلى عملية إذلال ممنهجة ، كما حدث لأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والمحامين ...الخ. ولم تسلم منهم حتى طبقة البروليتاريا الكادحة ، فالشعور بالدونية ينتج –في الواقع- رغبة عارمة في إذلال الآخرين (السادية) ، ويشعر صاحب النقص بالكمال كلما أذلَّ الآخرين ، وهو أمر معروف في علم النفس ، فأغلب المجرمين من مغتصبي الأطفال كانوا قد تعرضوا من قبل للإغتصاب ، وهذا ما يدفعهم لعملية إذلال موجه إلى عناصر ضعيفة لتخفيف الشعور بالعار والخزي الملازم لهم عبر السيطرة والقهر للآخرين.
خامساً: المازوخية كمنتَج للشعور بالدونية:
لقد بكى صلاح قوش ؛ هذا الرجل الذي كان يعتبر نفسه الأقوى لتقلده منصب رئيس جهاز الأمن والمخابرات ، بكى كما تبكي النساء بعد اعتقاله ، ليس هذا فحسب ، بل أعلن وللملأ أنه راضخ وعبد للبشير وللحكومة وللحزب الفاشي الحاكم . هذا الرجل الذي أذل الناس ، عذبهم ، اغتصبهم ، وفعل كل ما لا يفعله إنسان مؤمن بالله وبرسوله ، هاهو يبكي ، وهذا نتاج آخر من نتائج الشعور بالدونية ، ففي الواقع ينتجُ هذا الشعور بالنقصِ مُرَكَّباً ما بين سلوكين يبدوان متناقضين (بحسب إيريك فروم) ؛ هما الشعور بالسادية (التعذيب والقتل) والمازوخية (الرضوخ والذلة) . هذا المركب الخنزيري يظهر بوضوح في نفسية صلاح قوش ، الذي بكى كالنساء ، ولم يقف كالرجال بشجاعة مدافعاً عن موقفه ، أخذ يدَّعي المرض في معتقله ، فينقلونه من مشفى لآخر ، حتى يتجنب التعذيب الذي فعله بغيره من قبل . هذه المازوخية نراها في جميع المسئولين في هذا النظام الفاشي ، البطش بالضعيف والخضوع الذليل للقوي ، ويمكننا بالتالي أن نفهم السبب الذي يجعل من هذا النظام باطشاً بمن لا يحملون ضده السلاح في الوقت الذي يرضخ فيه لكل من تقوى شوكته بحمله للسلاح. وفي حين يُعتقل فيه الصحفيون ويعذبوا، ويعتقل فيه الأطباء ويذلوا ، وغيرهم من المطالبين بحقوقهم بشكل سلمي ، والمعبرين عن مجرد آرائهم ، نجد أن النظام يجلس مع من يحمل السلاح بل يهرول نحو من يحمل السلاح ليتفاوض معه. فهل علم عبقري الرواية السودانية الطيب صالح إجابة سؤاله : (من أين أتى هؤلاء؟).
سادساً: الطبقات ال########ة والإغتيالات :
ما أن تصل الطبقات ال########ة بكل رواسبها النفسية للحكم ؛ فإنها لا تستخدم قوة المنطق بقدر ما تسخدم منطق القوة ؛ العنف لدى هذه الطبقات ال########ة وسيلة وغاية في نفس الوقت ، هو قناع يخفي شعورهم بالعجز والنقص والدونية ، وهو غاية بإعتباره لصيقاً بغريزة تدميرية متأصلة في دواخلهم.
عدد الذين تم اغتيالهم منذ وصول البشير إلى السلطة لم يحدث في تاريخ السودان ؛ لقد صاغ الأخ بكري الصائغ مقالاً عدَّد فيه حالات الإغتيال التي تمت في عهد البشير من العقيد بيويو كوان وحتى كوشيب . فبدأ من بيويو كوان ، ثم الزبير محمد صالح ، إبراهيم شمس الدين ، جون قرنق ، كوال دينق مجوك ، محاولة قتل حسني مبارك ، (الأم) عوضية عجبنا ، محمد عبد الباقي ، الطلاب الأربعة في جامعة الجزيرة ، الدكتور علي فضل ، الطالبة التاية بجامعة الخرطوم ، ثم أضاف المعلقون الأفاضل في موقع الراكوبة عدداً آخر ممن تم اغتيالهم في زمن البشير .
يمكن متابعة المقال على هذا الرابط :
http://www.sudaneseonline.com/articles-action-show-id-36272.htm
سابعاً: أراذل القوم ضد أراذل القوم : أو الخنازير ضد الخنازير :
إن المعضلة الحقيقية في حكم الطبقات ال########ة ؛ أن إسقاطهم لا يتم عبر الطبقة البرجوازية كما هو الحال في الدول القائمة على المؤسسات ، وسبب ذلك هو اختلاف لغة التخاطب ، لا يمكن للطبقة المثـقـفة أن تخاطب الرجرجة والدهماء بلسانها لأنها تنحط إلى مستواها الإجتماعي ال######## ، ولا تستطيع الرجرجة والدهماء فهم خطاب البرجوازيين المليئ بالحكمة والمثُل الأفلاطونية ، كالخير والعدل ، والمساواة ...الخ . إن لغة التحاور منعدمة ، فلغة الطبقات ال########ة هي : العنف ، ألحس كوعك ، نخرج لكم العقارب ، ...الخ ، في حين أن لغة البرجوازية والإنتلجنسيا ، هي القانون ، المؤسسات ، الديموقراطية ، الحرية ،...الخ. ونشاهد هنا هذه الهوة بين الخطابين ، ولذلك فإن أغلب الأنظمة التي تحكمها الطبقات ال########ة ، إنما تنتهي بثورة من الطبقات ال########ة نفسها ، وبذات اللغة : (العنف ، القهر ، العنصرية ، السلاح ، التعذيب ، الإبادة الجماعية ..الخ) . وهي لغة الخوف والتخويف ، تدرك هذه الطبقات ، بأن عمليات التعذيب والاغتصاب وخلافه لا يمكنها أبداً أن تلغي قناعات ومواقف الإنتلجنسيا ، فالمواقف تظل ثابتة وراسخة في العقل ، أما مواقف الطبقات ال########ة فهي متغيرة بحسب منطق القوة ، فيمكن حسمها بالسلاح أو استقطابها بالسلطة والمال . وهذه أسهل من تلك.
ثامناً: طبقات الحكم ال########ة والفساد:
أعتقد بأنني لست في حاجة إلى الإستطراد حول هذا الأمر ، فالطبقات ال########ة إنما تستبسل للوصول إلى السلطة كي تقفز فوق جراح ماضيها الإجتماعي. ولا شك بأن همَّها الأوَّل والأخير هو إعلان الإنتصار (عبر المادة) على الطبقـتين البرجوازية والأرستقراطية ، إن الفكرة المحورية لديها هي (التملك) في حين أن الطبقة البرجوازية تتمحور كل حركتها حول فكرة مختلفة تماماً وهي (المعرفة) اكتساباً وإنتاجاً ، إن الطبقة البرجوازية لا تعتمد على المال ولا تحتاج إلى بناء قصور أو تملك السيارات الفارهة لإثبات دورها القيادي في المجتمع ؛ فدورها ينهض من خلال المعرفة والعلم . وحينما تصل الطبقات ال########ة إلى الحكم فإنها تفعل كل شيء ثم تكتشف فجأة بأنها لم تفعل أي شيء بفضل التعرية التي تقودها البرجوازية ؛ لذا فإنها تواجه الطبقة الوسطى بعنف أكبر ، خاصة أن فكرة الملكية هي فكرة تعتمد على السيطرة ، والسيطرة تتأسس قبل كل شيء على العنف ، في حين أن المعرفة تتأسس على إحياء المجتمعات الميتة وبنائها العقلي والإبداعي. وإذ كانت خاصية التملك مشتركة لدى كلٍ من الطبقتين ال########ة والأرستقراطية ؛ إلا أن الطبقة الأرستقراطية تتميز بأنها لا تشعر بدونية تجاه المعرفة بل تتبناها وتحترمها ، لقد كانت عائلة ميديشي هي الرائدة في دعم العلماء حتى أولئك الذين اعتبرتهم الكنيسة مهرطقين. أما الطبقة ال########ة فإنها حتى عندما تتعلم فإن علمها لا يتجاوز آلامها ورواسبها أو كما يقول المثل (القلم ما بزيل بلم)، إلا بعد مرور جيل أو جيلين منذ الآباء ال########ين الأوائل.
إن استشراء الفساد ليس مجرد دناءة ، بل هو حالة إنتقام نفسي تتزايد بواعثها ودوافعها تأجُّجاً وهلعاً بزيادة اكتشاف إنحطاط الذات في مواجهة الشعب . وحينما تكتشف هذه الطبقات انكشاف إنحطاطها الأخلاقي ترغب في تحويل كل الشعب إلى عدو للقيم الأخلاقية النبيلة ؛ كقيم الخير ، الأمانة ، الإخلاص ، الوفاء ...الخ. تعمل هذه الطبقات الحاكمة على تلويث الشعوب بفتح كل أبواب الفساد ، بل وتعظيم المفسدين ودمجهم سياسيا ، وتدجين وترويض المؤلفة قلوبهم لجرهم نحو الفساد الأخلاقي . إن الفساد هنا ليس طبيعياً بل هو فساد مَرَضي ، ولذلك فإن الشرفاء قد يندهشوا كثيراً من البجاحة والشراهة في أكل أموال الفقراء والمساكين بالباطل ، قد يندهشوا بأن هؤلاء ال########ين لا يستحون من إعلان فسادهم بل والغلو فيه غلواً كبيراً . غير أني أقول لهم ؛ لا تندهشوا ، فالأمر هنا ليس حالة إنحطاط أخلاقي محض بل هو خليط من هذا ومن إسقاطات نفسية قديمة أيضاً .
تاسعاً: كيفية إسقاط نظام أراذل القوم :
إنني متشائم جداً في هذه النقطة ، لقد فكرت كثيراً في حمل السلاح والبدء في القتال بإعتباره اللغة الوحيدة المفهومة لدى الطبقة الحاكمة ال########ة ، لكن مع أي طرف؟؟؟؟ هذا هو السؤال الجوهري ؛ فهم كلهم متشابهون ؛ إنني حتى الآن لا أجد سوى صورة كربونية ما بين حاملي السلاح خارج السلطة أو حامليها داخل السلطة ، لو عددت حالات العنف والاغتيالات التي قامت بها هذه الحركات (لأعضائها أنفسهم) لأفنيت عشرات أو مئات الصفحات دون أن تنتهي هذه الحالات ، ناهيك عن أساسها القبلي والعنصري ، أو نوازعها الإستحوازية ، فهم يقتلون بعضهم البعض من أجل مناصب هم الذين يخلقونها فما بالكم إذا وصلوا إلى مناصب دستورية حقيقية. نستطيع أن نتخيل المشهد الدموي الذي سيستغرق الأرض والأفق حينئذٍ.
ولذلك فإن فكرة حملي للسلاح فكرة موجودة لكنها مؤجلة (باعتبارها الخطاب الوحيد والمفهوم) ؛ إلى حين أن تبدأ تحركات وطنية قومية من أبناء الطبقة الواعية الذين ينظرون إلى الدولة من أعلى بنظرة جامعة وشاملة لكافة هذه الشعوب المتناحرة داخل الحدود السياسية التي قدرها الله سبحانه وتعالى لجمع شتاتهم فيها ، إلى الآن لا أرى ضوءً في آخر النفق المظلم ، ولا أستطيع إلا أن أتنبأ بمزيد من العنف والدموية والتعذيب كالذي تعرضت له أو تعرض له غيري أو عمليات الإبادة الجماعية والقتل بدم بارد للأطفال والنساء الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه البلد الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليَّاً واجعل لنا من لدنك نصيراً.
إنني أدعو جميع المستضعفين إلى الدفاع عن حقوقهم بحمل السلاح ضد الظالمين ، فهذا هو الجهاد الحق الذي دعا إليه الدين الإسلامي الحنيف . إن جهاد الفاسدين والفاسقين ، والظالمين ، والعنصريين ، وآكلي مال الحرام والسحت من أموال الفقراء واليتامي والمساكين وبائعات الشاي ...الخ ، لهو بالفعل الجهاد الحقيقي الذي يثيب الله عليه الجنة . صحيح أن الشعب مرهق ، وضعيف ، وأن القوى السياسية السلميَّة هي في الواقع قوى إنتهازية ، وأما القوى المسلحة فهي غوغائية ، إلا أن هذا لا يعني بأن الله لا يسمع شكوى البائسين. أو لا يرى دموع الثكالي واليتامى ، أو لا يشتم رائحة دماء الأبرياء المسفوحة ، أو ينسى اغتصاب الشاب بدر الدين إدريس وصفية أو تعذيبنا وتعذيب غيرنا . إن الله حي لا يموت ويسمع ويرى وهو الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له – فقط- كن ... فيكون .
وإذا كان هؤلاء يظنون بأننا عاجزون في الأرض ، فإنما هم يتوهمون ، إننا فقط في إنتظار الإذن الإلهي بالحركة ، وحين يقضي الله أمراً فلا رآدَّ لقضائه ولا معقِّبِ لحكمه وهو سريع الحساب. وسيعلم المجرمون أي منقلبٍ إليه ينقلبون ، ولينتظروا إنا من المنتظرين .
"وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين" (آل عمران-140).
اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت ، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصفون ، وسلامٌ على المرسلين ، والحمد لله ربِّ العالمين.
د.أمل الكردفاني [email protected]
|
|
|
|
|
|