|
محطات في تاريخ فن الغناء السوداني
|
هذه الكلمة تأتي متأخرة بعض الشيء. نستسمح الأحباب الأعزاء الذين نخصصها لهم، ونقول ما نسيناكم قط، ولكنها شواغل هذه الفانية التي لا تدوم إلا للحي الذي لا يموت. كان ينبغي أن تكتب هذه الكلمة الشهر الماضي ـ أغسطس ـ الذي صادف رحيل عدد كبير من فنانينا وشعرائنا الأفذاذ. غير أن يوليو وسبتمبر يمثلان أيضاً محطتين مهمتين في تدوين المسيرة الفنية الغنائية السودانية. فقد شهدا أحداثاً مهمة وغاب فيهما عنا عدد من المبدعين الذين ساهموا في صياغة الوجدان الجماعي السوداني بكل ما تعنيه هذه الكلمة من تكوين لمفهوم الجماعة والأمة ذات الشعوب والأقليات المتعددة. فأما ما كان من شأن الشهر السابع: - توفي فنان الشعب وشاعره خليل أفندي فرح بدري في 26 يونيو 1932، غير أن الله عوّض السودان والسودانيين في 19 يوليو 1932 بمولد الفنان محمد عثمان حسن وردي في صواردة، لتتواصل مسيرة من النغم والإبداع لا تزال فصولها تتوالى أمام أعين الأجيال. ومن المفارقات أن وردي دخل استديو الإذاعة السودانية للمرة الأولى لتسجيل أولى أغنياته "يا طير يا طاير"، من تلحين المرحوم خليل أحمد، في 19 يوليو 1957. وتشاء تصاريف القدر أن يقوم بدور في مساندة انقلاب الرائد هاشم محمد العطا في 19 يوليو 1971 ليتم اعتقاله مع زميله المطرب الموسيقار محمد الأمين في 23 يوليو 1971. - من أحداث يوليو الأخرى وفاة المطربين صالح الضي والتجاني مختار في القاهرة في 27 يوليو 1985 في حادث تسمم مؤسف، فكان فقداً مزدوجاً لمطربين تميز كل منهما بصوت متفرد. وكانت مساهمة صالح في النظم والتلحين تضعه في مصاف المطربين الذين أثروا الغناء السوداني في عصره الذهبي. - في 13 يوليو 1998 رحل الفنان العاقب محمد حسن الذي ولد في جزيرة توتي العام 1935. وهو مطرب وملحن قدير. وقد اعتنى بتثقيف نفسه موسيقياً على يد الموسيقار المصري مصطفى كامل. وابتعثه الحكومة السودانية مع زملائه عازف العود برعي محمد دفع الله وعازف الكمان محمد عبد الله محمدية وعازف الأكورديون عبد اللطيف خضر الى معهد الموسيقى العربية في القاهرة في مستهل السبعينات. وكانت له منذ نهاية سنوات الخمسين معارك صحافية في شأن "عروبة" الموسيقى السودانية، وقدم برنامجاً عن الموسيقى العربية على أثير الإذاعة السودانية ما ينوف على 12 عاماً. - أخيراً انضم الى الأعزاء الراحلين في هذا الشهر المطرب السوداني الأكثر شهرة السيد على محمد الخليفة الأمين الشهير بـ سيد خليفة. فقد توفي في العاصمة الأردنية عمان في 2 يوليو 2001 من جراء مضاعفات السكري وداء القلب. أما شهر أغسطس فهو شهر الأحزان بالنسبة لمسيرة الأغنية السودانية، والقائمة طويلة ستذهل كثيرين: - في أغسطس 1968 توفي الفنان عثمان ألمو صاحب أغنية طجنة العشاق" وغيرها من الأغنيات التي حاولت الإفادة في وقت مبكر من موسيقى الجاز وتياراتها في الولايات المتحدة وافريقيا. - في 21 أغسطس 1969 انتقل الى رحمة الله الفنان إبراهيم الكاشف الذي اشتهر بلقب "أبو الفن". وهو من العبقريات السودانية التي لم تحظ بدرس شامل وتحليل واف، على الرغم من المجهود الكبير الذي قام به طلبة معهد الموسيقى والمسرح وأساتذته، وعلى الرغم من تكريس حكومة الرئيس السابق جعفر نميري لإحدى دورات مهرجان الثقافة لذكراه وإبداعاته. بكل أسف مات الكاشف ولم يحتفظ التلفزيون السوداني بأي أغنية مصورة له. ولحسن الحظ أن هناك شريطاً تم تسجيله من قبل وحدة أفلام السودان (الإنتاج السينمائي لاحقاً) لإحدى أغنياته في حفلة شارك فيها. - في 23 أغسطس 1976 توفي الفنان حسن سليمان الذي اشتهر بلقب الهاوي، وكان مديراً للحسابات بديوان وزارة الإعلام، وهو صحاب أعمال غنائية لا يزال السودانيون يتغنون بها، حسبك منها قصيدة أبي القاسم الشابي "صلوات في هيكل الحب" (عذبة أنت كالطفولة كالأحلام)، والأغنية العذبة "ما شقيتك"، وهو ملحن أغنية المطرب الراحل حسن عطية "محبوبي لاقاني". - في 24 أغسطس 1976 توفي الشاعر سيد عبد المحسن عبد العزيز، وهو من شعراء مرحلة "حقيبة الفن" الفحول، وأدرك فترة الانتقال الى مرحلة الغناء المعاصر التي تتميز بالاعتماد على الآلات الموسيقية، فكان أحد فرسان التجديد، خصوصاً مع صديقه الفنان إبراهيم الكاشف. كما كان أحد رواد المسرح السوداني، وللممثل وأستاذ الدراما في جامعة الأحفاد للبنات محمد شريف علي دراسة جيدة عن مسرح سيد عبد العزيز. - في 31 أغسطس 1976 توفي عازف الكمان الموهوب رابح حسن الذي كان أحد عناصر الفرقة الموسيقية السودانية التي قام على أكتافها العصر الذهبي للأغنية، خصوصاً من خلال تسجيل الأغنيات العديدة العظيمة التي تزخر بها المكتبة الصوتية للإذاعة السودانية، وساهمت ولا تزال تساهم في خلق الوجدان الجماعي للأمة. - في أول أغسطس 1980 توفي المطرب عوض الجاك الذي كان يمثل في ود مدني وبعد انتقاله الى أم درمان امتداداً لمدرسة "حقيبة الفن" بشكلها المعهود. وكانت له "قفشات" لا تنسى، خصوصاً حين قام بأداء أغنية "ضنين الوعد" بالرق والطبلة بعدما أغضبه انتقاء المطرب عبد الكريم الكابلي لأغنية الشاعر صالح عبد السيد (أبو صلاح) "وصف الخُنتيلة جمال تاجوج المافي مثيله" ليؤديها بمصاحبة الفرقة الموسيقية. - في 4 أغسطس 1984 سكت البلبل الصداح عبد العزيز محمد داود بعدما ظل يصدح بعذب الغناء منذ التحاقة بالإذاعة السودانية العام 1948. وترك غيابه فراغاً لا يزال شاغراً، فقد كان صوته فريداً، وأداؤه متميزاً. وزاده تفرداً التحامه برفيق عمره الموسيقار برعي محمد دفع الله منذ لقائهما الأول في منزل آل كروم في حي الموردة العام 1943. بالمناسبة هذا العام سيكون ذلك اللقاء الذي ترك بصمة لن تنمحي على مر العصور قد مضى عليه 60 عاماً. (والشيء ـ كما قيل ـ بالشيء يُذكر، فهي مناسبة للتذكير بأن العام المقبل 2004 سيصادف الذكرى الـ 60 للقاء الأول في عام 1944 بين المطرب الكبير عثمان الشفيع والشاعر محمد عوض الكريم القرشي في مدينة الأبيض بدعوة من الأخير. وهي مسيرة تعاون تعرفون أنها أنجبت أحد أعظم الثنائيات في الغناء السوداني. ألا تستحق تلك الذكرى وقفة؟). - في 4 أغسطس 1986 توفي المطرب ميرغني المأمون رفيق درب المطرب أحمد حسن جمعة، وقد كونا معاً أحد أشهر الثنائيات "الحقيبية" التي واصلت مسيرة هذه المرحلة الفنية التاريخية حتى بعدما كتبت السيادة للأغنية المعاصرة التي تعتمد على الآلات الموسيقية. وقد تأثر ميرغني بشقيقه المطرب الراحل عبد العزيز المامون الذي ذاع صيته إبان سنوات العشرين والثلاثين من القرن العشرين، غير أنه لم يعن كثير شيء بتسجيل أغنياته، وتوفي دون أن يترك تسجيلاً يخلد صوته مع الكوكبة الخالدة من رواد الغناء عضرذاك، أمثال محمد أحمد سرور وعبد الكريم كرومة والأمين برهان وغيرهم. أما في الشهر التاسع: - توفي في 29 سبتمبر 1979 العقيد أحمد مرجان أشهر موسيقار في تاريخ الموسيقى العسكرية السودانية منذ نشأتها في عام 1884. وقد التحق أحمد مرجان بالجيش صبياً وظل يترقى حتى تقاعد برتبة العقيد. وكان له شرف العمل مع الموسيقيين العسكريين الذين استقدمهم الاستعمار البريطاني من اسكتلندا وايرلندا وانجلترا في مستهل عشرينات القرن العشرين، وحضر في نحو 1925 أولى محاولات تدوين موسيقى ألحان السير (المارشات) التي تم جمعها من الألحان الفولكلورية الشائعة عند قبائل البلاد. واشتهر مرجان بتلحين وتأليف موسيقى السلام الجمهوري السوداني، وكان من أشهر مدوني السلامات الجمهورية والملكية والأميرية، الى درجة أن اتقانه ولمساته في تدوين تلك المقطوعات الموسيقية العسكرية كان يثير إعجاب رؤساء الدول الزائرين للسودان. ولأحمد مرجان نحو 20 مقطوعة موسيقية مسجلة في مكتبة الإذاعة السودانية، لكنها لا تبث كثيراً. - وفي سبتمبر 1996 توفي في مدينة جدة في السعودية عازف الكمان الموسيقار محمد الضي آدم، الشقيق الأكبر للفنان صالح الضي. وقد عمل عقوداً عدة مديراً لنادي دار اتحاد الفنانين في أم درمان وضابطاً للتنسيق في فرقتي الإذاعة والتلفزيون. وكان صديقاً لأجيال من المطربين والملحنين وشعراء الغناء. - وفي 29 سبتمبر 1945 رحل الفنان الخالد الأمين برهان في مدينة أم درمان حيث شارك مع رفيقيه سرور وكرومة في بلورة الغناء الذي يطلق عليه اصطلاحاً "حقيبة الفن". ومن المفارقات أن الزميل الإذاعي المخضرم السر محمد عوض الرئيس السابق لقسمي المنوعات والتنسيق في إذاعة أم درمان الذي قدّم برنامج "حقيبة الفن" أكثر من 20 عاماً أعدّ وقدّم حلقة خاصة لإحياء ذكرى برهان بثت في 29 سبتمبر 1972. وأحيت الإذاعة ذكرى برهان بإعادة بث الحلقة نفسها في 28 سبتمبر 1999، أي بعد 54 عاماً على رحيله المؤسف.
|
|
|
|
|
|