|
مفهوم إسلامية لدى الأستاذ الإمام جعفر شيخ إدريس محمد وقيع الله
|
مفهوم إسلامية لدى الأستاذ الإمام جعفر شيخ إدريس محمد وقيع الله (2)
لقد ثبت أن دعوى تجرد العالم أمر تجردا كاملا عن مثله وأطره الإيديولوجية أمر مستحيل. ويُلزمنا هذا أن نتحدث حديثا تفصيليا عن الأُطر الإيديولوجية والقيمية للعلم الحديث. عالم الغيب وعالم الشهادة إن هنالك نوعان من الوجود: الوجود الطبيعي ويشمل الظواهر المرئية والملموسة. والوجود الما ورائي أو الميتافيريقي أو بالعربية الصحيحة عالم الغيب. ويدعي أكثر العلماء الطبيعيين الغربيين أنهم يتعاملون مع عالم الوجود الطبيعي وحده ولا ينفعلون بعالم الغيب ولا يدعون فرصه للاعتقاد به أو لإيحاءاته أن تؤثر في عملهم العلمي. ولهذا يدَّعون لعملهم العلمي هذا أنه علم مخلَّص من القيم Value – Free Science أي أنه لا يتأثر إلا بما تنتجه التجربة المعملية. ولا يتأثر بأقوال أو مقررات تأتي من خارجها. لاسيما من عالم الدين الذي ثبت أن كثيرا من أقواله ومقرراته كما تبدت في التوراة والأناجيل (المحرَّفة) وفي أقوال القادة الدينيين تتعارض مع مقررات العلم الحديث. وسبق لها أن ناوأت العلم الطبيعي وعملت على تعطيل نهضته. خصام العلم والدين في الغرب ونستخدم مثالا تدليليا على ما قال به الإمام جعفر شيخ إدريس نقلا عن كتاب (العقيدة والعلم) فهو يشرح فكرته على نحو أبسط. تقول المؤلفة البروفسور زيغريد هونكه تحت عنوان (موقف المسيحية من الطبيعة والبحث العلمي) إن العقيدة التي كانت تحكم المجتمعات الأوروبية عند بداية عهد النهضة العلمية كانت تدعي أن الإيمان النصراني يمنح أصحابه الأمن والسكينة، ويشفي ما يعتريهم من مشاعر الخوف والقلق، ويشعر أهله بغلبة الخير رغم أن ما يرونه رأي العين في حياتهم هو غير ذلك. فالإيمان يعطي الإنسان السعادة ويرضيه بأوضاع حياته التي يعيشها ويغنيه عن التطلع والبحث عما هو أضل مما هو فيه. ولدعم هذه الفكرة السكونية الزاهدة ادعى أهل العلم الديني أن طموح سيدنا آدم وتطلعه وبحثه عن الأفضل وسؤاله عن شجرة الخلد وأكله منها هو الذي أورده مورد المعصية وأوجب عليه العقاب وجلب له ولأبنائه الشقاء! وقد اتخذت مثل هذه الحجة ذريعة لخنق الروح العلمية وتعطيل البحث في مسائل الطبيعة ومنع إرادة التطور المادي في المجتمعات الأوروبية طوال العهود الوسطى الأوروبية. وقد قال أحد فلاسفة النصرانية الكبار في تلك العهود، وهو المدعو القديس أوغسطين، الذي عاش في الجزائر: إن العلم الطبيعي ينبع من فضول ساذج مزيف ومن فرط الحساسية المَرَضية التي تدفع إلى البحث عما لا ينبغي أن يطلب من أنواع العلم، وهو بحث يؤدي حتميا إلى الغواية والانحراف! وقال أحد أئمة النصرانية في العهود الوسطى الأوروبية، وهو ترتليان، إن ما جاء به عيسى المسيح هو كل شيئ بالنسبة لنا. وإن الإنسان ليسيئ إلى نفسه أشد الإساءة عندما يستغل طاقاته العقلية للبحث في الظواهر الطبيعية، بدلا من أن يسعى لمعرفة المزيد من تعليمات الدين الموحى به من السماء! ومن هذه التعليمات التي ادعى آباء الكنيسة أنها موحاة بعض معارف عن بنية الكون والعالم. ومنها ادعاؤهم أن السماء والأرض مسطحتان، على شكل مستطيل، وأن الأرض بصفة خاصة ليست كروية كما يدعي العلماء الطبيعيون الذين وصفوا بأنهم مهرطقون! كيف لا يوصفون بالهرطقة وهم قد خالفوا ما ورد في الإصحاح الحادي عشر الذي نص على:" أن الرب رفع السماء كستار ومدها كخيمة يسكن الخلق في داخلها ويحيط بها الماء"؟!. وكيف لا يوصفون بالهرطقة وهم قد خالفوا ما ورد بشأن الأرض في سِفر التكوين:" اليابسة خلقت تحوطها الماء من سقفها، ثم يقسم الرب هذا الماء ويجعل جزءا منه في أعلاه وجزءا منه في أسفله "؟!. وكيف لا يوصفون بالهرطقة بل بالجنون وهم قد خالفوا صريح المنطق العقلي والعلمي؟ وكما قال الراهب لكتانتيوس:" هل من المعقول أن تتحرك هذه الدول والأشجار وتنتقل من أماكنها الثابتة أمام أعيننا إلى الجانب الآخر من الأرض؟ أو تصبح أقدام البشر أعلى من رؤوسهم؟!" (زيغريد هونكه، العقيدة والعلم: وحدة الدين الأوروبي وعلم الطبيعة، ترجمة محمد أبو حطب خالد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2007م، ص 47 – 49). رد الفعل العلمي هذه الخلفية من الاستعلاء الديني المتكلف من قبل سدنة الديانة النصرانية تجاه العلماء الطبيعيين، وما استتبع ذلك من صراع بين الطرفين وتنكيل الكنيسة بالعلماء أثر كثير في المناخ العقلي والعلمي وشحن العلماء الطبيعيين بمشاعر غيظ مكبوت ونزعة لاحتقار الدين وأهله وحذر من تدخلهم مرة أخرى في شؤون العلم الطبيعي. أي تماما كما يفعل بعض السياسيين المنفعلين بظاهرة التطرف الديني والمهوسين بمكافحتها. فهم يتطرفون في مواجهة الظاهرة ومواجهة الدين نفسه بالسعي لتجفيف منابعه وقطع المجتمعات الإسلامية عنه! وبالنظر إلى المجتمعات العلمية الغربية فقد استصحبت ظاهرة العداء للدين وأصبحت نزعة العداء للدين العقيدة التي تحكم شعوريا أو لا شعوريا سلوك سائر العلماء الطبيعيين والاجتماعيين على السواء. وفي سياقات بارزة فاق العلماء الاجتماعيون بعدائهم للدين العلماء الطبيعيين. وأخطر من ذلك وأغرب أنهم تحكموا في السلوك العلمي للعلماء الطبيعيين، ووجههوهم وجهات ضالة، تأثروا فيها باعتقادات إيديولوجية، وليست علمية، وأسسوا على وجهتها بعض النظريات العلمية الأصولية الكبرى، التي أصبحت بمثابة تقاليد علمية، يجب الإيمان بها، كما يجب الشروع في أي بحث جديد على ضوئها. ويقدم الإمام ابن إدريس نظرية دارون مثالا لذلك. الأصول الاجتماعية لنظرية دارون في التطور البيولوجي لقد جاء الباحث الاجتماعي الإنجليزي توماس روبرت مالتوس (1766- 1834م) بنظريته المشهورة عن التكاثر السكاني الذي يزداد كما زعم بمتواليات هندسية وازدياد الموارد الغذائية كما زعم بمعدلات حسابية. ودعا على إثر ذلك إلى كبح التزايد السكاني بتحديد النسل البشري. وما ذكره هذا العالم الاجتماعي عن ازدياد الموارد الغذائية بمعدلات حسابية لم تثبت صحته، فقد زادت هذه الموارد بسبب من التقنيات الزاعية وتحسين البذور بمعدلات هائلة في العصور التي تلت عصره. وقد ثبت أن هذا العالم الاجتماعي إنما صاغ نظريته هذه التي ارتدت مسوح العلم لسبب غير علمي. فقد صاغها بدافع إيديولوجي سياسي بحت وكانت صرخة احتجاج منه على قوانين صدرت في بلاده لصالح الطبقة الفقيرة من الشعب. ورغم ذلك فقد شاعت النظرية المشبوهة ورسخت وأصبحت أساسا معتمدا في علوم الاجتماع والاقتصاد وسار على توجييها البحث في هذين العلمين. وتم استخدامها لتبرير أفظع الجرائم التي ارتكبت في حق الجنس البشري في العصر الحديث. مثل إبادة الهنود الحمر والسود وإجبار بعض الأجناس البشرية على التعقيم الأبدي حتى لا ينجبوا مزيدا من نوعهم الردئ في نظر الشعوب الغربية. واعتمد الشيوعيون في الاتحاد السوفيتي السابق على هذه النظرية مبررا لقتل أكثر من خمسة عشر مليونا من البشر واعتبروا عملية إبادتهم عاملا لتسريع التراكم التنموي المبتغى. وقد راقت هذه النظرية التي تؤكد على حقوق الأغنياء الأقوياء وتجحد حقوق الفقراء الضعفاء لتشارلس دارون (1809- 1882م) وأوحت إليه ان ينشئ نظريته الكبرى عن تطور الخلائق وتمكن الأقوياء فقط من البقاء والتطور. ثم جاء الفيلسوف وعالم الاجتماع الانجليزي هربرت سبنسر (1820- 1903م) واستنتج من نظرية دارون مبدأ الانتخاب الطبيعي أو الدروينية الاجتماعية وقال قولته المشهورة" إذا كانوا البشر كاملين بحيث يصلحون للحياة فإنهم سيحيون. ومن الخير أن يحيوا. وإذا لم يكونوا كاملين بما يهيئوهم للحياة فسيموتون. ومن الخير أن يموتوا". وهكذا امتزج العلم الطبيعي بالمعتقدات الإيديولوجية أولا. ثم عاد يؤثر عليها في صورة هذه الاعتقادات الاجتماعية الا إنسانية التي انتحلت منطق العلم الطبيعي!
|
|
|
|
|
|