نشر القيادى بالحركة الشعبية (شمال) ياسر عرمان مؤخراً مقالاً فى صحيفة الراكوبة بعنوان ( سيد نايلاي عين على القضايا الطبقية وآخرى على الإضطهاد القومي الثبات بضاعة لا تشترى، الراكوبة، 10/5/17) قدم فيه تصورا لما ينبغى أن يكون عليه نشاط اليسار السودانى فى هذه المرحلة؛ لكن لم يات الكاتب بجديد إذ أنه إنطلق فى تصوره من الافكار المبسطة الخاصة بالتغيير للجهة السياسية التى ينتمى اليها والتى لم يساهم نشاطها، لا من قريب أو بعيد، فى إثراء الحركة اليسارية السودانية. كما أن النصح الذى قدمه الكاتب لليسار، معتمداً على تفسير خاطئ للمصطلحات، يثير التعجب.
إن الافكار التى يطرحها الكاتب فى مقاله ترتكز على منهجية وصفها ب " المزاوجة بين قضايا القوميات والقضايا الطبقية". لكن المزواجة بين القومية والطبقية هى تخليط لمفهومين والنتيجة فكرة مُلتبسة لا نفع لها حتى فى مجال البلاغة السياسية (political rhetoric). إن المنهج الصحيح (العلمى) الذى ينطلق من التحليل الطبقى المادى يحدد توجه الحركات القومية بين توجه رجعى، وتوجه يضعها فى خارطة التحرر الوطنى (الجانب الصحيح أو، اكثر دقة، التقدمى من التاريخ). فالقومية لا يمكن فهمها الا بالنظر اليها على أنها ذات طابع تاريخى. ففى العصر الحالى فإن القضايا المركزية للقوميات تتعلق بالتحرر الوطنى الهادف لإزالة هيمنة الدول الإمبريالية على الدول الطرفية وتحويلها لوحدات ملحقة (peripherals). ونضال حركات التحرر الوطنى أصبح جزءاً لا يتجزأ من من النضال العالمى لإسقاط نمط الإنتاج الراسمالى فى البلدان الإستعمارية الغربية المتسبب، كضرورة لبقائه، فى السيطرة على الدول الفقيرة من خلال حرمانها حرية إتخاذ القرارت الصحيحية التى تخدم مصالح شعوبها.
وهكذا فإن فكرة المزواجة بين القومية والطبقية لا معنى لها لا من وجهة النظر الماركسية ولا حتى البرجوازية إذ أن فكر التحرر الوطنى يقع بين نهجين مختلفين، فالماركسيين لا ينظرون لهذين المفهومين بإعتبارهما مفصولين عن بعضهما البعض حتى تُطبق عليهما المزاوجة التى تتم بشكل ميكانيكى، بينما تنادى البرجوازية، للحفاظ على مصالحها وإطراح الصراع الطبقى، بشعار الوحدة القومية وتصوير مصالحها كمصالح جميع الطبقات.
ويقدم الكاتب جنوب أفريقيا كمثال وبرهان لفاعلية نظريته الخاصة بمزاوجة القومى والطبقى، ولكن أين هى جنوب أفريفيا الآن من النجاح فى هذا المضمار؟ إن العمال فى جنوب أفريقيا يعانون من الإضهاد (مقتل عشرت من عمال منجم للبلاتين فى 2012 عند إضرابهم للمطالبة برفع أجورهم) تمارسه عليهم دولة تسيطر عليها برجوازية بيروقراطية من الوطنيين السود الذين آلت لهم السيادة السياسية عقب زوال نظام الأبارتيد. فالواقع الإقتصادى تُرك كما هو بعد التحول السياسى المذكور، وهو يشتمل على حيازة البيض لملكيات خاصة واسعة من الارض. والتركيبة الإقتصادية للبيض الذين حكموا البلاد لثلاثة قرون قدمت وسطاً صالحاً لأزدهار البرجوازية السوداء إقتصادياً. وكلما تذمر الناس من الأوضاع الإقتصادية يفتعل نظام الحكم المعركة مع البيض لإمتصاص التذمر الشعبى من تدهور أوضاعهم المعيشية وإزدياد الفقر؛ وهذا لاينفى أن تتطور المناوشة مع البيض لمواجهة حقيقية يستخدمها حزب المؤتمر الحاكم (راس تحالف حزبى/نقابى يحكم البلاد) وسيلة لتقوية قبضته على السلطة وليس لإعادة هيكلة الإقتصاد ففى التحليل النهائى فإن مصالحه تتناقض مع مصالح العمال. والدولة الجنوب الأفريقية بعد 23 عاما من هزيمة الأبارتيد تسودها النزعات القبلية وتعانى نسبة كبيرة من السكان من البطالة وهى مثقلة بالديون (30% من الناتج المحلى الإجمالى). الحكام الذين صعدو للسلطة لم يكن لهم رؤى محددة للتغيير، فالإنجاز الكبير المتمثل فى محو نظام الأبارتيد لم يتبعه التعامل مع البنية الإقتصادية القديمة : زال نظام الفصل العنصرى ولكن القمع الدموى للعمال وإستغلالهم المبالغ فى بشاعته على أساس العمل المأجور لم تخف وطأته؛ فبحكم طبيعته البرجوازية، لم تكن لحزب المؤتمر الوطني الإفريقى رغبة فى تفكيك علاقات الإنتاج القائمة بل تسهيل إنخراط الطبقة، التى يمثلها، فى مجالات الإستثمار القائمة.
يقول البروفيسور سلافوي جيجك، الناقد الثقافى اليسارى والمحاضر فى جامعات ليوبليانا ونيورك ولندن ” فى جنوب أفريقيا ما زالت الحياة البائسة التى فرضها الابارتيد على الأغلبية الفقيرة كما هى، وان إزدياد معدلات الجريمة والعنف وعدم الأمان تنتقص من الحقوق السياسية والمدنية المكتسبة. إن التغيير الرئيس هو أن الطبقة القديمة للبيض قد إنضمت إليها إنتلجنسيا السود... إن الناس يتذكرون وعد (حزب) المؤتمر الوطنى الأفريقى القديم ليس فقط بإنهاء الابارتيد، بل بالعدالة الإجتماعية وحتى بنوع من الإشتراكية. إن هذا التاريخ الراديكالى لحزب المؤتمر الوطنى ينمحى تدريجياً من ذاكرتنا.“
وهنا يثور السؤال حول إختيار الكاتب جنوب إفريقيا مثالاً لفكرة مزاوجة القومية والطبقية بدلاً من تجربة دولة جنوب السودان بإعتبار تجربته الطويلة فى الحركة الشعبية لتحرير السودان. فلماذا لم يحدث الناس عن تجربة حركته وما آلت اليه دولة جنوب السودان من تدمير على أيدى أمراء الحرب الذين حولوا حياة المواطنين هناك الى جحيم.
ونمضى فى قراءتنا للكاتب ونراه يستخدم تعبير " قوى التغيير" الذى لا يحمل تحديداً للقوى التى يمكنها الإضطلاع بمهمة تغيير المجتمع؛ ف " قوى التغيير" صفة وليست مفهوماً يتعلق بتصنيف الفئات الإجتماعية فى إطار إجتماعى إقتصادى (socioeconomic context). وهناك عدة أسئلة تطرح نفسها حول مسألة التغيير وأهمها هو من هى قوى التغيير؟ هل هى الطبقة العاملة أم البرجوازية الصغيرة أم البيروقراطية، هل هى فقراء المزارعين ومتوسطيهم أم أغنياؤهم، هل يمثلها المثقفون أم الطائفية السياسية. والجواب يتوقع منه توضيح لماذا هذه الفئة أو فئات متحالفة دون غيرها هى قوى التغيير.
إن اللجوء لإستخدام تعبير "قوى التغيير" فى المجرد ياتى تعبيراً عن التصورات والتقديرات الذاتية لعملية التغيير والركون للانطباعية والعفوية التى تغيب عنها النظرة الشاملة التى تُمكِن من كيفية تكوين المفاهيم (conceptualization) وإستخدامها كأدوات تلقى ضوءاً كاشفاً يسمح بتفسير وإبانة حقيقة تفاصيل ومكونات تناقضات الواقع القابعة تحت المظاهر السلبية للحياة. فالتغيير يتم بصورة موضوعية وليس نتيجة لوجهات النظر الشخصية للناس، بل بإدراك المتغيرات التى تتسبب فى ظهور الأنظمة وتطورها وإنحطاطها ومن ثم إفساحها المجال لأشكال جديدة من الأنظمة كضرورة تاريخية وليس نتيجة الأمانى.
إن توظيف تعبير "قوى التغيير" الحاف ينبع عن افق لا يدرك أن التغيير تحققه قوى إجتماعية صاعدة لا تتولد أفكارها بشكل سحرى. فالافكار الجديدة الخاصة بالتغيير للقوى الصاعدة إنعكاس لتناقض ما ينفك ينشأ فى المجتمع بين قوى إنتاج جديدة يحد من نموها علاقات إنتاج قديمة. والتغيير هو ظهور مجتمع "جديد" كضرورة تاريخية لحل هذا التناقض.
نواصل وعند هذه النقطة نقدم تعليقنا على النصح الذى قدمه الكاتب لليسار. وبداية نذكر أن الحركة الشعبية منذ تأسيها فى 1983 لم يكن لها نظرية للتغيير فبالنسبة لها فإن الازمة السودانية هى ازمة هوية، فالحركة إعتمدت على الأشكال التنظيمية للقيادات القبلية فى توسيع فعالياتها العسكرية بتجنيد المقاتلين والدعم السياسى والإجتماعى بشكل عام. والإعتماد على البنية الإجتماعية التقليدية جعل الحركة الشعبية عرضة للتاذى من التنافر بين عناصرها المختلفة؛ فكل الخلافات التى ضربت الحركة كانت قبلية محضة. والإستعانة بالمكونات القبلية يقلل من كونها عملية تكتيكية، لحركة مطلبها إزالة الإضطهاد القومى، إخفاق الحركة المتمثل فى عدم طرحها لمطالب الطبقات الشعبية وطبيعة التغيير الذى يلبى هذه المطالب. وهذا قصور إستراتيجى أولده غياب النظرية التى تنظر الى أن حل قضايا قوميات جنوب السودان لن يتم إلا فى إطار إجتماعى-إقتصادى جديد ينهض على أنقاض النظام السائد، وليس بالتعابير المجردة المنطلقة من سياسة الهوية مثل الترويج لوحدة بين شعوب القوميات المختلفة بتحقيق رابطة ما إجتماعية ينتمى لها كل المواطنين بغض النظر عن اعراقهم ومعتقداتهم،الخ.
قدم الكاتب نصحاً لليسار قائلاً أن ” الحوار الفكري مع قومي الهامش على نحو أعمق يجب لايكتفي بمناقشة سطح القضايا السياسية والاستجابة لضغوط الأحداث السياسية اليومية، دون أن يثبر غورها الفكري وهذا الأمر لم يستمر مثلما فعل جوزيف قرنق، ليس ذلك فحسب بل إن جوزيف قرنق وعبدالخالق محجوب قد أسسوا حزب الجنوب الديمقراطي كآلية لتوسيع دائرة ذلك الحوار والعمل المشترك في أوساط أوسع وعريضة وعبر منبر مستقل نسبياً ..... هذه المحاولات الفكرية وآلياتها السياسية تحتاج أن تتم زيارتها مرة آخرى بعد مرور سنوات طويلة من تلك التجارب لاسيما الإنفتاح على حركات الريف بعد ثورة أكتوبر 1964م“ رغم أن الكاتب أصاب فى أن افكار اليسار قبل ثورة أكتوبر 1964 تستوجب الزيارة مرة أخرى، الا أنه لم يوضح ما هى تلك الأفكار المراد مراجعتها. وحديثه عن إكتفاء اليسار بتناول سطح القضايا السياسية دون إعمال الفكر يجافى المنطق عندما تصدر من شخص، عمر إنتمائه للحركة الشعبية كما ذكر شمل مدة ثلاثين عام، تاه فى تفاصيل الحياة اليومية لا توجه نظرية نشاط تنظيمه التكتيكى والإستراتيجى.
ومرة أخرى وبطريقة يتفضل فيها الكاتب بنصح اليسار (patronizing) ” يحتاج اليسار السوداني بكافة مدارسه لحوار عميق وفكري في المقام الأول مع قوى الهامش وقوميي حركات الهامش لايتوقف وينحصر في المناسبات السياسية بل يذهب الي أبعد من ذلك، لأنه في خاتمة المطاف لن يحدث التغيير الجذري في السودان الا إذا تم بناء حركة ديمقراطية تمتد من الريف الي المدن، فهو كان يقرأ بعين من كتاب الأضطهاد وبآخرى من كتاب الطبقات لماركس.“ فالكاتب هنا يعتبر ضمناً، من الجملة الأخيرة فى المقتطف، أن الحوار الفكرى مآله التمحور حول الهوية. ( وبالمناسبة ما المقصود بكتاب الأضطهاد وكتاب الطبقات لماركس. كلام خارم بارم). وتجدر الإشارة الى أن الحركة الشعبية بجناحيها الجنوبى والشمالى ليس لها تجربة يستفاد منها إيجاباً على صعيد الفكر وهذا يتضح بجلاء من خلال النظر الى العمل المسلح ل (قطاع الشمال) الذى جعلته سياسات الهوية يكون غير واقعى ومفروض على المواطنيين فى المناطق المعنية وله روابط خلفية بالداعمين الخارجيين. العمل المسلح، الذى يستمد مشروعيته من مبدا دفاع الشعب عن حركته التى تنشد نظاماً يتحقق فيه مبدأ الديمقراطية السياسية والإقتصادية، لا تقوم به مجموعة من الناس بالنيابة عن الشعب. ولا مبالغة إذا قلنا أن إفتقاد العمل المسلح للحركة الشعبية (شمال) لسياسة واضحه ترشد مساره يجعل نيرانه توجه بشكل مباشر وقصدى (deliberate) نحو المواطنين المدنييين كما حدث فى منطقتى "ابو كرشولا" و"ام روابة" فى صيف 2013 عندما ذُبح الاهالى هناك " على الهوية". فالعمل المسلح لا يوجه السياسة، بل هو إمتداد للسياسة وهى مرشده.
ونصح الكاتب لليسار بان يتفاعل مع قوى الهامش بجدية أكثر من الإكتفاء بالتواجد ” في المناسبات السياسية“ كما قال، فيه إجحاف، فاليسار موجود فى الريف السودانى منذ عدة عقود مضطلعاً بالتوعية الطبقية وليس التهريج الشعبوى وهو يؤدى مهمته هذه بصبر وتفانى وبدون تمويل ووصاية خارجية! ولكن تطوير نشاط اليسار فى الريف كماَ ونوعاً وإعطائه الاولوية مسألة جديرة بالإهتمام والمناقشة.
ويستمر الفصل الميكانيكى بين المسالة القومية والصراع الطبقى عندما يذكر الكاتب أن على قوى الإستناره (لاحظ التجريد!) تصويب مجهوداتها ” على قضايا القوميات والطبقات معاً، هذه .. يمكن أن تصنع حركة جديدة وعظيمة، حركة للحقوق المدنية مثلما هي للعدالة الإجتماعية، تجمع بين الحاجة لإلغاء كآفة أشكال الإستغلال الطبقي وربطها بالمساواة بين القوميات، “
إن العودة لنصح اليسار تعكس عزلة الحركة الشعبية (قطاع الشمال) وأزمتها المستفحلة فكرياً وتنظيمياً؛ فالحركة الشعبية للمفارقة، وهى لا تنظيم يسارى ولا يحزنون، لم تشعر بحاجتها للإستهداء بتجربة الحركة اليسارية ( إيجاباً وسلباً) فى السودان التى إمتدت لسبعة عقود، وطبعاً هذا إختيارها ولكنها لم تأتى بافكار مغايرة للافكار حول النظام الوطني الديمقراطي الذى ظل اليساريون والديمقراطيون يناضلون منذ اربعينيات القرن الماضى من أجل تحقيقه.
اليسار السودانى، والشئ بالشئ يذكر، توجد – وبتواضع- فى جعبته تجربة ثرة يمكن تعلم الكثير منها طالما كان الهدف قيادة قوميات السودان على طريق الوحدة والديمقراطية التى تناسب وتخدم تطلعاتها لحياة أفضل.
خارج السياق: الشعب السودانى يقاتل فى ساحة يلفها الظلام الحسى والمعنوى الذى تفرضه سلطة شديدة الإستبداد تسلب الناس حقوقهم السياسية والاقتصادية وتتدخل فى حياتهم الشخصية. لكن الشعب الذى يقاتل فى الظلام، رغم الإخفاقات الموقتة، سوف ينتصر فى نهاية المطاف بحسن الإستعداد. والتاريخ حافل بدروس الشعوب التى قاتلت فى أحلك الظروف وإنتصرت؛ ومعركة ثرموبيلاى الشهيرة التى حدثت فى إطار الصراع اليونانى الفارسى فى الزمن الكلاسيكى تقدم واحدة من هذه الدروس. فكان أن غزت الامبراطورية الفارسية أرض اليونان القديمة بجيش جرار ومعدات حربية ضخمة كتب المؤرخون عن المقدرة الخارقة للفرس فى نقلها عبر مسافات طويلة وتضاريس جغرافية صعبة. طلب قائد الجيش الفارسى من نظيره فى الجيش الإغريقى التسليم قائلاً له " إذا أطلقنا سهامنا، فإنها ستحجب ضوء الشمس"، ورد عليه القائد الإغريقى " إذن سنحارب فى الظلام". ورغم هزيمة اليونان فى ثرموبيلاى إلا ان صمود مقاتليها جعل تلك المعركة تُعتبر من أشهر المعارك الدفاعية فى التاريخ البشرى؛ و”حسن الإستعداد“ فى معارك لاحقة مكن اليونان فى النهاية من إجلاء الجيش الفارسى الغازى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة