|
من الزائر المتحدث: كولن باول أم فولتير؟!-الحلقة الثانية
|
الحلقة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم الصحافة السودانية – الأحد 4 يوليو (تموز) 2004 / البيان – دبي
من الزائر المتحدث: كولن باول أم فولتير؟!
محمد أبوالقاسم حاج حمد
كما قلت، لا أود أن انتقص من قدر الجهود الأمريكية والأكاديمية منها بالذات لدراسة المنطقة ومتابعة تطوراتها غير أن الدراسات التي ترتبط بأهداف التغيير الاستراتيجي اجتماعيا وسياسياً وثقافياً بحيث يتم توجيهنا – ولو أمريكياً – نحو العولمة وحقوق المرأة وحتى الطفل ومؤسسات المجتمع المدني والإصلاحات الديمقراطية، وما تناوله "كولن باول". إنما ترتبط – هذه الدراسات – بتخصصات علمية محددة من ناحية وبفهم أعمق نتيجة "خبرات حقلية" من ناحية أخرى. فبمقدور أي إنسان، حتى بائع ما هو "مشطور" في الطريق أن يتحدث عن هذه "المثل" ولكنه لا يستطيع أن يتحدث عن علاقة هذه المثل "بجدل الواقع"، حين تُفرض عليه من خارجه، وتُنقل إلى نسقه من نسق آخر، كما لا يستطيع أن يتحدث عن كيفية إنتاج "جدل الواقع" هذا لقيمه الخاصة في مجرى تطوره الخاص. لا أقول أن خبراء أمريكا يماثلون بائع "المشطور" في الطريق، فقد سبق لأمريكا أن وظفت جهود باحثين مقتدرين لديها لاستيعاب واحتواء الشخصية اليابانية وتكييف ثقافتها أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها، بهدف تحويلها إلى تابع مقلد للحياة الأمريكية (الجديدة وقتها). ومنهم العالمة الاجتماعية "روث بندكت" وكتابها الذي تخيّرت عنوانه من سحر الشرق الياباني" الأقحوان والسيف" و "مارجريت ميد" ومخططها لتوظيف علم "الانثروبولوجيا – الإناسة للسيطرة على الشعوب، ولكن: هل استطاع كل علماء أمريكا وخاصة علماء الاجتماع منهم أن يسبر غور الشخصية العربية وتركيب المنطقة؟! أشك ثم أشك في ذلك كثيراً. ولا ألقى القول جزافاً ولكن بعد إطلاع ومناقشات وندوات، بعضها في "بوسطن" و"شيكاغو" و"واشنطن"، وفي واشنطن بالذات ما كان يديره المعهد العالمي للفكر الإسلامي وعميده الدكتور "طه جابر العلواني" وإلى جانبه البروفسور "منى أبوالفضل". إذ كم كان دكتور العلواني يبدي تعجبه من جهل علماء الاجتماع الأمريكيين بالشخصية العربية وخصائص المنطقة، وكم عارض طوال ما مضى من العقدين الأخيرين من القرن المنصرم توجهات مستشار الأمن القومي الأمريكي "زبينيغيو بريجنيسكي" وآخرين لدعم الحركات الأصولية ورفضهم التعامل مع القوى الدافعة للحداثة والتجديد الديني، ومن "الطرائف" أن يستجوب دكتور العلواني ولمدة خمس ساعات حول إسلاميته وصلته بالحركة الأصولية والإرهاب!!! مع أن كولن باول يعرفه شخصياً. إن باحثاً معتبراً "كعلي زيعور" يكتب من "داخل الذات" هو الأقرب لفهم أهداف الحداثة في واقعنا وبمنطق جدله الخاص من كل علماء الغرب وأمريكا، وذلك في كتابه: "التحليل النفسي للذات العربية – أنماطها السلوكية والأسطورية" ويماثله "جورج قرم" في كتابه: "النزاع بين التغيير واللاتغيير" و"برهان غليون" في "اغتيال العقل"، وهناك كثيرون ابتداء من الجزائر "عمار بلحسن" ومروراً بتونس "الطاهر لبيب" و"خالد الزغل" والمغرب "الجابري" و"العروي" و"بلقزيز" وليبيا "مصطفى التير" وأخيراً المحسوب على الأمريكيين والذي لا يفهمه علماء الاجتماع في أمريكا وأعني به "سعدالدين إبراهيم". شكا سعدالدين إبراهيم لطوب الأرض، ونتف شعره مرات حتى تبقى منه القليل ليقنع من يستطيع بضرورة عبور "المثقف" إلى "الأنظمة" ليدفع بها نحو مخطط استراتيجي للتغيير يستجيب، لا لما يماثل "بيان باول" ولكن لما يستجيب لجدل الواقع نفسه، فنادى بجسر "ذهبي" ثم تنازل ونادى بجسر "فضي" ثم تنازل ونادى بجسر "خشبي"، وأثناء محاولة عبوره للجسر الخشبي تهاوى به فسقط في "جُب الزنزانة" حتى أطلق بتاريخ 3 ديسمبر (كانون أول) 2002، فما هو رأيه الآن بعد أن يكون قد استمع لبيان باول حول مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والاصلاحات الديمقراطية ، أم سنقول له: "ما هكذا تورد يا سعد الأبل" علماً بأنه لا يتعاطى مع الإبل خلافاً لقرينه البحريني والباحث عن "التغيير" من داخل "جدل الذات" وبمنطق "خلدوني" وهو الصديق "محمد جابر الأنصاري". علماؤنا هؤلاء "من داخلنا" وهم "نحن" عجنهم تاريخنا، وكونهم "جدلنا" الأقرب لفهم معنى الحداثة "فينا" و"التجديد" و"كيف" و"لماذا" وشرعية أبنيتنا الفوقية والتحتية، وتجاويف عقولنا وكيف نفكر. فلا يمكن لكولن باول أن يعبر إلى مجتمعنا إلا من خلال هؤلاء، وليسوا جسراً له ولا لغيره، ولكنهم المدخل والبوابة "الشرعية" لمن يريد إصلاحاً اجتماعياً وسياسياً وثقافيا وفكرياً. ولا يمنع ذلك أنهم يختلفون فيما بينهم ولكنهم ليسوا مختلفين في أهدافهم باتجاه التحديث. إذ يظل الخليجي خليجي والتونسي تونسي أما السوداني فيمكن أن يوّحد بين جدل "الغيب" و"الإنسان" و"الطبيعة". لم يطرح أي من هؤلاء في يوم من الأيام "سقوط الأنظمة" كمدخل للإصلاح والتغيير وإنما طرحوا فهمها "كظاهرة"، ولم يسبوا ويلعنوا الحركات السياسية وغيرها في مجتمعهم، وإنما سعوا لاكتشاف "السلطة المعرفية" التي تؤسس عليها – من داخل المجتمع – هذه الحركات لوجودها وشرعيتها. ولم يصدروا بيانات / مبادئ / مبادرات وإنما "قيموا" و"حللّوا" و"فككوا" وحاولوا التركيب، كل حسب جهده وطاقته. لا يستطيع "كولن باول" أن يقف هناك من خلف الأطلنطي ليقول لنا ما يجب ان تكون عليه أوضاعنا وما يكون عليه مستقبلنا، وأعيده مرة أخرى إلى كتابات "روز بنكدت" و"ميرجريت ميد" تمهيداً ليأتي إلى هنا، أما أن نذهب إليه فهذا أمر صعب بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، وأقل براهيننا ما حدث لدكتور طه جابر العلواني وعسى ألا يغلق معهده في "فيرجينيا" أيضاً "معهد العلوم الإسلامية والعربية في أميركا"، بعد أن انتقد من أساء لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. فدفاعنا عن رسولنا جزء من جدل تركيبنا مهما كانت دواعي العولمة.
كذلك نحن أمة ولها قواعد اجتماعية للتغيير: تمت ملاطفتنا في بيان باول حين ذكر شاعرنا القائل: "الأم مدرسة إذا أعددتها … أعددت شعباً طيب الأعراق"، وتلك محمدة حميدة لمن نبه باول إليها تأكيداً على وجوب تعليم المرأة. ولكن أرجو ألاّ يقتصر فهم باول على هذا البيت الاجتماعي التحريضي ويغفل عن "ماجدة" ملكة سبأ التي يسمونها "بلاقيش" باليونانية ومنها "بلقيس" بالعربية وتعني "المحظية" وليس هذا اسمها. وتلك أدارت ملكها وشعبها بحكمة. أو يغفل عن "زنوبيا" في تدمر ودفاعها عن مملكتها، فهذا البيت الداعي لتعليم المرأة قيل بعد آلاف السنين من بعد "ماجدة" و"زنوبيا". و كذلك لا يهمل "الكنداكا" في مروي السودانية القديمة . صحيح أن النظرة إلينا – من على بعد – تمر من خلال وهننا وضعفنا، ولكن ضعفنا مجرد "عادة سيئة" و"عابرة" في حياتنا، فنحن أمة "مستمرة" و"وريثة"، إستمراريتها في تخطيها عبر التاريخ لكل كبواتها، من "التتار" إلى "الفرنجة" إلى "الاستعمار". وعبر كبواتنا تتبادل أقطارنا الدفع بالاستمرارية، فإن سقطت دمشق قامت بغداد، وإن سقطت قامت القاهرة، وإن تدهور الشام صعد المغرب، فبيتنا ليس بيت عنكبوت. ثم أننا أمة وريثة، ففي جوفها هذا "السومريون" و"البابليون" و"الآشوريون" و"الآراميون" و"الكلدانيون" و"الكنعانيون" و"الفراعنة" و"القرطاجيون" و"السبئيون" و"المعينيون" و"الحمريون" ورجوعاً إلى "عاد" و"ثمود" وحتى فلك نوح. فإذا أردت أن تستمع إلى قصيدة عمرها يتجاوز الألفين من الأعوام فهي لأمرئ القيس ومغنيتها "المعاصرة" هيام يونس ويمكن على أنغم العود الشرقي للفارابي المتوفي قبل ألف وخمسين عاماً. هذه الخصائص الحضارية التاريخية بتفرعها وتعددها تفتقر لها كل الأمم بما في ذلك أعرقها كالأمة الصينية. ولا يبقى أمام هذه الأمة العربية من بعد كل ذلك إلاّ أن تكشف نوعية قواعدها الاجتماعية للتغيير والحراك السياسي، سواء على مستوى قواها الحديثة الناشئة منذ القرن الماضي، أو التقليدية الناشئة منذ قرون، وهذا عمل علمائنا هنا من داخلنا، بما في ذلك تحديث أنظمتنا ، كما أشار إلي ذلك دكتور مضوي الترابي في ندوة (الصحافة/فريدريش آيبرت) وتحديث أصالتنا ذات الشرعية الأيديولوجية، فليس ثمة قطيعة سياسية نمارسها بحق الأنظمة وليس ثمة قطيعة معرفية بحق الأصالة، فحين رفض فولتير اللاهوت لم يرفض الدين، ولا يمكن لأمريكا أن تدين أصوليتنا قبل أن تدين أصوليتها وتجاوزهم الإنجيل المسيحي إلى التلمود والتوراة . فلو تكلم باول بطريقة فولتير كنا أقرب إلى بعضنا البعض.
|
|
|
|
|
|