|
|
 بين الشاشة واتفاقية نيفاشا
|
بين الشاشة واتفاقية نيفاشا
محمد أحمد إبراهيم
[email protected]
السعودية – الرياض
من مثالب إعلامنا عموما – المرئي منه والمسموع والمكتوب - هو سياسة العزف على متطلبات "مرحلة ما" تركز عليها الدولة ، بصورة مكثفة تصل بنا أحيانا إلى حد "التجشؤ الإعلامي" ، فلم يكد يجف مداد اتفاقية السلام الإطارية ذات البروتوكولات الست ، إلا وانهالت علينا أجهزتنا الإعلامية – وعلى رأسها التلفزيون – بسيلٍ عرمرم من البرامج المعدّة سلفا لمتطلبات المرحلة والتي تصب جميعها تحت بند "مافي شمال بدون جنوب .. مافي جنوب بدون شمال .. كلنا إخوان" . ولا تكاد تفتح التلفزيون إلا وتجد "شمالي" و "جنوبي" يتوسطهما مذيع يحاول جاهدا إقناعنا – وبصورة سافرة وممجوجة - أن ثمة علاقة قوية تربط الاثنان .
من قال أن علاقة التعايش والاندماج بين السودانيين عموما ، وبين الشماليين والجنوبيين على وجه الخصوص كانت تحتاج إلى "نيفاشا" لتبدأ ؟ ومن قال أن برامج تلفزيونية "مكبسلة" ولقاءات مصطنعة وهزيلة ستؤدي إلى خلق واقع جديد - يحاول إقناعنا به الإعلام – أنه جاء بعد "نيفاشا" ؟ إن علاقة التعايش السلمي التي تحدثت عنها الاتفاقية والمعاشرة الطيبة والتسامح الذي يتحدث عنه الإعلام ، موجود قبل نيفاشا وقبل أن يولد التلفزيون .. ولم تكن هناك مشكلة في أي يوم من الأيام في التعايش بين مواطن الشمال ومواطن الجنوب ، وقبل اندلاع الحرب اللعينة ، كان الشماليون يعيشون في الجنوب في أمن وسلام ، والجنوبيون ينعمون بالاستقرار في الشمال ، وعندما اشتد أوار الحرب اتجه الجنوبيون شمالا ولم يتجهوا جنوبا رغم وجود أكثر من ثلاث دول أفريقية كانت هي الأقرب إليهم جغرافيا وعرقيا من مدن الشمال ..!
والآن بعد أن وضعت الحرب أوزارها ، عاد عدد كبير من الشماليين للاستقرار مجددا في الجنوب بعد أن عاشوا قسرا في الشمال ابان فترة الحرب . أعجبتني جدا مقولة سمعتها من أحد قادة الفصائل الجنوبية - التي كانت متمردة في السابق ثم دخلت في تحالف مع الحكومة عندما سئل عن الاتفاقية والتعايش الجنوبي/الشمالي حينما قال : المشاكل الموجودة هي من صنع الساسة لتحقيق مصالح معينة ، وليست هناك مشكلة بين مواطن الشمال ومواطن الجنوب . وأظنه صادقا فيما ذهب إليه ، التعايش بين الشمال والجنوب ، كما هو بين جميع أصقاع السودان المختلفة قائم ، وواقع لا يختلف عليه اثنان دونما حاجة إلى بروتوكولات واتفاقات إطارية . ورأي شخصي قد يوافقني فيه البعض أو يخالفني ، هو أن الاتفاقية أضرّت بالعلاقة الحقيقية الحميمة بين مواطن الجنوب ومواطن الشمال ، واكتسبت العلاقة شكلاً جديداً حَذِراً بدخول حسابات ونسب مئوية كفيلة بإظهار عدد لا بأس به من "شياطين التفاصيل" و "عفاريت التجاوزات" .
استغرب جدا حينما ينادي الساسة في بلادنا بضرورة تنزيل بنود الاتفاقية على واقع الحياة السودانية ، ويرون أن المواطن يقع عليه العبء الأكبر في تحويل بنود الاتفاق إلى واقع معاش ... المواطن لم يكن أصلا طرفا في صناعة المشكلة ليُطلب منه الآن محاولة تطبيع آثارها ، ولا توجد لديه مشكلة الآن – مثلما لم تكن لديه مشكلة في السابق – نحو قبول الآخر والتعايش السلمي معه ، الأمر برمته صناعة سياسية لديها لاعبيها المحترفين الذين يجيدون تسديد "الأهداف" في مرمى الخصم ويجيدون لعبة "التدويل" وإدخال لاعبين "أجانب" حتى يكون "اللعب" باحترافية عالية .
على كل حال ، ليس هناك ما يعكر صفو العلاقات بين مواطني البلد الواحد إن أصلح الساسة ذات بينهم وأراحونا من لعبة الكراسي ، ولن ينتظر المواطن "توقيع اتفاق" ليمارس حقه الطبيعي في التعايش مع بني وطنه ، طالما لم تخرج المظاهرات في مدن دارفور تطالب بحقها في العدل والمساواة ، وطالما لم يقم الجنوبيون بإشعال الإطارات وحصب العسكر في مدنهم للمطالبة بحقهم في السلطة والثروة .
إذن.. إعلامنا هو من يفترض فيه التعامل بأفق أوسع ورؤية أكبر من تقديم جنوبي يغني " أجمل الحلوين " ومن شمالي "يرطن" بلغة الدينكا ، ويجب أن يكف عن محاولة إقناعنا بأننا اكتشفنا فجأة بعد توقيع نيفاشا أن لدينا جنوباً وأن للجنوب شمال .
|
|
 
|
|
|
|
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست