|
بمناسبة الذكرى الأربعين لرحيله: الجانب الآخر من طه حسين محمدوقيع الله (1 من 3)
|
بمناسبة الذكرى الأربعين لرحيله: الجانب الآخر من طه حسين محمدوقيع الله (1 من 3) [تتكاثر احتفالات التغريبيين في هذه الأيام بالذكرى الأربعين لرحيل الدكتور طه حسين، الذي كان أحد أبرز الأدباء المثقفين والمفكرين في جيله بلا ريب. بيد أنه حظي باحتفاء واسع فيه قدر ملحوظ من المبالغة في التقدير والثناء بسبب أنه كان أجرأ أبناء زمانه على اقتحام الثوابت الدينية وأشدهم خبثا في الكيد لها. وفي هذه السلسلة القصيرة من المقالات تناول إسهامات الراحل وطريقته المشتطة غير المعتدلة في نقد الثقافة الإسلامية وملاحقة تجلياتها وآثارها، وذلك كما تبدى في ثلاثة كتب أساسية من مؤلفاته هي (الأيام) و(في الشعر الجاهلي) و(مستقبل الثقافة في مصر)، وذلك حتى نقف على أبعاد مشروعه التغريبي الخطير ونتبين الدوافع الحافزة لاهتمام العلمانيين التغريبيين بإحياء وتخليد آثار هذا المفكر الأديب الكبير. ونبدأ بما جاء في كتاب (الأيام) ونتناوله من زاوية التحليل النفسي].
اعتنى الدكتور طه حسين في كتابه (الأيام)، بعرض مشاهد من ذكريات طفولته، عرضاً خلاباً استحوذ على إعجاب القراء من مختلف الأعمار، وراج رواجاً واسعاً في أقطار العروبة، وفرضت المدارس قراءته على الناشئة، بغية تقويم أساليبهم في الكتابة. لم تكن ذكريات طه حسين فريدة في بابها، فهي فرع من حياة جيله، من أبناء الكُفور بصعيد مصر، وطلاب العلم بالأزهر الشريف. وانما انفرد صاحب الذكريات بلغة عذبة عرض بها صور الماضي، مصحوبة بالتعليقات اللاذعة. والوصف والتصوير هو مَزِيَّة طه حسين الكبرى فهو يحبه، ويجيده، ويلجأ إليه، حتى وهو منهمك في التحليل، والتفكيك، فيحار القاريء أهذا مفكر أم أديب؟ أم مفكر أديب؟ أم العكس صحيح؟! وربما كانت طفولة طه حسين، التي قضاها يستمع إلى قصص الوعاظ، ورواة حكايات السمر، هي التي غرست فيه ملكة الحكاية، والوصف، والتصوير. وربما كان لأطوار حياته اللاحقة، التي قضاها يستمع لما يقرأ له، أثرها في إحكام تلك الملكة، التي بزَّ بها الأدباء السابقين منهم واللاحقين. الأغْراضُ الخَفيَّةُ والذي يقرأ (الأيام) ككتاب أدبي، تستخفه طرافته بلا ريب، ويتنقل بين فصوله ضاحكاً، متعجباً مما احتوته من المشاهد الساحرة، ومن تعليقات كاتبه المستخفية، أو بلغة العصر(أجندته الخفية)! ذلك أن (الأيام) لم يكن كتاباً أدبياً خالصاً، وإنما سخره صاحبه للتنديد بالمجتمع التقليدي، ورموزه جميعاً من الأسرة الممتدة، وأفرادها، ومعلمي ومتعلمي القرآن الكريم، واللغة العربية، والفقه، ورجال التصوف، وزُمَر التجار، وطوائف الفلاحين. ولم يحفظ الكاتب فضلاً لأحد، أو يوقره. ولم يعف من التثريب أحداً، فيما إذا استثنينا زوجه الفرنسية، التي ألمَّ بها فيما بعد، وزعم أنها بدلته بالبؤس نعيماً، وباليأس أملاً، وبالفقر غنى، وبالشقاء سعداً وصفواً. وليس من غرضنا الآن، أن ندرس الأثر الأدبي الجميل، المسمى (الأيام)، دراسة أدبية محضة، وسيكون هدفنا أن نرصد بعض العقد المستعصية، التي كانت تكبل روح طه حسين، وتعقِّدها، وتوجه فكره وجهة منحرفة عن سواء الصِّراط. فلا يؤلف أحداً كتاباً يسخر فيه من أمه، وأبيه، وإخوته. وانما ليذكرهم بالخير، ويعدد بعض أفضالهم عليه. ولكل أسرة أفضالها الحميمة على بنيها، ولكن طه حسين ما يكاد يذكر أحداً من أفراد أسرته في (الأيام) إلا بشيء من الغمز واللمز. فهاهو في مستهل كتابه يصف وضعه في الأسرة قائلاً: إنه " كان يحس من أمه رحمة ورأفة، وكان يجد من أبيه ليناً ورفقاً، وكان يشعر من إخوته بشيء من الاحتياط في تحدثهم إليه ومعاملتهم له. ولكنه كان يجد إلى جانب هذه الرحمة والرأفة من جانب أمه شيئاً من الإهمال أحياناً، ومن الغلظة أحياناً أخرى. وكان يجد إلى جانب هذا اللين والرفق من أبيه شيئاً من الإهمال أيضاً والازورار من وقت إلى وقت. وكان احتياط إخوته وأخواته يؤذيه، لأنه كان يجد فيه شيئاً من الإشفاق مشوباً بشيء من الازدراء .على أنه لم يلبث أن تبين سبب هذا كله، فقد أحس أن لغيره من الناس عليه فضلاً، وأن إخوته وأخواته يستطيعون ما لا يستطيع، وينهضون من الأمر لما لا ينهض له. وأحس أن أمه تأذن لإخوته وأخواته في أشياء تحظرها عليه، وكان ذلك يُحْفِظُه. ولكن لم تلبث هذه الحفيظة أن استحالت إلى حزن صامت عميق، ذلك أنه سمع إخوته يصفون ما لا علم له به، فعلم أنهم يرون ما لا يرى". فهاهو يصم سلوك أبويه تجاهه بالإهمال، لأنه كان يتطلب منهما أكثر مما ينال من الامتياز على بقية إخوته الكثر، حيث كان هو سابع ثلاثة عشر من أبناء الأب، وخامس أحد عشر من أبناء الأبوين معاً. وقد اعترف بأنه له (مكان خاص) بين هذا الجم الغفير من الإخوان، ولكنه عاد فشك - كعادته في التشكيك في كل شيء! - في نيله لتلك المكانة، قائلاً: " والحق أنه لا يستطيع الآن أن يحكم في ذلك حكماً صادقاً . فأي جحد للحق هذا؟ وأي غمض لحقوق الآباء هذا؟ وأي تعريض مشين مهين هذا يُعرِّض فيه الإبن بأبويه الكادحين الساهرين عليه، وعلى إخوته العديدين الذين يقتسمون جميعاً طاقات الأبوين وعواطفهما. فلا يبقى بعد ذلك إلا الطفل صاحب الأثرة حقاً، هذا الذي يطلب بإلحاح بغيض بمزيد من الرعاية والتكريم؟! ولا يكتفي الفتى بطلب الاهتمام الزائد من الأبوين، حتى يبدي طبعه الأصيل في الميل إلى التدليل، والتهرب من مغبَّات تصرفاته الخرقاء، التي أملاها عليه نزوعه الباكر إلى المغامرة، والخروج على المألوف. وهاهو يحدثنا أنه: " كان يأكل كما يأكل الناس. ولكن لأمر ما خطر له خاطر غريب! ما الذي يقع لو أنه أخذ اللقمة بكلتا يديه، بدل أن يأخذها كعادته بيد واحدة؟ وما الذي يمنعه من هذه التجربة؟ لا شيء. وإذن فقد أخذ اللقمة بكلتا يديهن وغمسها من الطبق المشترك، ثم رفعها إلى فمه. فأما إخوته فأغرقوا في الضحك. وأما أمه فأجهشت بالبكاء. وأما أبوه فقال في صوت هاديء حزين: ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بني .. وأما هو فلم يعرف كيف قضى ليلته؟ ". هذا ما أتاه الفتى، بطوع اختياره، فلم يلوم الآخرين على تصرفه هذا الطفولي، الذي سنرى له مشابه كثيرة في تصرفاته اللاحقة، التي خرج فيها على كثير من مألوفات الحياة الأدبية، والفكرية، والدينية، لمجرد تشهيه الابتكار والبروز بأثواب التجديد. وعوضاً عن أن يلوم الفتى نفسه، وجه ملامه إلى أفراد أسرته جمعاء. ثم ما عَتَّم أن أضاف إليهم بعد حين شخصاً آخر، هو عمه، لأنه حاول أن يخرجه مما انتهى إليه، إثر تلك الزلة. قال الفتى إنه قد أخذ يقلل نصيبه من الطعام وأصبح:" يسرف في تصغير اللقمة، فكان له عم يغيظه ذلك منه كلما رآه، فيغضب وينهره ويلح عليه في تكبير اللقمة، فيضحك إخوته. وكان ذلك سبباً في أن كره عمه كرهاً شديداً "، ولحقه الاضطراب، والتعثر، في تناول قدح من الماء، على المائدة، فآثر أن يشرب من ماء الصنبور: " ولم يكن هذا النوع من رِيِّ الظمأ ملائماً للصحة، فانتهى به الأمر إلى أن أصبح ممعوداً ".. وتلك هي الأخرى خطيئة للأسرة، تستحق لأجلها التثريب، وهي ليست خطيئة الفتى بحال! ولطه حسين جَدٌّ لم يكن له من أثر مباشر على حياته، ولكن ظل يكرهه، ويسخر منه، ويشكك في صدق تدينه، فيقول إنه كان :" ثقيل الظل بغيضاً إليه، وكان يقضي في البيت فصل الشتاء من كل سنة، وكان قد صلح ونسُك، حين اضطرته الحياة إلى الصلاح والنسك، فكان يصلي الخمس لأوقاتها، ولم يكن لسانه يفتر من ذكر الله. وكان يستيقظ آخر الليل ليقرأ (وِرْد السحر). وكان ينام في ساعة متأخرة، بعد أن يصلي العشاء، ويقرأ ألواناً من الأوراد والأدعية. وكان صاحبنا ينام في حجرة مجاورة لحجرة هذا الشيخ، فكان يسمعه وهو يتلو، حتى حفظ من هذه الأوردة والأدعية شيئاً كثيراً ". فالتدين عند صاحب (الأيام) لا يكون أبداً عن صدق، وإنما عادة تتلبس قسراً كبار السن، وحينذاك تلين ألسنتهم وقلوبهم لذكر الله، ولا تفتر أجسادهم عن قيام الليالي، والتهجد في الأسحار، أما في عهد الشباب فلا صلاح، ولا نسك، ولا يحزنون. وحفظُ كتاب الله تعالى معدودٌ من أمجاد الأطفال، في العهود الخالية، ولكنه عند طه حسين مسخرة كبرى. وإذا كان قد كره أفراد أسرته بسبب إصابته بعاهة العمى، الذي ابتلي به، ولم يصبر عليه، فانه لم يحبس نفسه من السخرية بمعلم القرآن في (الكتَّاب) إذ كان أعمى. وعجِب له كيف يرسل طفلاً في شأن من شؤونه ثم يقول له: " عد إلى مسافة ما أغمض عيني ثم أفتحها ". فيعلق على هذا المشهد قائلاً: " وينطلق الصبي، ويلهو عنه سيدنا، ثم يعود وقد أغمض سيدنا عينيه وفتحها مرة ومرة ومرات ". ثم يسترسل في وصف أحوال معلم القرآن الكفيف، وتصرفاته، قائلاً:" على أن الرجل كان يستطيع أن يغمض عينه ويفتحها، دون أن يرى، أو يكاد يرى شيئاً. فقد كان ضريراً إلا بصيصاً ضئيلاً جداً من النور، في إحدى عينيه، يمثل له الأشباح دون أن يمكنه أن يتميزها. وكان الرجل سعيداً بهذا البصيص الضئيل .. وكان يخدع نفسه ويظن أنه من المبصرين ... ولكن ذلك لم يكن يمنعه من أن يعتمد في طريقه إلى الكتَّاب، وإلى البيت، على اثنين من تلاميذه، يبسط ذراعيه على كتفي كل واحد منهما، ويمشي الثلاثة في الطريق هكذا قد أخذوها على المارة، حتى إنهم ليتنحون لهم عنها. وكان منظر سيدنا عجباً في طريقه إلى الكتَّاب، وإلى البيت، صباحاً ومساء. كان ضخماً بادناً، وكانت دفيته تزيد في ضخامته. وكان كما قدمنا يبسط ذراعيه على كتفي رفيقيه. وكانوا ثلاثتهم يمشون، وإنهم ليضربون الأرض بأقدامهم ضرباً. وكان سيدنا يتخير من تلاميذه لهذه المهمة أنجبهم، وأحسنهم صوتاً، ذلك أنه كان يحب الغناء، وكان يحب أن يعلم تلاميذه الغناء، وكان يتخير الطريق لهذا الدرس. فكان يغني ويأخذ رفيقيه بمصاحبته حيناً، والاستماع له حيناً آخر، أو يأخذ واحداً منهما بالغناء، على أن يصاحبه هو والرفيق الآخر. وكان سيدنا لا يغني بصوته ولسانه وحدهما، وإنما يغني برأسه وبدنه أيضاً، فكان رأسه يهبط ويصعد، وكان رأسه يلتفت يميناً وشمالاً. وكان سيدنا يغني بيديه أيضاً. فكان يوقِّع الأنغام على صدر رفيقه بأصابعه. وكان سيدنا يعجبه (الدَّور) أحياناً، ويرى أن المشي لا يلائمه فيقف حتى يتمه. وأبدع من هذا كله أن سيدنا كان يرى صوته جميلاً، وما يظن صاحبنا أن الله خلق صوتاً أقبح من صوته. وما قرأ صاحبنا قول الله عز وجل: (إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) إلا ذكر سيدنا وهو يوقع أبياتاً من (البُّردة) في طريقه إلى الجامع، لصلاة الظهر، أو في طريقه إلى البيت، منصرفاً من الكتاب ". هكذا بلغ الفتى في وصف شيخه الأعمى، والتشنيع عليه، مع أنه في خويصة نفسه ما كان يرضى إن قيل عنه إنه أعمى. ولقد أبدي حزنه في مواضع ثلاثة من (الأيام)، لأنه وصف بالعمى في الأزهر، وجامعة القاهرة، و السوربون. ولكنه، وياللعجب، استثمر هذه الصفة عينها، ليستعطف قلوب أساتذته الفرنسيين، فخاطبهم قائلاً:" وليُسمَحُ لي بأن أعتذر عن أسلوبي الفرنسي إذا ما بدا، بلا ريب، في كثير من المواضع ركيكاً، أو خاطئاً، وكذلك عن الأغلاط المطبعية، التي قد تقع في هذه الرسالة، فما كنت إلا غريباً وأعمى "!
|
|
|
|
|
|