|
غربا باتجاه الشرق في سيرة البشير والنميري وتشيرشل مصطفى عبد العزيز البطل
|
غربا باتجاه الشرق في سيرة البشير والنميري وتشيرشل مصطفى عبد العزيز البطل [email protected] ------------------------------------------------------------------------
(1) بخلاف شيخنا الدكتور عبد الله على ابراهيم، الذي مرد على قول الحق حتي لم يعد له صاحب، لم أجد من صرح وكتب أن الرئيس البشير كان دقيقاً ومبيناً وهو يتحدث، في مؤتمره الصحفي الذي سبق الهبة السبتمبرية، حول حقائق الموقف الاقتصادي. وأجدني اوافق شيخي وأزكي قوله أن المؤتمر كشف عن قوة عارضة الرئيس من حيث فهمه واستيعابه لحقائق الازمة الاقتصادية، فضلاً عن قدرته على عرض مفردات الموقف بدرجة عالية من الفاعلية. هناك مشكلة واحدة فقط تواجهنا وتواجه الرئيس البشير هنا. وهي أن التزامه فضيلة الصدق، ونجاحه في بسط الحقائق من حيث تقنيات الملف الاقتصادي، فضلاً عن سداد المنطق الذي شيد عليه قراره بإنفاذ خطة مواجهة الأزمة من الوجهة المعرفية الاقتصادية المحضة، كل ذلك لا يوفر مخرجاً للرئيس من وجهات اخري اكثر اهمية، في مقدمتها وعلى رأسها الجدوى السياسة. والفرق بين الجدوى الاقتصادية والجدوى السياسية كالفرق بين البرتقال والتفاح. ومن الضروري عند الحصر ان يتم التمييز بينهما، فيجمع البرتقال لوحده، ويجمع التفاح لوحده. (2) هناك تعبير شهير كان يُستخدم في لغة العطاءات الحكومية التي دأبت صحف الزمن القديم على نشر اعلاناتها وهو: (المدير غير مقيد بقبول أعلى أو أي عطاء آخر). جوهر المعنى في هذا النص الاداري القانوني هو أن تقديمك كمتنافس لعطاء ربما كان هو الأعلى قيمة، وربما الأفضل من غيره، لا ينهض مسوغاً يلزم المدير بقبوله. إذ أن للمدير الحق المطلق في قبول عطاء أقل قيمة وفقاً لتقديره. وهو في كل الاحوال غير ملزم بأن يوضح لك طبيعة ومحتوى ذلك التقدير، فهي سلطة ممنوحة له لائحياً وكفي. والشعوب مثل ذلك المدير، سلطتها توازي سلطته، فهي غير ملزمة بقبول أي عطاء يقدمه لها قادتها. وهنا مربط الفرس. ولذلك فإن قول الرئيس – محقاً – أن الموقف الاقتصادي للبلاد سيئ وطرحه خطةً وسيمة من حيث الجدوى الاقتصادية لا يلزم الشعب بقبول تلك الخطة. وخلال ربع القرن الماضي فرضت حكومات الانقاذ على الشعب سياسات وخطط اقتصادية متعددة نعلم يقيناً أن الشعب لم يقبل بها، ولكنه في ذات الوقت لم يثر عليها. هذا شأنه. وإن كانت قطاعات منه قد قررت فجأة وعلى حين غرة أن تهب في مواجهة القرارات الاقتصادية الأخيرة على الوجه الذي رأينا، فذلك شأنه أيضاً. فهو كالحصان، وقد كتبنا من قبل أن الحصان لا يحب ان يجبره احد على الشرب حتى ولو كان ظامئاً. هو يشرب فقط عندما يقرر بإرادته المستقلة أن يشرب. (3) عرفت بريطانيا العظمي قائدها العسكري والسياسي ونستون تشيرشل في فترة من أحرج فترات حياتها. يسجل كتاب الخالدين ان تشيرشل، الذي أصبح أيقونة من أيقونات التاريخ البريطاني، قاد سفينة بلاده بحكمة وحنكة لا مثيل لهما. قاد الرجل بريطانيا جنرالا في ميادين الحرب، ثم خلع البزة العسكرية وقادها رئيسا للوزراء. عقد اعظم التحالفات العسكرية مع الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وانتصر لبلاده في الحرب ضد جحافل الجيوش النازية. ثم خرج من الحرب فعقد مع الولايات المتحدة أفضل الاتفاقيات الاقتصادية التي ردت كثيراً من العافية الى الاقتصاد البريطاني المنهك. ولكنه عندما قدم برنامجه الاقتصادي المتقشف للشعب البريطاني في العام 1940، وطلب من المواطنين ان يأكل كل واحد منهم بيضة واحدة في اليوم، خسر الانتخابات وفقد موقعه في التو واللحظة كرئيس للوزراء. اختار شعب بريطانيا، دون ان يطرف له جفن، طريقاً جديداً ورئيساً جديداً بدلاً عن تشيرشل، رغم كل ما حققه لها من انتصارات مدوية في ميادين الحرب والسلام. قال له الشعب: "شكراً. كتر خيرك. انت قائد عسكري متميز ومفاوض سياسي ودبلوماسي رائع، ولكننا نرفض برنامجك وخطتك الاقتصادية. انت لا تصلح رئيساً للوزراء. مع السلامة"! وعبرة ذلك الموقف المدهش، كما حفظتها سجلات التاريخ السياسي، هي أن الشعب ليس ملزماً بقبول أى عطاء، حتي ولو كان مقدمه بطلاً قومياً اسطورياً. (4) في مارس 1984 - عشية سفره في رحلة طويلة الى الولايات المتحدة للعلاج - ألقى الرئيس السابق جعفر نميري خطاباً مطولاً أمام البرلمان، تحدث خلاله عن الاوضاع الاقتصادية في البلاد، وعبر عن تصميمه على المضي قدماً في تنفيذ خطة اقتصادية تقشفية قاسية بدعوى اصلاح الاقتصاد. ارتكب الرئيس نميري أخطاء جسيمة في حق السودان خلال ستة عشر عاماً من حكمه الشمولي، ولكنه ظل حاكماً. غير انه عاد فارتكب خطأ عمره حين خاطب الشعب في ليلته الغبراء تلك، عشية سفره الى واشنطن، قائلاً: "من الليلة البياكل تلاثة وجبات ياكل وجبة واحدة". عندها أجبره الشعب ان يغادر أريكة الحكم، وأن يسلم عصا الماريشالية الى قائد الجيش، وأن يأكل هو ما شاء من وجبات منفياً في القاهرة. وفي جلسة مجلس الوزراء التي ترأسها نائب الرئيس اللواء عمر محمد الطيب لتقييم الموقف السياسي والامني في عنفوان انتفاضة مارس-ابريل، قدم النائب أمام المجلس ما يعرف بتقرير (تقدير موقف)، وهو تحليل أعده جهاز أمن الدولة. كانت عصارة التحليل الأمني أنه مع تضافر الاسباب التي ادت الى اتساع نطاق الانتفاضة فإن السبب الرئيسي لاندفاع قطاعات عريضة من الشعب للخروج الى الشارع هو اللغة غير الموفقة التي جاء عليها خطاب النميري. وكانت هذه هي المرة الاولي التي يجرؤ فيها النائب، او اي مسئول حكومي، على التفوه بعبارات تقلل من هيبة الرئيس. (5) سيادة الرئيس البشير: لقد كانت اللغة التي استخدمتها وأنت تطرح رؤيتك وخطتك عبر مؤتمرك الصحفي، ما شاء الله، عالية ومحترمة. كما كان منطقك في الطرح معقولاً ومقبولاً من الوجهة الابستمولوجية المعرفية الاقتصادية. ولكن فقهاء العلوم السياسية والاجتماعية تواضعوا على أن ما يصح ابستمولوجياً لا يصح بالضرورة سياسياً. اسأل مستشارك السابق، السياسي والاقتصادي والمحامي، بدرالدين سليمان، فله في ذلك نظريات بحجم جبل التوباد. شعب السودان يتفهم ويقدر عطاءك الثر في مورد الاصلاح الاقتصادي، يا سيادة الرئيس، ولكنه غير مقيد بقبول هذا العطاء او أى عطاء آخر!
نقلاً عن صحيفة (الخرطوم)
|
|
|
|
|
|