|
قبائل البقارة والمأزق: حروب التماس فجوة أمنية في جدار نيفاشا
|
بريمة محمد أدم/ واشنطن [email protected] بسم الله الرحمن الرحيم
مناطق التماس هى المناطق ذات المرعى المشترك بين قبائل عدة، وقصد بها الخطوط الفاصلة بين جنوب السودان وشماله، وهى مناطق إلتقاء بين عرب البقارة وقبائل الجنوب الرعويتين. يمتمد شريط أراضى التماس من أقصى حدود دارفور مع الجنوب غرباً إلي أقصى حدود جنوب كردفان شرقاً. تعتبر تلك المناطق أراضى السافنا الغنية ذات الأعشاب الطويلة. بعد توقف الأمطار تقوم القبائل الجنوبية بأشعال النيران في الأعشاب لفتح المناطق الوعرة التى تعتبر أوكار للحيوانات المفترسة وكذلك لإعادة إخضرار المراعى بأعشاب جديدة ذات قيمة غذائية عالية في فترة الصيف. وحينما تصل قبائل البقارة، التى تقضى فترة الخريف في أراضى القوز، إلي الجنوب، تكون الأعشاب الجديدة قد إزدهرت. يقوم رعاة الجنوب بمنع البقارة بحجة أنهم أحق بالمرعى لأنهم أشعلوا النيران عندما كان رعاة البقارة في أراضى القوز، وبالتالى وجب إبعاد رعاة البقارة وحتى لو بالعنف. إن المرعى في عرف السودان مشترك ويحق لكل الرعاة الرعى فيه، كما أن عملية الحرق تتم بعدة طرق منها الصيادون الذين يحرقون الأعشاب للتمكن من الصيد، وبواسطة أهل الزراعة حتى يتمكنوا من مراقبة مزارعهم من قطعان القرود التى تجوب المنطقة. تصل تلك النزاعات للأختطاف المتبادل للأسرى، ونهب قطعان الماشية. لم تكن تلك النزاعات إلا أحداث قبلية بحته تعججها الفتن القبلية التى أصبحت تتعاظم بفعل وعوامل التراكمات الزمنية، حيث دخل الصراع القبلى فى سرمدية عجزت الحكومات المتعاقبة فى إيجاد تصور لحله. فقد أصبح ذلك الصراع القبلى سلعة تزايد بها الفئات المتعلمة من إبناء الجنوب بأن العرب يمارسون تجارة الرقيق، بأختطاف إبناء الأفارقة. قد كان المأمول في حل تلك الحروب هو إتباع الأنظمة التقفليدية من نظار، عمد، مشايخ، مكوك وسلاطين القبائل الرعوية. إن إحتمال فصل الجنوب أو قل حتى الوضع الفدرالى للجنوب يجعل حروب التماس التقليدية ذو أهمية بالغة تأثر في مستقبل وجود البقارة والثروة الرعوية في جنوب كردفان والسودان عامة. تأريخياً، فقد نمت ثروة قبائل البقارة على أساس وجود موارد مائية صيفية دائمة في بحر الغزال، بحرالعرب، بحيرة كيلك وفاوة عديرة وغيرها من الموارد المائية السطحية. كما أن مناطق التماس تعتبر مراعى خصبة متجددة، حيث تنحسر المياة بفعل التبخر وقلة الأمطار في فصل الجفاف، تاركة مناطق ذات مراعى خصبة وجودة عالية أشبه بالجروف في حوض النيل، تسمى عند البقارة (الرقاب) وعند قبائل الجنوب تسمى (التوج). وعندما تنزل الأمطار تغادر جموع الرعاة إما شمالاً في حالة البقارة أو جنوباً في حالة رعاة الجنوب وتغمر المراعى بالمياة وتجدد خصوبتها وحيويتها. إن وقوع معظم أراضى التماس داخل الحدود الجغرافية للجنوب جعل قبائل الجنوب تحاول الأستئثار بتلك الموارد الحيوية، مما يؤدى إلى تلك الحروب الدامية والمتجددة. فأن فصل الجنوب يعنى حرمان هذه القبائل من مراعيها في مناطق التماس التى تعتبر ضمن موروثاتها التقليدية، مما يعنى زعزعة هذه القبائل وجرها لحروب أكثر شراسة ودموية في محاولة منها للوصول لتلك الموارد. إن مشاكل الحدود معروفة ومدروسة، لكن الأخطر في هذه المعادلة هو تهديد بقاء القبائل العربية الذى يتمثل في إنحسار ثرواتها الحيوانية نتيجة للتدهور البيئى الذى ينشأ لحصر كثافة حيوانية عالية تفوق مقدرة حزام السافنا الإيكولوجى في مناطق جنوب كردفان، مما يؤدى إلي إنخفاض وإنحسار منسوب المياه الجوفية في باطن الأرض سنوياً نتيجة للضخ الزائد للمياة بواسطة الأبار التى تسقى عليها الثروة الحيوانية، وذلك يؤدى بدوره إلي زوال القطاء النباتى بسبب تراجع الطبقة المائية الأرضية لمسافات عميقة لا تستطيع جزور النباتات الوصول إليها وكذلك عن طريق إستنزاف تلك النباتات بواسطة الرعى الجائر، ومن ثم يأتى تفكك التربة، التعرية، جفاف الزرع وزوال الضرع. إن النتيجة الحتمية للإختلال البئيى هى الحروب المدمرة في المنطقة والتى سوف تزعزع أمن جنوب كردفان، دارفور وجنوب السودان. إذا أخذنا ظاهرة التصحر في شمال كردفان فإن علماء البئية يعتبرون أن من أهم أسباب التصحر هو كثرة الصرف من المخزون المائى الأرضى مقروناً بالجفاف الذى إجتاح المنطقة عدة مرات مما جعل منسوب المياة الجوفية يتراجع عاماً بعد عام حتى أصبحت جزور معظم الأنواع والعشائر النباتية لا تصل إلي الماء في فترة الصيف. وقد بدأ التدهور الأيكولوجى في جنوب كردفان نتيجة لزحف الرمال والرياح الجافة (الساخنة) من شمال كردفان، اللتان يسلبان رطوبة الجو ويزيدان من عملية النتح (التنفس) بواسطة النباتات، مما أحدث خلل في الدورة المائية (عملية تبخر المياة وتكثفها). ومن دلائل التدهور الأيكولوجى في جنوب كردفان إختفاء النباتات شبه الإستوائية كالزان والدروت والمجموعات النباتية الظلية التى تعيش متسلقة أو زاحفة تحت الأشجار الأخرى وقد ظهر ذلك التراجع الإيكولوجى أيضاً في تراجع حزام ذبابة التيسى تيسى وتناقص كثافة الباعوض في المنطقة (رب ضارة نافعة). نتيجة لأن الرعاة يغادرون جنوب كردفان في فصل الخريف إلي شمال كردفان، فأن النباتات تسعيد حيويتها وتجدد نموها كما أن المياه الجوفية تستعيد مناسيبها. ومن هذا المنظور سوف تأخذ الأثار السلبية لحصر الرعاة في جنوب كردفان عمد أطول لظهورها والذى سوف يظهر في إزالة القطاء النباتى والذى يزيد من عوامل جرف التربة وإنخفاض خصوبتها وتناقص نسب الأنتاج الزراعى والحيوانى وتزداد الفيضانات والكوارث البشرية بسببها. مع إستحالة الجزم بالأسباب البيئية المدمرة إلاً أن أسباب حدوثها تظل قائمة مالم تنتفي الأسباب الموضوعية لها والتى تتمثل في حل قضية أراضى التماس. إن الأختلال البيئى سوف يترجم نفسة في إختلال النمط المعاشى للسكان والذى سوف يكون مهدداً أمنياً للمنطقة. وقد ظهرت الأثار السلبية لأختلال النمط المعاشى في موجة الجفاف التى ضربت دار زغاوة في شمال دافور في أواخر الستينات مما جعل قبائل الزغاوة الرعوية تتحرك إلي ديار (حواكير) القبائل المجاورة أو الزحف جنوباً نحو المراعى الخصبة في جبل مرة وأواسط دارفور مما أدى إلي إشتعال حروب قبلية دامية ما زالنا نأن تحت وطأتها. وقد أثبتت الدراسات أن التدهور البيئى سوف يترجم نفسه في نهاية المطاف إلي إشكالات إثنية وسياسية. فمشكلة دارفور هى مثالاً حياً للأشكالات البيئية التى ترجمت نفسها إلي إشكال سياسى مطلبى يحدد وحدة وتراب الوطن.
إذن ما هى إحتمالات الحلول: أولاً مقررات نيفاشا تناست مشاكل التماس جملة وتفصيلاً ما عدا منطقة أبى يي لأهميتها البترولية والتى أخذت وضعاً مميزاً يحدد مصيرها فيما بعد، بالتالى تصبح مراعى ومياه وموارد أبى يي موراد مشتركة حتى يحسم أمرها. من هذا المنظور تصبح مناطق التماس هى الأخرى مأهلة لتأخذ وضعاً شبيهاً تجاوزاً للحروب وذلك يستدعى دفع قضايا التماس دفعاً قوياً من أبناء التماس بشقيهم العربى والأفريقى. خطر تأجيل قضية التماس إلي ما بعد حسم قضية تقرير المصير في الجنوب سوف يجعلها أكثر تعقيداً وحروبها أكثر عنفاً. ثانيا المنظور الثانى هو التعامل مع القضية ضمن القضايا الحدودية مثل الحدود مع الجارة تشاد في مناطق وادى صالح، كتم والجنينة التى تعبرها قبائل رعوية. إن التعامل مع الرعاة في تلك المناطق ليس قوانين تنظمة، بل تعبر القبائل من دولة إلي أخرى إلي حسب رغبتها وظروف معيشتها، وقد رأينا كيف عبرت قبائل الفولانى عبر تلك الحدود وإجتاحت السودان من غربه إلي شرقه، حتى أستقر جزء منها في الحبشه حيث قام بطرهم منقستو إلي السودان مرة أخرى ليستقروا في مناطق النيل الأزرق والدمازين. إن حسنة ذلك التداخل هو إيراد ثروة حيوانية ضخمة الي السودان وإستقرارها فيه مما جلب عائد إقتصادى مقدر إلي السودان. إن مثل هذه التعامل مع القبائل الرعوية في حدود الجنوب له خطورة بالغة علي ثروات أقاليم دارفور وجنوب كردفان حيث تهجر الثروة الحيوانية إلي الجنوب دون رجعة مما قد يؤدى إلي تأثيرات سلبية علي إقتصادياتها. المنظور الثالث للحل هو مثلث (ألمى) الحدودى بين السودان والجارة كينيا، حيث تسكن ذلك المثلث قبائل سودانية وكينية وتتبع القبائل لدولها بينما تظل الأرض للجميع. ففي هذه الحالة مع حسنتها سوف يكون فض النزاعات مشكلة المنطقة في المستقبل. ماذا لو فشلت مساعى الحل السلمى في إطار شمال وجنوب، فإن إحتمالات النزاع وخيمة مما يلزم أبناء البقارة بدفع قضية التماس إلي الساحات الدولية كحل لا مناص غيرة.
هذه الورقة ليس دراسة علمية، بل تحليل لواقع المنطقة. بريمة محمد أدم
|
|
|
|
|
|