|
حنتوب الجميلة 1949- 1952 إنجليز حنتوب الأستاذ الطيب علي السلاوي 9-12
|
حنتوب الجميلة 1949- 1952 إنجليز حنتوب الأستاذ الطيب علي السلاوي 9-12 دخلت مدرسة حنتوب الثانوية طالباً مستجداً في 1949. ومر علينا خلال سنواتي الأربع معلمون للغة الإنجليزية من الناطقين بها رسخت في ذهني. أثارانتباهنا في صباح ذلك اليوم الدراسي الأول ونحن في طريقنا إلى موقع الاجتماع الصباحي صوتٌ عالٍ أجش ينطلق من حنجرة أحد المعلمين البريطانيين وهوقادم من جهة شعبة اللغة الإنجليزية. كان يبدو في أعلى حالة من الابتهاج، كما لفت انظارنا طوله الفارع، فلعله كان أطول إنسان في حنتوب خلال ذلك العام الذي قضاه بيننا. كان أشعث يتشتت شعر رأسه بفوضى لا تخطئها العين، ويرتدي رداءً قصيراً من الكاكي وقميصاً أبيض ذا أكمام قصار وينتعل "صندلا" بنيّاً لم نر أطول منه مقاساً. فبدا لنا وكأنه قادم من عالم آخر رغم ما كان يبدوعلى وجهه من عدم وسامة ظاهرة. سألنا عنه أحد قدامي زملائنا ممن سبق لنا بهم لقاء في المدرسة الوسطي فافادنا بأنه يدعي" مستر بروكس" من المشهود لهم باجادة عمله وتمكنّه من لغة قومه وفنون تدريس مهارتها مما جعل طلابه يسعدون به ويثمّنون دماثة خلقه. كان له حضور ومشاركة في كثير من الأنشطة المدرسية الأكاديمية الاجتماعية، وفي بعض الأحيان الرياضية تحكيما لمباريات دوري الداخليات في كرة القدم والسلة . تبين لنا ذلك على مر أيام ذلك العام 1949 الذي شهدناه خلاله في حنتوب إذ وقع عليه اختيار الأستاذين النصري حمزه وعبد الحليم على طه للانتقال في معيتهما إلى مدرسة خورطقت عند افتتاحها في بداية عام 1950 ليتولي رئاسة شعبة اللغة الإنجليزية فيها. ذات أمسية انقطع فيها التيار الكهربائي عن حنتوب وتعذرالدوام اليومي المسائي "فترة المذاكرة". وحيث كان لا بد من ملء وقت الطلاب بنوع من النشاط على أمل أن يعود التيار ويرجع الطلاب إلى فصولهم. و في سرعة فائقة جِيء بعدد من "الرتاين" المعدة لمثل تلك الطواريء وأُضيئت كل منطقة الاجتماع الصباحي الواقعة بين القاعة الكبرى فصلي "الفلوتنق ماجلان وكولمبس" ومكتب الناظر. كما اضيء مسرح المدرسة المفتوح حيث يجلس المعلمون أثناء الاجتماع. ورن الجرس منادياً على كل الطلاب ليقفوا أمام فصولهم لأداء التمام ثم التوجه إلى مكان الاجتماع حيث اعتلى المستر بروكس خشبة المسرح معلنا بداية نشاط أكاديمي وذهني نشهده لأول مرة في حياتنا شارك فيه بعض قدامي وكبار الطلاب ونفر من الراغبين من المعلمين. طرح المستر بروكس الفكره وهي أن يقوم هو أو من يتبرع باختيار رؤوس موضوعات يكتب كل واحد منها على حده على سبورة، ويتم عرضها على المشاهدين، وتحجب عن المشاركين من الطلاب والمعلمين الذين يطلب منهم التعرف على تلك الموضوعات كل على حده، عبر عشرين من الأسئلة ذات صلة بالموضوع يقوم بطرحها المشاركون الذين لا يزيد عددهم عن خمسة من الطلاب ومثلهم من المعلمين في سعيهم للوصول إلى معرفة الموضوع. ويطلق على البرنامج "العشرون سؤال" "التوينتي كويسشنز". مهمة المستر بروكس كمقدم البرنامج كانت تنحصر في إلقاء الضوء على بعض جوانب الموضوع بعد التعريف به في عمومياته تاركاً المجال للعشرين سؤال التي يفترض أن تؤدي إلى إماطة اللثام عن الموضوع في نهاية المطاف. كان المستر بروكس يتولي الأشراف على توزيع فرص تقديم الأسئلة والأجابة عنها، كما كان يشرف أحيانا على إدارة ليالى القبعة "هات نايتس" the hat nights التي تتيح الفرصة للراغبين في الحديث ارتجالأ عن اي من الموضوعات التي يجدها المتحدث مكتوبة على ورقة يتناولها المتحدث من داخل قبعة أحد المعلمين أو طاقية أحد الطلاب. ضمت شعبة اللغة الإنجليزية خلال تلك السنوات الأربع عدداً من المعلمين البريطانيين الذين لم يبقوا طويلا في حنتوب. فمنهم من آثر العودة إلى بلاده عندما لم ترق لهم أو لزوجاتهم نمط الحياة وإيقاعها في ذلك المكان الخلوي رغم سعادة البعض الأخر من البريطانيين الذين تراوحت مدة إقاماتهم في حنتوب بين السبع والعشرسنوات. وكان من بين أولئك الذين لم تطل اقامتهم في حنتوب المستر "ويتفيلد" الصامت في معظم الأحيان خارج الفصول .فنادراً ما شوهد يكلم شخصاً أو مبتسما، رغم ما رشح عنه من درايته بلغة قومه وطرق تدريسها. برع في تدريس الأدب الإنجليزي لطلاب السنة الرابعة في عام 1949 وأشرف على إخراج رواية "ماكبث" التي كان مقررة على الجالسين لامتحان كيمبردج. أحسن اختيار الطلاب الذين قاموا بتمثيلها على مسرح حنتوب فاجادوا وابدعوا أيما إبداع في إدائهم الذي نال إعجاب كافة من شهدوا الليلة الختامية من البريطانيين قادة العمل التنفيذي ورؤساء المصالح في مقدمتهم المستر بريدن مدير المديرية ومعاونيه من الإداريين. أبدع عبدالله أبو عاقلة في تجسيد شخصية ماكبث والمرحوم الرشيد عثمان خالد في دور "ليدي ماكبث" وزملاوهم الآخرون في تجسيد شخوص الرواية الآخرين . لم يبق المستر ويتفيلد طويلا في حنتوب إذ غادرها في نهاية ذلك العام عائداً إلى بلاده. وجاء إلى حنتوب معلمان بريطانيان في عام 1950ضمتهما شعبة اللغة الإنجليزية لفترة قصيرة ولم يبقيا طويلا بين معلميها، هما المستر "باقلي" و "جورج". كان باقلي سريع الحركة ،رغم ضخامة إليتيه، قوي البنية والشكيمة قليل انفراج أسارير الوجه نادر الحديث، فلم يكن يسمع له صوت أو حضور خارج الفصول الدراسية إلا في الاجتماع اليومي بعد الحصة الثانية من صباح أيام الاثنين من كل أسبوع عندما ينطلق كالسهم من بين المعلمين ليعلن عن اجتماع فرقة "الكشافة" التي كان يشرف على أنشطتها. أما المعلم الآخرالمستر جورج فقد كان ممشوق القوام وعلى قدر كبير من الوسامة وحسن الطلعة وخفة الظل مما عرضه في كثير من الأحيان إلى قدر من معاظلة بعض "صقور" طلاب السنة الثالثة فسعى رغم قصر مدة إقامته إلى تعلم كثير من ألفاظ اللغة العربية الدارجة ليفهم شيئاً من تعلىقات الطلاب عنه. وربما كان يستعين ببعض المُخَدّمين في منازل البريطانيين لمعرفة ما تعنيه بعض الألفاظ الدراجة من اشارات هنا وهناك.. وتجدر الأشارة إلى أنه كان للعاملين في منازل المعلمين البريطانيين تأثير عظيم على أطفال مخدميهم. غادر باقلي وجورج حنتوب في آواخر شهر نوفمبر 1950 بعد إضراب طلاب حنتوب الثانوية احتجاجاً على فصل ناظر مدرسة مدرسة خورطقت مئة وتسعة عشرطالباً دفعة واحدة .وساد التعليم في كثير من المدن والأقاليم جو من الاضطراب. وعمت الإضرابات مدرسة حنتوب وتبعتها رفيقتها وادي سيدنا ولحقت بهما كل من الأحفاد والأهلية والتجارة. وبعد تدخل الوزير ومدير مديرية كردفان ونفر كريم من رجال مدينة الأبيض تنازل النصري أفندي حمزة ووافق على إعادة خمسة وسبعين من المفصولين، حسبما بيّن الأخ الكريم دكتور موسى عبدالله حامد تفاصيل الأمر في ثلاثيته الشهيرة عن مدرسة خورطقت الثانوية. في شهر يوليو من عام 1952 جاء إلى حنتوب المستر" ستانلي الكزاندر هول"في أول تجربة له في التدريس في السودان. أحب ستانلي حنتوب بكل جوارحه وبادله كل من كان في حنتوب معلمون وطلاب وعاملون مودة بمودة. صادقه الكثيرون من طلابه وتواصلت علاقاتهم به بعد تخرجهم عبر السنين وانتقاله هو في عام 1959"بعد عطاء متميز" إلى رئاسة وزارة التربية موجها لمعلمي اللغة الإنجليزية اي "مفتش مادة". وكان ذلك ما يطلق على موجهي المواد في ذلك الزمان فقد بدا للبعض ممن كلفوا بتلك الوظائف أن مهمتهم "تفتيشية تقويمية" لأداء المعلمين لأجل الترفيع الوظيفي أكثر مما هومتعلق بتجويد الأداء والترقية المهنية للمعلم كخطوة أساس للارتقاء بمستويات الطلاب العلمية وبالعملية التعليمية برمتها. بقي ستانلي في رئاسة وزارة التربية ثماني سنوات متصلة من عام 1959 إلى 1967 يجوب أرجاء السودان متفقداُ معلمي ومعلمات اللغة الإنجليزية سودانيين وبريطانيين وغيرهم من الأجناس العاملة في مدارس البنين والبنات الثانوية، يوجههم ويشاركهم تدريس بعض الحصص كنماذج لمهارات التدريس عسى أن تقع حوافرهم على حافره في دروب فنون المهنة وأساليبها. كان يقوم بمهامه في سرور كامل طوال فترات إقامته بين المعلمين. كان حاضر البديهة، مرحاً يضحك من أعماقه عند كل تعليق ذكي أو ساخر. كنا نسعد كثيرا لزياراته التفقدية. ولكن سعادة نفر من قدامى معلمي اللغة الإنجليزية كانت تفيض أيام مشاركتنا له وبعض من أساتذة جامعة الخرطوم تصحيح أوراق امتحان الشهادة السودانية. فقد كانت إجابات الطلاب تحتوي أحياناً على تعابير وتراكيب يصعب على المصححين من غير السودانيين فهمها وتبيان مقاصدها, حيث كانت تأتي بتراجم حرفية من العربية الدارجة التي يتحدثها اهل السودان في حياتهم اليومية إلى الإنجليزية فينجم عن ذلك هجين فريد من التعبيرات الشاذة الممعنة في الغرابة.
|
|
|
|
|
|