|
نبوءة جدتي / منتصر محمد زكي
|
نبوءة جدتي /
منتصر محمد زكي
لازلت أذكر فجر ذلك اليوم البعيد العربة اللاندروفر تطوي طرقات القرية النائمة .. السائق يترنح في مقعده وبقايا نعاس تجعله يقود بنصف وعي .. كنت أحدق في تفاصيل القرية الوادعة وهي تستيقظ تدريجيا .. الحقول تتمطى في تثاؤب .. والطيور في قمة إنتشاءها تعزف سيمفونيتها الصباحية .. ذلك ماتيسر من مشاهد عابرة كانت آخر ماتزودت به في رحلتي الطويلة التي إمتدت إلى ربع قرن من الزمان .. تراكمت السنوات في غفلة مني .. (ولدك المطرطش ده كان سافر ماظنيتو يجي صاد) .. جدتي ست الجيل تخاطب والدتي وكأنها تستشف الغيب ببصيرة المتصوفة .. لازالت كلماتها ترن في أذني كالمطرقة .. حاولت تكذيب نبوءة جدتي أكثر من مرة بالعودة دون سابق موعد لكن منيت كل محاولاتي بالفشل دونما سبب واضح أو تفسير منطقي .. طفت نصف دول العالم ومع ذلك إستعصى علي الرجوع إلى بلدي .. شئ ما يحول دون عودتي شئ أحسه لكنني لا أدرك كنهه .. لعلها نبوءة جدتي أو لعله عقاب إلهي لسخريتي المتواصلة من صديقي (م) ووصفي له بالضعف والإنهزامية لإختياره أقصى أطراف الدنيا (أستراليا) منفى طوعيا إثر إصابته بجرح نفسي غائر جراء تجربة عاطفية لم يكتب لها النجاح .. شعور فادح بالعجز يجتاحني كلما شاهدت أسرة تحزم حقائبها إستعدادا للعودة إلى حضن الوطن .. وأنا كلما عبأت حقائبي كانت وجهتي عكس إتجاه الوطن .. أي لعنة فرعونية ألمت بي ؟ .. أكثر ما أخشاه أن أعود داخل صندوق خشبي على حساب السفارة كما يتندر رفقاء الغربة كلما دار حديثنا حول قضية العودة .. وأكثر مايؤلمني أن لاتكتحل عيناي مرة أخرى بمنظر قريتي الصغيرة عند منحنى النيل .. ماذا لو تعفنت جثتي داخل شقتي دون أن يشعر بي أحد كما حدث للبعض؟ .. لو كنت أحمل قلبا معدنيا خالي من الإحساس أو كنت ممن يتخلصون من جذورهم كما يتخلص الثعبان من قميصه القديم لما عانيت كل ذلك الرهق ولما إجتاحتني في كل خاطرة عاصفة من الحنين إلى موطني .. لاشئ حقيقي هنا كل شئ مصنوع ومعلب حتى الأحاسيس .. هذه البلاد لاتحتفي بالغرباء تستقبلهم بحذر وتودعهم باللعنات .. بلاد لها ألف وجه .. باردة كالموت .. موحشة كغونتانامو .. نحن مجرد أرقام لاحول لها ولاقوة في سجلات دائرة الهجرة .. أفراحنا مؤجلة وأحزاننا حاضرة في تضاريس الحياة اليومية .. كل شئ مرهون بالعودة الظافرة والتي قد تطول أو تقصر وقد تصبح مجرد حلم يداعب مخيلتنا في مساءات المنافي .. (يازول ماتيأس القدم ليهو رافع) .. سمعتها من عشرات الزائرين واتوقع سماع المزيد من شاكلتها فذلك قدري .. لكن دوما يظل هنالك ضوء في آخر النفق المظلم .. أخيرا عاد صديقي (م) من منفاه الإختياري بعد أن وهن العظم وأشتعل الرأس شيبا .. عاد كفارس جريح إنكسر سيفه وخبأ بريقه .. عاد وهو يحمل نفس الجراح التي دفعته للهروب .. ليتني كنت نسرا لأفعل مثلما تفعل النسور عندما يأفل نجمها وتخذلها أجنحتها .. أجمع ماتبقى من قوتي وأحلق نحو أعلى قمة لتكون مقبرتي .. فليس هنالك ماهو أقسى على نفس السوداني من أن يوارى الثرى في بلاد غريبة بعيدا عن أهله وتراب أجداده .. عاد صديقي برغم الجراح .. وعاد الكثيرون ممن تآكلت أعمارهم على أرصفة الغربة .. فمتى يحين يوم عودتي؟.
|
|
|
|
|
|