|
التفاؤل قسرا
|
التفاؤل قسرا محمد حسين حسب ربه*
منذ العشرين من يوليو 2002 , تاريخ التوقيع على برتكول مجاكوس للسلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية برعاية هيئة الإيقاد وحتى تاريخ اللحظة , يمكنك أن تجد دوما اكثر من مثقف سودانى يلوى شفتيه بتأفف ويبدا فى نقد البرتكول أو بالأحرى زمّه. وبعد التوغل فى النقاش والصياح بأعلى الأصوات والتلويح بالأيادي , يمكنك أن تخلص إلى أن هنالك ثمة مآخذ على البرتكول يجب أن تقر بها. أولى هذه المآخذ هى انه " صفقة ثنائية بين الحكومة والحركة" كما عبّر عن ذلك فاروق أبو عيسى , عضو هيئة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي عقب توقيعه مباشرة . وانه " يتجاهل مطلب التحول الديمقراطى " كما حاججت بذلك القوى السياسية السودانية بالداخل والخارج باستثناء حركة حق وحزب الأمة اللذان ايدا البرتكول منذ البداية . وقد أضاف حسن الترابى , زعيم المؤتمر الشعبى الموقوف حاليا مقولة أن البرتوكول " مفروض على الرؤوس " . وبالإضافة إلي ذلك تعتقد مصر بحكم موقعها الإقليمي, وبحكم متطلبات أمنها الداخلي أن البرتكول "متضمن لاستفتاء بحق تقرير مصير جنوب السودان" , وهو الأمر الذي تعتبره مهدد إستراتيجي لأمنها وآمن العالم العربي ككل. وبلا شك تعتبر هذه النقاط وجهات نظر معتبرة يمكن المحاججة لها أو عليها. لكن لابد من لفت النظر إلى برتكول مجاكوس مثله مثل أي شي آخر يمكن أن يكون سيئا إذا رغبنا في ذلك , أي إذا نظرنا إليه بحكم المخاوف التي تنتابنا تجاهه . وبالمقابل يمكن أن يكون جيدا بلا حدود إذا اعتقدنا بأنه " فرصة للهروب من أزمات داخلية و لخطب ود العملاق الأمريكي المهتاج بعد 11 سبتمبر" كما فعلت الحكومة السودانية . وايضا يمكن أن يكون "فرصة للحصول على مكاسب سياسية باستغلال رغبة المجتمع الدولي الملحة في حل أزمة جنوب السودان" كما رأت الحركة الشعبية أو بالأحرى كما بنت موقفها على ذلك. وإذا ابتعدنا قليلا عن وجهات النظر المبنية على مخاوف محدده أو مكاسب مفترضة يمكننا أن نجد في البرتكول شيء آخر تماما . ولا يتسنّى ذلك إلا بتمحيص موقف المجتمع الدولي _أمريكا , بريطانيا, النرويج ,إيطاليا, كندا وفرنسا _ الجهة التي دعمت الاتفاق ورعته واغدغت عليه . وينبنى موقف المجتمع الدولي على ثلاثة فرضيات أساسية . أولي هذه الفرضيات هي " صحيح أن هناك أزمة شرعية ديموقراطية في السودان , لكن الأزمة الحقيقية هي الحرب الأهلية المشتعلة في جنوبه منذ عقدين , فهناك اثنين مليون قتيل وأربعة مليون نازح , وبالإضافة إلى ذلك هنالك انتهاكات لحقوق الإنسان مرتبطة بديمومة الحرب مثل الإبادة العرقية وقوانين الطوارئ . وهنالك أيضاً التكلفة المالية التي بتكبدها المجتمع الدولي جراء استمرار الحرب. إذ يقوم بإغاثة وإيواء وكساء ملايين النازحين الفارين من جحيم الحرب" . وخلاصة الأمر أن الأولوية في هذه المرحلة لإيقاف الحرب ومن ثم للتحول الديمقراطي عبر التدرج البطئ مع تنفيذ بنود الاتفاق . وتتعلق الفرضية الثانية بطرفي النزاع إذ يعتقد المجتمع الدولي أن" الحكومة السودانية بغض النظر عن عدم شرعيتها هي حكومة أمر واقع ,تمتلك قرار الحرب وتملك جيشاً ومقاتلين مدنيين بعقيدة قتالية جامحة مستمدة من الدين مما يزيد من خطرهم وقد أثبتت أنها قادرة على البقاء وعلى اللعب على كل الحبال خلال خمسة عشر عاماً الماضية " وبالمقابل هناك الحركة الشعبية التي عجزت عن خلق واقع سيأسى على وجه الأرض مثل احتلال كل الجنوب رغم عدالة قضيتها , ورغم مقدراتها القتالية الفذة لم تزد عن كونها تمارس حرب عصابات لاغالب فيها . ويمكن تلخيص هذه الفرضية على النحو التالي (هنالك حكومة تقاتل مواطنيها في الجنوب, وتنتهك حقوق الإنسان, وتقاوم الضغوط في ظل عدم وجود تشريع يخول تدخل عسكري دولي وفى ظل تعادلا عسكري مع الحركة الشعبية نتيجته الوحيدة استمرار الأزمة الإنسانية في جنوب السودان) . أما الفرضية الثالثة فتتعلق بالقوة السياسية الشمالية تحديداً التجمع الوطني الديمقراطي ومنظمات المجتمع المدني السوداني . يرى المجتمع الدولي أنها تعانى من أزمات داخلية مستفحلة أقعدتها عن أداء المطلوب , ورغم الدعم المباشر الذي قدم لها لم تقوى على خلق واقعة إزالة الحكومة , لذلك لا يمكن ترك الأزمة الإنسانية مستمرة في انتظار أن تحل أزماتها وتطلع الدور المنوط بها . وأياً كانت التحفظات التي يبديها المرء حول هذه الفرضيات إلا أنه لا مناص من الاعتراف بأنها واقعية بدرجة مفرطة , كما أنها تنطوي على خبرة وتجريب مع كافة الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي السوداني . وينبغى التنويه إلى أن هذه الفرضيات لم يتم طرحها على هذا النحو السافر, بل كانت متضمنة على نحو ما في أحاديث وردود وسطىّ السلام, آلن قولتى البريطاني وجون دانفورث الأمريكي . وبجانب هذه الفرضيات التي شاركت في صياغتها الولايات المتحدة الأمريكية تتفرد أمريكا بافتراضات أخرى خاصة بها . فقد بدأ الجمهوريون الواصلون للبيت الأبيض حديثاً, والمغرمون بتجارة النفط ينظرون بغيظ إلى الشركات الصينية وهى تتبختر في مشاريع النفط السودانية . وقد أغاظ ذلك الإدارة الأمريكية لسببين ، أولهما أنها كانت ترغب في النفط السوداني بشدة , وقد تأكد ذلك لاحقاً من خلال إعادة صياغة عقوده ومشاركة الشركات الأمريكية فيه ، وثانيهما أنها لا ترغب في أن يمتلك الصينيون بتقنيتهم النفطية المتخلفة _مقارنة بالغرب _ تجارب نفطية ممكن أن تنافس في صناعة النفط التي يحتكرها الغرب , ويحتكرها بشكل خاص عمالقة النفط في تكساس الذين ينحدر منهم بوش الابن , وديك تيشنى نائبه وكذلك كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومى التي عملت من قبل في مجلس إدارة شركة شيفرن للبترول , وهى الشركة التي كانت تمتلك امتيازاً لتنقيب النفط في السودان باعته في بداية التسعينيات من القرن الماضي . ولا ترغب الإدارة الأمريكية أيضاً في أن يكرر الصينيون تجربتهم مع دول أخرى يعتبرها الغرب خارجة عن القانون . إذ أن الاستثمارات الغربية في مجال النفط مرتبطة بالتقدم في مجال حقوق الإنسان كما يقال . وقد أجبرت منظمات المجتمع المدني الكندية شركة تليسمان على بيع حصتها في النفط السوداني بدعوى أن الحكومة تستخدم عائداته في تمويل الحرب . وبعيداً عن النفط وتشابكاته المعقدة بدأت الإدارة الأمريكية بعد 11 سبتمبر النظر إلى المنطقة في ظل اعتبارات الحرب على الإرهاب. فقد اعتقدت بحنكة تحسد عليها أن آخر ما ترغب فيه هو عدم تكرار تجربة انهيار سلطة الدولة كما حدث في الصومال . آي أنه لابد من وجود سلطة مركزية في أي دولة من دول القرن الأفريقي بغض النظر عن شرعيتها طالما كانت تحافظ على الاستقرار. وبما أن السودان هو أكثر الدول المرشحة للسير في هذا الطريق , فقد رأت ضرورة دعم استقراره وحل الأزمة المزمنة فيه . وهكذا ولد برتكول مجاكوس ابنا شرعياً لمزيج متنافر من حقائق عارية ومصالح فجة وقراءات استراتيجية عميقة. ومع ذلك حمل ا وعداً زاخراً للكثيرين . فبالنسبة للنازحين واللاجئين الذين عاشوا يلتحفون السماء ويفترشون التراب , يبدوا أمل العودة إلى الديار قاب قوسين أو أدني. وبالنسبة للأمهات اللائى فقدن ويفقدن الأبناء مع استمرار الحرب هناك وعد حقيقي يقول "لا للمزيد" . وبالنسبة للفتيات السودانيات هناك ثمة ما يستحق الاحتفاء أيضا, فجزاء استمرار الحرب أضحت نسبة الذكور للإناث تعادل 1 الى6 حسب آخر تعداد سكاني . في الواقع , تتضاءل هذه الإيجابيات كثيرا أمام ما يقدمه البرتكول من اجوبة للمنتقدين والمهجسين على السواء . فللذين اعتقدوا بأنه "صفقة ثنائية بين الحركة والحكومة" وانه " يتجاهل مطلب التحول الديمقراطى " تشير نصوصه إلى قيام حكومة قاعدة عريضة عقب نهاية الفترة الانتقالية الأولي (6 اشهر) . وهى الحكومة التي تتكون من كافة ألوان الطيف السياسي السوداني. وتشير نصوصه أيضا إلى قيام انتخابات حرة برعاية الأمم المتحدة في منتصف الفترة الانتقالية الرئيسية(6 سنوات) ,حيث ستشرف الحكومة المنتخبة على تنظيم استفتاء حق تقرير المصيرفى جنوب السودان. و لا يمكن أن تحصل القوى السياسية الشمالية على ضمانات اكثر من هذه قط. وفى ضوء هذه التأكيدات يبدو التحفظان المذكوران وكأنهما محض قراءة متعجلة في احسن الأحوال , أو إننا إزاء قوى سياسية نافذة الصبر لا تملك غير الجأر بالشكوى رغم غض النظر عن كل شى. في الواقع , يمثل ما قاله حسن الترابي حول إمكانية عدم تنفيذ البرتكول لكونه " مفروضا على الرؤوس " وجهة نظر حذقه . لكن , يبدوا أن المجتمع الدولي لا يود تكرر تجربة اتفاقية أديس أبابا التي ألغاها نميرى بجرة واحدة من قلمه. فسيتم عرض البرتكول وإجازته من قبل مجلس الأمن الدولي . وهناك تقييم ميداني مستمر لمدى تنفيذه خلال الفترة الانتقالية . ونسبة للجدية والجهد الذان بذلهما المجتمع الدولي في مشروع السلام السوداني, يمكن الا فتراض بان لا أحد يرغب في تضييع جهد بهذا الحجم لمجرد عدم جدية أحد الطرفين . بالنسبة إلى مصر لا يقدم البرتكول سوى أملا ضئيلا بان يؤدى استفتاء حق تقرير المصير إلى وحدة السودان . لكن غازي صلاح الدين , مستشار السلام السابق في الحكومة السودانية , والرجل الذي كان ملف السلام في درج مكتبه, أجاب على المخاوف المصرية بصورة ضافية. ففي مقال له بإحدى المجلات المصرية دلل على أن الافتراض بتطابق المساعي الغربية التي تبذل لحل أزمة جنوب وأهداف الحركة الشعبية أمرا ليس واقعيا ألبته. وأشار إلى أن الولايات المتحدة قد سعت إلى تضمين حق تقرير المصير في الاتفاق إلا أنها قد لا تسير في ذلك إلى أخر الشوط لأسباب تتعلق بقراءة استراتيجية لخارطة المنطقة واثر تقسيم السودان عليها, ولأسباب تتعلق بصعوبة التكهن بمدى التزام الولايات المتحدة بالأعباء الناجمة عن بناء دولة جديدة في جنوب السودان من لا شي تقريبا. وعلى الرغم من إن ما قاله صلاح الدين يمثل في نهاية المطاف قراءة سياسية قد تصدق وقد لا, إلا أنها مع ذلك تنطوي على قدر كبير من الاتساق لكونها نابعة من التجربة العملية في الاضطلاع بملف السلام السوداني, ولكونها آتت من رجل استمع بروية لمقترحات المجتمع الدولي أيا كانت البواعث التي انطلقت منها. أيا كان الأمر , فستتوقف الحرب لا محالة وسيكف الشباب عن الموت, وستقوم الحكومة الانتقالية ومن بعدها الانتخابات. وقد تكتشف الولايات المتحدة إنها لا ترغب في التورط في بناء دولة من لا شي في جنوب السودان كما أشار غازي صلاح الدين. وهكذا نرى أن برتكول مجاكوس يدعونا للتفاؤل رغم كل شي , إلا انه تفاؤل من نوع أخر….انه التفاؤل قسرا.
صحفي سوداني.
|
|
|
|
|
|