|
دار أبوك لو خربت شيل ليك فيها عود
|
بعيداً عن التفلسف الذي لا أراه عيباً ولكنه يكون كذلك عندما يستخدم في غير موضعه. أحيّ فطنة الأجداد لصياغة هذا المثل الجميل وأقول جميلاً علي الرغم من أنه يصف حالة مأساوية وهي خراب الديار. ولكن الروعة تتجلى في أن عدد كلماته الثمانية صيغت بتفرد وعبرت عن المقصود ولا مست كبد الحقيقة من الناحية التراجيدية ونفذت إلي تصوير المشهد في لوحة بديعة ولم تغفل حتى تحديد الأنصبة إذا ما وقع الخراب. ولكن هناك صورة أخرى لا يمكن الوصول إليها إلا بالتفكير العميق وهي التحذير من الخراب نفسه وأنه شيء بالغ الضرر وأخذ العود في هذه الحالة يكون للذكري وعدم السماح بحدوث هذا الأمر الخطير بل يجب بذل كل ما هو ممكن كي لا يحدث وصدق الشاعر حين قال ( تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ×××و إذا افترقن تكسرت آحاد) فليس ثمة عاقل يرضى بهذا. وأمامنا المثل فأمريكا عندما وضعت حد لحربها الأهلية ، وصاغت دستور حافظ علي حقوق الجميع قادت العالم بعد قرنين من الزمان. ولو كانت دويلات متفرقة لأنهكتها صراعاتها الداخلية ووقفت حائلاً دون ذلك فهل يعي أهل السودان الدرس؟ آمل ذلك. لا أريد سرد قصة ولكن ما وددت الإشارة إليه أن هذا المثل سوف يداعب ويغازل خيالات الكثير منّا هذه الأيام ونحن نرى سفينة السلام تقترب من الشاطيء لترسو. تلك السفينة التي لن تكون بأي حال من الأحوال كسفينة الإنقاذ التي لا تبالي بالرياح حسب قول حاديهم ، بل سوف تعمل ألف حساب للرياح وتأخذ في الحسبان ما يقوله علماء الأرصاد الجوي فهم جزء لا يتجزأ من المعادلة ، وقولهم الفصل في تخصصهم، شأنهم شأن الآخرين. لا فضل لشمالي علي جنوبي ولا لخرطومي علي غرابي إلا بالنزاهة والشرف وأداء الأمانة والمهمة وفق الدستور والقانون. وكما يقولون بداية الغيث قطرة. أحاول ملامسة هذا المثل بما يجري على أرض الواقع والمسرح السياسي السوداني ونحن نترقب بشوق عارم وفرحة حتماً ستكون غامرة لطالما انتظرنا كثيراً التوصل إلي اتفاق السلام بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان في نيفاشا الكينية قريباً بإذن الله. والسؤال الذي لا يمكن التهرب منه علي الإطلاق هل يصنف اتفاق السلام كخراب للديار أم صلاح لها؟ وماذا علينا أن نفعل للحيلولة دون أن يكون خراباً ؟ لا أحد ينكر بأن السودانيين عانوا كثيراً من الحرب ودفعوا الثمن مضاعفاً وآن لهم الأوان أن يعيشوا كغيرهم من الشعوب علي ظهر هذه البسيطة معززين مكرمين. بصفتي عضوٌ في الحركة الشعبية لتحرير السودان وأدخل في حوارات ومناقشات مع أطراف متعددة الانتماء والتوجه ، بدا لي أن الكل يبدون تخوفهم من فرط التفاؤل ، من أن العنوان البارز لهذا الاتفاق يتجلى في صورة أسدين اثنين اتفقا علي افتراس القطيع بعد أن حددا الأنصبة كل حسب طريقته الخاصة. أي العودة إلي قانون الغاب الذي كان سائداً طيلة السنوات الماضية وهنا لا أستثني أحداً ، و أقول بصدق ذلك لن يتكرر مرة ثانية ولو حدث لأي سبب من الأسباب فهناك نفر كريم في الحركة الشعبية لتحرير السودان قادرٌ علي مواصلة النضال من أجل إنجاز السودان الجديد سودان العزة والكرامة لكل السودانيين بلا استثناء. دعونا نقول أولاً بأن هذا التخوف والحذر مشروع وله ما يبرره. فالتاريخ الذي عشنا في كنفه طيلة الخمسون سنة الماضية ، بعد أن احتفلت النخب الحاكمة بالعيدين الذهبيين لكل من البرلمان ومجلس الوزراء. مليء جداً بالصور المأساوية ، خاصة لدي الساسة وصناع القرار فهم يقولون شيئاً و يعنون شيئاً آخر، يتحدثون عن الصدق في ثوب النفاق وعن الأمانة في ثوب الخيانة وهدر المال العام وهكذا الأمر دوليك. فبدل أن يكون الاحتفال مناسبة للمراجعة ونقد الذات والإجابة علي السؤال المهم (لماذا تأخرنا وتقدمت الدول من حولنا؟). تم استغلالها في تقديم الأنواط والأوسمة من الدرجة الأولي والثانية وشهادات الشكر والتقدير علي ماذا لست أدري. ربما يكونوا علي قناعة بأنهم فعلوا شيئاً أما أنا فلا وأعتقد أن مجموعة كبيرة من المواطنين يشاطرونني هذا الإحساس. فالتكريم الحقيقي يأتي من الشعوب وبالأفعال وليس بالأقوال. والنقد الذاتي تفضل به الدكتور المثال للإنسان عندما يعمل بصدق ونقاء ، برهان غليون رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة السوربون الفرنسية. في كتابه نقد السياسة الدين والدولة وننوه قرائنا الأعزاء باقتنائه، أشار في (ص277) إلي ثلاثة مستويات للسلطة الاجتماعية تلك التي تعبر عن مدى شراسة وعنفوان القلة المحتكرة للسلطة ضد الأغلبية المهمة سياسياً واقتصادياً ومعنوياً. 1- المستوى الاقتصادي: أدى العجز عن تكوين شروط النمو والنتاج الحديثة وما تبعه من إخفاق خطط التنمية الوطنية إلي ولادة نمط جديد من اقتصاد المضاربة الذي يستند إلي طبقة من السماسرة والمرتشين الصغار والكبار الذين لا هم لهم إلا تأمين مصالحهم الشخصية ، ولا حافز لنشاطهم إلا حب السيطرة والأنانية . وكانت نتيجة ذلك تفاقم تركيز الثروة في يد أقلية محدودة ، وانهيار الإنتاج وقيمه في مقابل نمو الاستهلاك ، وازدياد البطالة العلنية والمقنعة والإخراج المنتظم من سوق العمل لأجيال كاملة ، لم يعد لديها أي أمل في التحول إلي أعضاء فاعلين في المجتمع إلا الهجرة نحو بلاد أخرى. 2- المستوى السياسي: أدى تجميد تداول السلطة بواجهة تعددية أو بدون واجهة ، إلي فساد القيادة الاجتماعية السياسية ثم تكلسها وتحللها ، مع قتل إمكانية نمو البدائل والقيادات والأطر الشابة الجديدة ، حتى لو احتاج الأمر إلي اغتيالها. وبقدر ما أصبح الحفاظ علي السلطة والثروة هدفاً وحيداً وسامياً لدى النخبة القائمة ، وبقدر تصاعد المعارضة والمقاومة من كل صوب ، تحول النظام السياسي تدريجياً إلي نظام احتلال أجنبي ، وجعل من شن الحرب الوقائية ضد المجتمع سياسة رسمية. وهكذا قاد الاستبداد إلي الحرب الأهلية المعلنة التي تشنها الدولة التي أصبحت مركز تجمع المصالح السائدة ضد المجتمع بأكمله. 3- المستوى الثقافي والعقدي: فرضت النخب الحاكمة مذهب الدولة علي الجميع ، وحظرت الحوار والتعبير الحر والجدل ، وجعلت من الاستفزاز للعقائد والأفكار والقيم الاجتماعية فرصة للإرهاب النفسي والقهر ودفع المجتمع لاستبطان الدونية والعبودية حتى يسهل إخضاعه وانقياده. وما كان لمثل هذه السياسة إلا أن تحوّل الثقافة نفسها إلي عقيدة سياسية ، ومركز توظيف للحرب السياسية ، وشق الثقافة الوطنية إلي رؤيتين وتيارين ومرجعيتين متناقضتين ومتعارضتين ، وطنية تقليدية محرومة من التعبير عن نفسها ومتماهية أكثر فأكثر مع المجتمع المستعبد ، وثقافة حديثة المظهر والشعار، مرتبطة بالدولة والنخبة السائدة. وإضافة لما بعثه هذا الوضع من شعور بالحرمان والاستعباد والقطيعة لدى القسم الأكبر من المجتمع ، فقد عمل علي قتل الجدلية الثقافية التي تستطيع وحدها ، من خلال توفير أطر الناقشة والحوار ، إنضاج الممارسة الاجتماعية ، وامتصاص التوترات السياسية والاجتماعية وتمثل القيم الوافدة الحديثة ، وإعادة تفسير الأفكار الموروثة ، وتجديد رؤية المجتمع لنفسه ودوره. الرسالة الكبرى التي أردنا إيصالها إلي الطرف الآخر خاصة والمجتمع السوداني عامة عندما قبلنا الجلوس للتفاوض في نيفاشا هي أن نقطة البدأ في عملية التحول للمجتمع السوداني بأسره والتحول الديمقراطي علي وجه الخصوص تتمثل في قبول الآخر وأخذ رأيه ومصلحته في الاعتبار. وهذا يجب أن يسبقه تنمية قناعات لدى أفراد المجتمع وجماعته ، بأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات السياسية كافة ، شركاء في والوطن ، لكل منهم ما للآخرين وعليه ما عليهم. وأن عملية التحول الديمقراطي تمر عبر مسارين أولهما إصلاح الدولة ، وضبط سلطتها ، وتطهير توجهاتها من اعتبارت المصالح الشخصية. وثانيهما إعادة هيكلة المجتمع ، وتنمية قواه المستقلة عن الدولة ، ووضع أسس العمل المشترك من أجل فاعليته ، وموازنة قواه المجتمعة قوة الدولة. لذا فإن هدف توازن القوى بين الدولة وبين المجتمع الذي تحكمه ، هدف استراتيجي بالنسبة إلي مجتمعنا يتوقف علينا انجازه. وعليه نقول بأن المسئولية هي مسئولية الجميع أحزاب سياسية وقوى المجتمع المدني في اغتنام هذه الفرصة وتفعيلها لبناء دولة السودان علي أسس ومعايير جديدة لكل السودانيين بلا استثناء. بهذه المعاني والآليات المضبوطة وتفعيلاً لطاقات المجتمع تكون اتفاقية السلام المزمعة بداية الطريق الصحيح وخطوة إلي الأمام كي نحدث التحول المطلوب وننعم بالهدوء والرخاء. ونكون قد قطعنا الطريق أمام أن يكون الاتفاق خراباً بل صلاح يفيض خيره علي كل بيت سوداني. معاً من أجل سودان جديد بدر الدين أبو القاسم محمد / ليبيا – طرابلس [email protected]
|
|
|
|
|
|