|
شرق السودان يشهد شتاء ساخنا
|
سليمان صالح ضرار ــ مؤتمر البجه email: [email protected] في الوقت الذي تتعلق فيه الآمال و الأحلام ببوادر تحقيق السلام في السودان, تنطلق أصوات البنادق في شرقه مؤذنة بالعودة الى المعارضة المسلحة من جديد, وتناقلت وكالات الأنباء البيان العسكري الذي أصدره تنظيم مؤتمر البجه المعارض الذي يمثل شرق السودان في يوم 15 أكتوبر الجاري. حيث أعلن التنظيم استيلائه على موقعين عسكريين حكوميين قرب مدينة كسلا عاصمة الولاية التي تحمل اسمها, هما (تندلاي وهداليا) بعد معارك ضارية مع القوات الحكومية التي تكبدت خسائر جسيمة في الهجوم. وجاء في بيان مشترك آخر من تنظيم مؤتمر البجه وقوات الفتح بيان ثاني في يوم 25 أكتوبر الجاري وتحدث البيان عن هجوم مشترك ضد القوات الحكومية في مدينتي (ايرباب) ومادام) حيث تم قطع الطريق القومي مرة ثانية خلال شهر أكتوبر الجاري. تأتي هاتان العمليتان كرسالة رفض قوية من تنظيم مؤتمر البجه للاتفتقات الثنائية التي لا تعالج مشكلة السودان كله, هذا بعد أن وقعت الحكومة السودانية اتفاقا اطاريا للسلام مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق, بات فيه حلم السلام قاب قوسين أو أدنى من السودان. وبالرغم من أن هذا الاتفاق الاطاري وجد ترحيبا من بعض الدوائر المحلية والاقليمية والدولية, الا أنه ظهرت أيضا معارضة قوية لهذا الاتفاق على المستويين المحلي والدولي خاصة من جامعة الدول العربية. فالفعاليات السياسية المغيبة ترى أن الاتفاق مبتسر ولا يمثل رأي كل أهل السودان ولا القوى السياسية في الشمال أو حتى الجنوب نفسه, لذا فهو لن يدوم طويلا ولن يحقق طموحات الشعب السوداني في السلام والاستقرار. ومن ضمن الفعاليات السياسية التي تعترض عليه تنظيم مؤتمر البجه الذي بادر بالتعبير عن رأيه باللغة التي تفهمها الحكومة. يجيء ْهذا التصعيد بعد فترة طويلة من الهدوء من تنظيم مؤتمر البجه على الجبهة الشرقية بعد أن منح الحكومة فرصة كافية لأن تصحح اتفاق السلام ليشمل كل القوى السياسية الموجودة على الساحة, وبعد أن ضاق تنظيم مؤتمر البجه بالمضايقات التي تمارسها الحكومة ضد من يمارسون العمل السياسي من أبناء البجه في الداخل, كما رفضت الحكومة السماح لهم بتسجيل تنظيم باسم مؤتمر البجه وقامت باعتقال الناشطين منهم ووضعتهم رهائن في مقابل أن تضغط على مؤتمر البجه ليوقف هجماته المسلحة مؤكدة بهذا ما سبق وكررناه من تعاملها مع الشعب السوداني بعقلية المليشيات وليس حكم القانون الذي وضعته بيدها. ان جنوح البجه للكفاح المسلح جاء نتيجة لممارسات الحكومة, فعندما التقى وفد من أعيان البجه رئيس الجمهورية في العام 1994 , عام انطلاق الكفاح المسلح, قال لهم من يريد حقوقه عليه حمل السلاح, وقد كان له ما أراد. فالنظام الذي جاء عن طريق البندقية لن يذهب بغير البندقية. وبنفس المكيال الذي تكيل به الحكومة لتنظيم مؤتمر البجه فانه يكيل لها به, فهو لا يعترف بها ونص في دستوره على استئصالها. وتتهم الحكومة التنظيم بأنه رهينة لدولة مجاورة في محاولة منها لنفي رهنها لنفسها وشعبها لدولة الاستكبار الأعظم في سبيل الاستمرار في كراسي الحكم ويرى البجه أن الانقاذ التي جاءت كما تقول لتطبيق الاسلام في السودان تقوم بقصف تلاميذ القرآن في همشكوريب في المناطق المحررة بشرق السودان بالمدافع والطائرات, وأنها جاءت ببابا الفاتيكان ليرفع الصليب في قلب الخرطوم عاصمة السودان التي حررها الامام المهدي من الصليبية قبل مائة عام, وبالرغم من تخليهم عن كل الشعارات الاسلامية لا يزال أركان الانقاذ يجلسون على حراب البنادق منذ أربعة عشر عاما حتى أدمنوها والسلطة والتسلط. ان للبجه في شرق السودان قضية عادلة اذا لم تحل فان السودان لن يشهد استقرارا خاصة كون موقع البجه الاستراتيجي يمكنهم من قطع كل سبل اتصال السودان بالخارج وبما أنهم معروفون باتقان حرب العصابات التي تمرسوا فيها عبر آلاف السنين فبمقدورهم شل كل سبل الحياة في السودان ووقف صادرات البترول الذي أصبح شريان الحياة بالنسبة للحكومة والذي تمول منه آلتها العسكرية لضرب الانتفاضات الشعبية.
يتحدث البجه أولا بصورة عامة عن الدستور حيث أرجعوا كل مشاكل السودان لعدم وجود دستور مطبق وغياب سيادة القانون, الذي يعتبر أساس لكل دولة فبالرغم من وجود دستور في السودان إلا انه معلق ومخصص لعرضه على الوفود الأجنبية ومنظمات حقوق الإنسان. وتعليق الدستور هو سبب مشاكل السودان, وفي نفس الوقت لا يمكن تطبيقه في ظروف الاضطرابات الموجودة حسب قول الحكومة وبذا فقد اصبح تجميد الدستورهو السبب والنتيجة في وقت واحد. لهذا فان السودان يحكم بالمزاج الشخصي, وضربوا مثلا ببريطانيا التي برغم من أن دستورها غير مكتوب إلا انه محترم. لهذا يرى الناس في السودان التردي والفساد واستغلال النفوذ ونهب المال العام الذي تحدث عنه تقرير المراجع العام. ويضرب البجه مثلا باستغلال النفوذ قيام مسؤول كبير بتعيين متعلمين من رهطه في أربعمائة وخمسين وظيفة سيادية وتنفيذية رفيعة دون وجه حق وانه قام بتعيين الفاقد التربوي من رهطه في جهاز أمن المغتربين وجهاز الأمن الخارجي في السفارات حتى يستلموا بالدولار ولا يفوتهم المولد لدرجة أصبحت السفارات ديارا لرهطه, كما ذكروا بأنه قام بدون وجه حق بتعيين ابن عمه مديرا لمعهد الخرطوم الدولي ليستلم أيضا بالدولار وهو داخل السودان, بعد أن زوده بالمؤهلات الورقية اللآزمة, بينما أساتذة المسؤول الكبير الذين درسوه في جامعة الخرطوم لاقوا جزاء سنمار فهم مشردون في شوارع القاهرة. وضرب البجه ايضا مثلا للفساد قيام وزير تعليم أعلى أسبق بإرسال ابنه لأمريكا لبعثة مزدوجة لتحضير الماجستير والدكتوراه علما بأنه حاصل على درجة الماجستير من جامعة الخرطوم, وهذا بالرغم من أن البعثات الحكومية موقوفة. كما أن أركان الإنقاذ يرسلون أبناءهم للدراسة في الخارج ويرسلون أبناء المهمشين لمناطق العمليات الحربية ليتخلصوا منهم. ومن ضمن ما ذكروا انه خلال الأربعة عشر عاما الماضية التي هي حكم الإنقاذ لم يحصل أي من أبناء المناطق المهمشة على شهادة ماجستير أو دكتوراه فقد خصصت كلها لرهط النائب الأول والشمالية ليتولوا جميع المناصب العليا مستقبلا حتى بعد سقوط الإنقاذ وهكذا تستمر هيمنة مجموعة قبلية واحدة. لذا اقترحوا على المهمشين إقامة جامعة في همشكوريب تخصص لأبناء المناطق المهمشة, ولقد وجد هذا الاقتراح ترحيبا حارا من السودانيين قد وتقدم عدد من أساتذة الجامعات لتسجيل أسمائهم كمتبرعين للعمل في هذه الجامعة.
إن تذرع الحكومة بالوحدة الوطنية لإسكات صوت الحق لم يعد مستساغاً فقد استهلكت وأصبحت شماعة لكل الانتهاكات. وأحوال مناطق السودان ليست كلها متشابهة وحتى لو كانت متشابهة فمن المسؤول عنها أليست هي حكومة الإنقاذ التي تحكم منذ أربعة عشر عاماً! إن كل التنمية موجهة للإقليم الشمالي، وكل الحرب موجهة للشرق والغرب والجنوب. مشاريع غير ذات جدوى تقام وينفق عليها من عرق المهمشين وثرواتهم. أنظر الى خزان الحماداب، الذي أكد الخبراء عدم جدواه، وبالرغم من هذا فإن الحكومة تسابق الزمن لتشييده قبل توقيع اتفاق السلام وقد استدانت المليارات التي ستسدد من بترول الجنوب وذهب البجه الذين لا يجدون ماء بئر يرويهم أو سيارة إسعاف تنقل مرضاهم. لقد شاهدت بأم عيني كيف تبدد الأموال المستدانة لتشييد خزان الحماداب، حتى قبل رمي أساسه، فقد حضر معي على نفس الطائرة وفد من مسؤولي الخزان، وكلهم من الجماعة المهيمنة، من فرانكفورت قضوا بألمانيا شهوراً طويلة دون مبرر، غير زيادة بدل السفر الذي يقبض بالدولار، أقاموا فيها في أفخم فنادق ألمانيا وتسوقوا فيها من أرقى المتاجر وسوق المطار الحرة حتى انتفخت حقائبهم التي يدفع تكاليف ترحيلها الشعب السوداني المغلوب على أمره كما يدفع تكاليف سفرهم بالطائرة بالدرجة الأولى التي لا يركبها إلا سفراء الدول الكبرى ورجال الأعمال العالميين.
ان هناك ظلم واقع على الاقليم الشرقي وهذا واضح بالإحصاءات الرسمية. إن البجه في الإقليم الشرقي يعانون منذ أن حطت أقدام الاستعمار في أرضهم، ولكن هذه المعاناة تضاعفت وبشكل صارخ في عهد الإنقاذ، وهناك من يقول إن الأقاليم أصبحت تحكم من قبل أبنائها في عهد الإنقاذ وفي نفس الوقت فإن كل ولاة الولايات الشرقية من خارجها، وبالرغم من هذا فإن هذا ليس مطلبنا ومن قال إننا نريد أن نحكم أقاليمنا؟ نحن نريد أن نحكم السودان أم أن حكمه مقصور على الجماعة المهيمنة. إن وجود مسؤول من البجه في موقع في الاقليم الشرقي أو في الحكومة الاتحادية لا يلبي إلا حاجته الخاصة فالقرار الأخير للمجموعة القبلية المهيمنة في المركز حتى مع تطبيق الحكم الفيدرالي.
إن بلاد البجه تبلغ مساحتها ٠٠٠،١10 ميل مربع وتشمل ولايات كسلا والقضارف والبحر الأحمر، ولها حدود جغرافية وتاريخية محددة ومعروفة. ويعتبر البجه من أقدم الشعوب في إفريقيا، ولهم لغة خاصة تعتبر شقيقة للغة الهيروغلوفية، وتاريخ قديم وثقافة عريقة. ولقد كانت البلاد عبر العصور المختلفة تكون دولة ذات سيادة خاصة عرفت بها منذ عهد الفراعنة، ولم تفقد سيادتها إلا بعد دخول الاستعمار البريطاني عام 1897م. وفي عام 1956م خرج الاستعمار الإنجليزي من البلاد وقام بضمها للسودان بحجة الوحدة الوطنية. إن خروج الاستعمار البريطاني من السودان لم يأت نتيجة نضال ثوري أو كفاح جماهيري، بل جاء بعد أن شملت رياح التغيير والكفاح أجزاء كثيرة من العالم وبعد أن أرهقت منصرفات إدارة السودان كاهل الخزانة البريطانية ووجد الاستعمار البريطاني أن الوقت حان لتسليم الحكم لتلاميذه الذين هيأهم للحكم من خلال مؤسسات سياسية وعسكرية تدين له بالولاء. إن أحزاب وعساكر الخرطوم يحكمون بلاد البجه بحجة الوحدة الوطنية للسودان، والسودان الحالي عبارة عن وحدة إدارية أنشأها الاستعمار البريطاني العام 1898م ثم أقرها المؤتمر الاستعماري في برلين برسم الحدود السياسية للبلاد من داخل الدهاليز المغلقة، وجمع فيها شعوباً مختلفة دون مراعاة لاختلاف القوميات، حتى يستطيع أن يسيطر بتطبيق سياسة فرق تسد. نشأ مؤتمر البجه العام 1937، عند زيارة جواهر لآل نهرو لمدينة بورتسودان في طريقه لبريطانيا للتفاوض حول استقلال الهند، واقترح على البجه إنشاء تنظيم سياسي يدافع عن حقوقهم، فأطلقوا عليه اسم المؤتمر تيمنا بحزب المؤتمر الهندي. وبالرغم من خروج المستعمر البريطاني إلا أن الظلم ظل باقياً مع نكوص الأحزاب عن الوعود التي قطعتها للبجه لتنمية إقليمهم، مما استدعى استمرار التنظيم الذي تحول إلى حزب سياسي خاض الانتخابات العام 1965وفاز بعدة مقاعد. وبعد قيام انقلاب الإنقاذ واستيلاء الجبهة القومية على السلطة وحظرها العمل السياسي في الداخل خرجت كل أحزاب السودان إلى الخارج ومن ضمنها مؤتمر البجه. والأصل في عمل مؤتمر البجه هو النضال السياسي السلمي متى ما تيسرت الظروف لذلك، ولكن ممارسات حكومة الإنقاذ وتصريحات أركانها الاستفزازية من على مكبرات الصوت أمام النساء والأطفال وتقنينها للمعارضة العسكرية دفعت شباب البجه لحمل السلاح دفاعا عن أهلهم وأرضهم وإعلان الكفاح المسلح العام 1994. وبالرغم من أننا مع الحل السلمي وقمنا بتسجيل مؤتمر البجه بالداخل إلا أننا لا نستطيع كبح جموح الشباب والحكومة هي المسؤول الأول عن هذا العمل بتجاوزاتها وضيق صدرها بالآخرين والتعامل مع الشعب السوداني بعقلية المليشيات وسياسة القمع التي تمارسها ضد خصومها السياسيين واعتمادها على القبضة الأمنية في إدارة شؤون البلاد. وهذا ما جعل شباب مؤتمر البجه يذهبون إلى أكثر مما ذكرنا أعلاه، إذ يقولون بأنه مثل ما تعطي الحكومة لنفسها الحق في قصف المدنيين من أهلنا في همشكوريب وهمبوكاييب بالطائرات الحربية فإن لهم الحق في ضرب الخرطوم وشندي وكريمة ودنقلا معاقل أهل أركان النظام. لقد لجأ شباب مؤتمر البجه إلى المناطق الحدودية النائية وقاموا بتحرير أكثر من 60 قرية أقاموا فيها إدارات مدنية وجعلوا فيها قواعدهم. وتوجد للتنظيم فروع في كل أرجاء العالم تناضل من أجل تحقيق طموحات البجه. إن بلاد البجه تتمتع بموقع استراتيجي له أهمية قصوى ليس على خريطة السودان فحسب، بل على خريطة العالم كله، بحكم إطلالتها على البحر الأحمر، الممر الاستراتيجي للاقتصاد العالمي من نفط وغيره. كذلك فإن بلادهم تزخر بالثروات المعدنية والزراعية والحيوانية مما يجعل البجه يتذمرون من أن خيرات بلادهم من أطنان الذهب والمحاصيل الزراعية عالية القيمة،مثل السمسم والصمغ العربي وغيرها، وإيرادات موانئهم وجماركهم، تنفق منها المليارات على تنمية الشمال بينما تتعرض مدنهم للعطش ونقص الطاقة الكهربائية، وكذلك ما يمر عبر بلادهم من بضائع وأنابيب نفط، تذهب كلها لرفاهية الشمال. كذلك عدم إشراك البجه في اتخاذ القرارات المركزية المصيرية والقومية. عدم المساواة في فرص التعليم والتوظيف وعدم إشراك البجه في المناصب السيادية وتحديد سقف واطئ لترفيعهم، استغلال بلاد البجه لخدمة غيرهم، وعدم استفادة البجه من عائدات المشروعات الموجودة على بلادهم والتي أضرت بهم وتنفق عائداتها على مشاريع التنمية في الشمالية مثل خزان الحماداب الذي استدانت الإنقاذ مليارات الدولارات لتشييده بالرغم من تأكيد الخبراء بعدم جدواه، وستسدد هذه المليارات من ذهب البجه. وهكذا فإن كل التنمية في الشمال وكل الحرب في الشرق حيث انتهى تسببت في نزوح السكان من عشرين قرية في ولاية البحر الأحمر وأربعين قرية في ولاية كسلا حيث بهم المطاف مشردين على أطراف المدن في حالة مزرية، وأصبحوا يشترون الخدمات التي كانوا يجدونها مجاناً في قراهم مثل السكن والوقود والمياه والحليب وحتى الطعام من مزارعهم. إن المآسي التي يعاني منها شعب البجه تتمثل في استغلال وتمليك غير البجه لكل ثروات البجه الطبيعية والاقتصادية، وسيطرتهم على السلطة السياسية والإدارية في البلاد عن طريق الهيمنة على السلطة المركزية، وحماية ما حققوه من مكاسب غير مشروعة، وانفرادهم بكل المناصب العليا في المؤسسات المركزية التشريعية والتنفيذية، ومن ثم إصدار التشريعات والقوانين التي تحمي مكتسباتهم غير المشروعة في بلاد البجه، ـ بل بالإضافة إلى تدمير البيئة فقد جلبت وافدين يزاحمونهم في مياههم وأرضهم ومواردهم، وتذهب كل العائدات إلى الأقلية المهيمنة. إن شعب البجه يدفع ثمن ممارسات حكومة الإنقاذ الخاطئة التي قامت باستدانة مليارات الدولارات من الدول والمؤسسات الأجنبية، وقامت بتبديدها بينما يحرم البجه من ضروريات الحياة لأجل تسديد هذه الديون. بالإضافة إلى هذا فإن الأموال تهدر في تعيين المحاسيب والسدنة في وظائف لا حاجة لها، وما ذنب شعب البجه ليدفع مرتبات ومعاشات من تم تعيينهم بالجملة والتجزئة دون استشارته. إن شعب البجه يدفع ثمن أخطاء الإنقاذ ليفنى من الجوع والمرض وينعم غيره بخيراته. إن البجه هم أقلية تطالب بحقوقها، وليسوا بدعاة انفصال ولكنهم دعاة استقلال ومساواة. إن الشعار الذي ترفعه الحكومة الحالية بعدالة توزيع السلطة والثروة، لا يقصد به توزيعهما على كل الشعب السوداني، بل على الأقلية التي تسكن إقليم لا يتجاوز سكانه المليون والنصف مليون نسمة، وتبلغ ميزانيته عشرة أضعاف ميزانية ولايات البجه التي يربو سكانها على الأربعة مليون وينطبق هذا على المرافق الخدمية من مستشفيات ومدارس وخدمات أخرى. فبينما تبلغ نسبة الاستيعاب في المدارس في الولاية الشمالية مائة بالمائة نجدها في ولايات البجه لا تزيد على 15٪، خمسة في المائة منهم فقط من البجه. ولا توجد مدارس في الريف حيث يقطن البجه, والموجود منها من مدارس الأساس لم يتقدم منها أي طالب للمرحلة الثانوية لسنوات عديدة متوالية. ومثال على ذلك أن في منطقة مدينة طوكر والقرى التي حولها والتي يبلغ سكانها أكثر من ثلاثمائة ألف نسمة، توجد بها أربعين مدرسة أساس ولا توجد غير مدرسة ثانوية واحدة للبنين وأخرى للبنات لهم في مدينة طوكر وليس بهما داخليات. وتنتشر في الشرق أمراض اختفت من كل أنحاء العالم حيث لا توجد في ريف البجه لا مستشفيات ولا رعاية صحية والموجود منها تنقصه المعدات والكوادر، ويكفي أن تعرف أنه في المنطقة الممتدة من بورتسودان وحتى حلايب لا يوجد فيها مستشفى واحد، وأن المرأة البجاوية الحامل تكون نسبة الهموجلوبين في دمها أقل من أربعين بالمائة وأن كل من تحمل مصيرها الموت. أما الأطفال البجه فإنهم يموتون قبل أن يبلغوا الخامسة من عمرهم حتى أن عدد البجه تراجع واختفت قبائل منهم. هناك تفرقة واضحة في ممارسات الإنقاذ والانحياز لإقليم معين وهضم حقوق الشرق ومن الأمثلة الكثيرة أن الحكومة المركزية دعمت الولاية الشمالية في عام ١٩٩١/1992 بمبلغ 37.500.000 جنيه، وفي عام 1992/1993 بمبلغ 56.300.00 جنيه، وفي عام 1993/1994 بمبلغ 140.000.000 جنيه، بينما دعمت الولايات الشرقية في عام 1991/1992 بمبلغ 30.700.000 جنيه، وفي عام 1992/1993 بمبلغ 36.800.000 جنيه، وفي عام 1993/1994 لم تقدم لها أي دعم مركزي وفي الأعوام 97/98/99 حصلت ولاية النيل على دعم من الصندوق بلغ (1 مليار جنيه جعلها تحتل المركز الثاني في الدعم، بينما احتلت ولاية كسلا المركز الرابع بدعم قدره (15) مليار، علماً بأن سكان ولاية النيل يقل تعدادهم عن المليون نسمة وسكان ولاية كسلا فقط أكثر من مليونين، ولكن صوت ولاية النيل هو المسموع بحكم وجود أبناء الولاية في مراكز صنع القرار، لذا فهم يستحوذون على كل المميزات. وبالنسبة للتعليم فولاية الجزيرة وحدها بها 300 مدرسة ثانوية. إن هذا مثال بسيط لسيطرة الأقلية على الثروة، حيث أن سكان الولايات الشرقية ثلاثة أضعاف سكان الشمالية ولا يجدون ثلث ما تجده من ثروة وخدمات فالتنمية للشمالية أهل السلطة والحرب والدمار للشرق، حيث حرضتهم الحكومة لمقاتلة المعارضة بالإنابة عنها ولم تسأل عن من قتل أو أسر، وتركت سكان أربعين قرية في ولاية كسلا وعشرين قرية في ولاية البحر الأحمر يصبحون نازحين يعيشون في ظروف سيئة تفترسهم الأمراض والجوع والفقر في أطراف مدن الشرق. أما سيطرتها على السلطة مفتاح الثروة، فتتضح في عهد الإنقاذ، فهناك ٣ وزراء لوزارات هامشية، خصصت للبجه والمهمشين، بينما يشغل 99% من الوزارات والمناصب الدستورية والنافذة والسفراء، ناهيك عن رئيس الجمهورية ونائبه الأول، أشخاص من الشمالية، لتأمين مكاسبهم وهيمنتهم على السلطة. إن هذا يجسد الظلم والاستغلال والتفرقة العرقية. وبالرغم من هذا، فإن البجه لا يسعون إلى مناصب. هذا هو حال هذه الحكومة التي تنفي حتى عن المجاعات التي تعلن عنها المنظمات الدولية والتي تأثر بها أكثر من 950 ألف شخص في شمال شرق بلاد البجه، لقد دفع هذا وغيره البجه لأن يطرقوا كل الأبواب للحصول على مكان لهم تحت الشمس يوفر لهم العدالة والمساواة، على الأقل في إقليمهم حيث تكون لهم السيادة على أرضهم وثرواتهم بدلا من تعيين ولاة ومسؤولين من مناطق أخرى. إن ما يقام في بلاد البجه من مشاريع تسمى قومية أو زراعية أو اقتصادية، لا تراعى فيها التنمية الاجتماعية للبجه بل تضر بهم وبيئتهم، وينصب تركيزها على توفير الرفاهية للشمال، بالإضافة إلى بيع مشاريع مقامة على أراض مثل المنطقة الحرة ومستودعات الموانئ، (التي يتصرف فيها مديرها وكأنها ملك له وقام مؤخرا بمصادرة كل الأراضي الساجلية من بورتسودان الى سواكن, في نفس الوقت لم يتسلم أصجاب الأراضي المصادرة لتشييد ميناء تصدير البترول تعويضاتهم المجحفة حتى الآن) أراضي القاش, لشركات مسجلة خارج السودان بزعم تشجيع الاستثمار الأجنبي وبيع أراضي البجه الزراعية والسكنية للمستثمرين الأجانب. وبينما لا يجد البجه أراضي لإقامة مساكن لهم ويقتتلون في قطعة ارض (مثل حادثة مقتل وكيل ناظر قبيلة البني عامر في بورتسودان) يتم توزيع أراضيهم للغير وأدت هذه الممارسات إلى تقليص مساحات مراعي البجه وتدمير البيئة التي يحيون عليها هم ومواشيهم، مما نتج عنه سلسلة من المجاعات المتكررة. وتذهب عائدات استخراج الذهب من بلادهم لمصلحة النخبة الحاكمة، كما أن التنقيب عن الذهب واستخلاصه يتم بوسائل مدمرة للبيئة حيث يتم سكب السينايد في تربتهم، بشهادة عضو في برلمان الحكومة المحلول، مما نشر أمراضا خطيرة بين السكان الذين يعيشون على مساعدات منظمات الإغاثة رغم الذهب الذي تنتجه أرضهم. وتستنزف أعمال التنقيب المياه الشحيحة التي يعيش عليها سكان المنطقة لذا فهم في حالة عطش دائم. وفي الوقت الذي تصدر فيه منطقتهم أكثر من عشرة آلاف كيلوغرام من الذهب النقي لا توجد لديهم سيارة إسعاف واحدة لنقل مرضاهم, بينما هناك ست سيارات مخصصة للاستخدام الشخصي لوزير في الحكومة المركزية وزوجتيه. وهنا يوجه البجه اتهاما للحكومة بأنها تسعى لفنائهم حتى تخلو لها مناجمهم وأرضهم، التي تعتبرها النخبة الحاكمة امتدادا طبيعيا للولايات الشمالية الطاردة. وبالنسبة للحكم الفيدرالي فإن الخبراء يرون أن عدد الولايات قد أصبح كبيراً جداً، الأمر الذي يشكل عبئاً على خزينة الدولة المركزية من حيث تعيين 26 والياً وعدداً كبيراً من الوزراء وتوفير مخصصات مالية عالية وسيارات ومساكن، كما أن هذا العدد من الولايات لن تتوفر له الإمكانات والمقومات المحلية والكوادر البشرية، الأمر الذي من شأنه أن يقلل فعالية الحكم الفيدرالي وأثره في التنمية. من أرقام إيرادات ولايات البجه الثلاث يتضح بأنه لا توجد مقارنة بين ميزانيات ولايات بلاد البجه وإيراداتها حيث أن أرقام الإيرادات فلكية وهي كفيلة لو وظفت لصالح البجه أن تجعل البلاد لا ترفل في العيش الكريم فحسب، بل تؤمِّن لكل بجاوي مقومات الحياة العصرية المرفهة وسيذهب الفقر والجوع والجهل والمرض بلا رجعة، وكل هذا رهين بإرادة البجه في تحرير أرضهم وثرواتهم. ينص الميثاق العالمي حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي تبنته هيئة الأمم المتحدة في 16 ديسمبر 1966، ووقعت عليه حكومة (السودان) في المادة الثانية منه على أن من حق أي شعب أن يتصرف بحرية في ثرواته وموارده الطبيعية التي ورد في آخرها بالحرف الواحد "في أي حال من الأحوال لا يجوز أن يحرم شعب من وسائل عيشه والإبقاء على حياته". فهل تطبق هذه المادة على ثروات البجه؟ ولماذا يحرموا من ثرواتهم؟ استحوذ الفصل الأول (وهو بند المرتبات) في كل ولايات البجه على أعلى نسب من مجمل المنصرف على القطاعات، حيث بلغ نسبة 82٪. وجاءت أدنى مستوى للصرف على قطاعات الزراعة والغابات وقطاع الرعاية الاجتماعية، وشؤون المرأة والطفولة والآداب، حيث تدنت مستويات الصرف إلى ٤٪ و ١٪ للقطاعين. واحتل قطاعا التعليم والصحة مرتبة الوسط في الإنفاق، مع نسب مئوية ضعيفة. وهكذا تذهب معظم الأموال المخصصة للبجه (65%) إلى الفصل الأول وهو مرتبات الموظفين الذين يتم تعيينهم بالوساطة دون حاجة لتعيينهم، ويمارسون الفساد والتسلط على شعبنا، حتى لو كانوا من البجه فهل المشكلة هي إشباع القلة؟ بينما يتم إهمال قطاعات حيوية مثل الصحة التي ينفق عليها ٣،26٪، وينفق على التعليم ٥٪ فقط أما التنمية فلا يصرف عليها شيء لأنها مخصصة للشمال. تبلغ نسب الإنفاق في محليات الحضر على الإدارة والتعليم والصحة 21٪ و30٪ و 30٪ على التوالي، ويقابله في محليات الريف ٣٪ و 1.3٪ و 1.4٪ على التوالي. ويبلغ نصيب الفرد من الإنفاق في محليات الحضر في الإدارة والتعليم والصحة بالدينار 1092 و 246 و 164 على التوالي، ويقابله في محليات الريف 69 و 40 و 27 على التوالي. وتشير المعلومات أعلاه بوضوح إلى التفاوت الكبير، بين محليات الحضر والريف وأيضاً إلى تفاوت نصيب الفرد في الصرف على الأوجه المذكورة. إنه بعد انقضاء قرابة نصف قرن على خروج الإنجليز لا تزال مشكلة السودان ليست قائمة فحسب، بل هي تتفاقم، ولا زالت مقاليد الحكم في السودان كله في يد حكومة مركزية تتكون كلها من مجموعة قبلية من إقليم واحد تسيّر أمور البلاد حسب مصالح المشاركين فيها. إن الحكومة الموحدة التي تقوم على أساس قاعدة (صوت واحد للشخص الواحد) تضع أي قومية إثنية كأقلية في وضع أدنى بكثير من وضع غيرهم وأدت إلى التمييز ضدهم واستغلالهم من قبل الجماعة الحاكمة. إن وجود الخلافات الثقافية والعرقية في أنحاء السودان حقيقة واضحة اعترفت جميع حكومات الخرطوم بأهميتها في مناسبات عديدة، خاصة في محاولاتها لشرح سياستها تجاه جنوب السودان واتفاقية السّلام التي وقعت مؤخراً العام 1997 مع الجنوبيين، وقد نص الدستور الحالي (المجمد) على التنوع العرقي والثقافي، كذلك فإن تجمع المعارضة قد نص على هذا المعنى في مؤتمره للقضايا المصيرية. إن أنسب نظام للحكم والإدارة في أي بلد هو النظام الذي يلائم أوضاعه الخاصة، لا النظام الذي يطابق أي نموذج جاهز، والذي يحمل اسما براقاً. وقد أثبت نظام الدولة الحالي دون إيجاد وضع دستوري للأقليات القومية، وبالإضافة إلى أنه جعل الحكام يستغلون شعوب وثروات الأقليات المهمشة، فإنه نظام ضعيف وليس عاجز فقط عن حل مشكلة الأقليات، بل عاجز عن حل مشاكل السودان في مجموعه. وقد يكون تقسيم السودان إلى خمسة أقاليم تتولى الرئاسة بالتناوب أحد الحلول, مثل ما هو مطبق في ماليزيا, ولكن لا بد أن يتولى البجه أول رئاسة تعويضا لهم عن سنوات الاضطهاد والقهر الطويلة, كما يطالب البجه بحكم ذاتي بصلاحيات موسعة, اضافة الى خمس المناصب الدستورية والتنفيذية الاتحادية وفنح بعثات دبلوماسية باقليمهم. ومن ضمن مطالب البجه 25% من عائدات البترول الذي يصدر من موانئهم ويدمر بيئتهم مثلما تحصل الكاميرون من بترول تشاد, وكذلك يطالب البجه بثمانين في المائة من عائدات المشاريع التي في بلادهم مثل الذهب والموانيء والجمارك وغيرها. إن قضية البجه تتركز في مطالبتهم بحقوق دستورية ويرفضون أي شكل للحكم الفيدرالي الذي فشل في إعطائهم حقوقهم، وتذهب كل ميزانيته للفصل الأول في مرتبات تمنح لضعاف النفوس بدلاً عن أن تذهب للتنمية. ومن قال إننا نريد حكم أقاليمنا فقط نحن نسعى لحكم السودان كله أسوة بغيرنا. إن المناصب ليست هي هدف البجه النهائي إذ أنهم يطالبون بالحقوق التي نصت عليها القوانين الدولية للأقليات. إن قضية البجه لا يمكن أن تختزل في مناصب تمنح لمن ارتضوا مشايعة الحكومة لتحقيق مصالحهم الشخصية على حساب مصالح أهلهم، وماذا ترجو الحكومة من من لم يفيدوا أهلهم. إن تناول الحكومة لمسألة تنمية الشرق تشابه الانفصام العقلي، فعندما يطالبها البجه بالتنمية تقول لهم إن بلادكم فقيرة، ولكنها عندما ترسل سماسرتها لدول الخليج للبحث عن مستثمرين، فإنهم يعرضون ثروات بلاد البجه بأسلوب الباعة الجائلين. سليمان صالح ضرار مؤتمر البجه
|
|
|
|
|
|