|
قضاء السودان و بناء الهوية
|
تعليق على حكم المحكمة العليا
في مسألة (الرق و الكفاءة في الزواج ) قرار النقض رقم 41/1973 ابوبكر سليمان الشيخ ~ قاضي بالهئية القضائية مقدمة تمثل مجلة الأحكام القضائية التي تجمع محصلة ما أرسته المحكمة العليا من قواعد وأحكام، ذخيرة ثرة، وثروة ضخمة لا تجد اهتماماً وعناية من الباحثين والمهتمين إلاّ في مجال القانون ، إلاّ أنّ الناظر المدقق، والباحث الحصيف لما تحويه المجلة من سوابق يمكنه أن يقف على حال السودان، فيدرك ملامح أصوله، وسمات خصائصه،ويتعرف على جذور مشكلاته وخلفيات تاريخه، ومسار مستقبله ، فما تصدره المحاكم من أحكام هو مرآة صادقة للواقع لا زيف فيها ولا تزويق. تقوم فكرة هذه الدراسة على تناول سابقة قضائية بالبحث والتحليل ، وربطها بالواقع ومشكلاته، ورد القضية إلى جذورها التاريخية وأصولها الشرعية ، أي أن ننفذ للواقع بحثاً وتحليلاً من خلال الأحكام والقواعد والمبادئ التي تقررها المحاكم، والصلة بين القانون والمجتمع صلة وثيقة عامرة . فكم أجهد شُراح القانون وفقهاؤه الفكر لتحديد هذه العلاقة وتأطيرها، فنشأت نظريات وتأسست مذاهب، وسندرك من خلال هذا البحث في مجلة الأحكام القضائية سعي القانون الدائب للحاق بركب المجتمع، وهذا يقوي حجة من يدعي أنّ المجتمع أسبق من الدولة وأكبر تأثيراً منها, ويظهر ذلك جليا في العرف الذي يرسيه المجتمع عبر سلوك متواتر، ومدة معتبرة ثم يأتي القانون لاحقا من بعد ليقنن هذا العرف ويتبناه ويصير قانونا يحتكم إليه، وفي الوقت ذاته سنقف على سوابق مستفيضة تحكي عن تخلف المجتمع عن ركب القانون وأحكامه ومبادئه،ويبرز ذلك في الحقوق الأساسية التي يقرها الدستور,فهي تمثل قيما ومثلا كثيرا ما يتخلف المجتمع عنها ولعلّ السابقة التي بين أيدينا تعد المثال الأفضل لهذه الحالة. محور هذا الدراسة سابقة قضائية نشرت في مجلة الأحكام القضائية 1974م ، وهي درة ثمينة صاغها قضاة أفذاذ، لهم تجربة واسعة وعلم غزير وافر، وأصل السابقة وعمودها هو الرق والكفاءة في الزواج، وهو يمثل منطقة حرام تتردد الأقلام بل ترتجف من الاقتراب منها، فالرق من بؤر التوتر في تاريخنا ، تخشى جمهرة غفيرة من التعرض له او التعريض به ،وما قصدت من هذه الدراسة أن اقلّب موجعاً أو أنكأ جرحا ، فيكفي ما بالوطن من مواجع وما به من جراحات، بل قصدت أن أبلغ رسالة مفادها أنّ أحكام القضاء، لها دور مقدر ويد طولي في تقوية النسيج الاجتماعي وبناء الهوية وتدعيم الوحدة في بلد يواجه صعاباً جمة وحرباً ضروساً. لقد شذّت آراء وتباينت افهام بل وسالت دماء عزيزة على أرض السودان في سبيل الإجابة على سؤال محوري هو (من نحن)؟، فشهدت البلاد إضطراباً وإحتراباً استمر عقوداً طوال كادت أن تعصف بالسودان، ولعلّ السابقة تكشف عن جزء ولو يسير من الإجابة على هذا السؤال الحي، فالعرق مقوم أصيل من مقومات بناء الهوية إلى جانب الدين واللغة. , فما رميت إليه من التعليق هو التنبيه للسابقة، ولفت نظر باحثين أكثر همة وأشد عزيمة لثروة مهدرة هي مجلة الأحكام القضائية. بين يدى السابقة: تتلخص وقائع السلبقة في ان رجلا يحمل مؤهلا علميا رفيعا تقدم للزواج من امراة الا ان ولييها قام بعضلها –منعها- من الزواج بدعوى ان في اسلافه رقا ، قبلت المحكمة الابتدايئة الدفع فمنعت الزواج باعتبار ان الرجل ليس كفئا للمراة ،اعترض الخاطب علي قرار محكمة الابتدائية امام المحكمة العليا التي ارست المبدأ الاتي: الأصل في الناس الحرية، والعبودية والرق صفتان طارئتان ، وقد شرعت البينات لإثبات خلاف الظاهر، وبيّنة الإثبات مقدمة على بيّنة النفي، ويقع عبء الإثبات على الطاعن. المولي الرقيق إن اشتهر بفضل علم أو أحرز من الفضائل ما يرفع بمكانته عند الناس، يعتبر كفئاً للقرشية لأنّ شرف العلم فوق شرف النسب والمال. الرق في الشريعة الإسلامية عجز حكمي سببه الكفر والعناد برفض قبول دعوة الإسلام والامتناع عن دفع الجزية. وجاء في حيثيات الحكم أنّ الرق في هذه البلاد فاسد شرعاً لأنّ الرقيق مجلوب بواسطة السرقة والنهب مما لا يضرب به الرق شرعاً . ونوهت المحكمة في حيثياتها أنّ طالب الزواج يحمل درجة علمية من أكبر جامعة في السودان، وبذلك ساوى مرغوبته على فرض أنّ في أصله ولاء، وقد ثبت مما تقدم انتفاء ذلك عنه. هذه هي الوقائع الجوهرية للسابقة محل الدراسة. التعليق علي السابقة بعد قراءة متأنية للسابقة أقف عندها معلقا علي بعض ما تعرّضت له,ملقيا الضوء علي ما حوت من قوعد مؤكدا علي دور القضاء في بناء الهوية وتمتين النسيج الاجتماعي في السودان . مفهوم السابقة القضايئة: لم يكن للنظام القانوني في السودان من سبيل ألاّ وأن يتأثر بالنظام القانوني الإنجليزي، ففي نصف قرن أو يزيد رسخت قواعد القانون العام Common law وتجذّرت مبادؤه، ورغم الجهد الذي بذل عقب الاستقلال في الانفلات من التأثر بالنظام القانوني الإنجليزي ، إلاّ أنّ آثاره لازالت عالقة في نظامنا القانوني، وكان مما تأثر به نظامنا القانوني ما عرف بنظرية السوابق القضائية Doctrine of Precedent، وتعني النظرية في أبسط تعريفاتها أنّ المحاكم الأدنى ملزمة بما تصدره المحكمة العليا من أحكام وقواعد, فهي صاحبة علم وخبرة, وتجربة ودراية اكتسبها قضاتها بعد أن أتقنوا صنعة القضاء، التي لم تتوفر بعد في المحاكم الأدنى، فالسابقة محل الدراسة تجئ ضمن هذا السياق، فهي ملزمة فيما أرسته من مبدأ للمحاكم الأدنى ,ومن ثمّ يحصل الاستقرار في الأحكام، وينتهي التعارض والتضارب بين المحاكم، وهذا ما تهدف إليه نظرية السوابق القضائية، ولكن رغم ذلك لا تخلو المحكمة العليا نفسها في دوائرها المختلفة من تضارب في الأحكام واختلاف في الرأي، والمتمعن في مجلة الأحكام القضائية يجد مبادئ وقواعد أرستها المحكمة العليا في زمن ماض ، ألاّ أنّ المحكمة العليا حادت عنها من بعد، فبدلّت وعدلّت في الذي أرسته من قبل ، وهو أمرٌ طبيعي مقبول لا غبار عليه،فتطور القانون وقواعده مرتبطٌٌ بالمجتمع الذي هو في حراكٍ دائم مستمر. قانون الاحوال الشخصية انفصم القضاء الشرعي وهو الذي يعني بأحكام الزواج والطلاق والميراث والوقف والوصية والهبة عن القضاء المدني الذي يعني بالجنايات والمعاملات المدنية منذ وقت باكر من دخول الإنجليز للسودان، فقد صدرت في عام 1902م لائحة خاصة للمحاكم الشرعية نظمت أعمالها وإجراءاتها ، ورغم أنّ المذهب المالكي ( ) هو المتعبد به في السودان، ألاّ أنّ الراجح من المذهب الحنفي( ) كان هو المرجع للفصل في القضايا ، وقد أعطت لائحة القضاء الشرعي الحق لقاضي القضاة في إصدار منشورات شرعية يحيد فيها عن الراجح في المذهب الحنفي إلى مذاهب أخرى، كما ظلت منشورات قاضي القضاة ونشراته بمثابة القانون الموضوعي الذي تستند عليه المحاكم الشرعية في أحكامها. وبعد دمج القضاء الشرعي والمدني في هيئة واحدة ، وبصدور قانون الإجراءات المدنية عام 1983م خول لدائرة الأحوال الشخصية بالمحكمة العليا ما كان لقاضي القضاة من صلاحيات. ويعتبر صدور قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م أول تقنين لأحكام الأسرة في قانون موحد، وقد تبني القانون المنشورات السابقة إلا قليلاً، وأشار للمسائل التي لا حكم فيها حيث نص على: 1-يعمل بالراجح من المذهب الحنفي فيما لا حكم فيه بهذا القانون، ويصار في حالة المسائل التي توجد لأصلها حكم، أو تحتاج إلى تفسير، أو تأويل إلى المصدر التأريخي الذي أخذ منه القانون. 2-يجوز للمحكمة العليا- دائرة الأحوال الشخصية- إصدار قواعد لتفسير أحكام هذا القانون أو تأويلها وفقاً للضوابط المذكورة في البند(1) . فالراجح من المذهب الحنفي هو المرجع فيما لا نص فيه، وهذا دليل على أنّ حقبة تاريخية مرت بالسودان لازالت تؤثر على قوانينه وتشريعاته. الكفاءة في الزواج الكفءُ في اللغة: النظير والمساوي، والكفاءة المماثلة والمساواة,ومنها قوله : (المسلمون تتكافأ دماؤهم) أي تتساوى ,فيكون دم الوضيع منهم كدم الرفيع. وفي الاصطلاح يختلف تعريف الكفاءة باختلاف موطن بحثها، في القصاص أو المبارزة، أو النكاح. ففي النكاح تعني المماثلة بين الزوجين دفعا للعار في أمور مخصوصة. تباينت آراء الفقهاء حول اعتبار الكفاءة في عقد الزواج, فهم بين مضيق وموسع في الأخذ بها. وتتمثل خصال الكفاءة عند الجمهور في الدين والنسب,والحرية,والحرفة. وعند المالكية في الدين والحال، أي السلامة من العيوب, أما الأحناف والحنابلة فقد زادوا عليها اليسار (المال)( ). القانون و الكفاءة تعتبر الكفاءة في قانون الأحوال الشخصية لسنة 1991شرط لزوم للعقد وليس شرط صحة ,فإذا تزوجت المرأة من غير كفء كان العقد صحيحا،وكان لأوليائها حق الاعتراض وطلب فسخه .وقد حدد القانون الكفاءة في أمرين فقط، هما الدين والخلق اعتماداً على المذهب المالكي .حيث نصّ (العبرة في الكفاءة بالدين والحلق)( ). ومما يلاحظ في هذا الشأن أنّ الإمام مالكا-رغم أصله العربي- لا يضع شروطا مشددة للكفاءة ,بينما الإمام أبوحنيفة-رغم اصله الفارسي- يتشدد في أمرها. لم يعتدّ القانون بالنسب والحرية والمال والحرفة، وهذا ما ذهبت إليه السابقة محل البحث. وقد أعتبر القانون الكفاءة من جانب الزوج لا من جانب الزوجة صونا لها من ذل الإستفراش لمن لا يساويها في خصال الكفاءة, إذ أنّ المرأة هي التي تستنكف لا الرجل الذي لا تغيظه دناءة الفراش. السودان ومجتمع الرق: يعد السودان بحدوده التي هو عليها بلد حديث النشأة ,جديد التكوين، لم تكتمل خريطته السياسية إلاّ بعد أن قضي الإنجليز على آخر معاقل المقاومة في دارفور عام 1916، ومع هذا فللسودان حضارة ضاربة في عمق التاريخ، امتدت عبر ممالك كوش مروي ونبتة. لم تكن حضارة السودان القديمة بمعزل عن تأثيرات خارجية ، فتأثّرت بالحضارة الفرعونية وأثّرت فيها، ولازالت بقايا عالقة من هذا التأثير، كما أقامت علاقات تجارية مع أكسوم والجزيرة العربية والهند وفارس، وشهد السودان القديم توتر في علاقاته مع الدولة الرومانية تمكنت على أثرها المسيحية في السودان فنشأت ممالكها الثلاث في النوبة وعلوة والمقرة، وبدأ نجم المسيحية يأفل حين دانت مصر للمسلمين على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه عام 639م ,فبعيد توقيع اتفاقية البقط بين عبد الله ابن أبي السرح وعظيم النوبة مضي التأثير العربي الإسلامي يتمدد رويدا رويدا حتى أفضي إلى نهاية تلك الممالك حين تحالفت القبائل العربية ممثلة في العبدلاب بقيادة عبد الله جماع مع قبائل الفونج بقيادة عمارة دنقس عام 1504م، فقامت السلطنة الزرقاء التي استمرت ثلاثة قرون وكانت نهايتها على يد محمد على باشا الذي أرسل ابنه إسماعيل لغزو السودان عام 1821م. وكانت نهاية الحكم التركي على يد الثورة المهدية في عام 1885م، التي ما لبثت أن حكمت أربعة عشر عاما حتى دان السودان مرة أخرى عام 1899م بموجب اتفاقية الحكم الثنائي لإنجلترا ومصر . هذا موجز للحقب التي مر بها السودان عبر قرون طوال، كل حقبة لازالت آثار بصمتها باقية، قوي هذا الأثر أم ضعف.وللرق في تلك الحقب جميعا دور بارز في تشكيل المجتمع وصياغة تاريخه. ولم يكن السودان بلدا نشازا في ذلك، فمؤسسة الرق صحبت تاريخ البشرية منذ أمد باكر، فهو مؤسسة اجتماعية، ونمط منظم من سلوك الجماعة وجزء أصيل من ثقافة الشعوب وحضارتها. ولعلّ اتفاقية البقط بين المسلمين والنوبة التي حققت هدنة بين الجانبين، فقضت بأن يدفع النوبة ثلاثمائة وستون رأسا من الرقيق غير المعيب تشكل علامة بارزة في دور مؤسسة الرق في تاريخ السودان.وبعد دخول الإسلام للسودان وفي عهد السلطنة الزرقاء ,التي كان التصوف يمثل ركيزة من ركائز المجتمع، مارس شيوخ التصوف علاقة التسري من إمائهم ,فأنجبت تلك العلاقة أبناء اصبح بعضهم شيوخا، وقد تم ذلك في هدوء لا توتر فيه ولا اعتراض( )ويبدو ان المذهب المالكي قد لعب دورا في هذا التمازج الاجتماعي باعتبار أنّ موقفه من الكفاءة أكثر سعة وأقل تشددا من المذاهب الأخرى. أما في الحكم التركي فقد كان البحث عن رجال أشداء يعملون في خدمة جيش محمد علي باشا هدفا لغزو السودان ، ومن ثمّ انتقل مجتمع الرق ومؤسسته لمرحلة جديدة تدخل فيها طرف أجنبي عمد إلي تعقيد مؤسسة كان يمكن أن تندمج في مجتمع أكبر. ومن المستغرب أنّ الحكم التركي الذي جعل استجلاب الرقيق هدفا لغزو السودان تراجع عن هذا وعمل علي محاربة تجارة الرقيق. ويُعد الزبير باشا رحمة من الشخصيات التي أثارت جدلا في تلك الحقبة، فبينما ينظر إليه باعتباره تاجر رقيق يعده فريق آخر من السودانيين أحد الذين أسهموا في نشر الثقافة العربية والإسلامية في جنوب السودان( ) ، وفي وصف الزبير باشا بالباشا الأسود، إشارة للتمازج الذي حدث في أسلاف الزبير نفسه بين العناصر العربية الذي ينتهي إليه نسبه، والعنصر الأفريقي الذي كان مستوطنا ارض السودان. أما الدولة المهدية فقد كان فيها الرقيق شأنا محوريا في شئون الدولة وفي معاش رعاياها لتغلغله في لحمة المجتمع وسداه، ،فمنعت المهدية تصدير الرقيق لتجنيدهم في الجيش وذلك لضرورة اقتضتها ظروف الدولة، كما أصدر المهدى أمرا بأن يكون بيت المال مشرفا على بيع الرقيق، كما أفتى خليفته بالأخذ بشهادة الجهادية في المحاكم تعزيزاً لدورهم الاجتماعي. أما الحكم الثنائي فقد كان من بين مبرراته المزعومة لغزو السودان محاربة الرق، فقد نصّت اتفاقية الحكم الثنائي علي منع إدخال الرقيق إلى السودان أو تصديره, وواجهت إدارة الحكم الثنائي واقعا معقدا في علاقاته,مما حدا بقاضي القضاة بأنّ بعث برسالة للسكرتير القضائي جاء فيها : (أرى في هذه البلاد التي استحكمت فيها عادة الاسترقاق واستخدام الرقيق، أنّ الأنفع المفيد في الأمر لتحقيق رغبة الحكومة في إلغاء الرق أن يسار إلى ذلك بالهوينا .) وقد صدر منشور شرعي قرر عدم الاعتراف بالرق في الإرث مع أنّ الرق الشرعي مانع من الإرث، فلا يرث الرقيق ولا يورث. كما صدرت الأوامر للمحاكم المدنية والشرعية بأن لا تضم الرقيق في حصر أو تقسيم تركة شخص متوفى. . ومن بعد مضت المنشورات القضائية، وأحكام المحاكم في اتجاه قوي يرفض الاعتراف بالرق وجعله سببا من أسباب التقاضي.فقد قررت محكمة المديرية بدنقلا ثبوت نسب ولد الموطوءة بشبهة في المحل حيث لا يحل لأي أي إنسان أن يضع يده عليه بصفته رقيق ( ) كما قررت المحكمة العليا بثبوت النسب بالإقرار إذا توفرت شروطه ولم يقل المقر أن ابنه من زنا ، ويثبت نسب الولد من أبيه إذا جاء به الأب من وطء اليمين الشرعي(التسري). وأرست المحكمة العليا ( ) إنّ الاعتماد في الدعوى علي سبب العصوبة السببية إرتكاز علي غير أساس لأنّ الرق في السودان حتى يومنا هذا ليس رقا شرعيا، وأنّ ما نتج عن هذا الرق من عتق يعتبر باطلا لأنّ ما نتج عن الباطل فهو باطل). وقررت المحكمة العليا( ): ( إنّه لا يجوز إثبات علاقة الرق بإثبات أنّ أسلاف الحائز للأرض كانوا رقيقا لأسلاف المالك المسجل، مما يمنعهم من اكتساب الملكية بالتقادم، وقررت ذات المحكمة إنّ عدم الاعتراف بالرق أدى إلى نسف العلاقات الاجتماعية التي كانت مبنية عليه). الرق وأزمة الهُوّية تُعرّف الهوية بأنّها ماهية الشيء وما يتسم به من مجموعة الصفات، التي تميزه عن آخرين, وتجعله متفردا بها, الهُوّية ليست أمرا جامدا، لكنّها في حراك دائم مستمر، تعيد تنظيم نفسها دون توقف,لقد أضحى مصطلح أزمة الهُوّية وإشكالياتها مصطلاحاً شائعا رائجا في الساحة السودانية ، فمعارك ضارية عارمة,وسجال حام الوطيس,ونزاع طويل شائك وقع لتحديد مكونات تلك الهُوّية وخصائصها، وانقسم السودانيون إثر ذلك إلى تيارات ومدارس تشعبت دروبها وتعرجت مسالكها.فطائفة تؤمن بهُوّية عربية إسلامية للسودان، فتري حق سيادتها وحاكميتها، وأخرى تجنح لهُوّية أفريقية خالصة تزعم أنّ الوجود العربي الإسلامي برمته إنّما هو طارئ علي السودان لا يتجاوز عمره قرون خمس، وانه اسهم بنصيب وافر في تجارة الرق .ومن بين هذه الرؤى وتلك الأفكار التي تموج بها الساحة ، من يري أنّ الدولة السودانية متحيزة لكيان اثني ثقافي يقوم باستثمارها اقصائياً ويفرض توجهاته ضد كيانات اثنيه ثقافية أخرى ، و أنّ هذا الكيان - المتركز والمسيطر في المركز - قد بني لنفسه هُوّية أيدلوجية هي الأسلاموعربية؛ وهي قائمة علي نزعتي الهيمنة والإقصاء؛ تجاه هُوّيات ومصالح المناطق والكيانات الأخرى؛ الأمر الذي أدّى إلى الصدام القومي؛ والمتجلي في صورة الحرب الأهلية الدائرة حاليا في مناطق مختلفة من السودان( ) . و يرى آخر ( ): (إنّ الخطل الأكبر هو اعتقاد البعض أنّ وحدة السودان تكمن في فرض سيادة مجموعة عرقية ثقافية معينة( أهل الشمال) وسيادة دين معين( الإسلام) علي بقية الأعراق والثقافات والأديان. هذا استعلاء ثقافي يعبر عنه بصور مختلفة. نفس هؤلاء يصفون السودان بأنّه جسر بين العالم العربي وإفريقيا. هذا الوصف يحمل في طياته فرضيات خطيرة لابدّ من الإشارة إليّها). أولا: وصف السودان بالجسر إنكار واضح لدوره في التفاعل مع الثقافات العربية والإفريقية وما يساهم به في إثراء هذه الثقافات. فالجسر معبرا إلى أخرى تخطيا لعارض طبيعي لا يؤثر علي أي منهما ولا يتأثر بهما. ثانيا: إنّ هذا الجسر للانتقال في اتجاه واحد هو من العالم العربي إلى أفريقيا. ثالثا: هذا الانتقال هو لنشر الثقافة العربية الإسلامية في أفريقيا والتي من المفترض أنّها مثل جنوب السودان لا ثقافة لها( أو علي أحسن الفروض لها ثقافة أدني) وبالتالي يتم ملء هذا الفراغ الثقافي بما يرد إليها من العالم العربي ، هذا الفهم الخاطئ ينشر هؤلاء الناس في العالمين العربي والإسلامي أنّ الحرب في جنوب السودان هي حرب بين المسلمين والمسيحيين, وبين العرب والأفارقة طمعا في كسب تأييد ودعم الدول العربية والإسلامية لطرفهم في الصراع القائم . ويمضي قائلا . . (الدول الإفريقية التي يفترض أن يكون مصيرها هو مصير جنوب السودان, إذا نجح مشروع فرض الثقافة العربية والإسلامية عليه بقوة السلاح, لن تقف مكتوفة الأيدي لتذوق من نفس الكأس. فموقف هذه الدول ليس حبا في نصر جنوب السودان, وإنّّما دفاع عن ثقافاتها وأديانها وخياراتها ضد نفس الخطر الماثل, فالمصائب تجمع المصابين، من هنا تصبح رقعة جنوب السودان هي خط دفاعها الأول ضد الغزو الثقافي). وقد تصّدت لهذه الأفكار أفكار نافحت عن الهُوّية العربية الإسلامية ,وكان دفاعها ينصب في محورين هما: 1-الهُوّية السودانية بدأت تتشكل قبل مجيء العرب بالآلف السنين، فأرسيت الهُوّية علي أسس سودانية,فالممالك الإسلامية التي قامت في السودان كانت أفريقية الطابع ولم تكن عربية خالصة,فكان يطلق علي مملكة سنار السلطنة الزرقاء, بل إنّ ممالك مثل ممالك دارفور لم تكن تستخدم اللغة العربية حتى مطلع القرن العشرين، فالهُوّية السودانية أبعد ما تكون عن الهشاشة التي يزعمها البعض, وما كان للأثر العربي الإسلامي أو غيره أن يتغول علي هذه الهُوّية قهرا، فرسوخ الأثر العربي والإسلامي في السودان مبعثه أنّّه امتزج تماما بالهُوّية السودانية الراسخة وتشكل بها ( ). 2-إنّ تجارة الرق لم تمارس في حق الأفارقة السود بسبب سحنتهم وألوانهم السوداء، بل كان العرب أنفسهم أحيانا ضحايا للاسترقاق . ففي حروب الفتوحات الإسلامية تم استرقاق الفرس والأتراك والهنود وغيرهم من الأجناس البيضاء ,بل كان هناك أفارقة يمتلكون رقيقا من العرب. فقد ذكر ابن بطوطة الرحالة المغربي المعروف أنّه عندما زار تمبكتو اتجه منها إلى بلد ذكر أنّه قد نسي أسمه وأنّ حاكمه يسمي فربا سليمان وقد ذكر أنّه عندما أمر بالطعام جاءت به له جارية عربية دمشقية تحدثت له بالعربية. فمن بين الأفارقة الذين أخذوا رقيقا إلى الدنيا الجديدة أعدادا هائلة من المسلمين، بل كان من بين هؤلاء الأرقاء أفارقة من أصل عربي,وهو ما يؤكد أنّ ظاهرة الرق لم تكن وفقا علي السحنة الإفريقية السوداء، فإنّ المسلمين الذين يتهمون بممارسة الرق تجارة الرقيق في أفريقيا قد اخذوا كأرقاء مع من اخذ. بل تميز الأرقاء من الأفارقة المسلمين بالرقي والثقافة، ومن تلك الحكايات قصة خطاب من قبل أحد الأرقاء المسلمين في جامايكا ويدعي أبوبكر الصديق أرسله إلى صديق له يدعي محمد كعبة يقول له: إلى ابن بلدي العزيز . . إنني أرد بهذا الخطاب علي خطابك السابق فإنّ اسمي العربي أبوبكر الصديق و إنّ اسمي المسيحي هو إدوارد دولان. ولدت في تمبكتو وترعرعت في مدينة جني وحفظت القران في بلدة بونا، وهي ذات القرية التي أخذت منها أسيرا…إنّ أغلى شئ يمكن أن اطلبه منك هو أن تصلي من اجلي وأن تدعو لي الله أن يمنحني القوة والعزيمة,كما اطلب منك عندما ترد علي خطابي هذا أن تكتب لي باللغة العربية التي افهمها جيدا( ). قضاء السودان و بناء الهُوية تتشكل الهوية عبر حقب طوال تكتنفها أحداث ضخمة ، ووقائع كبيرة ، كل حقبة تسهم بنصيب، فتتراكم الحقب جمعيا لتكون خلاصتها هوية ذات ملامح خاصة، ونكهة مميزة ومزيج متفرد. فهذا ما جري للهوية السودانية ، التي بدا بناؤها منذ الحضارة المروية وظل البناء في تفاعل مستمر لم ينته بعد. لقد مثّل الرق في تأريخ السودان الحديث عقدة لم تحل ، وأزمة تفرج حينا,وتضيق أحيانا، فالرق يرتبط ارتباطا وثيقا بالأسرة وتكوينها.فهي لبنة المجتمع,والبوتقة التي تنصهر فيها أعراق شتي وقبائل مختلفة. لقد شهدت الأسرة السودانية تغيرات كبيرة في حجمها وتركيبها ووظائف أعضائها وسلوكياتها وصلتها بأطرها القبلية والعرقية وبموطن نشأتها,ولعلّ المثال الذي أشارت إليه وقائع السابقة ابلغ دليل علي هذا، فالزيجات المختلطة خارج رابطة العرق باتت ملاحظة وهي في تزايد وتسارع( ) تسهم بهدوء وسكينة في تقوية نسيجنا الاجتماعي ومن ثمّ وحدتنا الوطنية، وإسهام القضاء في السودان في بناء الهوية أنّه أوجد الإطار القانوني وحقق الشرعية لهذا التمازج، رغم الصعوبات الجمة التي سيصطدم بها في ارض الواقع .فلو قدر للمحكمة العليا أن تتبنى ما قررته المحكمة الابتدائية التي استجابت للدفع بالرق علي استحياء، فسيكون ذلك الإسفين الذي كان سيدق علي جدار هويتنا فتضحي في مهب الريح، ومن هنا تكمن عظمة قضاء السودان وقضاته,الذين جعلوا السودان هدفا مبتغي، فوضعوا لبنة في بناء الهوية الشامخ. لقد أسهم المذهب المالكي في السودان بقسط ملموس في تخفيف غلواء النظر العرقي الضيق في أمر الزواج حين جعل أساس الكفاءة الدين والخلق,ولم يكن للمذهب الحنفي حظ من تطبيق في هذه المسألة-رغم انه المرجع للفصل في القضايا - وهو ما يؤكد مرونة الشريعة الغراء وسعتها لاستيعاب الواقع ومشكلاته.بل لعل هذا يدل علي أن ما يدين به المجتمع له القدرة والنفاذ أكبر من ما تفرضه الدولة بسلطانها. إنّ مؤشرات الواقع تشير إلي أنّ التمازج بين السودانيين قد زادت وتيرته، وتسارعت خطواته – رغم العقبات - ، مما يبعث أملاً في أن مقومات الوحدة وعوامل الالتقاء أكبر من مظاهر التشتت والانقسام.
|
|
|
|
|
|