|
الديمقراطية عائدة راجحة: كتاب للإمام الصادق المهدي اصدره في أكتوبر 1989
|
بسم الله الرحمن الرحيم
الديمقراطية في السودان عائدة راجحة
الإمام الصادق المهدي
الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة: لقد دار لغط كثير حول أداء الديمقراطية الثالثة في السودان، وأثيرت تساؤلات حول ما إذا كانت بعض جوانب القصور والعجز ناتجة عن قصور في أداء الأحزاب أو تراخ في أداء السياسيين أم أن الأمر ناتج عن عدم ملائمة النظام الديمقراطي التعددي لحكم السودان. ومثل هذا اللغط ليس جديدا في السودان، فقد دار مثله في فترتي حكم الفريق عبود وحكم المشير نميري. أي أنه في العهود العسكرية كانت أنظمة الحكم تسعى إلى إثارة اللغط حول الديمقراطية في محاولة للنيل منها بهدف تبرير نمط الحكم الديكتاتوري سواء كان هذا الحكم عسكريا محضا ،مثلما كان في عهد عبود، أم عسكريا متسربلا برداء مدني ومتخفيا وراء قناع الحزب الواحد. ولكن الشعب السوداني كان في كل مرة يحسم هذا الجدل واللغط بالوقوف مع خيار الديمقراطية. حدث ذلك في عام 1964م عندما خرج السودانيون في أروع استفاء شعبي على الخيار الديمقراطي متحدين حكم عبود العسكري ومفجرين ثورة أكتوبر العظيمة.ثم تكرر الأمر ثانية في إنتفاضة رجب التي أطاحت بحكم نميري وأعادت الديمقراطية للبلاد. هكذا حسمت غالبية أهل السودان الجدل المفتعل واختارت الديمقرطية التعددية نظاما للحكم في السودان مع إجراء الإصلاحات اللازمة عليها إعتبارا بالتجارب الماضية في التطبيق ، وأقرت التمسك بالنهج القومي لإرساء قواعد النظام الديمقراطي التعددي،مع اعتماد النهج القومي في حل المشكلة الاقتصادية وإرساء السلام. ورغم هذا الإختيار الواضح لأهل السودان في مسألة الديمقراطية, فإن نظام العميد عمر البشير أبى إلا أن يكرر خطأ من سبقوه في درب التهجم على الديمقراطية، ناسيا بذلك أنه يتهجم على فطنة أهل السودان وولعهم بالديمقراطية التعددية.ولجأت الجبهة الإسلامية وعسكرها إلى محاولة التشكيك في صلاحية النظام الديمقراطي التعددي للسودان وفي أداء الديمقراطية ومؤسساتها ورموزها،######رت لذلك وسائل إعلامها وأقلامها ومؤتمراتها المفبركة. ولكن الشعب السوداني بغالبيته العظمى صم آذانه عن دعاوى الجبهة وعسكرها، وانطلق يعمل لإسقاط هذا النظام القمعي وإعادة الوجه الديمقراطي للبلاد. لقد رأى مركز الدراسات والمعلومات في حزب الأمة إصدار هذا الكتاب مساهمة منه في إثراء الحديث عن الديمقراطية التعددية في السودان وسط الغالبية المؤمنة بها ،وأيضا إخراسا لألسن المشككين من الفئة الضالة المحدودة العدد والتأثير مستعينا في هذا الهدف بالحقائق والمستندات. واعتمد مركز الدارسات في إصدار هذا الكتاب على وثائق وأوراق هامة خاصة بالسيد الصادق المهدي رئيس الوزراء ورئيس حزب الأمة تكشف أسرار المرحلة السابقة، وعلى معلومات ومستندات رسمية ظل يتسلمها درويا من ممثلي الحزب في الحكومة ومن مختلف مؤسسات الدولة.. كل هذه الوثائق والأوراق قد تم تأمينها خارج السودان بعد انقلاب يونيو 1989م لأهميتها لتنشر خلال هذا الكتاب الهام. إن مركز الدراسات والبحوث والمعلومات الذي أنشأه حزب الأمة في عام 1985 يعتبر من إشراقات الحزب في العمل الديمقراطي لأنه محاولة لتأسيس العمل الحزبي على أساس علمي وموضوعي. إن القائمين بأمر هذا المركز من شباب الحزب المؤهلين فكريا وعلميا قاموا لا شك بعمل مجيد ومقدر،فالتحية لهؤلاء الجنود المجهولين باسم الحزب وباسم محبي الحرية والديمقراطية من أبناء شعبنا الأوفياء.فالديمقراطية عائدة وراجحة لا شك في ذلك.
مبارك المهدي
مقدمة
في فجر الثلاثين من حزيران 1989م عزفت الموسيقى العسكرية في أم درمان معلنة وقوع إنقلاب عسكري جاء في بيانه الأول أنه "ثورة الإنقاذ الوطني". بذا، يكون السودان قد عاش منذ استقلاله في يناير 1956م ثلاثة نظم برلمانية ليبرالية هي:- الأول: 1954م -1958م. الثاني: 1964-1969م. الثالث: 1985-1989م. كما عاش ثلاثة نظم عسكرية هي:- الأول: 1958-1964م. الثاني: 1969-1985م. الثالث: 1989م- والأمر الذي يسترعي الإنتباه هو أن النظم العسكرية الثلاثة تردت من أحسن إلى أسوأ :فأولها هو أفضلها وآخرها هو أسوأها بدليل أن الإنقلاب الأول وجد مباركة القوى السياسية والأساسية في بداية عهده وحقق قدرا من التنمية، أما الإنقلاب الأخير فولد معزولا تماما، وأداءه في العام الأول من عهده أداء تخبط وإخفاق. هذا بينما النظم الديمقراطية الثلاثة صعدت إلى أحسن بمعنى: أن أضعفها هو أولها وآخرها هو أفضلها بدليل، الأول عرف ظاهرة الإنقسام داخل الأحزاب الكبيرة (إنقسام الحزب الوطني الإتحادي إلى حزبي: الوطني الإتحادي والشعبي الديمقراطي) وعرف ظاهرة الصدام الحزبي الحاد الذي أدى للعنف في الشارع السياسي السوداني(حوادث أول مارس 1954)وعرف ظاهرة نخاسة النواب ،كما عرف ظاهرة الجفوة التامة بين الأحزاب والنقابات ،ولكن البرلمان الأخير (الجمعية السياسية المنتخبة في عام 1986) شهد تماسك الأحزاب الكبيرة في داخلها.وظاهرة التوجه القومي في العلاقات بين الأحزاب،وظاهرة الوفاق الحزبي النقابي واختفت تماما ظاهرة نخاسة النواب. هذا كما أن الإنقلاب الأول والثاني وجدا لأنفسهما بعض التبريرلأنهما وقعا في أعقاب أزمة دستورية في النظام البرلماني القائم خلفت فراغا سياسيا: الإنقلاب الأول في نوفمبر 1958م سبقه تأزم سياسي حاد دفع رئيس الوزراء آنذاك إلى التخلى عن النظام الدستوري القائم والتفاهم مع قيادة القوات المسلحة على البديل. وقد سبق الإنقلاب الثاني في عام 1969م تأزم سياسي دفع رئيس الوزراء في ذلك الحين لتقديم إستقالته والإمتناع عن المواصلة حتى تتمكن الأحزاب من حسم الخلافات بينها،ولم تتمكن من حسمها حتى آخر لحظة. أما الإنقلاب الأخير في يونيو 1989م فقد وقع في وقت استطاعت القوى السياسية الحاكمة زيادة سندها البرلماني واستطاعت حل المشاكل السياسية الأساسية واستطاعت التوصل لوفاق سياسي نقابي. صحيح أن المواطن السوداني عانى من الضائقة المعيشية وهي ضائقة لها أسبابها الموضوعية:- • فالناس في السودان يستهلكون أضعاف ما ينتجون. • والصرف على الحرب في الجنوب والأحداث الطارئة مثل لجوء اللاجئين ونزوح النازحين بأعداد كبيرة،والصرف على إعادة التعمير بعد السيول والفيضانات غير العادية في عام 1988م، عوامل زادت من الإنفاق العام وهذا بدوره إنعكس على زيادة الأسعار. • زيادة الأسعار ساهمت في الدفع إلى حركة مطلبية إنفجرت مطالبة بزيادات،وأي زيادات حدثت ساهمت في عجز الميزانية وفي مزيد من ارتفاع الأسعار. إنها عوامل موضوعية لا علاج لها إلا بزيادة الإنتاج وخفض الإستهلاك وتوازن الحقوق والواجبات.وقد حدث مثلها أضعافا مضاعفة في البلاد الأخرى في فنزويلا والأرجنتين وفي تونس والجزائر ومصر وأدى التعامل معها إلى عدد كبير من الخسائر في الأرواح والجراح. استغلت عوامل أخرى ظاهرة الضائقة المعيشية لتجرف البلاد نحو هاوية الإنقلاب هي:- أولا: لقد ضاقت القوات المسلحة ذرعا بالحرب في الجنوب لاسيما والقوات المسلحة قد خرجت من نظام مايو المباد في أسوأ حالاتها فقد استخدمها النظام كشرط’ أمن لحمايته (واكتفى بالإعتماد على إتفاقية الدفاع المشترك للدفاع عن البلاد). ولكن الطرف الآخر في الإتفاقية (الحكومة المصرية) لم تعترف بالعوامل الخارجية المساندة لحملة السلاح في الجنوب واعتبرت الأمر كله مشكلة أمن داخلي. صحيح أن تجدد القتال في الجنوب عام 1975م بعد ثلاثة أعوام من إتفاقية السلام بإسم حركة أنانيا الثانية كان مجردا من أي سند خارجي. ولكن منذ 1982 وبعد قيام الحركة الشعبية والجيش الشعبي برز العامل الخارجي. كانت القوات المسلحة تواجه قتالا ضد قوات تجد سندا خارجيا بينما إمكاناتها الذاتية بسيطة ولا تجد عونا خارجيا يذكر. لقد كان هناك تسليح غربي من الولايات المتحدة الأمريكية ولكن هذا المصدر تناقص حتى توقف. ورغم جفاف المصدر الأمريكي فإن البلاد في العهد الديمقراطي لم تألوا جهدا في تزويد قواتها المسلحة من مصادرها الذاتية ومن مصادر الأشقاء حتى بلغت قيمة ما خصص للقوات المسلحة من معدات وذخائر في آخر عامين للديمقراطية أربعمائة وخسمين مليون دولار (450ملوين دولار) في العام الواحد.وتصاعد الإنفاق من الميزانية العامة على القوات المسلحة حتى بلغ في آخر ميزانية (89/90) ثلث الميزانية العامة. إن هذا الجهد لم يسعف القوات المسلحة ولم يؤد إلى درجة أعلى من الأداء وذلك للأسباب الآتية:- 1. كان كثير من القادة المكلفين بالقيادة في مواقع حربية معينة غير مؤهلين لهذا الدور القيادي الميداني إما لأنهم أصلا من تخصصات فنية وأما لأنهم أصلا من عناصر مغضوب عليها. 2. كان أسلوب القتال دفاعيا وتقليديا لم يتطور فيه أسلوب الهجوم والمفاجأة ولا الغطاء الشعبي بأساليب تلائم البيئة التي يدور فيها القتال دعما للإسلوب النظامي المعهود. 3. ج- ظهر شعور في بعض الأوساط الشمالية يدل على عدم الإقتناع بالحرب في الجنوب بمنطق أننا لسنا أمة واحدة وإن أراد الجنوبيون الإنفصال عنا فليكن.هذا الشعور مع عوامل أخرى أدى لسلبيات عديدة أهمها عدم الجدية في القتال وانصراف البعض للمتاجرة والتكسب. 4. د-هذه العوامل إشتركت معا لتذهب بالروح المعنوية لدى القوات المسلحة إلى درجة بالغة. 5. هـ-مورس إعلام صحفي غير مسئول ،عمل على كشف أسرار القوات المسلحة وعلى بث آراء وتعليقات كان لها أثرها السلبي على الروح المعنوية في القوات المسلحة. 6. و- وكان أداء التوجيه المعنوي متدنيا جدا .فقد كان منوطا به أن يشرح أسباب القتال بصورة مقنعة ويشرح برنامج السلام بصورة متكاملة مع الواجبات القتالية ،وكان عليه أن يشعر القوات المسلحة في جبهات القتال أن شعبهم معهم بإرسال الوفود من كل المستويات لمقابلتهم والتحدث إليهم.وكان عليه أن يرسل وفودا من الفنانين والشعراء بل وفودا من كل قطاعات المجتمع في إطار برنامج موجه للقوات في جبهات القتال. لقد كان أداء التوجيه المعنوي بالقياس لما كان ينتظر منه باهتا جدا. ز. كذلك كان أداء الإستخبارات العسكرية متخلفا.لقد شغلت الإستخبارات العسكرية طول عهد الفترة الإنتقالية بمهام أمن السودان الخارجي واستمرت كذلك إلى أن نشأ جهاز أمن السودان للقيام بهذه المهمة.ولكن قبل وبعد إنشاء الجهاز الجديد فإن الإستخبارات العسكرية لم تفلح في الكشف عن خطط الخصم ومصادر دعمه بالصورة المطلوبة.هذه السلبيات ظهرت في كثير من وجوه الأداء العسكري ولكنها ظهرت بصورة قوية جدا بعد سقوط الناصر في نوفمبر 1988م. لقد كان سقوط الناصر بعد صمود مجيد نتيجة لإخفاق الكتيبة118 في نجدة الناصر مع العلم بأن الكتيبة المذكورة كانت معدة بكل الإمكانات المطلوبة.فقد كان إخفاقها قياديا. هذه السلبيات أزعجت رئيس الوزراء وزملاؤه في القيادة السياسية فواجه بها هيئة القيادة العامة فاعترفت بها ووعدت بدراستها ووضع برنامج لعلاجها ولكن بدل وقفة صريحة مع النفس ونقد الذات رؤي تبرئة القيادة العسكرية من التقصير وتعليق مسئولية الإخفاق على نقص الإمكانات وعلى اختلاف الجبهة الداخلية وعلى السياسيين.هذا الأسلوب نجح في صرف النظر عن النقد الذاتي والمحاسبة العسكرية وهيأ الأذهان للمحاسبة السياسية.هذا خلق مناخا استغله الإنقلابيون لتحويل البنادق من وجهتها الميدانية إلى وجهة إنقلابية في العاصمة. الجبهة الإسلامية القومية هي ثالث حزب سوداني من حيث الحجم البرلماني والعددي ولكنها أكبر حزب من حيث الإمكانات المادية والإعلامية.هذه الجبهة لم تكن منسجمة مع النظام الديمقراطي وبدا أنها تتعامل مع الديمقراطية إن لزم، وتبحث عن غيرها إذا لم تجد في الديمقراطية حاجتها. لقد ساق إجتهاد الجبهة إلى موقف تناقض بين الإسلام والسلام وساقها إعلامها إلى تطرف لفظي هدم الإعتدال السوداني المعهود وخلق مراشقات أشبه بصيحات الحرب. وعندما تجمع السودانيون في برنامج القصر في مارس 1989م ،إختارت الجبهة أن تتناقض مع هذا فعزلت نفسها وفي نفس الوقت يئست من الديمقراطية ورفعت شعارات"الجهاد" وثورة"المصاحف" وثورة "المساجد" وقرر نوابها الإنسحاب من الجمعية التأسيسية فانسحبوا وكان واضحا أنهم يفكرون في بديل للنظام الديمقراطي. إن إنقلاب الثلاثين من حزيران هو وليد لقاح بين ما آل إليه الحال في القوات المسلحة فاستغله الإنقلابيون وبين ما صار إليه موقف الجبهة الإسلامية. ومهما كانت درجة التخطيط المشترك بينهما فقد أعلن الإنقلاب أنه غير مرتبط بحزب أو جماعة وأن توجهه قومي، ولكن القرائن الآتية أقنعت الرأي العام السوداني داخليا والرأي العام العربي والأفريقي والدولي بأن الإنقلاب وراءه الجبهة الإسلامية القومية:- • كل القوى السياسية والفئوية في السودان ارتضت البرنامج الموقع عليه في القصر في مارس 1989م.هذا البرنامج إشتمل على خطة محددة للسلام إنطلقت حكومة الجبهة الوطنية المتحدة لتحقيقها،الجبهة الإسلامية وحدها عارضت ذلك البرنامج وتلك الخطة للسلام.قادة النظام الجدد كذلك عارضوها مستعملين نفس ألفاظ الجبهة الإسلامية. • كل القوى السياسية السودانية الإسلامية والوطنية إتفقت على إرجاء أمر الشريعة الإسلامية إلى ما بعد إنعقاد المؤتمر الدستوري إلا الجبهة الإسلامية.وجاء موقف النظام مطابقا لهذا الرأي. • كل القوى السياسية والفئوية إما عارضت النظام الجديد أو سكتت تترقب إلا بعض الإتحادات الطلابية والجمعيات هذه الإتحادات والجمعايات تنتمي إلى الجبهة الإسلامية. • عينت الحكومة الجديدة أشخاصا في وظائف مختلفة،وزراء،وكلاء،نواب حكام للأقاليم،كان كثيرا من هؤلاء من كوادر الجبهة الإسلامية المعروفين. • زعماء الجبهة الإسلامية الذين بالخارج أمثال علي الحاج وعثمان خالد أعلنوا ترحيبهم بالإنقلاب.كذلك احتفل بالإنقلاب عدد من قواعد الجبهة المغتربين في لندن وجدة وغيرها. • لقد صنف الرأي العام السوداني الإنقلاب بإنحيازه للجبهة الإسلامية القومية واتخذ منه موقفا، كذلك فعل الرأي العام الأفريقي والعربي والدولي. وقع الإنقلاب في وقت نضجت فيه كثير من البرامج القومية المدروسة وحان قطافها:- • برنامج الصلح في دارفور. • برنامج شريان الحياة للإغاثة. • برنامج السلام. • برنامج التنمية الرباعي. • برنامج الميثاق الاجتماعي. ..وهكذا مما سوف نشرح بالتفصيل لاحقا إن وقوع الإنقلاب سوف يؤثر على هذه البرامج سلبا. كما وقع الإنقلاب في ذروة موسم التحضير للموسم الزراعي مما عرقل برامج التحضير ولم يتح فرصة للقادمين لوضع برانامج بديل. لذلك سيكون الموسم الزراعي 89/90 أول ضحايا الإنقلاب. هذا فضلا عن أن الإنقلاب جاء سباحة ضد التيار في السودان المتمسك بالحرية والديمقراطية وضد التيار العالمي الذي هلل للديمقراطية وفتح بشعاراتها حصون أمريكا الجنوبية،وحصون عربية وأفريقية وانفتحت أمامه بوابات بولندا والمجر والإتحاد السوفياتي وألمانيا الشرقية. ومع ذلك فإن لما حدث منافع هي:- أولا: لا يمكن للديمقراطية أن تستقر ما دام هناك استعداد دائم داخل القوات المسلحة للتفكير والتخطيط الانقلابي.إن كثيرا من صغار الضباط يبدأون حياتهم المهنية بالتفكير والتخطيط الإنقلابي حتى أن الذين خططوا الإنقلاب في 1969م بدأوا له في عام 1961م.والذين خططوا لانقلاب 1989م بدأوا التحضير له في عام 1971م.هذا معناه أن عددا من صغار الضباط لم يعيروا القسم الذي أدوه أي إهتمام،ولم يعيروا عملهم المهني الإهتمام اللازم وكان همهم مصبوبا على التحضير لدور سياسي لم يؤهلوا له.هذه الظاهرة وكل العوامل المساعدة لها في تكوين وتركيب وموقع القوات المسلحة ينبغي أن تعالج علاجا جذريا لإنقاذ هؤلاء الإنقلابيين من أنفسهم ولإنقاذ البلاد من آثارهم. كذلك لا يمكن للديمقراطية أن تتطور بالصورة المطلوبه ما لم تبرأ الأحزاب من العنف والعنصرية والفتنة الدينية والجهوية وتلتزم بممارسات ديمقراطية ووطنية.ولن يسترد السودان جدواه الإقتصادية ما لم يركز على الإستثمار والإنتاج والتنمية ويضبط النشاط النقابي بموازنة عادلة بين الحقوق والواجبات. ولن تستقر الحرية بمعزل عن الفوضى و ما لم تكن حرية الصحافة ممارسة في توازن مع الجدية والمسئولية. إن هذه الإصلاحات التكوينية كان يمكن أن تتم في الفترة الإنتقالية.ولكن الفترة الإنتقالية اختارت أن تسير شئون البلاد وكفى، ولم يكن بالإمكان طرق باب هذه الإصلاحات التكوينيه في عهد الحكم الديمقراطي الليبرالي بسهولة لأسباب معلومة. لذلك إنفتح ملف هذه الإصلاحات وينبغي أن تتم. ثانيا: الإنقلاب الأخير بنهجه حتى الآن قد خلق مناخا لدعم وتوسيع إتحاد الكلمة بين القوى السياسية والفئوية في السودان. كذلك خلق الإنقلاب مناخا يساعد على إذابة الجليد بين الحركة السياسية السودانية والحركة الشعبية مما سيكون له أثر إيجابي في حركة السلام في السودان. كذلك كشف الإنقلاب العناصر التي تشكل خطرا على الديمقراطية لإيجاد وسائل فاعلة لإحتوائها وإصلاحها أوحصرها. ثالثا: لقد كان كثير من الناس يتطلعون للديمقراطية للتصدي بحسم وسرعة لمشاكل البلاد ومعالجتها،وعندما لمسوا بطأها في الأداء أصيبوا بخيبة أمل، وكنا نقول لهؤلاء مهلا! ونقول إن النظام الديمقراطي مهما كان سيئا فكل النظم البديلة أسوأ منه. هؤلاء جميعا عاشوا الصعوبة في ظل الديمقراطية وهاهم يعيشون العجز في ظل الأوتوقراطية.إن أداء النظام الأوتوقراطي هو أحسن دعاية للخيار الديمقراطي. وبضدها تتبين الأشياء. لقد أقامت الحكومة الديمقراطية في السودان حكما طور الممارسة السياسية والفكر السياسي السوداني.لقد بذل رئيس الوزراء الجهد كله،لم يعرف طعما للراحة أو العطلة،كان أول مسئول يصل إلى مكتبه وآخر مسئول يغادر المكاتب يعمل بحماس وتفان وحياء كالمعتذر عن نعم حباه الله بها في بلد جل أهله من المحرومين. وكان من أصول يخشى بعض السودانيين بأسها، جاء في فترة أعقبت الإذلال المايوي الذي كان قد كوى أحشاء الناس بالعذاب والإهانة لذلك ساس الناس بالرحمة والرأفة والتسامح محتملا الأذى والإساءة دون انتقام أو انفعال. لقد عاتبه كثيرون على هذا فمنهم من قال هذه رحمانية لا تيلق بالساسة والسياسة فعالمها هو عالم الولاية والصلاح لا النهي والأمر والقيادة. لقد واصل السيد الصادق المهدي خطه، لم يصرفه عنه ثناء مادح ولا لوم قادح.عامل الجميع بالحسنى والتكريم والإحترام،فالسياسيون والنقابيون والمهنيون وأفراد القوات المسلحة والشرطة،والقوات النظاميه الأخرى، وأفراد الخدمة المدنية، والقطاع الخاص رجالا ونساء وأهل الدين وأهل القبائل والناس العاديون في كل مكان وجدوا معاملة الحفاوة والكرامة.لقد إهتم بكل شرائح المجتمع،أكرم أهل العلم،وأهل الفكر،والأدباء وأهل الفن والرياضة ومنظمات الشباب والنساء وأرباب المعاشات، والمعوقين والأطفال وأكرم نزلاء السودان من الأجانب وفتح أبواب السودان لكل الأنشطة الخيرة العربية والإسلامية والأفريقية والمسيحية والدولية. وعالج الغبن الإقليمي بحيث أحس أبناء وبنات أقاليم السودان المختلفة لأول مرة في تاريخ السودان الحديث،أن أهل الغرب والشرق والوسط والجنوب شاركوا أهل الخرطوم والشمال مشاركة حقيقية في ولاية الأمر،لقد أصبحت المجالس الوزارية نموذجا مصغرا للسودان بما ضمت من تنوعه البشري الواسعه ومع أن الحكم كان إئتلافيا لا أغلبية لحزب فيه، فقد حافظ على نهج تجنب الخصومات والتزم دروبا قومية حافظت على كرامة الجميع. ولم يحاول رئيس الوزراء استخدام العصا أو التقريع ضد أحد وكان يحرص أن تكون قرارات مجلس الوزراء دائما بإجماع الرأي وفد كان،فلم يصوت في موضوع طوال الثلاثة أعوام إلا مرتين. ومما يحز في النفس أن النظام الجديد جعل شغله الشاغل إساءة وتجريح السيد الصادق المهدي،وعندما فحص أعماله لم يجد فيها إلا ما يدل على الإنضباط والجدية ورعاية حرمة المال العام.كلف من كلف بتلفيق التهم لتلطيخ السمعة: حملات نحتملها راضين من أجل السودان كما احتملنا عشرات الإساءات والتلفيقات، فأثابنا الله بما صبرنا خيرا كثيرا ولا زلنا نرجو أن تكون هذه الظلامات كفارة لنا عند الله وأواصر عطف ومحبة لنا في نفوس أهلنا في السودان الذين عرفونا صغارا وشبابا ورجالا،عرفوا سلوكنا في السراء والضراء. سنوضح هنا مفصلا رأينا للرأي العام السوداني والعربي فيما يخص الحياة العامة في السودان لا سيما والذين تولوا حكم السودان الآن أرادوا أن يتخذوا من إخفاق الديمقراطية وسيلة لإثبات شرعية أوتوقراطية. فإنهم لو قالوا إن في الديمقراطية أخطاء في المؤسسات والممارسات ينبغي إصلاحها لكان قولهم الحق ولكن أخطاء وخطايا الأوتوقراطيه أفظع وأسوأ وأخطر من أخطاء الممارسات الديمقراطية لذلك نجد أنفسنا ملزمين لتقديم شهادة عن أداء الديمقراطية الثالثة في السودان. شهادة موضوعية تقص ما وقع فعلا بلا مكابرة ولا مبالغة لأننا نشهد حلقة أخرى من حلقات تطور السودان السياسي والاجتماعي ونريد لجيلينا هذا والأجيال التالية أن تستمد الحقائق من كل مصادرها ليكون حكمها خاليا من الجهالة والضلالة.إن الديمقراطية في السودان راجحة وعائدة وإن ظروف السودان المعنوية والمادية واعدة ليس هذا فحسب بل إن عالمنا نفسه يتجه إلى حال أعدل وأفضل، فاسرائيل التي تشكل مصدر خطرعلى السلام العربي لن تتمكن من الإستمرار في غصبها فالقوة الذاتية العربية رغم كل التراجعات متزايدة والشعب الفلسطيني بعد كل الهزائم حي ومتطلع ومكافح وأعداده في زيادة سوف تفوق عن قريب أعداد الصهاينة في أرض الوطن المغصوب. وجنوب افريقيا التي أحكمت أوضاعها على ظلم الأغلبية السمراء بدأت تترجل من جواد الباطل الذي ركبته ويكاد يوم حكم الأغلبية يجيئ قريبا. والمعسكر الشرقي الذي اطمأن لأوضاع قهرية عقودا من الزمان انبثقت فيه حركة صحوة ديمقراطية تنشدها قيادات واعية وشعوب متطلعة. وبقدر ما حدث من تطور سياسي ديمقراطي في الشرق نتطلع أن يحدث تطور اقتصادي اجتماعي في الغرب فيجد أنه مثلما اشترى السلام الإجتماعي في أقطاره عن طريق برامج الرفاهية والعدل الإجتماعي فإن العالم مفتقر لبرامج عدل إجتماعي يوزع الدخل توزيعا أعدل ويقيم نظاما اقتصاديا وماليا وتجاريا ونقديا عالميا يحقق ذلك العدل. إن ظروف السودان الذاتية والموضوعية تؤكد آفاق الفجر الديمقراطي. كذلك إن ظروف عالمنا المحيط بنا تناصر تطور السودان نحو الديمقراطية. هذا الكتاب من ثلاث عشر فصلا هي:- • الوجه السياسي. • الوجه النقابي. • الوجه العسكري. • المسألة الاقتصادية. • التموين والمعيشة. • الفساد. • قضايا قومية ومشاركة دولية. • إلغاء قوانين سبتمبر1983م والقوانين البديلة. • أجهزة الدولة. • السلام. • السياسة الخارجية. • السودان في ظل حكم الإنقاذ العسكري. • السودان إلى أين؟ عبر هذه الفصول نوضح أداء الديمقراطية في المجالات المختلفه. إنه تسجيل للحقائق وتحليل موضوعي لها لم نلجأ فيه إلى مجاراة الإساءة ولا إلى كيل الإتهامات ولكننا لجأنا إلى إعطاء الصورة المطلوبة لإظهار الحقائق إثراءً للنقاش السياسي السوداني وتأكيدا لمقولة الديمقراطية في السودان راجحة وعائدة وتنويرا لأجيال من أبناء وبنات السودان لم يشتركوا في تلك الأحداث ويسهل على الآخرين أن يمّوهوا عليهم الحقائق. إن في هذا الكتاب انتصارا للسودان وأهله،إنه لم يكتب للكيد لأحد أو لهزيمة أحد،إنه كتب لكيلا يغمط السودان وأهله حقهم في أعوام الحرية. الفصل الأول: الوجه السياسي
الحزب السياسي هو أداة العمل والمشاركة في المجتمع الحديث والسؤال الوحيد الوارد هو: أيكون الحزب واحدا يمنع الإتجاهات السياسية الأخرى من التنظيم الحر إلى جانبه ويكون أداة المشاركة الوحيدة،أم تتعدد الأحزاب فتتيح المشاركة عن طريقها والتنافس فيما بينها؟ لقد رفعت شعارات تشجب الحزبية من حيث هي- مثلما جاء في نظرية الإتحاد الإشتراكي التي اقتبستها مايو "بتحالف قوى الشعب العاملة" بيد أنه بعد قيام مثل هذا التحالف المكون من اتحادات نقابية، أين يكون مصدر المبادرة السياسية في هذا المجتمع؟ النظرية في الأصل مشتقه من التجربة اليوغسلافية حيث تصدر المبادرة السياسية من الرابطة الشيوعية المنضوية مع الإتحادات في تكوين واحد ولذلك عندما اتضح في مصر أن التحالفات النقابية وحدها لا تكفي، أقيم التنظيم الطليعي ليكون مصدر المبادرات والأفكار السياسية وهذا معناه أن يتحول الإتحاد الإشتراكي من مجرد تحالف نقابات-عبر التنظيم الطليعي-إلى حزب. وربما وجد قطر، لم تقم فيه أصلا أحزاب ولا نقابات ذات جذور وقامت فيه قيادة سياسية متقدمة صارت بفكرها واجتهادها ومبادراتها مصدر التفكير السياسي ثم جمعت حولها الشعب، هذا هو خلاصة التجربة الليبية حيث تقوم القيادة التاريخية نفسها بالدور الذي يقوم به الحزب. إذا أمعنا النظر في البلاد المختلفه فسنجد صورا مختلفه للتجربة الحزبية –ففي مصر مثلا- لم يوجد قبل 23يوليو1952م إلا حزب واحد حقيقي هو حزب الوفد،أما بقية الأحزاب في مصر فقد كانت غالبا أدوات القصر.عدا تنظيم الأخوان المسلمين الذي نشأ فشارك الوفد الشعبية والأصالة. أما الحزب الشيوعي المصري فقد كان تنظيما صفويا لم يتمدد شعبيا.أما بعد يوليو 1952م فإن سيرة الحزبية في مصر غالبا تمخضت عن تنظيمات فوقية تحاول أن تتمدد شعبيا فأفلح بعضها ولم يفلح أغلبها في ذلك. وفي بلاد الهلال الخصيب لم تكن الأحزاب التقليدية في كل من العراق وسوريا والأردن ذات جذور شعبية،فجاء حزب البعث ليقيم الأمر على نمط الحزب الواحد في سوريا والعراق. وفي الجزائر لم تعهد في الماضي القريب حزبية ذات جذور الا لجبهة التحرير الجزائرية،ولكن خروج بعض القيادات من هذه الجبهة إضافة إلى التجربة المعاصرة أدت للتطلع لتعددية جديدة في الجزائر. وفي نيجريا نجد أن التعددية الحزبية تمتاز بأصول تاريخية على نحو يناقض الواقع التنزاني حيث تنعدم الأصول المماثلة وهلم جرا. لقد أفرزت التجربة السودانية تعددية حزبية لها جذورها الراسخة ولم تستطع (22عاما) من القهر العسكري أن تقتلعها. إنها أحزاب حقيقية بمعنى أن لها جذور شعبية راسخة ينطبق هذا على الحزبين الكبيرين كما يصدق على الحزب الشيوعي والجبهة الإسلامية وكذلك الآن على الحركة الشعبية في جنوب السودان. أما أن هذه الأحزاب مع أصالتها تشتمل على معالم تخلف يختلط فيها الولاء الديني والقبلي والجهوي والفكري والسياسي فهذا أمر لا مفر منه. إن السودان متخلف إجتماعيا فكل أدوات العمل العام فيه تعكس هذا التخلف. لعبت عوامل الولاء الديني والقبلي والجهوي والشخصية الذاتية التي يموج بها الواقع الاجتماعي السوداني، وسوف تلعب دورا في كل الأنشطة الاجتماعية السودانية ولا سبيل للقفز فوق هذا الواقع وكل محاولة للقفز سوف تأتي بنتائج عكسية. إن هذه الأحزاب السياسية السودانية مع ما فيها من ملامح الواقع الاجتماعي السوداني هياكل مفتوحة فحزبي الأمة والإتحادي الديمقراطي فيهما الأنصاري وغير الأنصاري والختمي وغير الختمي بل المسلم وغير المسلم. وهي أحزاب متطورة ففي المرحلة الأولى كان وراء الحزب السيد الراعي ويقود الحزب أفندية،هذا الشكل كان ملائما لمرحلة أولى. ولكن بتطور الممارسة الديقراطية سلم الجميع بضرورة انتخاب القيادة ومساءلتها وأن يكون للحزب الحق في اتخاذ أي قرار داخل أجهزته فأصحاب التأييد الديني إن أرادوا المشاركة في القرار فإنما يشاركون من موقع حزبي. والحزبان العقائديان في السودان تطورا أيضا تطورا ملحوظا (الحزب الشيوعي والجبهة الإسلامية). أما الجبهة الإسلامية فقد خرجت من صفوية تنظيم الأخوان المسلمين السوداني إلى سند شعبي شبه عريض وللإستشهاد على تطور الأحزاب السودانية سنتحدث عن تلك الأحزاب بحسب نتائج انتخابات 1986:
الحزب الأول: حزب الأمة
تجربة الأمة في حركته الإصلاحية الداخلية بعد مؤتمر الحزيرة أبا في مارس 1963م: شهد الحزب عبر السنين حوارا داخليا حادا أعقبه انشقاق فالتئام ثم تصدي لمنازلة الدكتاتورية المايوية (1969-1985م) بوسائل الكفاح المسلح والهجرة فالمصالحة ثم التعبئة الشعبية. عبر تلك المراحل استطاع الحزب أن يحقق الآتي:- 1. إزالة الثنائية بين القيادة السياسية والقيادة الدينية ووضع أساس انتخابي لقيادة الحزب العليا وجميع أجهزته القيادية. 2. وضع أساس ديمقراطي لممارسات الحزب بحيث يمكن القول أن جمع قرارات الحزب في حقبته الأخيرة(1985م-1989) كانت قرارات ديمقراطية نوقشت ثم أجيزت بعد تداول الرأي حولها. وسوف تنشر قريبا وقائع هذه الاجتماعات وقراراتها في سلسلة الأبحاث والدراسات إن شاء الله. 3. شهد الحزب في ماضيه تناقضا بين المركزية والوعي الإقليمي في جميع أنحاء السودان مما أدى إلى لشكوى ضد ظاهرة "تصدير النواب"وحرمان الصوت الإقليمي من الدور القيادي لقد أزيل هذا التناقض تماما واستطاع الحزب أن يتيح التمثيل العادل لكل قواعده بصورة نموذجية. 4. لم يكن للحزب وجود في القطاعات الحديثه كالطلبة-والخريجين والقطاع النسوي والمهني بيد أن الحزب في مرحلة التطور تصدى لتنظيم قواعده في هذه المجالات بصورة فاعلة. 5. كانت الوثائق الأساسية لفكر الأنصار هي وثائق المهدية ووثائق حزب الأمة الأساسية هي وثائق الحركة الاستقلالية. فكان هذا هو المعين الفكري المتاح ولكن في عهد تطور الحزب فقد تمثل اجتهادا جديدا أبان الفكر المهدوي ومساهمته في البعث الإسلامي.كما تطرق إلى الفكر السياسي والاجتماعي للدولة الحديثه إضافة إلى الاقتصاد الدولي.هذا الاجتهاد في صيغته المستجدة في إطار معادلة الأصل والعصر أعطى الحزب أغنى مدرسة فكرية في السودان فصار طلاب الأمة ينافسون المنابر الفكرية الأخرى بعطاء مميز وممتاز وذلك في دور الجامعات والمعاهد وفي معارضهم الدورية. 6. استطاع الحزب أن يقيم لنفسه قواعد في كل أنحاء السودان بما في ذلك الإقليم الجنوبي فأشبع بذلك تطلعه لتمثيل الوطن كله. 7. اتخذ الحزب نهجا قوميا مكنه من مد الجسور لكل القوى السياسية والفئوية الفاعلة في الحياة السودانية ومكنه من التعامل معها بالثقة المتبادلة والإحترام المتبادل. 8. لقد كانت القوى السياسية السودانية الأخرى تتبارى في الإبتعاد من حزب الأمة –إعمالا لدعايات ألصقت به في الماضي-ولكن في الوقت الحاضر صارت القوى السياسية السودانية تسعى جميعها في الإقتراب من حزب الأمة. 9. خرج حزب الامة من الإنكفاء السوداني إلى عقد تحالفات مع كثير من القوى السياسية في العالم العربي والأفريقي والإسلامي. 10. قبيل الإنتخابات العامة في عام 1986م طرح الحزب عبر مؤتمر عام شامل عقد في فبراير 1986م برنامج نهج الصحوة وخلاصته:- 1. إلغاء إسلام الطوارئ المايوي وإقامة مجتمع إسلامي عصري يؤمن بأن الإسلام هو الحضارة البديلة المصححة لنقصان الحضارات الإنسانية والمنقذه لها من طغيان المادية ومفاسد الإستبداد وذلك باستصحاب الصحوة الإسلامية. 2. إتخاذ النهج القومي في علاج إشكالية البلاد. 3. تحرير السياسة الخارجية للسودان من التبعية والمحورية وتأكيد حرية القرار الوطني. 4. دعم القوات المسلحة وأجهزة الدفاع والأمن. 5. الحل السلمي للحرب الأهلية في جنوب السودان. 6. دعم الحكم الإقليمي على أسس ديمقراطية وإعادة توزيع الثروة لصالح الريف وتحقيق المشاركة العادلة لأبنائه. 7. إقامة نظام اقتصادي مبرأ من الظلم والاستغلال والتبعية بمشاركة القطاعين العام والخاص وذلك بدحر الأنشطة الطفيلية والفاسدة. هذا الوصف لتطور حزب الأمة لا يعنى أن ثمة أمور قد لحقها القصور.فرغم اتساع عضوية الحزب إلا أنه لم يوفق في تنظيم ماليته بطريقه فاعلة فاعتمد كثيرا على المصادر الموسمية والتبرعات.ولم يستطع تنظيم ماليته بطريقة مؤسسية. وفي الإطار الإعلامي أخفق الحزب :لصدور صحيفته الناطقة باسمه على نحو متقطع. ومع أن تنظيمات الحزب القاعدية نظريا جيدة إلا أن تطبيقها على الواقع كان متعثرا.وواجه الحزب بعض الخلافات التي طفحت على صفحات الجرائد حيث خرجت من أجهزة الحزب الداخلية. أولى تلك المشاكل هي مشكلة استقالة السيد بكري أحمد عديل كوزير للصناعة في أغسطس 1988م وقبول السيد رئيس الوزراء لها،وما ترتب على ذلك من انتقادات صدرت على صفحات الجرائد. وكان حزب الأمة قرر عن طريق مكتبه السياسي إعادة النظر في نظام الأمانة العامة الخماسية وذلك بإختيار أمين واحد مكلف.اتخذ المكتب السياسي هذه القرارات لعدم اقتناعه بفاعلية نظام الأمانة الخماسية. ولتأخر انعقاد المؤتمر العام للحزب عن موعده في فبراير 1988م ولكن د.آدم مادبو لم يرض عن هذه القرارات فأعرب عن ذلك الموقف خارج الأجهزة الحزبية. ثم لدى تكوين حكومة الوحدة الوطنية في مارس 1989م لم يرض السيد نصر الدين الهادي المهدي عن بعض التعيينات الوزارية إضافة إلى مسائل أخرى متعلقة بدوره،فاستقال من منصبه كنائب لرئيس الحزب. هذه الخلافات لم تدفع أي واحد من هؤلاء للإستقالة من حزب الأمة ولا للتصويت ضده داخل الجمعية التأسيسية ولاحتى الإمتناع عن التصويت. وتم بحث الخلافات المشار إليها بحثا موضوعيا وسويت تسوية ارتضتها كل الأطراف التي بادرت إلى إعلان ذلك. لقد حصل حزب الأمة على أكبر كتلة نيابية في الإنتخابات العامة عام 1986م واحتفظ بها متماسكة حتى آخر يوم من عمر الجمعية وقبل وأد الديمقراطية استطاع حزب الأمة إزالة جميع الخلافات التي طرأت بين قادته.
الحزب الثاني: هو الإتحادي الديمقراطي هذا الحزب مركب حزبي الشعب الديمقراطي سابقا (الختمية) والوطني الاتحادي سابقا (جماعة المرحوم الرئيس إسماعيل الأزهري). شهد هذا الحزب تطورا ملموسا في موقف قيادة الختمية التي تخلصت من القيادة غير المباشرة وصارت تعمل داخل أجهزةالحزب .هذه الخطوة دليل عافية.والدليل على العافية أن الحزب لم ينقسم على نفسه، بل أن كل محاولات الأفراد القياديين الذين خرجوا من الحزب لإحداث شرخ فيه لم تنجح فاحتفظ الحزب بجسمه الشعبي والبرلماني متماسكاهذا الإنجاز ينبغي نسبته للسيد محمد عثمان الميرغني- زعيم الحزب- فقد اكتسب مهارة ومرونة واحتراما استطاع بها إدارة دفة الحزب والإحتفاظ بوحدته. وكان المنتظر أن يعقد الحزب مؤتمره العام الأول ليجيز دستوره ولانتخاب قيادته ديمقراطيا فإن حدث هذا سيتم تطور الحزب على الأسس الديمقراطية ولكن تأخر المؤتمر كثيرا دون مبرر حقيقي. لقد عانى الحزب من أمرين هما:- 1. عدم حسم قضية القيادة عن طريق المؤتمر العام ترك مجالا لظهور قيادات اتحادية يوازي دورها دور القيادة في كثير من الأحيان هذه الظاهرة جعلت من الممكن قيام تيارات معارضة للحكومة تستند بصورة أو بأخرى على هذه الثنائية داخل الحزب رغم أنه شريك في الحكومة. لذلك نجد في حالات عديدة أن وزراء الحزب يقرون سياسة حكومية فيعارضها آخرون من الهيئة البرلمانية فعلى سبيل المثال اتخذت الحكومة قرارا بفرض حالة الطوارئ في (23يوليو1987) في جلسة ترأسها نائب رئيس الوزراء وهو من الحزب الإتحادي الديمقراطي ولكن ثمة اتجاه غالب في الهيئة البرلمانية للحزب عارض ذلك القرار. وكانت الحكومة قد قررت منع المواكب حتى يتم وقف إطلاق النار لمنع المعارضين من خلق فوضى في شوارع السودان ولكن جماعة من الإتحادي الديمقراطي سيرت موكبا للإحتجاج علىما يجري في إقليم دارفور في أبريل 1988م. لقد كان وجود انشطار تمثل في ازدواج موقف الحزب بين موقف أحدهما الشريك في الحكومة والآخر المعارض له دلالة على عدم انضباط قيادي كان من الوارد حسمه إذا قدر لمؤتمر الحزب أن يقوم ليحدد الأجهزة القيادية بصفة قاطعة. 2. كان السيد محمد عثمان الميرغني هو الجهة الأكثر نفوذا في الحزب ولم يكن عضوا برلمانيا ولا عضوا بمجلس الوزراء،هذه الحقيقة أدت إلى أن تتخذ الحكومة قرارات في مسائل هامة فيطالب السيد محمد عثمان الميرغني بإعادة النظر فيها لعدم اشتراكه في اتخاذ تلكم القرارات فمثلا قرر مجلس وزراء القطاع الإقتصادي (الإتحادي الديمقراطي ممثل بوزرائه) إقامة المجلس القومي للتخطيط لبحث وإجازة البرنامج الرباعي لقد اتخذ هذا القرار عام 1987ولكن المراجعات حدت بتأخير التنفيذ عاما كاملا .كما حدث تأخير مماثل لقرار تكوين جهاز الأمن الخارجي بسبب إشكالات بين الحزبين كان من الممكن تفاديها. لقد طرأت مشاكل داخل الحزب الإتحادي الديمقراطي احتويت بوسائله فلم تؤد لانقسام فيه كما تم احتواء المشاكل التي قامت بين الحزبين في مراحل مختلفة كما سنوضح وفي نهاية المطاف لم يكن ثمة مشكل يذكر بين الحزبين.
الحزب الثالث: الجبهة الاسلامية القومية كانت الجبهة الإسلامية صغيرة جدا وذلك في آخر انتخابات عامة قبل انقلاب مايو 1969م بحيث كان عدد الذين أدلوا بأصواتهم لصالحها يعادل نصف أولئك الذين أدلوا بأصواتهم للحزب الشيوعي.نمت الجبهة نموا ملحوظا ورسخت تنظيماتها في القطاع الحديث وتمددت في القواعد الشعبية واستطاعت كذلك أن تتخذ موقفا قياديا وسط تنظيمات الأخوان المسلمين العالمية.ونجحت الجبهة إلى جانب ذلك كله في تكوين إعلام حزبي قوي ومالية ضخمة ونجحت أيضا في إقامة مؤسسات شبه مستقلة لعمل الدعوة والإغاثة والأنشطة الاجتماعية المختلفة لقد تطورت الجبهة في كل ذلك تطورا إيجابيا مما كان عليه حالها في الستينات كذلك استصحبت في سياساتها قدرا من المرونة مكنها من التعامل المثمر مع الآخرين في بعض القضايا القومية فاتفقت وهي في المعارضة مع الحكومة على التعديلات الدستورية في أول ابريل 1987 وقبلت مبدأ إلغاء قوانين سبتمبر 1983م وإصدار قوانين بديلة ودخلت في ميثاق حكومة الوفاق ببرنامج مشترك مع الأحزاب الأخرى ولكن لماذا قررت الجبهة التضحية بكل هذه المكاسب وهذا التطور في ظل الديمقراطية للمغامرة مع نظام عسكري ؟ فإن نجح فسوف يقوم بتحجيمها إعمالا لظاهرة "البونابارتية"وخلاصتها أن العسكريين إذا نجحوا سيحتكرون القرار السياسي ولن يتركوه لجهة أخرى حتى وإن كانت هي التي أتت بهم للسلطة.وإن لم ينجح الانقلاب فإنها ستحاسب على جنايتها في العمل على تقويض الديمقراطية. يمكن لنا أن نورد الآتي لتفسير هذا الإتجاه الخاسر: 1. عبأت الجبهة الإسلامية كثيرا من قواعدها على شعار الإسلام الفوري فتحول هؤلاء لتيار جارف خطر على قيادته نفسها فكان عليها أن تستمر حتى النهاية في المزايدة بشعار الشريعة. 2. راود الجبهة تطلع باختصار الطريق إلى السلطة هذا التطلع عظمه إعجاب القيادة الخفي بالحزب الشيوعي لدرجة بلغت تقليده في محاسنه وأخطائه فما دام الحزب الشيوعي قد حاول اختصار الطريق إلى السلطة بالمشاركة في انقلاب مايو 1969م فالتقليد وارد.وما يثير الدهشة أن الذي لعب الدور الأساسي في توريط الحزب الشيوعي في انقلاب مايو 1969م هو نفسه الشخص الذي لعب دورا هاما في دفع الجبهة في ذات الطريق مع اختلاف الرايات المرفوعة ألا وهو السيد أحمد سليمان الذي كان شيوعيا بارزا عام 1969م وأضحى قياديا بارزا في الجبهة الاسلامية عام 1989م. هذان السببان يفسران ما أقدمت عليه الجبهة من عمل يناقض تطورها الداخلي والظروف المحيطة التي ساعدت ذلك التطور. الأحزاب الجنوبية لقد ظهرت في الساحة السياسية أحزاب جنوبية كثيرة هذه الأحزاب الجنوبية لم تتمكن من التطور الطبيعي لأن حركة العنف المسلح أدخلت معاني جديدة في العمل السياسي في الجنوب وخلقت ظروفا في الإقليم حالت دون النشاط السياسي الديمقراطي بل وأدت إلى نزوح الوجود الجنوبي نفسه شمالا أو اللجوء لأثيوبيا. هذه الظروف غير الطبيعية أدت لمنع تطور الأحزاب الجنوبية ثم إلى تمزقها أمام الخلاف بين الذين يرون المشاركة في الحكومة دون التوصل لصيغة حول القوانين الإسلامية والذين يرون ألا تتم المشاركة في الحكومة إلا إذا أرجيء أمر القوانين الإسلامية ليحسم في المؤتمر القومي الدستوري وبين هؤلاء الذين يرون قبول واقع الأقاليم الثلاثة في الجنوب وأولئك الذين يرون العودة لوحدة الأقاليم الثلاثة قبل التقسيم إضافة إلى من نادى بمعاداة حركة العنف المسلح ومن ارتضى محاورتها أو موالاتها لذلك تمزقت الأحزاب الجنوبية إلى أجنحة عديدة بيد أن الأمر انتهى بهذه الشظايا المتناثرة إلى تكوين جبهتين عريضتين هما: 1- جبهة الأحزاب الجنوبية وهذه قبلت المشاركة في الحكومة دون اشتراط إحالة القوانين الإسلامية للمؤتمر الدستوري.وكانت أقرب لقبول واقع تقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم.وكانت أصرح عداء لحركة العنف المسلح. 2- جبهة الأحزاب الأفريقية: وهذه اشترطت تحويل أمر القوانين الإسلامية إلى المؤتمر الدستوري كي يتسنى لها المشاركة في السلطة.وكانت أقرب لطلب العودة للجنوب كإقليم واحد مع ميل لحوار حركة العنف المسلح.ومهما كان بين هاتين الجبهتين من خلافات إلا أنهما أجمعتا بعد طول حوار على النقاط الآتية:- 1. رفض الإنفصال كخيار للجنوب،والمطالبة بالعدل والمساواة داخل سودان واحد. 2. الإلتزام بوثائق النهج القومي في السودان،ميثاق الدفاع عن الديمقراطية والبرنامج الوطني للسلام والبرنامج المرحلي الذي وقع عليه في مارس 1989م. 3. ج- المشاركة حسب الوزن النيابي في حكومة الجبهة الوطنية المتحدة.
الحركة الشعبية سوف لن يكتمل الحديث عن القوى السياسيه السودانية إذا لم نحلل وزن ودور الحركة الشعبية في جنوب السودان.فقد اكتسبت وزنا في السياسة السودانية رغم أنها مازالت تحمل السلاح مع وجود قيادتها بالخارج. تعاظم هذا الدور كثيرا عندما وقع انقلاب يونيو 1989م في السودان وتبنت الحركة الشعار الديمقراطي تبنيا كاملا وجعلت منه قاعدة لبناء السودان الجديد الذي تنشده. لقد صارت الحركة الشعبية قوة قومية ذات أثر في مسيرة السودان .أما بالنسبة للجنوب فإنها أعطت الجنوب لأول مرة قيادة لها وزنها الإقليمي والقومي .لقد تطلع السيد الصادق المهدي إلى السيد وليم دينق(رحمه الله)ليلعب هذا الدور ولكن أيدي الغدر لم تمهله. إن وجود قيادة بهذه القدرات يسهل مهمة التفاوض للإتفاق حول المسائل الأساسية المختلف عليها في السودان بين العناصر المكونة لسكانه كذلك إن في بروز هذه القيادة بلورة للرأي الآخر في السودان تجعل للإتفاق قيمة أبقى.
الحزب الشيوعي السوداني وهنالك الحزب الشيوعي السوداني الذي نما حتى صار أهم حزب شيوعي في المنطقة العربية والأفريقية ثم تورط في انقلاب مايو1969م،فخاض التجارب المريرة التي ذهبت بعطائه ودوخته. لقد لعب الحزب الشيوعي دورا هاما في السياسة السودانية لا لمجرد تطوره الذاتي فحسب ولكن للأفكار والأساليب التي انتشرت عنه فاستحدثت منها القوى السياسية والفئوية الأخرى. أ-كانت القوى السياسية السودانية بعيدة كل البعد عن مخاطبة تنظيمات القوى الحديثة،فالحزب الشيوعي الذي استمد هذا الإهتمام من مصادر الثورة الاجتماعية في أوروبا وآسيا فتح الباب في هذا المجال. ب-الإهتمام بقضية التنمية وربطها بالعدل الاجتماعي اتخذ شكلا محددا في البرامج الشيوعية. ج-تطوير البعد الخارجي في السياسة الداخلية أيضا فتحت بابه السياسات والممارسات الشيوعية. ومثلما أثر الحزب الشيوعي السوداني في الحركة السياسية والنقابية السودانية فإنه تأثر أيضا بالسياسة السودانية والواقع الاجتماعي السوداني يساعده على ذلك الإنتفاع بالتجربة المرة.فسكت عن الفتنة الطبقية في مجتمع لم تتأطر فيه الطبقات بالصورة المعهودة في أوروبا أصلا وأدرك أهمية الولاء الوطني كشرط للإنتماء الأممي وأدرك أهمية الدين كقوة اجتماعية ينبغي احترامها ولا يجوز إغفالها كما أدرك أهمية الديمقراطية والحريات الأساسية شرطا للعمل السياسي في المجتمع الحديث.هكذا خلقت ظروف السودان تفاعلا بين الحزب الشيوعي والمجتمع السوداني مكنه من نشر بعض الأفكار والممارسات على الصعيد القومي السوداني ودفعه لتطوير آرائه وممارساته في اتجاه لحقته فيه آراء الشيوعيه الصينيه ثم السوفيتيه وانفتح الباب بموجبه لتطورات في المجر وبولندا لاحد لما ستأت به من جديد.
حزب البعث العربي الاشتراكي وفي أثناء العهد المايوي نشأ تنظيم جديد هو البعث العربي الإشتراكي في السودان. ظل هذا الحزب ضيق القاعدة الشعبية ذي قيادة صفوية وله إمكانات إعلامية ومالية كبيرة. ورغم ذلك فإنه استطاع أن يضيف للفكر البعثي المعروف اهتماما بخصوصيات السودان.واستطاع بتقديره لتلك الخصوصيات أن يلعب دورا إيجابيا في كوكادام وفي المؤتمر القومي الإقتصادي الأول والثاني وفي ميثاق الدفاع عن الديمقراطية وفي البرنامج المرحلي. وعلى طول الفترة الديمقراطية كانت الأحزاب السياسية السودانية رغم اختلاف اجتهاداتها الفكرية والسياسية على وصال واتصال بالسيد الصادق المهدي كرئيس للوزراء تجتمع إليه في اجتماعات دورية للإستماع لموقف الحكومة حول قضايا الساعة وللتعليق برأيهم فيها أو إثارة أية موضوعات يرونها. وكانت الأحزاب السياسية السودانية تدعى فتلبي الدعوة لاستقبال زوار السودان الأجانب إلى جانب الإجتماعات القومية مثل: 1- المؤتمر القومي الإقتصادي الأول-فبراير 1986م. 2- المجلس القومي للتخطيط الإقتصادي –أغسطس1988م. 3- المؤتمر التمهيدي للميثاق الإجتماعي لعام1988م. 4- المؤتمر التداولي للإيرادات البديلة –ديسمبر1988م. 5- محادثات البرنامج المرحلي-فبراير 1989م.
الجمعية التأسيسية كانت الجمعية التأسيسية المنتخبة عام 1986م أفضل جمعية تأسيسية عرفها السودان في تاريخه الحديث وذلك لأنها تميزت عن سابقاتها بالآتي: 1. لم تشهد انقسامات كبيرة فالبرلمان المنتخب عام 1954م شهد انقسام الحزب الوطني الإتحادي والبرلمان الثاني المنتخب عام 1965م شهد انقسام حزب الأمة .أما هذه فلم تشهد إنقساما. 2. لم تشهد ظاهرة تصدير المرشحين فقد كان المرشحون من كل الأحزاب بتأييد القواعد في دوائرهم،هذا لا ينطبق على البرلمانات السابقة. 3. لم تشهد ظاهرة نخاسة النواب وتحول الأعداد الكبيرة من حزب إلى آخر وهي ظاهرة عرفتها البرلمانات الأخرى. 4. كان مستوى التعليم والثقافة والوعي فيها عاليا جدا بحيث يمكن القول أن نصف أعضائها كانوا حملة شهادات والنصف الآخر غالبا أعلى قدر من التعليم والتجربة. بيد أن الجمعية قد رزئت بظاهرتين سلبيتين: الأولى: كثرة غياب النواب في الجلسات وهي ظاهرة ارتبطت بكل البرلمانات في العالم بيد أنها ظهرت بصورة مخلة لأن اللائحة كانت تتطلب نسبة عالية من الحضور حتى في الجلسات العادية على غير ما درجت عليه برلمانات العالم واستمر هذا إلى أن تم تعديل اللائحة أخيرا. الثانية: تأخر تكوين لجان الجمعية لدرجة أثرت سلبا على أدائها ويعزى السبب لتأخر حزب الإتحادي الديمقراطي في تقديم مرشحيه لهذه اللجان .ورغم ذلك فإن الجمعية قد قامت بدورها التشريعي وبدورها في مراقبة الحكومة إضافة إلى الدور الدبلوماسي المتمثل في استقبال الوفود وإيفاد النواب إلى الخارج وخلت الجمعية غالبا من التهريج ومتبذل الحديث بل كان المناخ فيها وديا بين النواب وخلت الجمعية من الإجراءات الكيدية حتى أنه لم يناقش فيها مرة واحدة سحب الثقة من الحكومة. وانعكس في الجمعية نجاح التجربة الديمقراطية السودانية فكانت حكومة الوحدة الوطنية (الحكومة الأولى) تحظى بتأييد 70% من النواب وحظيت حكومة الجبهة الوطنية المتحدة (الحكومة الاخيرة) بتأييد 80% من النواب. المعهود في الحكومات أنها تفقد السند البرلماني بالتدريج مع مضي الزمن أما أن يكون الإتجاه هو العكس أي حدوث زيادة في السند البرلماني فإن في هذا تأكيد لنجاح التجربة. ربما لم يتابع كثير من الناس هذه التطورات ولعل تغيير الحكومات قد بدا لهم كأنه لعبة كراسي ولإزالة هذا اللبس وتوضيح أسباب اختلاف الحكومات من حكومة الوحدة الوطنية إلى حكومة الوفاق الوطني إلى حكومة الجبهة الوطنية المتحدة فإننا نسلط الضوء على ما جرى ليتضح أنه جزء لا يتجزأ من حركة التطور السياسي والممارسة الديمقراطية السليمة. لقد كون رئيس الوزراء ثلاث حكومات في الفترة الديمقراطية تمت تسميتها على التوالي: 1- حكومة الوحدة الوطنية(1986-1987م). 2- حكومة الوفاق الوطني (1987-1989م). 3- حكومة الجبهة الوطنية المتحدة(مارس1989-يونيو1989م). وكانت التغييرات أشبه بتعديلات وزارية منها بتغييرات جذرية في الحكم. قبل الخوض في تفاصيل التجربة سنتناول بيان كيفية انتقال السلطة من الإستبداد إلى الحرية عبر ثورة رجب/ابريل 1985م وكيفية انتقال السلطة من الحكم الإنتقالي القائم على التراضي إلى الحكم الديمقراطي القائم على نتيجة الإنتخابات العامة. وكان نظام مايو نظاما محاكيا عديم الأصالة،فنقل إلى السودان تجربة الإتحاد الإشتراكي من مصر وهي تجربة فشلت في مصر نفسها كما فشلت في كل البلاد العربية الأخرى التي اقتبستها من مصر مثل: سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا. فكرة الإتحاد الإشتراكي هي أن تحل محل الأحزاب في قيادة البلاد سياسيا وفي إتاحة المشاركة الشعبية والجماهيرية والفئوية عن طريق تحالف خمس فئات سميت قوى الشعب العاملة. العمال، والمزارعون، والموظفون، والجنود، والرأسمالية الوطنية. لقد كانت هذه القطاعات محض لافتات بينما كانت السلطة الحقيقية يمارسها جعفر نميري مستندا على سيطرة انقلابية على القوات المسلحة. إن للقوى السياسية والحزبية والفكرية في السودان جذورا عميقة ولذلك كان أمرا شكليا لم يمس واقع وجودها وكذلك إن للنظم النقابية في السودان جذورا وتجارب فلم يستطع النظام أن يهمشها كما أراد. لقد شكلت القوى السياسية الحزبية والنقابية الحرة تيارا رافضا فلم يحظ النظام المايوي أبدا بالإستقرار ولا بالقبول. ودون الولوج في تفاصيل المعارضة والمقاومة لنظام مايو وهي أمور فصلناها في مجال آخر (انظر المصالحة الوطنية من الألف إلى الياء) نتناول تطورات العام الأخير لنظام مايو. قرر جعفر نميري في عام 1983م تطهير الهيئة القضائية فطرد عددا من القضاة ورماهم بسوء الأخلاق والسلوك هذا الإجراء عارضته الهيئة القضائية وتبعه تقديم القضاة لاستقالات جماعية.ولما استمروا في صمودهم حاول نميري الاستنجاد بقضاة من مصر أو بتعيين إداريين في المعاش للقضائية فلم يفلح وفي النهاية قرر التراجع أمام موقف القضاة ولكنه قرر كذلك أن يغطي تراجعه بحركة هجومية فأعلن ما أسماه "الثورة التشريعية" فاشتملت على إصدار قوانين إسلامية .لقد اعتقد نميري أن هذا الإجراء سوف يمكنه من أن يكون حاكما مطلقا ، طاعته واجبة لأنه طبق الشريعة.واعتقد أن أحكام الشريعة نفسها بما تتيح من عقوبات على الردة والبغي ستعطيه عصا غليظة لردع معارضيه واعتقد أن أحكام الحدود ستروع المواطنين وتجعل الجميع تحت رحمته. وكان نميري وهو يقدم على هذه الثورة التشريعية حريصا على ألا ينسب الفضل فيها لأحد سواه لذلك لم يشرك أيا من حلفائه في توقيتها ولا في صياغة قوانينها بل أوكل هذا الأمر برمته إلى "النيل أبو قرون" شخص سبق له ان التقاه في حلقة ذكر صوفي فاستصحبا تطلعات غيبية غامضة حول دور ديني يقوم به نميري في السودان فكلف أبوقرون بصياغة القوانين الإسلامية حيث استعان بصديق له يدعى عوض الجيد إضافة إلى بدرية سليمان. وبسرعة انبرى الرجلان لمهمتهما وصاغا القوانين التي أصدرها نميري فيما بعد بأمر جمهوري في 8/9/1983م صيغت القوانين على عجل وصدرت على عجل كذلك وأمر النميري مجلس الشعب بألا يخضعها للإجراء التشريعي المعهود .فقررت لجنة التشريع إجازتها دون مناقشة بإعتبارها توجيها قياديا.انقسم المسلمون في السودان أمام هذا الإجراء،فالأغلبية رفضته وشجبت عيوبه والأخوان المسلمون(الجبهة الإسلامية القومية فيما بعد)أيدوه واعتبروه امتثالا لأمر الله والجنوبيون رفضوه بمن فيهم أولئك الذين كانوا متحالفين مع النظام المايوي. وفي يوم 18/9/1983م احتشد الناس لصلاة عيد الأضحى المبارك في الجامع العتيق أمام قبة الإمام المهدي وأمّ السيد الصادق المهدي الناس وأشار إلى القوانين التي أصدرها النظام وأورد بالقول أنهم يرحبون بتطبيق الشريعة في السودان ويعتبرونه واجبا دينيا ووطنيا ولكن التشريعات التي صدرت تميزت بالآتي:- 1- أنها صدرت بدون دراسة وشورى. 2- أنها بدأت تطبيق الشريعة بالعقوبات وهي معلوم أنها وسائل يحمي المجتمع المسلم بها نفسه فينبغي أن يسبقها قيام المجتمع المسلم العادل الرحيم فتصدر من بعد لحمايته. 3- أنها لم تأخذ في الحسبان العوامل الاجتماعية،فعمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يطبق حد السرقه على غلامي بن أبي بلتعة لأن أجورهما لاتكفي حاجتهما،كذلك جمد حد السرقة في عام الرمادة (مجاعة عام 18هـ)نتيجة لهذا الرفض تم اعتقال السيد الصادق المهدي مع نخبة من شيوخ وقيادات وكوادر الأنصار في يوم 25/9/1983م. أما الأخوان المسلمون بقيادة الترابي فقد رحبوا مع آخرين بالقوانين الجديدة واستعدوا لتطبيقها على أوسع نطاق، ونظموا الإحتفالات الشعبية لها داخليا وساعدوا على دعوة عدد كبير من العلماء المسلمين من خارج السودان لمباركة المسيرة (مسيرة السودان الإسلامية). ولكن كل هذا الضجيج لم يفلح في صرف نظر أهل السودان عن مشاكلهم الملحة وإخفاق النظام في حلها فتعددت إضرابات النقابات: أضربت نقابة الأطباء في أغسطس1984م وأضربت بعدها نقابة المحاسبين والصيارفة..الخ أمام سيل الإضرابات هذا قرر النظام إعلان حالة الطوارئ وأقام في ظلها محاكم سياسية التكوين سماها محاكم العدالة الناجزة لتستخدم القوانين الجديدة بطريقة مختصرة متخلية من ضوابط العدالة جملة واحدة ،مروعة المواطنين أيّما ترويع. وبينما كان النظام يلوح بهذه العصا الغليظة وتعمل محاكم العدالة الناجزة بالضرب بها أثناء الليل وأطراف النهار بصورة مسرحية قطعا وجلدا وقطعا من خلاف دون مراعاة لقواعد الإثبات الشرعية كانت المجاعة تلتهم السودان،بل كان حال السودان كأن الطبيعة نفسها أعلنت الحداد فسجل نهر النيل أسوأ إنحسار له منذ قرن وأمسكت السماء تماما بحيث صار موسم عام الشريعة 83/1984م هو عام "رمادة" بالسودان. لقد اعتادت الحركة الطالبية السودانية أن تكون ضمير شعبها في السودان وكانت رأس الرمح في التعبير عن مواقفه يساعدها على ذلك حماسة الشباب ومثاليته وتجمعها بأعداد كبيرة في مواقع الدرس والتحصيل ودور الجامعات والمعاهد. إن لحركة الأخوان المسلمين باعا طويلا في العمل الطالبي مما أدى لتبعية معظم الإتحادات الطالبية لها. هذه التبعية مكنت الإخوان المسلمين لبعض الوقت من تجميد دور الطلبة الريادي المعهود إزاء القضايا المصيرية. وفي اكتوبر 1983م استطاع الطلبة الأنصار في جامعة أمدرمان الإسلامية أن يكّونوا تحالفا طالبيا هزم الإخوان المسلمين مزيحا لهم من قيادة إتحاد الطلبة فتم تكوين إتحاد طالبي من قوى هذا التحالف الجديد فسّير الإتحاد الجديد موكبا معارضا للسلطة في 26/مارس 1985م فتحالفت مع هذا الموكب قطاعات أخرى من قواعد الطلبة والمواطنين فكانت رأس الرمح لانتفاضة رجب/ابريل 1985م. دعت نقابة أساتذة جامعة الخرطوم لموكب يبرز المعارضة للنظام في يوم 3أبريل 1985م واستجاب للدعوة عدد من النقابات المهنية: الأطباء، المهندسون، المحامون، البنوك،المحاسبون والصيارفة، وقبل خروج هذا الموكب أعلن النظام لموكب أسماه موكب الردع يوم الثلاثاء 2 أبريل 1985م كان موكب الردع هزيلا وكان موكب الأربعاء ضخما عظيما اشتركت فيه النقابات المذكورة والأحزاب السياسية السودانية وعندما تم بحث الدور السياسي المطلوب من موكب الأربعاء كان الرأي أن يكون: 1- التوقيع على ميثاق وطني يضم كل القوى السياسية المشاركة في الموكب. 2- إعلان إضراب سياسي يلتزم به ويعمل له الجميع حتى سقوط النظام المايوي وفي مساء يوم الثلاثاء 2 أبريل كتب السيد الصادق المهدي بخط يده مشروع الميثاق الوطني وقام بتسليمه للسيد أمين مكي مدني فأوصله للآخرين حيث وافقوا عليه وتم توقيعه مساء الجمعة 5 ابريل 1985م من قبل الأحزاب: حزب الأمة-الإتحادي الديمقراطي-الحزب الشيوعي-نقابات: الاساتذة-المحامون-الأطباء- المهندسون- البنوك والصيارفة-التأمينات. ثم انفتح الباب على مصراعيه ليوقع عليه آخرون من أحزاب ونقابات وفي يوم الجمعة 5 أبريل 1985م اجتمع المصلون لصلاة الجمعة في جامع الهجرة بود نوباوي وهناك خطب السيد الصادق المهدي فقال : 1. لاعذر لأحد في سكوت على مايحدث في السودان اليوم وعلينا أن نتحرك جميعا لإسقاط هذا النظام الظالم. 2. إلتزام الإضراب العام وتسيير المواكب ودعم التظاهرات وتأييد الميثاق الوطني الذي قدمناه للآخرين ومهرناه معهم. 3. على القوات المسلحة والنظامية الأخرى رفع يدها عن النظام المايوي وأن تتحرك لإسقاطه مؤيدة الشعب ومنحازة لمواقفه. وبعد الفراغ من الصلاة تظاهر المصلون في موكب كبير إلى قلب مدينة أمدرمان وقامت تظاهرات عديدة من أمدرمان والحقيقة أن العاصمة كلها قد سيّرت التظاهرات ضد نظام المخلوع. ولم تكن الحركة عاصمية فقط فقد كان أول إقليم من السودان يحرك مواجهة العام الأخير لنظام المخلوع هو إقليم دارفور ولعبت كذلك إنتفاضة وموكب مدني دورا هاما في محاصرة النظام . وفي أوساط القوات المسلحة تمت تحركات وسط صغار الضباط لاتخاذ موقف موحد من الأحداث. وكان المرحوم فريق (م) محمد توفيق خليل قائد سلاح المهندسين يومذاك يدير حوارا مع السيد الصادق المهدي نيابة عن زملائه حيث نقل إليه السيد الصادق المهدي بأنهم كقادة قرروا تحديد موقفهم بعد تقييم موكب المعارضة (موكب الأربعاء) وموكب الردع الخاص بالإتحاد الإشتراكي والمقارنة بين الموكبين ومن ثم الإنحياز للأغلبية. وأوضح بأن صغار الضباط يمارسون ضغطا على القادة للأنحياز للشعب بينما القائد العام الفريق سوار الذهب ما يزال مترددا بسبب بيعته لجعفر نميري. فأرسل السيد الصادق المهدي رسولا للفريق سوار الذهب ينصحه بالإنحياز إلى جانب موقف الشعب السوداني لحقن الدماء أو التنحي وأخيرا اختار الفريق الإنصياع لرأي الأغلبية. وفي مساء الجمعة 5 أبريل 1985م قررت القوات المسلحة تأييد الموقف الشعبي بإجماع الرأي فيها وهكذا في صباح السبت 6أبريل 1985م أعلنت قيادة القوات المسلحة إنحيازها لرغبة جماهير الشعب السوداني واستلام السلطة وخلع جعفر نميري والعودة إلى الديمقراطية.
الفترة الإنتقالية -1985-1986م كوّنت القيادة العامة للقوات المسلحة مجلسا برئاسة الفريق أول عبدالرحمن سوار الذهب ليتولى الشؤون السيادية والتشريعية واختارت مجلسا للوزراء مدنيا ليتولى الشئون التنفيذية ويكمل الدور التشريعي.ومنذ سقوط نظام مايو اقترح حزب الأمة أن يتولى المسئولية الحكومية في الفترة الإنتقالية وزراء من التجمع النقابي بصفته جهة محايدة ولكي تنصرف الأحزاب لتنظيم نفسها والتحضير للإنتخابات العامة.وافق الآخرون على هذا الإقتراح فاختير رئيس الوزراء من التجمع د. الجزولي دفع الله وكذلك أعضاء مجلس الوزراء الآخرين. وكان من المنتظر أن تضع حركة الجيش الشعبي سلاحها تلبية لنداء النظام الجديد في السودان كيما يتفق على السلام وإعادة تعمير الجنوب ولكن الحركة الشعبية والجيش الشعبي رفضا التجاوب بل أطلقا على نظام الفترة الإنتقالية صفة الطبعة الثانية من مايو. إن الحرب الأهلية السودانية هي أسوأ ما خلف نظام مايو من آثار في السودان.لقد كان النظام المايوي يباهي بأنه هو الذي حقق السلام في السودان ،صحيح إن النظام المايوي عقد مع حركة أنانيا الأولى إتفاقية أديس أبابا في 1972م. حيث قام بموجبها صلح تلاه حكم ذاتي إقليمي في جنوب السودان. استمر هذا السلام حتى عام 1975م حيث قامت حينها حركة مسلحة أطلقت على نفسها أنانيا الثانية. وكانت إتفاقية أديس أبابا قد أقامت الحكم الذاتي الإقليمي على الجنوب كإقليم واحد. ولكن جعفر نميري قرر تقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم استجابة لرأي بعض حلفائه مثل جوزيف لاقو ولكي يضعف مركز القوة الجنوبي لأن المجلس التنفيذي كان قد عارض قراره الذي اتخذه لإقامة مصفاة البترول في كوستي بينما كان المجلس الجنوبي يرى أن تقام المصفاة في بانتيو. هذه المسائل: تقسيم الجنوب،إقامة المصفاة في كوستي وحدة الأزمة الإقتصادية في الجنوب أظهرت معارضة واضحة بالجنوب لنظام جعفر نميري.وكانت إتفاقية 1972م قد اشتملت على إتفاق عسكري بموجبه تكون القوات المسلحة في الجنوب مناصفة بين القوات المسلحة القومية وبين القوات التي كانت قوام أنانيا الأولى واتفق أن يستمر هذا النظام مؤقتا لمدة خمسة أعوام، ثم بعدها تدمج القوات في بعضها .تأخر تنفيذ الدمج إلى عام 1982م وعندما تم الإبتداء في التنفيذ لم يراع واقع الحال إزاء القوات في الجنوب ولذلك عندما أمرت الكتيبة 105 من بور بالنقل للشمال رفضت الإذعان ومن ثم وجهت القيادة العسكرية لتطويقها فأدى ذلك لقتال التجأت بعده فلول الكتبية 105 إلى الغابة وانضمت في الأول لحركة أنانيا الثانية ولكن بعد حين اختلف هؤلاء وكانوا بقيادة جون قرنق فكّونوا الحركة الشعبية وذراعها العسكري الجيش الشعبي ولجأوا إلى أثيوبيا. كانت أثيوبيا قد دخلت في حلف مع ليبيا واليمن الجنوبي، في حلف مضاد للمحور السوداني المصري، احتضن ذلك الحلف الحركة المناوئة للنظام السوداني ومنحها التمويل والتدريب والتسليح وكل ما تحتاجه لنشاطها. وبسرعة جدا استطاعت الحركة أن تحدث أثرا على نظام نميري فقد أرعبت العاملين في حفر قناة جونقلي مما أدى لتوقف سير الأعمال فيها ثم أرعبت العاملين في حقل ا ستخراج البترول في شمال أعالي النيل فتوقف نشاطهم وتعرضت أيضا لسير حركة النقل النهري بين الجنوب والشمال بالهجوم فأعاقت هذه الحركة. لقد لعبت الحركة الشعبية دورا في زعزعة نظام نميري ولكنها رفضت التعامل مع النظام الذي أسسته ثورة رجب/ابريل 1985م وواصلت خطها فلم تتمكن الحكومة الإنتقالية من عمل شئ من أجل السلام أثناء العام الإنتقالي. عجزت الحكومة الإنتقالية عن تنفيذ ميثاق الإنتفاضة بالأسلوب الثوري، فلم تلغ قوانين سبتمبر 1983م وتركت ذلك للحكومة المنتخبة وعندما تطرقت لعودة الديمقراطية لم تضع الضوابط للتنظيم الحزبي والعمل النقابي والعمل الصحافي التي ترشد الممارسة الديمقراطية وكان متوقعا أن تنظر حكومة الفترة الإنتقاليه في وسيلة لتمثيل القوى الحديثة ولكنها لم تفعل. أمام كل هذه التطلعات سكتت الحكومة الإنتقالية مفضلة أن تكون حكومة إدارية محايدة ترسم الخطي لإعادة الديمقراطية وفق النمط الكلاسيكي .إن ترك قوانين سبتمبر على ما كانت عليه وعدم النظر في ترشيد التنظيم الحزبي والنقابي والصحافي بصورة تتجنب أخطاء ا لديمقراطية الكلاسيكية تفريط كان يمكن للحكومة الإنتقالية كمنبر ثوري سوداني أن تتجنبه وتمهد بذلك تمهيدا صالحا للنظام الديمقراطي القادم. ووجه آخر من وجوه التركة التي تركتها الفترة الإنتقالية هو أن بعض النقابيين الذين استوزروا استجابوا لمطالب نقاباتهم بشكل غير مدروس وشامل مما خلق سباقا مطلبيا فتح بابا لحقت أضراره النظام الديمقراطي فيما بعد ومن أهم تركات الحقبة الإنتقالية أن المجلس العسكري الإنتقالي وضع قانونا للقوات المسلحة جعلها شبه مستقلة من الجهاز التنفيذي في الدولة الذي هو جزء لايتجزأ منه، فحصر ذلك القانون السلطات في يد القائد العام وهمش وزير الدفاع لدرجة قصوى وبالتالي أضعف الصلة بين الحكومة والقوات المسلحة. تلك عوائق أورثتها الحقبة الإنتقالية للنظام الديمقراطي. بيد أن الحقبة الإنتقالية نجحت نجاحا باهرا في نقل السلطة سلميا من ربقة الإستبداد إلى بهو الحرية ومنها إلى الحكومة المنتخبة كما نجحت في إدارة البلاد بحيدة تامة وإجراء الإنتخابات العامة في موعدها رغم ضيق الوقت. نتائج الإنتخابات –ابريل 1986م أجريت الإنتخابات في السودان في 260 دائرة كسبتها الأحزاب المتنافسة على النحو التالي:- 105 حزب الامة (1) 63 الإتحادي الديمقراطي (2) 51 الجبهة الإسلامية القومية (3) 3 الحزب الشيوعي السوداني (7) 8 الحزب القومي السوداني (5) 4 مستقلون (6) 26الأحزاب الجنوبية (4) هذه النتيجة تعني أن حزبا واحدا لا يستطيع تكوين حكومة وأن باب المناورة بين الأحزاب فتح على مصراعيه.فكانت أول مناورة قام بها الإتحادي الديمقراطي والجبهة فوقعا على إتفاق سري للتعاون بينهما والوعد ألا يدخل أحدهما في حكومة إلا اذا دخل الآخر وكان معلوما أن حزب الأمة لن يستطيع تكوين حكومة مع الأحزاب الصغيرة الأخرى لان تلك الأحزاب غير متجانسة. إن اتفاق الإتحادي والجبهة يعيق حزب الأمة من تكوين حكومته بدونهما وكذلك لن يسمح لهما بتكوين حكومة بدون حزب الأمة.على ضوء تلك النتائج غير الحاسمة دخلت الأحزاب مع بعضها في مفاوضات حيث طرح رئيس حزب الأمة في اجتماع هيئته البرلمانية ومكتبه السياسي فكرة تكوين حكومة قومية تشمل الإتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية والأحزاب الصغيرة لأن المرحلة القادمة تحتاج لوحدة الكلمة واتفاق القول لإجتيازها بسلام ولكن اجتماع حزب الأمة رفض هذا الرأي وإختار بدلا عن ذلك السعي لإقامة حكومة مع الاتحادي الديمقراطي وبعض الأحزاب الصغيرة.
حكومة الوحدة الوطنية دخل حزب الأمة بقرار من أجهزته في تفاوض مع الإتحادي الديمقراطي والأحزاب الأخرى وهي: سابكو،التجمع السياسي لجنوب السودان(جناح ألدو) الحزب الفيدرالي،فاتفقت هذه الأحزاب على تكوين حكومة الوحدة الوطنية. تم توزيع المناصب الدستورية بين الأحزاب المؤتلفة ،فانتخب مجلس رأس الدولة الخماسي إضافة إلى انتخاب رئيس الجمعية التأسيسية ورئيس الوزراء وعين رئيس الوزراء أعضاء حكومته بالتشاور مع رؤساء الأحزاب المؤتلفة. وشرعت الحكومة الجديدة في شهر آيار مايو 1986م تمارس مسؤولياتها بعد استلام السلطة من رجال الفترة الإنتقالية.واصلت الحكومة عملها في العام الأول دون حدوث مشكلة ذات بال ، ولكن في حزيران (يوليو) 1987م وقعت مشكلة هامة وهي أن السيد محمد الحسن عبد الله يس أخلى مقعده في مجلس رأس الدولة بالاستقالة وكان على حزبه (الإتحادي الديمقراطي) أن يختار خلفا له. وفي غيبة السيد رئيس الوزراء حيث كان في رحلة خارج الوطن وكذلك غيبة السيد محمد عثمان الميرغني ،إجتمعت الهيئة البرلمانية والمكتب السياسي للإتحادي الديمقراطي واختاروا د.أحمد السيد حمد خلفا للسيد محمد الحسن عبد الله يس في مقعد رأس الدولة الشاغر واجتمعت أجهزة حزب الأمة وقررت رفض د. أحمد السيد حمد للأسباب الآتية: 1. أ نه كان سادنا ومستشارا لجعفر نميري. 2. أنه يناصب حزب الأمة العداء. فطلب حزب الأمة من الإتحادي الديمقراطي ترشيح شخص آخر ولكن الإتحادي الديمقراطي قرر التمسك بمرشحه وعزل أي مرشح آخرمن الحزب يقدم نفسه.عندئذ قرر حزب الأمة أن يرشح شخصا مستقلا للمنصب فأرسل لثلاثة أشخاص ليختار منهم واحدا إذا وافقوا وهم:- 1. د. الجزولي دفع الله. 2. السيد محمد يوسف مضوي. 3. السيد ميرغني النصري. فاعتذر كل من الأول والثاني لأسباب أبدوها ووافق الثالث،وعندما فتح باب الترشيح في الجمعية رشح الإتحادي الديمقراطي د.أحمد السيد حمد ورشح حزب الأمة السيد ميرغني النصري ففاز بالمقعد. وكان الإتحادي الديمقراطي بعد أن قفل الطريق أمام أي حل وسط من أمر المرشح قد قرر أن رفض حزب الأمة لمرشحه معناه فض الإئتلاف. هكذا نشأت أزمة من لا شئ فتعرض الإئتلاف الحاكم لهزة كادت تطيح بالعلاقات لولا أن احتوتها حكمة القيادتين.لقد كان متعارفا ألا يقدم أحد على ترشيح أي شخص للمناصب الدستورية مالم يجر التفاهم حول إسمه.فكان ينبغي أن يتفاهم على الإسم قبل أن تقرر أجهزة الحزب الإتحادي الديمقراطي بشأنه، ذلك لأننا إذا وجهنا قرارات متعارضة من أجهزة لها حق اتخاذ القرار سنجد أنفسنا أمام أزمة لا حل لها، المشكلة الثانية طرأت أثناء حكم تلك الحكومة الأولى وهي مشكل الدكتور محمد يوسف أبوحريرة... ننقل عن يوميات السيد الصادق المهدي الآتي "د.أبوحريرة أستاذ بجامعة الخرطوم، لم يسبق له لعب أي دور في ثورة اكتوبر ولا في ثورة رجب. وليس له تاريخ في الحزب الإتحادي الديمقراطي. جاء إلى السلطة في محاولة عجلى لوصول إلى الزعامة. فاختير وزيرا للتجارة وكانت له آراء جد متطرفة للتعامل مع التجارة ... انعكست سلبا على الوضع التجاري والإقتصادي في البلاد. هذه الآراء ل تمثل رأي حزبه ولا التفكير المعتدل الذي تنتهجه الحكومة. وكان مجلس وزراء القطاع الإقتصادي - وهوأحد أعضاءه يناقش المسائل الهامة المتعلقة بالإقتصاد والتجارة. فبحث المجلس في شباط (فبراير) إجراءات متعلقة بتسهيل إستيراد بعض الضروريات والمدخلات الصناعية على أساس نظام الإستيراد بالموارد الذاتية.واشترك هو في النقاش برأي لم يأخذ به المجلس بعد تداول الآراء متخذا قرارا لإجراء تلك التسهيلات.وفجأة انتصب أبوحريرة واقفا واستأذن من رئيس الوزراء ليخرج فكان الظن أنه سيخرج لأمر ما ثم يعود ولكنه وقف في الباب وقال إنني لن أنفذ شيئا مما تقرر هنا.!! نقلت هذا المشهد لزعيم الإتحادي الديمقراطي وطلبت منه أن يراجعه لينضبط ، وفي جلسة لاحقة لمجلس الوزراء اتهم السيد مبارك الفاضل إتهامات حول تسويق الصمغ العربي بسبب خطة وضعها مبارك كوزير للصناعة تقضي بتصدير الصمغ العربي مصنعا بدلا عن تصديره خاما.فقبل السيد مبارك التحدي وطالب بلجنة تحقيق. فسحب د.أبوحريرة كلامه(أنظر أضابير مضابط مجلس الوزراء). ثم ذهب الدكتورأبوحريرة في لجنة وزارية بصحبة وزراء من حزبه وحزب الأمة وآخرين كلجنة لاتخاذ إجراءات حاسمة لتفريغ الميناء وهناك تعرضوا كلجنة لكل المشاكل واتخذوا بشأنها قرارات. ولكنه لدى عودته اتهم زملاءه مناقضا لما قرره معهم وتولى ليصرح بإتهاماته إلى الصحف. ثم كتب لى يطالب بالتحقيق في التهم. والتقيت به وعاتبته على تصريحه قبل وصول خطابه إلى وإلا فما جدوى –سري جدا-التي زين بها صدر خطابه.وأخبرته إن لم يبادر بالإعتذار فإنني سوف أتصرف .فرد أبوحريرة قائلا بأنه سيعتذر ولكن ليس علنا. ومما أرقني كثيرا كرئيس للوزراء في تلك الحكومة أن الرجل الثاني فيها السيد الشريف زين العابدين الهندي يؤدي أداء ضعيفا فهو غائب عن 70% من جلسات مجلس الوزراء وغير مواظب على العمل في وزارته (وزارة الخارجية) وزارة حساسة باعتبارها إحدي وزارات السيادة وتحتاج إلى قيادة نشطة تفجر طاقاتها لتجعلها تمور كخلية نحل. السيد الشريف زين العابدين رجل حلو المعشر، حسن المعاملة مؤدب وفصيح اللهجة ولايمكن لأحد ان يبغضه ولكنه مع كل هذه الصفات المميزة غير راغب حقيقة في العمل السياسي والإداري وقد دفعه إلى هذا الدور خلافة أخيه (المرحوم) الشريف حسين الهندي ولكن هذه المسائل لا تورث فالمرحوم الهندي سياسي حتى النخاع وزين العابدين أديب نعم ،أما سياسي فلا، والنتيجه أنه ترك فراغا في دوره الوزاري والقيادي كقائد للفريق الإتحاد في الحكومة وكقائد ثان لحزبه في البلاد.ومهما شكوت إلى زعامة الحزب الإتحادي الديمقراطي إلا أني لم أجد سبيلا للترشيد ونسبة لأن الشخصيات موضوع الشكوى قيادية فلم أجد بدا من إجراء تعديل وزراي أساسي ليستقيم الأمر بعد ذلك." ولئن تحدث السيد الصادق المهدي عن عدم حماسة الشريف زين العابدين السياسية والإدارية وفي آراء د.ابوحريرة الإقتصادية إلا أنه لم يشك قط في وطنية الرجلين ولا في حسن العلاقة الشخصية بين ثلاثتهم فلم يخيب دكتور أبوحريرة حسن ظن السيد الصادق المهدي في وطنيته عندما ذهب ليقاضي جريدة السياسة وعندما تغيرت ظروف البلاد لم يشأ أن يجعل المحاكمة منبرا لتراشق رجالات العهد الديمقراطي وكان السيد الصادق المهدي قد دعي للإدلاء بشهادة دفاع لصالح د. خالد فرح صاحب جريدة السياسة وذلك دون علمه السابق بأنه سيدلي بمثل هذه الشهادة وقبل أن يشرع السيد الصادق المهدي في الإدلاء بشهادته تقدم د. أبوحريرة بكل الوعي والشهامة ليسحب البلاغ. حكومة الوفاق الوطني –(1986-1987م) استمر الامر مستقرا بعد التعديل الوزاري لمدة ثم اتضح أن بعض العناصر من أعضاء الإتحادي الديمقراطي التي سبق أن أعفيت من الحكومة لا تلتزم فيما تقول بتأييد الحكومة حتى بدا كأن جزءا من الإتحادي الديمقراطي في الحكومة وجزءا آخر في المعارضة. وكانت معارضة هؤلاء موجهة ضد الحكومة حينا وموجهة ضد زعامة الإتحادي الديمقراطي أحيانا.والنتيجة أن هذا السلوك انعكس سلبا على موقف الحكومة. يورد السيد رئيس الوزراء قوله "كانت البلاد محتاجة لتوسيع قاعدة الحكم لمواجهة القضايا القومية وهذا السلوك من بعض العناصر الإتحادية يضيق قاعدة الحكم. في هذا المناخ فتحت حوارا مع قيادة الجبهة الإسلامية القومية،فوجدت منهم تجاوبا. ثم طرحت الأمر على أجهزة حزب الأمة فكان موقفا إيجابيا إذ عدلت عن موقفها السابق ". وبلغ الأمر بالتيار الإتحادي المعارض أن نظم مسيرة موكب للإحتجاج على بعض الأوضاع في إقليم دارفور مع أن الحكومة منعت تسيير المواكب ما لم يوقف إطلاق النار في الحرب الأهلية. عندئذ خاطب السيد الصادق المهدي الجمعية التأسيسية ببيان دعا فيه للوفاق الوطني الذي يشمل الجميع وحددت المبادئ التي يقوم عليها هذا الوفاق. ولما سمعت الكتل البرلمانية المختلفة هذا البيان تحركت بإنفعال لمعارضته،لعلها قدرت أنها اذا لم تدخل في تشاور حول الأمر قبل إعلانه فإنها حتما تعارضه.وبينما الكتل المختلفة تستعد للمعارضة جرى تداول على نطاق قومي حول البيان حيث تولى د.علي حسن تاج الدين دعوة جميع القوى السياسية في القصر لمناقشة فكرة الوفاق الوطني.وعبر شهر من الزمان تداول الحاضرون الأمر واتفقوا على ميثاق الوفاق،كان ميثاق الوفاق شبيها جدا بالبيان الذي ألقاه السيد الصادق المهدي فيما سبق ولكن الكتل التي كانت مستعدة لمعارضته لأنها لم تشترك في مناقشته قررت تأييد البيان الثاني الذي اشتركت في مناقشته. المشاركة إذن هي كلمة سحرية لا يجوز إغفالها وأحيانا يتحرك الناس مع أو ضد الأمر لا لأسباب موضوعية فقط، بل ربما تحركوا لأسباب ذاتية. كانت مناقشات القصر مثمرة جدا أثمرت ميثاق الوفاق ونقاشا ثريا جدا للمشاكل بين الشمال والجنوب ومشاكل التوفيق بين الإلتزام الإسلامي والوحدة الوطنية. وفي أيار (مايو)1987م تم تكوين حكومة الوفاق الوطني مكونة من أحزاب: 1. الأمة. 2. الإتحادي الديمقراطي. 3. الجبهة الإسلاميه القومية. 4. الحزب القومي السوداني. 5. التجمع السياسي لجنوب السودان (جناح ألدو). 6. سابكو. 7. الحزب الفيدرالي. وأسندت فيها حقيبة الدفاع لشخص مستقل الفريق (م)عبدالماجد حامد خليل. كما أسندت وزارة الداخلية لشخص مستقل الفريق (م) د. أبوشامه. استمرت حكومة الوفاق بصورة سليمة ساعدت على حسم كثير من القضايا ولكن الإشتراك في حكومة واحدة لم يفلح في تحسين العلاقة بين الإتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلاميه.بل ربما بدا لكل منهما أنه ينبغي أن يزحزح الآخر ويحل محله ومهما حاول السيد رئيس الوزراء من بذل الجهد في إحتواء الأمر إلا أن حدة التنافس بين حليفيه كانت مزعجة. يستطرد السيد الصادق المهدي قائلا: "كنت أتحدث مع الطرفين في كثير من القضايا ومنها قضية الإتفاق على إطار السلام. كلاهما كان غائبا في كوكادام ولم يشترك في الإعلان وفي آب (أغسطس) أبلغني الإخوة في الإتحادي الديمقراطي أنهم بدأوا اتصالات بالحركة الشعبية للتوصل للتفاهم حول السلام. فشجعتهم على ذلك" وفي آب (أغسطس) تزايد الغضب الشعبي على تصرفات الحركة الشعبية فرأينا منع الإتصالات. واستثنيت إتصالات الإتحادي الديمقراطي بقرار من مجلس الوزراء فوافق الآخرون فاستمرت تلك الإتصالات حتى أدت إلى تنظيم اجتماع بين وفد بقيادة زعيم الإتحادي الديمقراطي وآخر بقيادة الدكتور جون قرنق في تشرين الثاني (نوفمبر)1988م يقول المهدي- اجتمعت"وقبيل سفر الوفد الإتحادي إلى السيد محمد عثمان الميرغني وتم الإتفاق على أسس معينة سجلها السيد محمد الحسن عبدالله يس. ثم تم لقاء أديس أبابا بين الطرفين وأثمر اتفاقية السلام السودانية في 16/11/1988م. أيد هذه الإتفاقية وتحمس لها الإتحادي الديمقراطي وعناصر سياسية أخرى في السودان من أحزاب الإنتفاضه والتجمع النقابي واتحاد العمال وتحمس لها الشارع السياسي السوداني. أما الجبهة الإسلامية فقد عارضتها واعتبرتها مروقا على الدين وانحرافا واستسلاما. "أيدها حزب الأمة من حيث المبدأ وأصدر بيانا بذلك ولكن مع تأييدنا لها سعينا إلى سد الفجوة مع حليفنا". دعا السيد الصادق المهدي كل من السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور حسن الترابي إلى اجتماع بمنزل الدكتور علي حسن تاج الدين تحدث فيه عن ضرورة توحيد الجبهة الداخلية تجاه السلام وناشد فيه زعيمي الإتحادي والجبهة الإسلاميه الإلتقاء في موقف وسط لقبول اتفاق نوفمبر 1988م كإطار للسلام على أن تبحث أي تحفظات على بنوده مع الحركة الشعبية في إطار الحكومة. وقد وافق الإجتماع على اقتراح السيد الصادق المهدي بإعلان موافقة الحكومة على اتفاق نوفمبر 1988م في مؤتمر صحفي وذلك بتفويض منهم وبعث كل من وزير الخارجية د. أبوصالح ووزير الدفاع عبدالماجد حامد خليل للاجتماع مع الحركة الشعبيه للتشاور حول التحفظات وتوضيح بنود الإتفاق والإتفاق على ترتيبات تنفيذه. عقد رئيس الوزراء مؤتمره الصحفي ثم كلف الوزيرين بالسفر للقاء الحركة الشعبية ولكن الحكومة الأثيوبية طلبت تأجيل زيارتهم إلى حين حضور رئيس وزراء أثيوبيا الذي كان يزمع زيارة السودان في نفس الشهر وذلك ليطلع على برنامج الحكومة السودانية ومساهمتها في السلام في شمال أثيوبيا.ولكن تأجيل سفر الوفد الوزاري انتكس بالوفاق مرة أخرى. وعمل السيد رئيس الوزراء على إنقاذ الموقف وتحقيق إجماع حول اتفاق السلام وبعد التشاور مع قيادتي الإتحادي والجبهة عرض الأمر على الجمعية موضحا فيه مزايا اتفاق نوفمبر 1988م والنقاط التي تحتاج إلى توضيح ثم طلب من الجمعية الموافقة على عقد المؤتمر الدستوري في 31كانون الأول (ديسمبر) 1988م وفق ما نصت عليه الإتفاقيه وتفويض رئيس الوزراء لتذليل كل العقبات لعقد المؤتمر الدستوري. ولكن بعض قيادات الإتحادي وهي سعيدة بالسند الشعبي الذي وجدته الإتفاقيه حرصت على وضع السيد الصادق المهدي والجميع أمام خيار واحد تأييد الإتفاقيه كما وردت دون أي تعديل أو معارضتها لذلك تقدموا بتعديل اقتراح رئيس الوزراء في الجمعية ينص على الموافقة على الإتفاقيه بكامل نصوصها بدلا عن تفويض رئيس الوزراء للتعامل مع الموقف وإجازة الإتفاقيه ضمنيا بالموافقة على عقد المؤتمر الدستوري في نهاية كانون الأول (ديسمبر) حسب نص الإتفاقيه. دارت مناقشات وعقدت اجتماعات في أروقة الجمعية بين قادة الأحزاب الثلاثة لتوحيد الموقف. وتم الإتفاق فعلا على أن يسحب الإتحادي الديمقراطي اقتراحه كيما يتم التصويت على اقتراح رئيس الوزراء ولكن كانت الهيئة البرلمانية للاتحادي قد عبئت ولذلك صوتت الجمعية ممكّنة لاقتراح رئيس الوزراء. وبدا كأن الجمعية قد رفضت الإتفاقيه. بيد أن مساعي رئيس الوزراء قد تواصلت لتوحيد الكلمة حول تأييد الإتفاقيه بين حلفائه إلى أن توصلوا لصيغة مقبولة في بيان الصادق المهدي الذي أيده د. الترابي في اجتماع 4/1/1989م. وفي يوم 26/12/1988م اتخذت حكومة الوفاق قرارات بشأن زيادة الضرائب .أهمها رفع سعر رطل السكر من 50قرشا إلى ثلاثة جنيهات للرطل. لقد وجدت هذه القرارات معارضة واسعة في الهيئة البرلمانية لحزبي الأمة والإتحادي والنقابات وتحرك ضدها الشارع السوداني بحجم واسع وفي يوم 28/12/1988م بعد الإجتماع بمجلس الوزراء قرر رئيس الوزراء تجميد القرارات ودعى الأحزاب والنقابات والإقتصاديين إلى مؤتمر تداولي لإيجاد بديل ولكن التيار الإتحادي الذي آثر عدم المرونة في طرح إتفاقيه 16/11/1988م في الجمعية اعتقد أن تحرك النقابات والشارع كفيل باسقاط الحكومة لذلك ضغط على قيادة الحزب للإنسحاب من الحكومة، اذ وصل هذا القرار حوالى الساعة الثامنه مساء إلى رئيس الوزراء وقبلها بساعات وصله خطاب من السيد محمد عثمان يعترض فيه على إعفاء محافظ البحر الأحمر –فقراي- وطالب بإعادة النظر فيه باعتباره مشاركا في الحكومة. كان تحليل هؤلاء أن الحكومة لا محالة ساقطة ولكن استجاب الجميع لدعوة المؤتمر التداولي حين عين المؤتمر لجنة برئاسة ألدو أجو ويستعد للبحث عن بدائل للضرائب مع الإبقاء على زيادات الرواتب والأجور لأن الزيادة إنما قررت لتمويل البنود الآتيه: 1. رفع الحد الأدنى للأجور من 60 جنيها إلى 300 جنيه في الشهر. 2. إزالة المفارقات في هياكل الخدمة المدنية. 3. رفع الحد الأدنى للمعاشات 4. الإنفاق الأمني الإضافي الذي أوجبته ظروف الطوارئ كاللاجئين و النازحين وإعادة التعمير. وبعد التداول وافق الجميع بالإجماع على إجراءات إيرادية بديلة واتفق على تجميد سعر رطل السكر بـ (125) قرشا. ربما كان الإتحادي الديمقراطي يناور بانسحابه من الحكومة ولكن السيد الصادق المهدي رأى أن يقبل الإنسحاب لأنه جاء في وقت ضعف، كان ينبغي أن يتجنب الإتحادي الديمقراطي الإنسحاب في مثله لا سيما وقد كان الإتفاق حول موضوع إتفاقيه السلام قد تم بموجب بيانه في يوم 27/2/1988م كما أن الإجراءات المالية التي أعلنت كانت بقرار شارك فيه الإتحادي الديمقراطي...بل إن الجلسة التي قرر فيها رفع سعر رطل السكر إلى ثلاث جنيهات كانت برئاسة د.حسين سليمان أبوصالح نائب رئيس الوزراء من الحزب الإتحادي الديمقراطي. لم يكن إنسحاب الحزب الإتحادي من الحكومة صحيحا ولم يكن ثمة مبرر حقيقي لذلك ولكن نتيجة له صارت الجبهة الإسلامية هي الحزب الثاني في الحكومة وصارت للإتحاديين زعامة المعارضة ونتيجة لذلك فإن كل القوى الداخلية التي أيدت إتفاقيه السلام وقفت ضد الحكومة بصورتها الجديدة كما أن الإرتياب في موقف الجبهة الإسلاميه بأنها تعمل ضد السلام وتقف مع خيار الحرب وأنها ستسبب فتنة دينية في السودان،انعكس على الحكومة الجديدة في نظر الغرب والشرق والعرب والأفارقة. كان وزير الدفاع عبدالماجد حامد خليل يشعر بالآثار السلبية لبروز الجبهة الإسلامية.ويحاول موازنة الموقف بكثرة الحديث عن السلام وضرورته والتزام الحكومة به فتصدى له بعض وزراء الجبهة الإسلامية في الحكومة وعلى رأسهم د.حسن الترابي وأخذوا عليه تكرار حديثه عن السلام كأنه وزير وزارة السلام بينما هو وزير الدفاع وعليه أن يواصل عمله كذلك ويترك مهمة السلام للآخرين وتناول إعلام الجبهة (غير المهذب) الخط وفتح تهجماته على وزير الدفاع. في هذه الفترة وجه السيد رئيس الوزراء إنتقادات للقيادة العامة حول الأداء العسكري حيث وعدوا بعقد اجتماع لمناقشتها بيد أن الإجتماع اتجه نحو العدول عن بحثها وبدلا عن ذلك بحث المسائل السياسية والخارجية والإمكانات العسكرية. أدى هذا الإجتماع إلى كتابة مذكرة القوات المسلحة في شباط (فبراير) 1989م وأوضح في عبارات المذكرة أن السيد وزير الدفاع أو أصدقاؤه قد لعبوا دورا في إعدادها لاسيما عندما ألح وزير الدفاع على قبول استقالته التي كان قد قدمها للسيد رئيس الوزراء فأرجأ إعلانها في الوقت الذي يلح فيه وزير الدفاع على أن تعلن الإستقالة فورا. ويلاحظ القراء في سطور هذه المذكرة فحوى مفادها أننا نريد مزيدا من الدعم العسكري ووجود الجبهة الإسلامية بهذا البروز في السلطة سوف يحول دون ذلك. كانت خلاصة المذكرة: 1. ينقص القوات المسلحة السلاح اللازم لمواجهة الحرب التي تخوضها. 2. تفرق الجبهة الداخلية ينعكس سلبا على المجهود الحربي. 3. سياسة البلاد الخارجية حالت دون الحصول على الدعم العسكري المطلوب من الخارج. 4. عدم مواكبة الإعلام للمعركة التي تخوضها القوات المسلحة. 5. إلتزام القوات بالشرعية الدستورية مع انتظارها لبحث وحسم هذه القضايا في مدة أقصاها اسبوع. يروي السيد الصادق المهدي بقية مشاهد الفصل الدرامي فيقول: جاءني في منزلي بالملازمين القائد العام ورئيس هيئة الأركان ونوابه وسلموني المذكرة وقبل أن أطلع عليها ..قلت لهم:أرجو ألا يصرفنا تداول هذه الأمور عن ما يدور في جبهة القتال ووعدت بدراستها والرد عليهم. (وفي اليوم التالي اجتمعت بمجلس رأس الدولة وطلبت منهم أن يخبروا القيادة العامة بأنني سأرد على المذكرة.وعلى القوات المسلحة الإلتزام بالشرعية الدستورية والإنضباط وألا تفرط في واجباتها القتالية بينما تبحث هذه الأمور) (وكنت مزمعا السفر إلى اليابان في اليوم التالي لحضور مراسم تشييع جثمان الأمبراطور هيروهيتو.فألغيت سفري ومثّل السودان السيد إدريس البنا" "وطلبت اجتماعا بالقيادة العامة وبكل الذين وقّعوا على المذكرة فوعدوا بتحضير الإجتماع ولكن عندما ذهبت فعلا وجدت أن الإجتماع حصر في القائد العام ورئيس الأركان ونوابه وبعض قادة القيادة ولا أدري لماذا حصروه ؟ ربما قدروا أنني أريد معرفة الذين وقعوا على المذكرة لإجراءات تأديبيه أو خشية وقوع مواجهات لا تحمد عقباها.أما أنا فقد كنت أريد لقاءا وطنيا صريحا لأعرف ما يريدون وليعرفوا ما أريد لأنني كنت أسمع بعض ما يقولون لتنوير الوحدات وأجده غير صحيح بل أجده موجها لنتائج معينه ليس من مصلحة القوات المسلحة ولا من مصلحة البلاد. كان التنوير للوحدات أشبه بالإيحاء منه بالتنوير لم اقف كثيرا عند شكل الإجتماع وقررت تسجيل ما أقول ليستمع إليه الآخرون كان خلاصة ردي: 1. نعم إن انشطار الجبهة الداخلية له آثاره السلبية وسأسعى لتوحيدها أكثر. 2. سياسة البلاد الخارجية الحالية أنقذت البلاد من الإنحياز والمحورية وهما سبب كل مشاكلنا الحالية.ومن يرى عيبا فيها أرجو أن يكون حديثه في أي أمر تعاب؟ 3. نعم نعترف بقصور الإعلام وانحرافات الصحافة وسنعمل على تصويب ذلك. 4. تحظى القوات المسلحة الآن بثلث الميزانية وبجزء كبير من الموارد الخارجية يبلغ هذا العام 450مليون دولار وهذا أقصى حد تسطيعه البلاد ويمكن متابعة الأمر للتأكد من ذلك إضافة إلى المجهود التعبوي المبذول لبذل المزيد. 5. حسن أن تلتزم القوات المسلحة بالشرعية والإنضباط ولكن تحديد زمن يشبه الإنذار يفتح باب الفعل ورد الفعل فكان الأدعى تجنبه. "أوردنا سابقا بأن الإجتماع المنتظر للقادة العسكريين لبحث أسباب الإخفاق العسكري رغم الموجود من إمكانيات ولكن انحرف الإجتماع عن المسار المنتظر وانحدر صوب المذكرة مما أدى إلى المذكرة والتقى فيها امتزاج ثلاثة تيارات هي: 1. تيار وزير الدفاع عبدالماجد حامد خليل وأصدقائه الذين يلتمسون تغييرا في الحكومة على نحو يبعد الجبهة الإسلاميه او على الأقل يضعف وزنها الحكومي. 2. تيار القيادة العامة التي تريد الحيلولة دون المساءلة عن الإخفاقات العسكرية وتعليق أسباب الإخفاق على جهة أخرى غيرها. 3. التيار الإنقلابي الذي يريد استيلاء القوات المسلحة على السلطة. نقلت وقائع مادار في الإجتماع المشار إليه إلى مجلس رأس الدولة واتفقت مع (السيد ميرغني النصري)على توجيه الدعوة للأحزاب والنقابات لبحث إشكالية توحيد الجبهة الداخلية.ودعى السيد مرغني النصري كل القوى السياسية والفئوية وعلى طول شهر وقعوا البرنامج المرحلي في آذار (مارس) 1989م فكان هذا إنجازا رائعا ولكن الجبهة الإسلامية لم توقع على البرنامج بحجة أنه عار من أي إلتزام إسلامي والحقيقة أنه شمل نصا مفاده الإسراع لعقد المؤتمر الدستوري حيث يبحث ويتفق على موضوع الإلتزام الإسلامي والتوفيق بين الإلتزام الإسلامي والوحدة الوطنية وكان من الممكن تضمين نص منفرد في البرنامج عن الإسلام لولا أن الجبهة الإسلاميه أقنعت نفسها بعدم جدوى الخيار الديمقراطي وطفقت تبحث عن بديل يناسب مزاج قاعدتها الشبابية التي ألهب حماسها للإسلام الفوري. هكذا عزلت الجبهة نفسها عن الجهد الوطني الذي انتهى إلى البرنامج المرحلي وابتعدت عن كل محاولة لإيجاد حل في الإطار الديمقراطي وشدت أنظارها نحو حل خارج ذلكم الإطار فأخذت تسحب نوابها من الجمعية وترفع شعارات ثورة المصاحف وثورة المساجد .لقد قررت في أخص مجالسها ان الديمقراطية لا تلائمها ولا تخدم أهدافها فلابد من طريق مختصر بديل.
حكومة الجبهة الوطنية المتحدة-مارس1989-يونيو1989م يروي السيد الصادق المهدي في مذكراته قائلا:"كونت في مارس 1989م حكومة ذات قاعدة واسعة ضمت كل الأحزاب في الجمعية بأجنحتها المختلفة عدا الجبهة الإسلامية. كذلك اشتركت في الحكومات الإتحادات النقابية الست. ومثل القوات المسلحة وزير بالتشاور معها هو اللواء(م) مبارك عثمان رحمة.فكانت قاعدة هذه الحكومة في الجمعية 80% من النواب. وخارج الجمعية حظيت بأوسع قاعدة شعبيه وفئوية تقف مع حكومة في تاريخ السودان الحديث.كانت الجبهة مدعوة للمشاركة في هذه الحكومة ودخولها كان ممكنا نظريا ولكن عمليا كانت الجبهة قد انصرفت عن الديمقراطيه.صحيح لقد جاءني القائد العام ورئيس هيئة الاركان بطلبين، فاستمعت لهما أما أولهما رجاء بإسقاط الجبهة الإسلاميه من الحكومة لأن وجودها يعزل بلادنا وثانيهما أن نستشار فيمن يكون وزيرا للدفاع. وقلت لهما اما الطلب الأول فلا .. إلا إذا عزلت الجبهة نفسها لأننا نريد توحيد الجبهة الداخلية. أما أثرها السلبي على علاقاتنا الخارجيه فيمكن احتواؤه.وأنا بذلك كفيل.أما الطلب الثاني فنعم. وأرجو أن ترشحوا لي أسماء ترتضونها للمنصب وقد كان". ختام في ظل الديمقراطيه تغدو خلافات الأحزاب فيما بينها وفي داخلها أمرا عاديا،ومهما كانت الخلافات فإنها احتويت بصورة إيجابيه وأثمرت المناقشات أدبا سياسيا ثريا جدا. تجنبت الأحزاب الإنشقاق وتجنب البرلمان نخاسة النواب وتطور تأييد الحكومة في البرلمان من 70% في عام 1986إلى 80% في عام 1989م وتطور سندها الشعبي والنقابي إلى ما يشبه الإجماع. بالمقياس الحزبي والبرلماني كانت الديمقراطية الثالثة ناجحة واستطاعت الأحزاب السودانية علاج كل المشكلات التي طرأت بينها.بيد أن المشكلة التي عزلت الجبهة الإسلاميه لم يتم علاجها لسببين هما: -إن الجبهة الإسلاميه تطلعت إلى ما وراء الديمقراطية حيث الإنفراد بالسلطة و الإسلام الفوري من على أبراج الدبابات كما"بشروا". -القاعدة الشبابية الجبهوية طربت لإنغام الفورية الإسلاميه فانصرفت عن "ترهل"الديمقراطية فلم يعد ممكنا إثناؤها حتى لو حاولت القيادة ذلك. كان أداء الديمقراطية الثالثة بكل المقاييس ناجحا بل إن بعض أهم قضايا الفكر السياسي وجدت حلا: 1. زالت حدة الصدام بين الشيوعية السودانية والفكر السياسي السوداني وبعض أفكار الشيوعية تم استيعابها قوميا. وبعض التوجهات القومية تم استيعابها في الحزب الشيوعي. 2. اختفى مطلب الإنفصال عن مشكل جنوب السودان وانطوى الخوف من الإكراه الحضاري وصار الأمر برمته بحثا عن سودان عادل بين جميع أبنائه. 3. وجدت قضية التناقض بين الإلتزام الإسلامي والوحدة الوطنية أو التناقض بين الإسلام والسلام صيغة وفاقية على يد لجنة الوفاق الوطني وسيكون اجتهادها هذا أساسا لمداولات المؤتمر القومي الدستوري. الحقيقة كان الأداء السياسي والبرلماني ناجحا وكانت التيارات الفكرية الأساسية تتجه نحو التقارب والوفاق وأي قراءة موضوعية للأحداث تثبت بجلاء هذه الحقيقة. الفصل الثاني: الوجه النقابي
التنظيم النقابي ظاهرة من ظواهر المجتمع الحديث والدولة الحديثة وقد تطور كوسيلة يرعى بها العاملون حقوقهم أمام المخدم سواء كان قطاعا خاصا أو حكومة. ومع تطور الفكر السياسي والعمالي صار للحركة النقابية حقها القانوني والإقتصادي ولها تنظيماتها القطرية والإقليمية والدولية وبرزت منظمة العمل الدولية كإحدى منظمات الأمم المتحدة لتعنى بشئون العمل والعاملين وتعطي وعاء عالميا لتنظيمات العاملين وعلاقاتها بالمخدمين. وفي العالم الثالث حيث الدول حديثة الإستقلال فإن التنظيمات النقابية نشأت في ظل السلطة الإستعمارية فالتنظيمات النقابية مع أنها نظريا محايدة من الناحية السياسية لأن لأعضائها الحق في انتماء سياسي لأي جهة كانت ولكنهم كأعضاء نقابة متوقع منهم العمل معا لرعاية مصالح الأعضاء أمام أي مخدم أو حكومة مع هذا التوقع إلا أن النقابات كانت في الواقع دائما قريبة من العمل السياسي ففي بلاد مثل بريطانيا مثلا اختارت الإتحادات العمالية الإنتماء لحزب العمال وفي كثير من البلاد الأوروبيه توجد علاقة عضوية بين بعض الأحزاب وبعض النقابات. أما في البلاد ذات النظام الشمولي حيث يسيطر حزب واحد فإن ذلك الحزب يحرص على جعل التنظيمات النقابية روافد له وفي بعض البلاد التي كانت مستعمرة نظمت النقابات نفسها في الأول كمنظمات نقابية لرعاية شئون أعضائها ولكنها سرعان ما تطلعت لدور سياسي وقامت بدور وطني في حركة التحرر الوطني.وفي بعض البلاد انطلق العمل الوطني نفسه من قواعد نقابية وصار القادة النقابيون هم القادة الوطنيون مثلا سيكتوري في غينيا. وفي بعض البلاد ذات التنظيم الشمولي تحررت بعض النقابات وصار لها دور في تطوير النظام السياسي نفسه نحو التعددية مثلا-في بولندا نشأ تنظيم التضامن العمالي كتنظيم نقابي حر من الروابط بالحزب الشيوعي وبعد فترة من النشاط تم حظر ذلك التنظيم في عام 1980م فاضطر أن يعمل تحت الأرض وظل كذلك حتى هبت نسائم التغيير في بولندا فاعترفت الحكومة بالتضامن حيث تطور ليصبح حزبا سياسيا فاز مرشحوه بالمقاعد التي فتحت للتنافس الحر في سبتمبر 1989م. وفي السودان نشأت التنظيمات النقابية على أساس وظيفي مهني وكان أول الأحزاب السودانية إهتماما بجر النقابات لدور سياسي هو الحزب الشيوعي السوداني الذي تدفعه عقيدته السياسيه إلى التماس قاعدة عمالية لنفسه.هذه النزعة كان لها أثران: الأول: زرع الريبة في نفوس بعض القوى السياسية الوطنية نحو النتظيمات النقابية. الثاني: المسارعة بالعمل في أوساطها. ومهما كان من نشاط سياسي داخل النقابات السودانية فإن ظروف القهر السياسي والدكتاتورية العسكرية دفعت كثيرا من النقابات للعمل السياسي الوطني-جبهة الهيئات-مثلا في ثورة اكتوبر 1964م.والتجمع النقابي أيضا في ثورة رجب/أبريل1985م. إن للحركة النقابية في السودان جذورا راسخة وتجارب غنية لذلك استحال على الشموليين الذين اختطفوا السلطة في السودان التخلص منها أو تهميشها.فأول قانون اعترف بالتنظيم النقابي في السودان صدر عام 1948م وبموجبه نشأت تكوينات عمالية ديمقراطيه لها شخصية اعتبارية. كانت الحكومة الديمقراطية الأولى في السودان معترفة بالتكوين النقابي ومقدرة للدور العمالي في الحركة الوطنية ولكن عندما نشأ اتحاد عام لعمال السودان بدا للأحزاب الوطنية أنه تحت سيطرة كوادر شيوعية فلم تعترف به، بيد أن السيد الصادق المهدي عندما تولى رئاسة الوزراء في مايو 1966م اجتمع بقيادة الإتحاد واعترف بالتنظيم لأول مرة في تاريخ السودان الحديث. بعد ذلك وقع انقلاب مايو 1969م وكان انقلابا يساريا أول الأمر فلعب اتحاد عام نقابات عمال السودان بقيادته اليسارية دورا هاما في الترحيب بالنظام الجديد وتثبيت دعائمه ثم نشأ صراع داخل نظام مايو بين العناصر الشيوعية وغير الشيوعية انتهى إلى انقلاب يوليو 1971م. ثم حُلت كل المنظمات التي كانت على علاقة بالحزب الشيوعي السوداني ومن ثّم أعيد تكوينها على أساس قوانين جديدة. لقد لجأ النظام المايوي لاستعارة تنظيم الإتحاد الإشتراكي من مصر الناصرية وفي هذا المجال فإنه فرض على الإتحادات العمالية أن تكون من روافد الإتحاد الإشتراكي. كان النظام يسمح بانتخابات في هذه النقابات وكان يحاول التأثير عليها بكل الوسائل بالرغبة والرهبة وأجهزة الأمن ولكن عددا من النقابات حافظت على استقلالها وأخرى احتويت. لقد كان النضال النقابي في ظل مايو كبيرا وعندما جاءت ساعة الحسم مع النظام فإن عددا من النقابات كانت حرة ومستقلة بدرجة مكنتها من مواجهة النظام. الحقيقة هي أن صراع النقابات مع النظام المايوي استمر على طول عمر النظام حتى بلغ أوجه في انتفاضة شعبان 1973م ولكنه واصل بعد ذلك حتى جاءت انتفاضة رجب/أبريل 1985م ووقعت نقابات التجمع على ميثاق الإنتفاضه ودخلت في الإضراب العام. لقد حاول النظام المايوي اللعب على تناقض بين نقابات العمال ونقابات المهنيين. ولكن في الساعة الحاسمة واجهته النقابات المهنية، حيث وقع على الميثاق، الأطباء والأساتذة والمهندسون والمحامون والبنوك والمحاسبون والصيارفة والتأمينات. ولم تنجده النقابات الأخرى. كونت النقابات التي وقعت على ميثاق الإنتفاضه التجمع النقابي ،حيث أوكل إليها تكوين الحكومة المدنية في الفترة الإنتقالية. وفي ظل الحكومة الإنتقالية وجد التجمع النقابي أن الحكومة التي كونها لم تعد تصغي إليه أو تشاوره، بل بردت العلاقة بينهما حتى أحس التجمع أنه فقد الصلاحيات السياسية التي اكتسبها وبدأ يفكر في الضغط على الحكومة الإنتقالية بشتى الوسائل.لذلك لم تتسم الفترة الإنتقالية باستقرار نقابي بل تعددت الإضرابات حتى صارت بعض النقابات تفكر في الإضراب العام لمواجهة الحكومة الإنتقالية وتمت مناقشة موضوع الإضراب العام بواسطة التجمع النقابي. وظهرت مشاكل من نوع آخر: فالجزولي دفع الله رئيس وزراء الحكومة الإنتقالية كان قبل ذلك رئيسا لنقابة الأطباء ومن موقعه كرئيس للوزراء لبى كثيرا من مطالب الأطباء النقابية فتطلع المهندسون وهم نقابة انتفاضة لمعاملة مماثله وعندما عوملوا بالمثل انفجرت المطالب من نقابات المهنيين المختلفة وصحبت المطالب إضرابات واستدركت الحكومة على نفسها هذا التعامل المجزأ مع النقابات،فقررت أن تتخذ قرارا شاملا يغطي الجميع فقررت منحهم علاوة عامة تسمى علاوة بدل طبيعة عمل.هذه العلاوة كانت أصلا مقدرة لأولئك الذين يسمح لهم تأهيلهم بالعمل الحر وقت فراغهم فأعطوا بدل طبيعة عمل للإكتفاء بها وعدم الإنشغال بعمل حر لحسابهم.هذه العلاوة التي تساوي قيمة الراتب الأصلي عممت بقرار من الحكومة الإنتقالية في يوم 26/3/1986م قدرت الحكومة الإنتقالية أن تكاليف هذه العلاوة للخزينة العامة تساوي 125مليون جنيه سوداني ولكن في أول ميزانية تلت هذا القرار اتضح أن التكلفة الصحيحة 400 مليون جنيه سوداني. لقد كان لهذه الإجراءات ما يبررها لأن قيمة الجنيه السوداني الشرائية تناقصت حتى صار قيمته في 1985م تعادل قيمته في 1975م. ولكن الخطأ كان في الارتجال. ظل هذا الإشكال قائما لأن نسبة التضخم في الفترة الإنتقالية كانت 57% مما أدى لاستمرار تآكل قيمة الجنيه السوداني. لقد بقيت المشاكل بين الحكومة والنقابات إضافة إلى إشكال غلاء المعيشة وسلسلة المشاكل الأخرى لتبت فيها الحكومة المنتخبة.لقد ورثت الحكومة المنتخبة المشاكل الآتية: 1. حركة نقابية مهنية لعبت دورا سياسيا كبيرا وصارت متحسرة على ضياع ذلك الدور منها وتريد بشتى الطرق استراداده. كذلك كانت النقابات المهنية تتظلم من وجود مفارقات بين شرائحها.مفارقات عمقتها التسويات الجزئية مع النقابات الضاغطة. 2. حركة عمالية نقابية مدركة أن تخلفها في الإنتفاضة أضعف دورها فصارت تتظلم من الدور السياسي الذي آل لبعض النقابات المهنية ومع هذا التظلم كانت أيضا تشكو من تآكل قيمة الجنيه السوداني وصعوبة المعيشة لا سيما إن الحد الأدنى للأجور بقي على ما كان عليه 60 جنيها سوداني في الشهر. ترتيب وظائف القوات النظامية في مارس 1985م واجه عمر محمد الطيب كنائب لرئيس الجمهورية موقفا حرجا.فالشارع السوداني بمبادرة من إتحاد طلاب جامعة أمدرمان الإسلامية بدأ في الإلتهاب. وكان جهاز الشرطة قد وضع لائحة مالية مقترحة للشرطة أمام نائب رئيس الجمهورية وقالوا بأنهم سوف لن يتصدوا للمظاهرات حالة عدم إجازة اللائحة فأجيزت. كانت اللائحة تضع الشرطة وظيفيا مرتبة فوق القوات المسلحة. لم ترض القوات المسلحة عن هذه اللائحة فضغطت على الفريق سوار الذهب فقرر لها وضعا يضعها مرة أخرى مرتبة فوق الشرطة .لم ترض الشرطة عن هذا الوضع فضغطت على الحكومة الإنتقالية وعندما لم تستجب لها أضربت فأعطيت مطالبها. وعند مجيئ الحكومة المنتخبة واجهها ضغط من القوات المسلحة لاسترداد وضعها .قدر أن هذه الضغوط والإستجابات المرتجلة لن تجدي فتيلا، ولن تحقق عدلا ،بل ستدخل البلاد في دوامة ،مثلما أدخلت الحكومة الإنتقالية. لذلك تم إقرار نهج آخر فعين الدكتور بشير عمر وزير المالية لجنة مؤهلة برئاسة د.أحمد حسن الجاك لتطلع على كل تجارب الشرق والغرب والعرب والأفارقه والهند وباكستان لتدرس أوضاع القوات النظامية في هذه البلاد وتقدم تقريرا شاملا لترتيب وتقويم الوظائف في القوات المسلحة والشرطة والسجون والمطافئ وحرس الصيد وكان من بين أعضاء هذه اللجنة أصحاب خبرة وكفاءة في كل المجالات المعنية. شكلت اللجنة في سبتمبر 1986م وشرعت في عملها حيث تمكنت من زيارة عدد من البلدان للإطلاع والمقارنة وبعد تسعة أشهر قدمت اللجنة تقريرها فدرسته الحكومة وأجازته وجعلته أساسا لترتيب وتقويم وظائف القوات النظامية.
ترتيب الوظائف في الخدمة المدنية على الصعيد المدني فقد ازداد الضغط على الحكومة من مطالب نقابية مهنية لإزالة الفوارق بينها حيث احتدت المطالب العمالية لرفع الحد الأدنى للأجور إضافة إلى مطالب أرباب المعاشات التي تمثلت في جمود الحد الأدنى للمعاش على الرغم من تآكل قيمة الجنيه السوداني.فكونت الحكومة لجنة لدراسة الحد الأدنى للأجور والمعاشات لإعداد تقرير بشأنها ولجنة أخرى لدراسة المفارقات الحادة تمهيدا لازالتها.الى جانب لجنة قومية موسعة لدراسة موضوع ترتيب وتقويم الوظائف بصفة شاملة بحيث يلحق القطاعات المدنية ما لحق بالقطاع النظامي من تقويم وترتيب للوظائف. أنيطت بهذه اللجنة مهمة اعتماد ونشر كتاب للخدمة المدنية في السودان يرتب ويقوم الوظائف العامة ولأهمية اللجنة أوكل السيد رئيس الوزراء رئاستها لخبير سوداني هو د.قلوباوي محمد صالح وأعطيت اللجنة كل التسهيلات للفراغ من مهمتها. أما لجنة الحد الأدنى للأجور والمعاشات فقد فرغت من عملها واقترحت أن يكون الحد الأدنى للأجور 300جنيه سوداني شهريا وأن يكون الحد الأدنى للمعاش 150 جنيها سوداني شهريا كذلك قدمت لجنة إزالة المفارقات الحادة تقريرها واتضح أنه يزيل أغلب المفارقات إذا تم تطبيقه. وافقت الحكومة على تقريري هاتين اللجنتين وقدرت أن المبلغ المطلوب للتنفيذ لا يقل عن بليونين من الجنيهات السودانية في السنة وأنه ينبغي أن يؤتى بهذا المبلغ من مصادر حقيقية أي من إيرادات محددة لا من استدانة من النظام المصرفي. كانت العلاقة بين الحكومة المنتخبة والحركة النقابية متصلة بلا قطبية ولا عداوة بيد أن عدة مشادات قد وقعت أهمها: 1. بعد أن فرغت الحكومة من إعداد قانون تسجيل النقابات إثر استشارة كل شرائح الحركة النقابية قالت النقابات المهنية أنها تريد قانونا جديدا يختلف عما كان عليه القانون من العهد المايوي وكان اتحاد نقابات العمال لايرى بأسا من الإستمرار في بعض وجوه القانون الموروث بل اعتبرها مكاسبا للحركة النقابية على أن تعدل الوجوه الأخرى. استمعت الحكومة لكل الاطراف، ثم قدمت قانونا للنقابات اشتمل على مكاسب الحركة النقابية في الماضي، وعلى معالم جديدة. صدر هذا القانون في عام 1988م بموافقة الحركة النقابية عليه. استطاعت الحكومة بصعوبة تجاوز اختلافات النقابات حول هذا القانون حتى صدر بمباركتها بحيث يقوم التنظيم الجديد للعاملين على نقابات فرعية فوقها نقابات عامة تعلوها اتحادات عامة في جماعتها ستة اتحادات: 1. اتحاد عام نقابات العمال. 2. اتحاد عام نقابات المهنيين والفنيين. 3. اتحاد نقابات المعلمين. 4. اتحاد نقابات الموظفين. 5. اتحاد المزارعين. 6. اتحاد اصحاب العمل. 2. وقع عدد كبير من الإضرابات التي ليس لها مبرر ولا سند قانوني وبسببها فقد الإقتصاد الوطني كثيرا من الإنتاج وساءت سمعة البلاد في كثير من الأوساط.هذه الإضرابات الضارة نستشهد عليها بالآتي: أ-في بداية عهد الحكومة الديمقراطية ونسبة لتدني كفاءة عمل الخطوط الجوية السودانية عين السيد رئيس الوزراء لجنة قومية برئاسة السيد مبارك الفاضل المهدي لدراسة الموقف واستشارة نقابات الخطوط الجوية السودانية وجميع المعنيين وتقديم توصيات. عكفت اللجنة على مهمتها واستشارت نقابات العاملين الخمس: نقابة الطيارين –نقابتي المهندسين –نقابة الموظفين ونقابة العمال وبعد استماعها لكثير من الخبراء والفنيين تقدمت بتوصية خلاصتها أن يتم تحويل الهيئة لشركة عامة تعمل بمقياس الربح والخسارة وأن يتم ذلك عبر فترة انتقالية مداها عامان. وعلى ضوء الأداء يتخذ القرار النهائي بشأن استمرار الشركة العامة هذه. أو أي قرار آخر.قبلت الحكومة هذه التوصية فعينت مجلس إدارة الشركة الجديدة وفوضته لاتخاذ القرارات اللازمة وتسيير العمل لمدة عامين ترفع الحكومة يدها أثناءها تماما. ثم تقييم الأداء في نوفمبر 1989م توطئة لاتخاذ القرار النهائي بصددها. شرع مجلس الإدارة يباشر مهامه. وأول قرار بالنسبة للعاملين في الهيئة سابقا كان إنهاء خدماتهم السابقة واعطاؤهم حقوقهم كاملة ثم استخدام الذين تريد الشركة الجديدة استخدامهم بشروط خدمة جديدة. هذا الإجراء منطقي مع طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة. ولكن بعض نقابات الخطوط الجوية السودانية اعترضت عليه وأعلنت الإضراب لإيقافه وأيد الإضراب بعض النقابات الخمس ثم أعلنت نقابات مهنية أخرى تضامنها مع هذا الإضراب معلنة إضرابات تضامنية. لقد تمت إستشارة النقابات حول خطة تحويل الهيئة لشركة وفتح صفحة جديدة بشروط خدمة جديدة فالإضراب لإيقاف هذا العمل إجراء غير قانوني. ينطبق هذا الحكم أيضا على بقية الإضرابات التضامنية. لقد أضاعت هذه التصرفات كثيرا من الجهد والوقت والمال. وفي النهاية قام كيان الشركة الجديد بطريقة صحيحة، فتحسن أداء الخطوط الجوية السودانية تحسنا ملحوظا بل يمكن اعتباره نموذجا لما يمكن أن يحدث لإنعاش شركات القطاع العام من ركودها الخاسر. لقد أحدثت المقاومة النقابية في هذه الظروف تعويقا كبيرا للمصلحة العامة. ب-في سبتمبر 1988م كانت ثمة معدات كثيرة مطلوبة لميناء بورتسودان لتحسين أدائه في مهام الشحن والتفريغ والتمويل وكانت الشكوى: أن هذه المعدات تأخرت كثيرا مما عطل عمل الميناء. وأثناء رحلة تفقدية للمنياء اكتشف وزير المواصلات (الدوأجو دينق) أن المعدات الهامة المنتظرة وصلت قبل ثلاثة أشهر إلى ميناء بورتسودان فحاسب المسؤولين عن هذا الإهمال الشنيع فما كان من نقابات الميناء الخمس إلا أن أعلنت الإضراب مطالبة برفع تلك المحاسبة. هذا الإضراب بلا مبرر ولا سند قانوني. أدى لخسائر فادحة وكان السيد رئيس الوزراء في زيارة لشرق البلاد أثناء تفقد الأحوال في موسم أمطار 1988م، فوجد أمامه هذا الإشكال، فتدخل فيه حاسما إياه. ومن ثمّ عادت النقابات إلى عملها. ولكن هل من مبرر للإضراب إبتداءا؟ وكم ضاع على البلاد بسببه. ج-الهيئة القضائية في عهد الديمقراطية مستقلة. وهي التي تضع شروط خدمتها ويصدرها رأس الدولة من بعد. استطاعت الهيئة القضائية أن تميز نفسها بشروط خدمتها، ولكن نشأ تقليد يربط بين شروط الخدمة في القضائية وفي ديوان النائب العام لوحدة التخصص والتأهيل. وبرز موقف أن الهيئة القضائية تبدي حرصا على تمييز شروط خدمتها. فإن مس هذا التمييز، فإنها ترفض ذلك وتضرب. وإن أبقي على امتيازها، فإن نقابة ديوان النائب العام ترفض وتضرب. وقعت الحالتان، حيث تأثر سير العدالة. هـجامعة الخرطوم هي أكبر جامعات السودان وأقدمها عهدا ولذلك تميزت تاريخيا، شروط خدمة أساتذتها ولكن مع قيام جامعات أخرى في البلاد، تقدم أساتذتها مطالبين المساواة بأساتذة جامعة الخرطوم- لتساوي العمل والتأهيل فأعطوا ذلك. ولكن أساتذة جامعة الخرطوم أضربوا إضرابا طويلا، مطالبين بالإعتراف لهم بوضع مميز عن أساتذة بقية الجامعات وحتى في نطاق جامعة الخرطوم نفسها فإن الأساتذة الأطباء يرون أن موقفهم مميز عن بقية زملائهم من أساتذة الجامعة لأنهم يستطيعون أن يفتحوا عيادات خاصة- فما داموا لا يعملون في عياداتهم الخاصة، فإنهم بذلك يستحقون بدل تفرغ يميزهم على الآخرين. ولكن الأساتذة الآخرون يرون أنهم كذلك يستحقون نفس المعاملة ويسمون هذا الأجر المتساوي للعمل المتساوي والجماعتان من الأساتذة يدعمون موقفهم ومطالبهم بالإضراب. د- مشروع الجزيرة هو أكبر وأقدم مشروعات القطاع العام الزراعية وللعاملين في هذا المشروع شروط خدمة معينة. وعندما نشأت مشروعات زراعية أخرى في القطاع العام، فإن شروط خدمة العاملين ألحقت بشروط خدمة مشروع الجزيرة. ولكن العاملين بمشروع الجزيرة، يرون إن وضعهم مميز وينبغي أن يبقى كذلك والآخرون يرون إن ربطهم بهم عادل، وينبغي أن يكون. والجماعات المختلفة تدعم مطالبها بالإضراب. وقد كان. هذه الإشكالات القائمة لا حل لها ،مهما حسنت النوايا، ولا يستقيم أمرها إلا في نطاق إصلاح أساسي للنظرة النقابية نفسها، وافتتانها باستخدام سلاح الإضراب. و-في ديسمبر 1988م بعد أن قررت الحكومة رفع الحد الأدنى للأجور والمعاشات وإزالة المفارقات الحادة من هياكل العاملين، وقدرت أن هذا يكلف بليوني جنيه سوداني، قررت أن تستمد الإيرادات الإضافية من ضرائب إضافية. ففرضت زيادات في رسوم الإنتاج والجمارك، ورفعت أسعار بعض السلع المدعومة وقررت رفع سعر رطل السكر من (50) قرشا إلى ثلاث جنيهات. وقفت الحركة النقابية موحدة ضد هذه الزيادات، مع وقوفها إلى جانب الزيادات في الأجور والرواتب. لم تهرب الحكومة من هذا الموقف مثلما حدث لكثير من الحكومات التي واجهت رفضا شعبيا لإجراءاتها المالية. لقد جمدت الحكومة هذه الإجراءات، وقامت بدعوة النقابات إلى مؤتمر تداولي لمناقشة الأمر، وتقرر في نهاية المطاف: 1. الإبقاء على زيادات الرواتب والمعاشات. 2. الموافقة على زيادات الضرائب التي قررتها الحكومة كما هي، مع تعديل زيادة سعر رطل السكر لتكون 125 قرشا بدلا عن ثلاثة جنيهات، هذا مع استيراد سكر بسعر عال في السوق الحر. لقد لازمت ظاهرة الإضرابات الحياة الديمقراطية. وشكلت خطرا كبيرا على صحة الإقتصاد الوطني. ولا يمكن القول أنها مجرد أعمال تخريبية ولكن يمكن أن تعزى للأسباب الآتية: 1. عانت النقابات من كبت وقهر شديدين على أيام النظام المايوي، وهاهي تنعم بالحرية. إن مناخ الحرية بعد الكبت يؤدي حتما لنوع من الإندفاع. 2. النقابات كيانات ديمقراطية وقياداتها تتنافس أمام قواعدها. والقيادة التي تنال تأييدا أكبر هي التي تأتي بمكاسب أكبر لذلك تدخل القيادات في مزايدات وإلا فقدت ثقة القواعد. 3. الغلاء والضائقة المعيشية مدعاة للضغط على القواعد النقابية وهذا بدوره يؤدي إلى نفاد الصبر. 4. بعض النقابات تملك قوة على الضغط أكثر من غيرها، وهي تستعمل القوة أحيانا ،لأن قواعدها تأخذ عليها الإمتناع من ذلك. كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول. الحل هو الخروج نهائيا من ذهنية المواجهة. فالحركة النقابية لا سيما في ظل النظام الديمقراطي معترف بها لا كتظيمات نقابية للعاملين فحسب، ولكن كشريكة في الأداء العام، شراكة على كل المستويات. فضد من يوجه الإضراب حالة الشراكة في اتخاذ القرار؟ من هذا المنطلق مطلوب إبرام إتفاق يوازي بين الحقوق والواجبات، تلتزم به كل الأطراف، كي ينظم علاقة الدولة بالنقابات على أساس جديد خال من المواجهات. منذ تكوين الحكومة الأولى، نادى السيد رئيس الوزراء بضرورة صياغة ميثاق اجتماعي يناقش بحرية، وفي نظاق إمكانات البلاد ليحدد واجبات وحقوق كل الأطراف، ويلزم الحكومة كما يلزم النقابات ويلزم أصحاب العمل.لقد أنجز عمل كبير جدا نحو هذا الميثاق، وتم عقد عددا من الاجتماعات إضافة إلى الدراسات ذات الصلة بالموضوع ،مع استشارة منظمة العمل الدولية وكان الوصول لميثاق اجتماعي قاب قوسين أو أدنى .إن إنجاز هذا الميثاق ضرورة وطنية واقتصادية. كذلك إعادة النظر في شكل ومضمون التنظيم النقابي في إطار المشاركة التامة على المستويات المختلفة. إن كثيرا من النقابات تتصرف بذهنية المواجهة للإستعمار أو الديكتاتورية أو الرأسمالية المستغلة .والحقيقة أننا في ظل الديمقراطية والنجاح القومي التقدمي الذي سرنا فيه نكون أبعد الناس عن مقتضيات ذهنية المواجهة. لابد لهذه الإصلاحات أن تكون. وعلى الرغم من كل أسباب الخلاف والإضطراب فإن العلاقة بين القيادة السياسية والنقابية على أيام الديمقراطية احتفظت بقدر معلوم من الإحترام المتبادل والإتصال المستمر والتشاور المثمر بل كان آخر عهد العلاقة بين الطرفين مسك الختام. في مارس 1989م عندما تم إقرار طرح شكل الحكم وبرنامجه لنقاش موسع، حيث أقدم السيد مرغني النصري على دعوة الأحزاب والنقابات، دار حوار مثمر في القصر، أدى للإتفاق على البرنامج المرحلي الذي وقعت عليه إتحادات العاملين الست. وقبل تكوين الحكومة رأى السيد رئيس الوزراء تمديد إلتزام النقابات نحو الحكومة الجديدة بصفة قاطعة. لذلك أعلن سيادته على الجمعية أنه سوف يستقيل إذا لم يتلق في ظرف اسبوع تأكيد من النقابات بإيقاف الإضرابات أثناء تنفيذ البرنامج المرحلي، وأن القوات المسلحة سوف تلتزم بالشرعية الدستورية والإنضباط. وكان السيد رئيس الوزراء في قرارة نفسه مصمما على التنحي حالة عدم الحصول على التأكيدات. ولا لوم عليه.أمام هذا الموقف اتصل رأس الدولة بالإتحادات والتزمت بإيقاف الإضرابات، على أن يتم الإلتزام، بعد دعوة جمعياتها العمومية. والتزمت قيادة القوات المسلحة مرة أخرى لرأس الدولة بالشرعية الدستورية وبالإنضباط. وبعد أن استخلص رأس الدولة هذين الموقفين، كتب إلى السيد رئيس الوزراء مفيدا بها مناشدا الإستمرار في تكوين الحكومة وفق البرنامج المرحلي، وقد كان. لقد اشترك في الحكومة الجديدة كل أحزاب السودان الممثلة في الجمعية التأسيسية ما عدا الجبهة الإسلامية. وكل الإتحادات النقابية -مع التزامها المذكور لم تستطع إيقاف الإضرابات تماما ،رغم مشاركتها في الحكومة بوزيرين، ولكنها عملت بجد في احتواء ما وقع من إضرابات. لقد استطعنا رغم كل شئ أن نتعامل مع الرقم النقابي وواصلت النقابات دورها النقابي .
الفصل الثالث: الوجه العسكري
منذ قديم الزمان ،كانت القوة المسلحة هي عصام الدولة من التفكك الداخلي ،وحمايتها من العدوان الخارجي، وأداتها للتوسع على حساب الآخرين. وكان المشكل الحقيقي في الدول القديمة، هي كيفية التعامل بين الشرعية الحاكمة وقيادة القوة المسلحة. وغالبا ما كانت القوة المسلحة لأنها تملك السلاح والرجال تقهر الشرعية الحاكمة وتتولى شؤونها. وأحيانا كثيرة تكون القيادة الشرعية الحاكمة هي القيادة العسكرية وأحيانا تجد القيادة العسكرية لنفسها شرعية تحكم بموجبها وهكذا. تقوم الدولة الحديثة، كما نشأت في أوروبا وأمريكا على نظام نيابي مدني، وتقوم القوات المسلحة على نظام الضبط والربط في كيان هرمي محكم بضوابطه خاضع للقيادة المدنية. وهذا ما عليه الحال في الدولة الحديثة الشيوعية. فالقيادة الشرعية الحاكمة تجد شرعيتها من الحزب وهذه القيادة المدنية تعتمد على القوات المسلحة. وفي بلاد العالم الثالث، حيث نظام الدولة الحديثة مقتبس غالبا من البلاد الغربية لأنها هي التي أسسته في عهد الإستعمار، أو مقتبس أحيانا من البلاد الشرقية عن طريق التمدد الأيدلوجي، إذ أن ظروف التخلف حالت دون أن تكون العلاقة بين الشرعية الحاكمة والقوة المسلحة على نحو مستقر. إن بلدان العالم الثالث ستظل على ماهي عليه من تخلف سياسي واضطراب، إلى أن تستقر العلاقة بين الشرعية الحاكمة وبين القوة المسلحة متماسكة ومنضبطة وخاضعة للقيادة السياسية. إن للقوات المسلحة وظيفة لابد منها في الدولة الحديثة لأنها المدافع عن السيادة الوطنية والتراب الوطني حالة الإعتداء عليه. ثمة عوامل لا مناص من توفرها كيما تقوم القوات المسلحة بهذا الواجب، نذكر هنا أهمها: 1. أن تكون القوات المسلحة منضبطة ومتماسكة وبعيدة عن عوامل التفرقة التي تضطرب في المجتمع العرقي. 2. أن يكون فيها من الجنود العدد الكافي لأداء مهمتها وقد قدر ذلك العدد الكافي بنسبة 1 في المئة من السكان في الظروف العادية. وأن تحظى بقيادة مؤهلة مهنيا لأداء عملها. 3. أن تكون الجهة الوحيدة التي تحتكر السلاح في الدولة المعينة. وأن يتفوق تسليحها على أي فئة متمردة وأن توازي درجة التسلح –على الأقل- نسبة ما يتاح منه لأي بلد أجنبي من المحتمل أن يعتدي على السيادة الوطنية. وهنا تنشأ مشكلة هامة: ما الذي يحصر هذا العدد الكبير من القوات ذات التسليح العالي في مهامها كيلا تقتحم بقوتها مجالات الحكم والسياسة؟ الوسيلة التي استخدمت بفاعلية في كل من الشرق والغرب لتحقيق ذلك، هي التربية العسكرية المنضبطة منذ الكلية الحربية واختيار الطلبة لها، والعقيدة الملقنة لهم ،ونمط التدريب. كل عوامل التأثير على الإنسان تستخدم لتأكيد أن القوة المسلحة تعلم وظيفتها تماما، وتعكف عليها، وتعلم أن جزءً من شروط إنضباطها :الإبتعاد عن قضايا الحكم والسياسة وموالاة الشرعية الحاكمة. وتعلم أن ولوج ميدان السياسة والحكم ،سيذهب بالإنضباط والتماسك العسكري مما يختل معه أساس تكوين القوات المسلحة. لقد حلت الدولة الحديثة في الغرب والشرق مشكلة التعامل المدني السياسي العسكري الانضباطي. وهو حل ظل ناجحا، في حالات السلم والحرب ، وإن كان يشوبه التوتر في حالات الحرب، للخلاف حول الأهداف القومية. فربما رأت القيادة المدنية إن هدفا سياسيا ما، يمنع الهجوم على موقع أو ميناء، بينما رأت القيادة العسكرية أن احتلال ذلك الميناء ضرورة عسكرية وإلا عرضت قواتها للخطر.قد ينشأ ذلك التوتر في العلاقات المدنية –العسكرية في ظرف الحرب أو الطوارئ، ولكنه يبقى محكوما بالقواعد الكلية المتبعة، فلا يؤدي لانهيار أساس العلاقة. قال ونستون تشرشل وهو يدافع عن ضرورة إمتثال العسكريين للتقويم السياسي، في تحديد الأهداف الحربية:"الحرب أهم من أن تترك للجنرالات وحدهم. وقال شارس ديغول وهو يدافع عن ضرورة إحترام السياسيين للتقديرات العسكرية وهم يخوضون الحرب: الحرب أهم من ان تترك للسياسيين وحدهم. هذه الآراء تفسر التوتر الذي قد ينشأ في ظروف الطوارئ والحرب في الدولة الحديثة. ولكن كلاهما لا يساوره أدنى شك إزاء القاعدة الذهبية ألا وهي الشرعية الحاكمة يجب ان تكون مدنية- حتى إن كان شخص الرئيس أو الحاكم في الأصل من العسكريين. مثلما كان الحال بالنسبة لايزينهاور عندما صار رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية أو الجنرال ديغول عندما صار رئيسا لفرنسا، فأضحيا مدنيين متجردين من العوامل العسكرية.فالقوات المسلحة ينبغي أن تكون منضبطة متماسكة وخاضعة للقرار السياسي. أما في بلدان العالم الثالث حديثة العهد بالإستقلال وبالدولة الحديثة، فهنالك عوامل تدفع القوات المسلحة للقيام بدور سياسي تلك العوامل هي: 1. هذه البلدان حديثة عهد بالدولة الحديثة وأجهزتها، ولذلك لا تعمل تلك الأجهزة بالكفاءة المطلوبة، إضافة إلى هشاشتها. وربما تهشمت أمام أي أزمة سياسية أو قبلية أو فتنة تنشأ، فلا تتمكن الشرطة من احتوائها، فيضطرب الأمن والنظام فتستلزم تدخل القوات المسلحة. هذه الأزمات ومثيلاتها التي تدفع الجيش إلى دور عسكري، تجعل عديدا من عناصره تفكر في القيام بدور سياسي. إن ضعف أجهزة الدولة الحديثة في البلاد الفقيرة وعدم قيامها بدورها المطلوب بكفاءة عالية في الإدارة والأمن وإدارة العدالة وغيرها من وجوه الأداء العام يشد القوات المسلحة للقيام بدور سياسي. 2. تقوم هذه البلاد على كيان قومي هش تفرقه الولاءات الدينيه والقبلية والجهوية. فالحزبية السياسية فيه بل سائر وجوه التنظيم العام كالنقابات مثلا تتأثر بعوامل التفرقة التي تسود المجتمع. عوامل التفرقه التقليدية في المجتمع تشكل ضعفا في البنية القومية، ومدخلا للتدخل الأجنبي. ويؤديان بدورهما إلى نزاعات حادة ،تبلغ درجة الحروب الأهلية. وثمة عوامل تفرقة حديثة تمزق هذه المجتمعات، مثل الظلم الإجتماعي وإحساس المجموعات المختلفة بأن هذه العوامل كلها أو بعضها تتراكم محدثة شرخا أساسيا في الوحدة الوطنية ومهددة الكيان الاجتماعي بالإنهيار. هذا العامل من شأنه أن يدفع القوات المسلحة لدور سياسي. 3. من الأهداف الهامة التي ترمي لتحقيقها هذه البلاد ،الإنجاز التنموي وتحديث المجتمع لحاقا بالعصر الحديث. هذه الأهداف تنادي بها بعض القيادات، وتراها ممكنة في تقليدها للغرب. وتراها ممكنة في تقليد الشرق قيادات أخرى. وتصبو لتحقيقها قيادات أخرى وترى من غير الممكن تحقيقها إلا إذا انطلقت من جذور المجتمع فكانت مؤصلة. ومهما كانت التنمية والعصرنة تقليدا للغرب أو الشرق أو تأصيلا فإنها مطلوبة.وقد تعجز القيادات السياسية المدنية في تحقيقها بالسرعة والكفاءة المطلوبة، مما يدفع القوات المسلحة للقيام بدور سياسي لتحقيق هذه الأهداف. إنطلاقا من هذه الأسباب ،درج كثير من المفكرين على اعتبار أن للقوات المسلحة في بلاد العالم الثالث دورا لازما لبناء الدولة الحديثة، وتكوين الأمة، وتحقيق العصرنة والتنمية، والتمسوا البراهين على ذلك من التجربة التركية والمصرية وغيرهما. إن انقلابات عسكرية كثيرة جدا قد وقعت في العالم الأفريقي والعربي والإسلامي ،وفي أميركا اللاتينية وفي اليونان. لذلك فإن دراستها ومعرفة ما حققت، وما لم تحقق ،ومعرفة جدواها، صارت ممكنة. ونورد هنا قراءة موضوعية لأهم الدروس المستفادة من هذه الإنقلابات. 1. أخفقت الحركات العسكرية تماما في دعم أجهزة الدولة الحديثة، وذلك لأن رؤيتها الغالبة عسكرية مما يثير ضدها الأجهزة الأخرى كالشرطة والإدارة والقضاء. كما أخفقت كذلك في البناء القومي للوطن لأن هذا يقتضي تطوير ولاء مشترك، لا يمكن توفره بالأوامر والتعليمات.وأخفقت كذلك في تحقيق الإستقرار لأن العسكريين الذين ينالون السلطة بإنقلاب عسكري يفتحون الطريق لآخرين للإنقلاب المضاد.ولكي يقطع العسكريون الذين استولوا على السلطة الطريق أمام الآخرين فإنهم غالبا ما يلتمسون لنظامهم شرعية خاصة بهم. هذه الشرعية في معظم الأحوال شرعية مصنوعة تنسج بعد الإستيلاء على السلطة. وهذا يجعل منها شرعية للسلطة لا سلطة للشرعية كما ينبغي الأمر. لذلك تظل القيادة الانقلابية تطارد شبح الشرعية ويظل الشبح شاردا منها.. لا أرضا قطعت ولا ظهرا أبقت. 2. نمط التفكير العسكري في مجاله صحيح .لأنه يبسط الأمر ويقطع الحجة بالتعليمات ويعين بذلك على إنجاز المهام المحددة ولكن أسوأ ما في هذا التدريب أنه يخلق وهما لدى البعض مفاده إن سائر أمور الناس والحياة كلها يمكن أن تساس بنفس الطريقة.التربية العسكرية لأغراضها- تهون من أمر المدنيين.السياسة بواقعها تقتضي احترامهم واحترام آرائهم وحقوقهم.التربية العسكرية تعطي الأمن أولوية قصوى ولكن الواقع يقتضى تكامله مع حقوق الإنسان. فلا أحد يريد أمن القبور لذلك استخفت كل النظم العسكرية بحقوق الإنسان وكانت لدى كثير من الشعوب أشبه باستعمار داخلي أكثر بطشا من الإستعمار الأجنبي. 3. كل الجيوش التي استولت على السلطة او استولى البعض على السلطة باسمها، اكتشفت حقيقتين هامتين لهما أسوأ الأثر على العسكرية والجندية والأداء القتالي نفسه هما: 1. الحكم والعمل السياسي يطيحان بالضبط والربط وتماسك القوات المسلحة حتما. 2. الحكم والعمل السياسي يصرفان القوات المسلحة من التدريب والمناورة العسكرية والتأهيل المهني العسكري مما يجعلها غير قادرة على أي عطاء قتالي.بل يصبح الضباط حقيقة مدنيين بأزياء عسكرية. في ظل الحكم العسكري تنصرف الكفاءات التي دربت على وجوه القتال وتكنولوجيا الحرب إلى مسائل لم تدرب عليها. وتضطر للتعامل مع أساليب لا تعرفها. فتضطر إلى أسلوب الحل الوسط، والتعامل مع رفقاء السلاح على أساس أنهم في حزب واحد، فينالون الحظوة والمنافع. أو على أساس أنهم في حزب معارض فيسلط عليهم الكيد ويخضعون للتجسس. إضافة لمن يتم إعفاؤهم عن العمل العسكري نفسه رغم كفاءتهم،لأن ولاءهم للنظام مشكوك فيه. هل يمكن لأي حرب أن تستنزف القوات المسلحة أكثر من هذا الإستنزاف؟ وهل تقاتل قوات هذا شأنها؟وهل إن قاتلت ستصمد أمام القتال؟ شهدنا الرد بوضوح على هذه الأسئلة في كل أنحاء العالم. الجيش الأرجنتيني أرهب شعبه كما لم يرهب شعبا من قبلها ،حتى إذا طرأت أزمة جزرالفوكلاند، وظن كل الناس، إن تورط بريطانيا في عمل عسكري في تلك المنطقة البعيدة، ضرب من الخيال. ولكن أداء القوات الأرجنتينية، كان مضرب المثل في التدني والقصور.وسمعنا ما سمعنا عن القوات المسلحة المصرية في عهد جمال عبدالناصر.ولكن الحكم والسياسة أفسدتا كل شئ، فكانت قيادة عبدالحكيم عامر مرآة صادقة للقيادة المسيسة.فكان ما كان من أداء هزيل في اليمن وفي سيناء. كما وقف الجيش اليوناني عاجزا، بعد أن رفع ما رفع من شعارات أمام أزمة قبرص، لعجزه العسكري .لقد أدركت الجيوش في كل مكان إن تطلعها لدور سياسي في الحكم، لا يخدم هدفا وطنيا معينا،ويؤدي بكفائتها العسكرية وقدراتها القتالية .والحقيقة التي صارت من مسلمات السياسة في عصرنا هي: أولا: إن المجتمعات التي حققت الإستقرار والتنمية وبناء الوطن من الغرب والشرق هي مجتمعات تقودها قيادات سياسية مدنية. ثانيا: القوات المسلحة ذات الكفاءة القتالية العالية وذات الإنضباط في العالم كله ،هي البعيدة كل البعد عن ممارستها الحكم وشئوون السياسة.
التجربة السودانية للوجه العسكري في السياسة 1-انقلاب 17 نوفمبر 1958: في عام 1958 نشأ نزاع داخل حزب الأمة صاحب الأكثرية النيابية وكان رئيس الوزراء هو أمين عام حزب الأمة السيد- عبدالله خليل وكان يرى أن استقرار السودان يتم إذا تحالف حزب الأمة مع حزب الشعب الديمقراطي. وكان رئيس حزب الأمة-السيد الصديق المهدي يرى أن التحالف الأكثر تجانسا هو بين حزب الأمة والحزب الوطني الإتحادي برئاسة السيد إسماعيل الأزهري ووقعت بين زعيمي الحزب اختلافات أخرى. كان من الممكن أن يتغلب إتجاه التحالف مع الحزب الوطني الإتحادي بإنحياز أغلبية نواب حزب الأمة لهذا الإتجاه. بيد أن رئيس الوزراء لم يكن يثق في السيد اسماعيل الأزهري. ويعتقد أنه يناور مناورات مع جهات أجنبية ربما عرضت استقلال السودان للخطر وبالفعل أعدت سفارة السودان في مصر تقريرا ينذر بمثل هذا الإتجاه. وبعد أن درس حزب الأمة التقرير، اقترح البعض أنه في هذه الحالة تسلم السلطة إلى القوات المسلحة. بيد أن هذا الرأي وجد الرفض بعد دراسته. ولكن رئيس الوزراء كان يرى إن إتجاهات النواب لن تسند موقفه. وأنه يحظى بسند أكبر في داخل القوات المسلحة، وأنها مأمونة على القيام بمهة تأمينية مؤقتة، تصرف شبح الإئتلاف بين حزب الأمة والوطني الإتحادي، وتزيل المخاطر المتأتية من مناورات السيد إسماعيل الأزهري.لذلك اجتمع رئيس الوزراء يومها بالقائد العام وهيئة أركانه، وأفضى لهم بهمومه، واتفق معهم على التسليم والتسلم فكان سير الأحداث المعروفة من بعد ذلك. وعندما استولت قيادة القوات المسلحة على السلطة، وحصلت على مباركة السيدين، رأت ألا يكون ذلك لحساب حزب أو شخص، بل تم تخريج الإستيلاء بناء على ذرائع قومية واقتضاء المصلحة العامة.(كان السيد الصديق عبدالرحمن المهدي خارج البلاد يوم 17/11/1958م ولم يكن موافقا على إجراء مباركة السيدين للإنقلاب.بل عده موجها ضده.ولم يكن موافقا على البيان الذي أصدره والده الإمام عبدالرحمن تأييدا للإنقلاب.) هكذا تحول التسليم إلى إستيلاء. واتخذت القيادة العسكرية الجديدة لنفسها اسم ثورة.ووجد رئيس الوزراء نفسه بعيدا عن الدور الذي تصوره لنفسه.بل حتى الأشخاص الذين ظن أنهم يشكلون ضمانا لاتجاه السلطة الجديدة في نظره تم إبعادهم من مواقعهم في المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد حركة شنان. أقام نظام الفريق إبراهيم عبود حكما عسكريا تقليديا أدار شؤون البلاد بمحافظة معهودة في حكم الجنرالات وإن كان يتسمي بالثورية.واستمر يواجه معارضة عريضة قوامها الجبهة القومية المتحدة التي ضمت كل الأحزاب السودانية إضافة إلى المعارضة النقابية. حكم نظام الفريق عبود السودان لمدة ست أعوام ،حتى أطاحت به ثورة 21اكتوبر 1964م. 2-الانقلاب المايوي 1969: وفي الديمقراطية الثانية التي أعقبت ثورة اكتوبر وجد الحزب الشيوعي نفسه في مركز قوة كبير. واستطاع أن يحصل على عدد أحد عشر نائبا من النواب في الجمعية التأسيسية .وكان مشاركا في التجربة البرلمانية، ومسيطرا على جزء مهم من الشارع السياسي السوداني، ومهيمنا على إتحاد عام نقابات عمال السودان. وفي أواخر عام 1965م، أثناء إحدى الندوات، تحدث أحد الحاضرين بصورة مسيئة لآل بيت الرسول (ص). أدى هذا الحادث لإنفعال شعبي، طورته بعض العناصر، وعلى رأسها جبهة الميثاق الإسلامي، للمطالبة بحل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من الجمعية حيث تم ذلك بالفعل. إستأنف الحزب الشيوعي قرار الطرد من الجمعية. وحكمت له المحكمة صاحبة الإختصاص. مما وضع السلطتين التشريعية والقضائية في صدام. أقنعت تلك الظروف الحزب الشيوعي السوداني- لا سيما العناصر المغامرة منه، بقيادة السيد أحمد سليمان بأن لا جدوى من الديمقراطية. فنشطت كوادر الحزب العسكرية في إتجاه إنقلابي. وكانت مصر الناصرية تعاني من حالة خواء بعد هزيمة 5 حزيران(يونيو). ولم يرق لها وجود نظام ليبرالي في السودان، في الوقت الذي قدم لها هذا النظام خدمات استراتيجية في مؤتمر الخرطوم المنعقد في آب (اغسطس) 1967م، وفي التوسط إلى المملكة العربية السعودية- لذلك شجعت مصر الناصرية الكوادر القريبة منها من مدنيين: أمثال بابكر عوض الله وعسكريين: أمثال الإخوة أحمد ومحمد عبدالحليم في إتجاه إنقلابي. ظهرت حالة من السخط بين أفراد الجيش الموجودين في جنوب السودان. أدى هذا الحادث إلى ذهاب كل من وزير الدفاع والقائد العام إلى جوبا لمقابلة الضباط الساخطين، فتم اعتقالهما .عدد من هؤلاء الضباط الساخطين تفرغ لمواصلة ما كان يداعب خواطرهم من أفكار إنقلابية. وفي عام 1969م نشأ فراغ سياسي دستوري، سببه أن حزبي الإئتلاف الحاكم (الأمة والإتحادي الديمقراطي) اختلفا اختلافا ترجع جذوره لأسباب أهمها: 1-جرت الإنتخابات العامة في عام 1968م أثناء توحد الحزب الإتحادي الديمقراطي وانشطار حزب الأمة ثم اتحد حزب الأمة. فكان ذلك مدعاة إلى إعادة النظر في الإئتلاف بصورة تأخذ هذه الحقيقة في الحسبان. ولم يكن الإتحادي الديمقراطي مستعدا لإجراء مراجعة جذرية في الإئتلاف القائم. لا سيما وقيادة الإتحادي الديمقراطي تواجه ضغطا نيابيا وتحديا لنفوذها من نواب المذكرة (عدد من النواب قدموا مذكرة تطالب رئيس الحزب بإصلاحات جذرية.وعندما طال الخلاف بين الحزبين قدم رئيس الوزراء السيد محمد أحمد محجوب- استقالته على ألا يستأنف مسؤولياته إلا إذا اتفق الحزبان. فهل كان رئيس الوزراء على علم بحركة إنقلابية، فقدم استقالته لخلق فراغ تستغله، لأنه لم يكن راضيا على تطور الأوضاع السياسية في داخل حزبه؟ آخرون ينفون ذلك ويسوقون شواهدهم. يقول السيد الصادق المهدي:" إنني لا أستطيع أن أقطع برأي ،لأنني أعرف أن السيد محمد أحمد محجوب كان محبا للديمقراطية الليبرالية لدرجة بالغة.وللتاريخ أن يبحث عن الحقيقة الحاسمة في هذا الأمر". وقع الإنقلاب في 25 أيار (مايو). وأعلن أن السودان سيقيم ديمقراطية شعبية .اتجه النظام يسارا وشرقا حتى أوغل. ثم وقع خلاف أساسي بداخله، وتمت تصفية الحسابات بين أطرافه.فاتجه النظام بعد ذلك يمينا وغربا حتى أوغل. كان النظام المايوي يتعامل مع القوات المسلحة وفق سياسة كشفها تفصيلا الشهيد محمد نور سعد في كتاب نشرناه بقلمه. يقول النظام إن القوات المسلحة شريحة من تحالف قوى الشعب العاملة ويعمل على تسييسها في هذا الإتجاه. ولكن عندما يتحدث قادتها في أي مناسبة على أساس المشاركة السياسية، يقال لهم: أنتم قوة نظامية ينبغي أن تحافظ على الضبط والربط. وإذا قال القادة العسكريون في أي مناسبة تقحم فيها القوات المسلحة في عمل سياسي أنهم يرون ابتعادها عن ذلك حفاظا على الضبط والربط، يقال لهم أنتم شريحة من شرائح التحالف.فعليكم الإلتزام بأهدافه السياسية والمشاركة فيها! ويعطي الشهيد محمد نور سعد عددا من الشواهد كجندي اختار المهنة العسكرية رغم أن شهادته الثانوية تؤهله لأي مهنة أخرى- بغرض أن يعمل للإطاحة بنظام مايو لتسترد القوات المسلحة وظيفتها وتقفل باب استغلالها لأهداف سياسية وأغراض شخصية. لقد أبعد نظام جعفر نميري القوات المسلحة من دورها وأهمل الإنضباط والتدريب فيها، دعك من تسليحها، فكل التجارب التي مرت على القوات المسلحة كشفت هذه العيوب بصورة واضحة : 1. حركة 2 يوليو 1976م كشفت ضعف الجيش في العاصمة، إذ استطاع ثمانمائة شخص، أن يحيطوا بقوات تزيد عن عشرة أضعافهم. ولم يسعفهم إلا وجود نجدة من خارج العاصمة. 2. حركة الجيش الشعبي منذ اكتوبر 1983م كشفت هذا الضعف في عدة مناسبات. 3. تحليق طائرة قاذفة ليبية عبرالحدود الليبية –السودانية فوق الخرطوم وإسقاطها أربع قنابل على منطقة إذاعة أمدرمان، دون أن يرصدها رادار، ولا أن تصوب ضدها قذائف مضادة للطائرات، ولا أن تلحق بها مقاتلات ،كشف ثغرة عسكرية كبيرة. 4. تفريط جعفر نميري في التركيبة القومية للقوات المسلحة بصورة لا تتلاءم مع مبدأ:( قوتها في قوميتها تكوينا وتوجها). وعندما نضجب ظروف الثورة في أواخر آذار (مارس) 1985م، إتصل السيد الصادق المهدي، بعدد من القادة العسكريين، لمعرفة موقفهم، في حالة حدوث مواجهة بين نظام نميري والشعب السوداني.فكانوا يؤكدون أنهم سوف يقفون مع الشعب .على رأس هؤلاء الفريق محمد توفيق خليل. فأعلنت قيادة القوات المسلحة إنحيازها للشعب السوداني ،فخلعت جعفر نميري، وتفاوضت مع التجمع الوطني لإنقاذ البلاد، وفق نظام إنتقالي لمدة عام يعقبه إنتخابات عامة حرة إمتثالا للميثاق الوطني. 3-القيادة العسكرية الانتقالية بعد رجب/ابريل 1985: وفي الفترة الانتقالية (ابريل 1985-مايو1986م)، كونت القوات المسلحة المجلس العسكري الإنتقالي، الذي تولى شؤون السيادة وجزءً من شؤون التشريع، وتولى قادة القيادات حكم الاقاليم. كانت الولاية العسكرية ولاية برضا الشعب، وموافقة جميع القيادات السياسية، والفئوية ،فكانت الفترة مثالا للوفاق العسكري المدني في أبهى صوره. 4- مذكرة القوات المسلحة فبراير 1989: في مايو 1986م استلم مقاليد السلطة حكم ديمقراطي منتخب. مكون من مجلس رأس دولة خماسي ومجلس وزراء، وشرع النظام الديمقراطي يمارس المسؤولية، وفق الدستور المؤقت، الذي استن إبان الفترة الإنتقالية عام 1985م. ورغم أن العلاقة المدنية- العسكرية كانت على أفضل ما يكون، إلا أن احتكاكا قد وقع مرتان: 1-القائد العام الفريق تاج الدين عبدالله فضل ،ونائبه الفريق محمد توفيق خليل، كانا عضوين في المجلس العسكري الإنتقالي، وحبذا لو أنهما أقدما- كما أقدم الآخرون، إلى الإحالة للمعاش بعد انتهاء الفترة الإنتقالية. لأن الممارسة السياسية المكشوفة التي مارساها إبان الفترة الإنتقالية تقيد عودتهما للحياد والإبتعاد عن السياسة. يقول السيد الصادق المهدي معلقا على ذلك:" لم يزعجني ذلك فقد كنت أعرف الرجلين وميلهما للإعتدال والإنضباط، ولكن تبدّى لي، أن خلافا حادا وقع بينهما بحيث سعى كل منهما في توريط الآخر. لقد حجب نائب القائد العام عن قائده نصحا قانونيا لو أسدى إليه ربما منعه من التورط فيما تورط فيه. كان القائد العام بحكم منصبه رئيسا لمجلس إدارة المؤسسة الإقتصادية العسكرية. المؤسسة الإقتصادية العسكرية، قوامها مجموعة شركات زراعية وصناعية وتجارية حولّها جعفر نميري من القطاع العام.يبلغ رأسمالها أكثر من بليون جنيه سوداني. إن فكرة وجود مؤسسة عسكرية إقتصادية -في حد ذاتها معقولة، ولكن نميري كوّنها كوسيلة لخلق مناصب وتسهيلات لبعض الضباط لاسترضائهم- لا سيما وقد أخذ الناس عليه إقامة جمعية ودنميري ،لتوزيع الحظوة على المحاسيب.لذلك لم تنهج المؤسسة نهجا إقتصاديا سليما بل لم يزد دورها عن خلق مناصب لبعض الضباط ،ودعم دخولهم منها،بيد أنها بالنسبة للمصلحة العامة فقد كانت سببا في ضياع المال العام وتراكم الخسائر.وكانت مجالا لكثير من الممارسات الفاسدة. وكان أحد مديريها الزبير رجب قد أتهم بالفساد المالي حيث رفعت في حقه قضايا أثناء الفترة الإنتقالية، وتم حبسه قيد المحاكمة وقرر القاضي إمكانية إطلاق سراحه بكفالة قدرها أربعة مليون جنيه سوداني. وكان الإتهام ضده: سرقة أموال الشركة التجارية التابعة للمؤسسة،فما كان من القائد العام إلا أن قدم ضمانا له بذلك المبلغ. كانت هذه قاصمة الظهر، فعرضنا على مجلس الدفاع فكرة إعفائه هو ونائبه وهيئة القيادة باعتبار أنه يوجد فيها يتولى منصب القائد العام بكفاءة. فوافق مجلس الدفاع وكذلك مجلس رأس الدولة. وبحثنا عن شخص مؤهل ليكون القائد العام فرشح اللواء فوزي أحمد الفاضل، حيث تولى المسؤولية وكان أهلا لها. واستمرت العلاقة المدنية العسكرية في عهده على أحسن ما يكون. لقد جعل قانون القوات المسلحة ،الموضوع في الفترة الإنتقالية، المسؤولية عن القوات المسلحة، في يد القائد العام، مهمشا دور وزير الدفاع، الذي هو المسؤول السياسي. لذلك كانت إدارة القوات المسلحة وإدارة الحرب كلها في يد القائد العام، وهيئة قيادته.وقد اقتنع الجميع بخطأ هذا الوضع. فكلفت لجنة لدراسته ومقارنة الحال في البلاد الأخرى، لتتم مراجعة قانون القوات المسلحة على أساس يؤكد قوة موقف وزير الدفاع ،والمسؤولية السياسية. ويستطرد السيد رئيس الوزراء قائلا: " كنت أحضر من وقت لآخر تنويرا في غرفة العمليات في جبهات القتال وبصحبتي أعضاء مجلس الدفاع المكون من: وزراء الداخلية، المالية، الخارجية، النائب العام، القائد العام، ووزير الدفاع. وفي أيلول (سبتمبر) 1988م، سقطت مدينة كبويتا، بعد أن انسحبت منها قواتنا المسلحة، بطريقة إنهزامية. وتركت سلاحا كثيرا استفاد منه العدو، من بينه دبابتان. وقررت القيادة العامة أن تدعم الموقف في شرق الاستوائية، بإرسال لواء كامل، سمته لواء الردع .ووفرنا له اللازم من تسلح ومهام ومركبات وبعد أن إستلزم إعداده مالا كثيرا، سار لواء الردع إلى إنجاز مهمته.ولكنه بقي عاما كاملا في جوبا ،لا يتحرك لأداء مهمته! وكانت مدينه الناصر في إقليم أعالي النيل محاصرة. وفي أيلول (سبتمبر) رؤي أن ترسل لها كتيبة من كوستى (الكتيبة118)، لدعمها ورفع الحصار عنها.تحركت هذه الكتيبة عن طريق شرق النيل وكان معروفا لدى الجميع- حتى التجار في كوستى- أن شرق النيل يعرقل السير فيه أربعة خيران (نهيرات) وأن الطريق المأمون جغرافيا هو الطريق الغربي وإن تواجدت فيه جيوب متمردين. أمضت الكتيبة 118 شهرين، لم تقطع خلالهما إلا واحدا من الأنهر الصغيرة. كانت الناصر ما زالت صامدة في انتظار النجدة. فعندما اتصل بها مدير العمليات (اللواء ابوقرون) لاسلكيا ردت عليه بأنها تستطيع الصمود أسبوعين آخرين.ولكن ودون إنذار عادت الكتيبة 118 إلى كوستى لتحاول السير بالضفة الغربية.وعند سماع حامية الناصر لهذا الخبر قررت التسليم فورا وعدم تعريض القوة لزيادة في الخسائر. كان لسقوط الناصر، أثر سيئ على القوات المسلحة- لا سيما في جبهات القتال. وتقرر أن تتحرك كتيبة من كتائب لواء الردع من جوبا لتوريت لدعم الدفاع فيها. أرسلت تلك الكتيبة في يناير 1989م وفي الطريق إلى توريت واجهت مقدمتها قوة للعدو تتقدمها إحدى الدبابات التي تم احتيازها من كبويتا.ففوجئت القوة بالعدو يفتح عليها نيران دبابته.هذا الموقف غير المتوقع أحدث صدمة للقوة وشتتها. صحيح إن بقية الكتيبة استطاعت أن تدمر الدبابة، وتهزم الكمين، ولكن الذين تشتتوا من هول الصدمة الأولى فروا في كل الإتجاهات، حيث لجأ بعضهم إلى ليريا الواقعة ما بين جوبا وتوريت. كانت هناك قوة قتالية كبيرة في ليريا فلما سمعت خبر الدبابة وقد نقله إليها الفارون في شئ من التهويل والمبالغة لم تنتظر تأكيدا أو نفيا لما سمعت بل استغلت 64 ناقلة مخصصة لها وفرت إلى جوبا، تاركة الموقع في ليريا خاليا تماما. كان هذا الفرار مقياسا لتدني الروح المعنوية في القوات المسلحة. لأن ليريا تقع في موقع حصين، تحيط بها الجبال، ولا يمكن دخولها إلا من مدخل واحد يسهل الدفاع عنه.هذه القوة الهاربة المذعورة لم تطع التعليمات عندما قيل لها ألا تدخل جوبا. وبعد لأي اقتنعت بالبقاء خارج جوبا إلى أن يقابلها نائب رئيس هيئة الأركان.وعندما التقاها الفريق عبدالرحمن سعيد وجدها قوة في حالة معنوية سئية جدا. هكذا تعددت الشواهد مؤكدة على تدني أداء القوات المسلحة في حامية كبويتا ولواء الردع والكتيبة 118 وحامية ليريا." يتابع السيد رئيس الوزراء سرده مسيرة الأحداث قائلا:"لقد هالني جدا ماحدث في ليريا،فطلبت تنويرا في غرفة العمليات.وكان الحاضرون :وزير الدفاع عبدالماجد حامد خليل، القائد العام،رئيس هيئة الأركان،مدير العمليات،مدير الاستخبارات،وزير المالية،نواب هيئة الأركان،وبعض كبار الضباط، وذلك للإستماع لتقرير عن ما حدث في ليريا(يناير1989م) فكانت خلاصة التنوير: 1. سرد مختصر لكل ما حدث مما ذكرناه أعلاه. 2. تفرق الجبهة الداخلية وأداء الإعلام يؤثران سلبا على الروح المعنوية للقوات. 3. المطالبة بمزيد من الإمكانات العسكرية. بعد استماعي لهذا التنوير الذي اعتبرته سطحيا جدا خاطبت الحاضرين بالآتي: إننا حقا نعاني من تصدع في الجبهة الداخلية، والموقف الإعلامي غير المسؤول، ولكن هناك مسائل متعلقة بالأداء العسكري، الذي هو مسئوليتكم، ينبغي ألا نتركها دون دراسة لها .أنا شخصيا لست مقتنعا بأننا نستخدم ما عندنا من معدات بالكفاءة المطلوبة.وعندي ملاحظات سأبديها لكم بصراحة، راجيا أن نعكف على دراستها معا: 1. هناك انهيار في المستوى القيادي الميداني في كثير من المواقع- والدليل على ذلك ما حدث في كبويتا وليريا ولواء الردع والكتيبة 118.هذا الإنهيار جعل المعدات الموجودة لا تستعمل بكفاءة بل جعلها مصدرا لتسليح العدو. 2. ثمة هبوط مريع في الروح المعنوية للقوات،فبعد أن كان مجرد ظهور قواتنا يرعب العدو انعكست الآية. 3. إنّ خطتنا القتالية قائمة على الدفاع وحده، فالعدو هو الذي يختار: متى، وكيف، وأين، يهاجم. ونحن لا نهاجم معسكراته، ولاخطوط إمداده، ولا نهاجمه من خلفه، لذلك تركنا له زمام المبادرة. وهذا يلحق بنا الهزائم. 4. أن طبيعة القتال الذي نواجهه تقتضي تجنيد عناصر فدائية تدعم القوات المسلحة وتستخدم أساليب مبتكرة لزعزعة العدو. 5. الأداء القاصر لقسم التوجيه المعنوي,فلم ترسل بعثات سياسية ونقابية لمؤازرة المقاتلين ولا بعثات حماسية من فنانين وشعراء لشحذ همة المقاتلين. إضافة إلى عدم بيان أسباب القتال نفسها وقضيتها العادلة.تحتاج هذه المسائل لبرامج شاملة تدار بكفاءة عالية ولا ألمس لذلك أثرا في برامج التوجيه المعنوي بل أراه غير مواكب لظروفنا القتالية. 6. و-قسم الإستخبارات العسكرية وقد فرغ من المهام الطارئة، بعد قيام جهاز أمن السودان،لا يعمل بالكفاءة المطلوبة. فلم يبلغنا أبدا بما سيحدث من خطط، وتحركات العدو، بل اكتفى دائما بتحليل ما حدث فعلا.إنّ وظيفته أن ينبهنا إلى ما سيحدث ثم ختمت حديثي بالآتي: لقد ظللت أعلق بمثل هذه الآراء بعد استماعي إلى التنوير،و لا أدري لماذا لا يستفاد منها لترشيد الأداء العسكري.إنني ألتزم بعلاج صدع الجبهة الداخلية والإعلام، ولكن هذه المآخذ الستة- إن صحت، فلن ينفع معها علاج ،إلا إذا واجهناها أصلحنا ما بها. وجم الحاضرون أمام هذه التعليقات ولكنهم بعد حين أمنوا على صحتها، ووعدوا بدراستها، وتقديم مقترحات، وبرامج ،لرفع مستوى الأداء العسكري. بعد ذلك دعت القيادة العامة، قادة القيادات، والضباط ،من رتبة عميد، فما فوق، لتداول الأمر. وفي هذا الإجتماع انصرف الحاضرون عن البحث في المآخذ الستة المشار إليها فتلاقحت ثلاثة تيارات: 1. تيار الفريق عبدالماجد حامد خليل وأصدقائه: الذين يريدون تركيبة الحكم القائم بما يقضي أو يقلل من شأن الجبهة الإسلامية القومية. 2. تيار القيادة العامة: الذي يريد صرف النظر عن أي محاسبات للأداء العسكري .وآخرون كان يهمهم عدم المحاسبة على الأداء العسكري بل يفضلون تعليق المسئولية على قلة المعدات. 3. تيار الإنقلابيين: الذين يريدون تعليق المسؤولية على الأداء السياسي والمدني لتبرير استلام السلطة. هذه التيارات هي التي أفرزت مذكرة فبراير 1989م التي وقع عليها جميع الحاضرين. حيث أقدم القائد العام على رفعها باسمهم. لقد كشف التنوير الذي قدمه القادة، للقيادات والوحدات المختلفة، هذه التيارات. إذ صبغ كل ضابط كلف بالتنوير الأشياء بصبغته. لقد كان التنوير غير منضبط مما خلق تشويشا وتوقعات ضارة. -القيادة العامة لم تكن عازمة أو راغبة في الإستيلاء على السلطة. ولكنها كانت راغبة في إبعاد نفسها عن المسؤولية عن سوء الإدارة. فساهمت في تحميل المسؤولية للإمكانات وللتقصير السياسي. هذا مهد بدوره للتفكير الإنقلابي. إرتفعت نفقات الحكومة بنسبة عالية أثناء عهد مايو لطائفة من الأسباب: 1-توسع في مصروفات الحكومة المركزية للإنفاق السياسي على جهاز موسع للدولة، وعلى رئاسة الجمهورية، وعلى الإتحاد الإشتراكي، على الصحافة الحكومية، وعلى أجهزة الأمن المتعددة. 2-الصرف على الحكم الذاتي الإقليمي في الجنوب، والحكومات الإقليمية من الشمال، دون إيجاد إيرادات حقيقية إقليمية مواكبة. لم تواكب الإيرادات هذا الإنفجار الصرفي لجملة أسباب هي : (1)التهرب من دفع الضرائب. (ب)التهرب من دفع الجمارك الذي أفقد الدولة إيرادات جمركية ضخمة. (ج)تدني رسوم الإنتاج لاشتغال المصانع بجزء محدود من إنتاجيتها بسبب عدم توفر المدخلات. (د)غياب فوائض مشروعات القطاع العام من إيرادات الحكومة وقد كان لها دور هام. وعند مجيء الحكم الديمقراطي، طفقت الحكومة بالإهتمام بضبط الصرف. فحققت خفضا لعجز الميزانية في العامين الأول والثاني وكان الإتجاه مستمر للعام الثالث لولا طروء النفقات الإستثنائية أدناه: (أ)الزيادة التي طرأت على الفصل الأول من الموازنة لمقابلة الحد الأدنى للأجور لإزالة المفارقات. (ب)عبء الإنفاق الدفاعي الإضافي. (ج) مواجهة كارثة السيول والفيضانات التي حدثت عام 1988م. (د)مواجهة ظروف النازحين من الجنوب للشمال وعددهم مليونين. أخلت هذه العوامل بالانضباط الصرفي في العام الثالث. فكان متوقعا دخول إيرادات تمول كثيرا منها مثل برامج إعادة التعمير وبرامج النازحين. ولكن تأخر وصول الدعم المرتقب فكان على الحكومة مواجهة الموقف. بعد دراسة مسألة العجز، وجد أن حجم الإنفاق- مع ما بلغه، لا يمكن تخفيضه كثيرا، إلا إذا أمكن إيقاف الحرب وخفض النفقات العسكرية. وهو على أي حال حجم معقول بالمقياس الإقتصادي، لأنه يمثل 18% إلى 20% من الدخل القومي. ولكن الرقم الذي يمكن التأثير عليه وبالتالي خفض العجز هو حجم الإيرادات. فالدولة تملك إستثمارات بخمسين بليونا من الجنيهات، وهذه يمكن أن يكون ريعها، على الأقل 5 بليون جنيه سنويا،لولا ترهل مؤسسات القطاع العام. لقد تمت أيضا دراسة مشاكل مؤسسات القطاع العام. وتم وضع خطة لإعادة تأهيلها، وتحسين إدارتها، وخفض مصروفاتها، بالتعاون مع البنك الدولي. فإنّ إلتزاما حازما بالإصلاح في مؤسسات القطاع العام هو المفتاح الحقيقي لإزالة عجز الميزانية الداخلية. أما العجز الخارجي، فقد تم السعي لإزالته، بما تحقق من زيادة في الإنتاج والصادرات. لقد جاء وقت في أواخر عهد مايو توقف فيه التصدير من السودان، إلا قليلا. لقد استأنف السودان على عهد الحكم الديمقراطي التصدير بحجم لا بأس به، حتى بلغت قيمة الصادرات في آخر ميزانية حوالي 700مليون دولار. إن الإقتصاد السوداني قادر على إزالة عجز الميزان الخارجي إذا تحققت الإجراءات الآتية: 1-زيادة الصادرات: وقد زادت بالفعل (العهد الديمقراطي) ولكن المطلوب رفع نسبة الزيادة. 2-استخراج بترول السودان: وفي هذا المجال مخزون البترول السوداني الذي تم اكتشافه حتى الآن 4 بليون برميل ويمكن أن ينتج نصف مليون برميل يوميا. ولكن شركة شيفرون توقفت عن متابعة العمل محتجة على الظرف الأمني. فعرضت عليها الحكومة إجراءات أمنية، بيد أنها مازالت تترقب. والمخرج هو إيجاد شركة بديلة تدفع لشيفرون العالمية ما صرفته وتتولى استخراج البترول، مع قدر من المرونة. لأن مصالح شركة شيفرون العالمية مع وجود تخمة في سوق البترول يجعل شفرون تفضل خيار ترك البترول السوداني في طبقات الأرض الباطنية في الوقت الحاضر- إن لليمن الشمالي، مخزون يساوي نصف مخزون السودان.وبعد صرف أقل مما صرفت شفرون، وفي مدة أقل، بدأ استخراج البترول، وتصدير مائتي ألف برميل في اليوم. ولعل السبب الأهم لهذا الأداء هو أن الشركة العاملة في اليمن الشمالي شركة صغيرة لا تكبلها مصالح بترولية عالمية. والى أن يتم استخراج البترول السوداني فقد طرح السيد رئيس الوزراء عرضا لبعض الأشقاء، وهو عرض ممكن وعادل، لحل الأزمة البترولية: أن تضخ السعودية أو ليبيا لصالحنا 20 مليون برميل في السنه، لسد حاجة السودان من بترول. على أن نسدده بعد استخراج البترول السوداني برميلا ببرميل. ويمكن أن تضمن الشركة المعنية (شفرون أو غيرها) هذا الإتفاق. فإن حدث هذا، فان فاتورة البترول سترفع عن كاهل ميزاننا الخارجي بمقدار 300/400بليون دولار، لقد تمت مناقشة هذه المسائل مع الأطراف المعنية، فقبلت. ولكن تأخر التنفيذ. 3-إيقاف تغريب الثروة السودانية وتحقيق تدفق كبير للمدخرات السودانية من الخارج إلى الداخل. وفي هذا المجال قامت الحكومة الديمقراطية ،بعدة إجراءات لم تحقق المطلوب منها، ولكن دفع تدفق هذه الأموال إلى مبلغ 1-2 بليون. هناك ضرورة قصوى لترشيد استهلاك السلع المستوردة كالقمح والسلع والخدمات، والتي يدخل فيها عنصر مستورد كالكهرباء والمياه.إن استخدام بلادنا للقمح ودقيق القمح وللبترول والمياه والكهرباء فيه إسراف لا يناسب واقعنا وهامش الترشيد في هذه المجالات عريض. إن ظروف السودان الإقتصادية، بما لحقها من تشويه، هو السبب الأساسي في العجز الداخلي. وأهم بند فيه هو تدني الإيرادات، وجفاف فوائض مؤسسات القطاع العام. ومفتاح العلاج يكمن في إعادتها لربحيتها. والعجز الخارجي يمكن علاجه بالإستمرار في زيادة الصادرات، مع تنفيذ برنامج البترول المذكور وترشيد الإستهلاك المبرمج له.
5- انقلاب 30 يونيو 1989م: قامت جماعة من الضباط بقيادة العميد عمر حسن أحمد البشير بالإستيلاء على السلطة في الثلاثين من يونيو 1989م لمصلحة الجبهة القومية،وأطلقت على ذلك ثورة الإنقاذ الوطني. وقد تأكد للرأي العام السوداني والخارجي أنها نسخة أخوا نية من مايو النميرية وذلك للآتي: 1-تبنيها لسياسات مطابقة لبرنامج الجبهة- لاسيما حول موضوع السلام وقوانين سبتمبر المسماة إسلامية. 2-تعيين أشخاص من مواقع قيادية معروفة بانتمائها للجبهة، إضافة إلى إلحاق كوادرها في الخدمة المدنية، وبعثات السودان الدبلوماسية، بعد أن أفرغت هذه من دبلوماسييها المحترفين. 3-سيطرة تجار الجبهة على التجارة والعمل الإقتصادي. حيث بيعت المؤسسات العامة (القطاع العام) لكوادر جبهوية معروفة. 4-الرحلات المكوكية التي تقوم بها زعامة الجبهة في الإتصالات الخارجية، السياسية، والمالية ،جلبا للتأييد والسند الخارجي وإضفاء الشرعية على النظام الإنقلابي. 5-بعد مسرحية تسريح أكثر من ألف ضابط في القوات المسلحة السودانية ومجموعة كبيرة من ضباط الشرطة، شرعت الحكومة الإنقلابية في تكوين المليشيات الخاصة من كوادر الجبهة وإلحاقها بالجيش. 6-بُعيد وقوع الإنقلاب، أيدته جميع الإتحادات الطالبية في الجامعات والمعاهد العليا، حيث كانت بقيادة كوادر الجبهة الطالبية. 7-صدور الصحف الرسمية للنظام الإنقلابي بأقلام جبهوية معروفة، سواء أكان ذلك كتاب الأعمدة أو رؤساء التحرير والإدارة ،حيث نال رئيس تحرير كل صحيفة درجة وزير.
كانت تلك هي الحالات الخمس التي تدخلت فيها القوات المسلحة في شئون الحكم والسياسة في السودان (انقلاب نوفمبر، انقلاب مايو، الحكومة الإنتقالية بعد الانتفاضة في 1985،مذكرة الجيش فبراير 1989، انقلاب يونيو 1989). ولانتزاع الدروس المستفادة وتحديد وسائل الإصلاح في هذا المجال، سنتطرق بشيء من التفصيل لعلاقة القوات المسلحة بالحكومة الديمقراطية.
الحكومة المنتخبة والقوات المسلحة استغل النظام المايوي القوات المسلحة واستخدمها أداة لأغراضه السياسية، مستبيحا كل قدراتها. واستهتر بمنصب القائد العام :يتلاعب به تلاعب الأفعال بالأسماء.ولشعوره بأن الجنوبيين يوالونه بعد إتفاقية 1972م فإنه استباح التكوين القومي للقوات المسلحة، ولأنه أراد ضباطا موالين له، استباح نظامها المعهود. وأدخل الدفعتين الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين لتخريج سبعمائة ضابطا في نصف عام. مع أن الدفعة عادة لا تزيد عن ثمانين ضابطا على أن تقضي فترة تدريبية بالكلية الحربية لا تقل عن عامين. وجعل النظام المايوي القوات المسلحة السودانية عالة على القوات المسلحة المصرية، وجردها تماما من سلاح الطيران والدفاع الجوي، باعتبار أن القوات المسلحة المصرية ستكمل النقص. وبقيام حلف عدن، وتبنيه لحركة العنف المسلح داخل السودان، تخلت القوات المسلحة المصرية عن الحماية المتفق عليها في عهد السادات، معلنة أن حركة العنف المسلح داخل السودان إنما هي حركة"داخلية". واتجه الرئيس مبارك غير الوجهة الساداتية: فصالح أثيوبيا، وأكد لها أنه محايد في أمر القتال الدائر في جنوب السودان.هكذا زال أي غطاء جوي تصوره نظام نميري لنفسه وقد سبق أن سقنا الدليل لما آل إليه حال قواتنا المسلحة من تدني:(يوليو76،حركة الجيش الشعبي التي أوقفت العمل في قناة جونقلي واستحراج البترول وأعاقت الملاحة بين الشمال والجنوب،الطائرة الني ألقت قنابل في ام درمان). لقد ورثت الحكومة الإنتقالية هذا الحال المتردي، ولم تفعل فيه شيئا واحدا إيجابيا نحو القوات المسلحة. رغم أن قيادتها كانت هي القيادة المعروفة للقوات المسلحة. كل الذي فعلته في تلك الفترة، طلبها لدعم عسكري من الأشقاء، حيث جاء بحجم متواضع جدا، ولم يؤثر على الموقف الحربي. وانتهت الفترة الإنتقالية بقرار اعتبره العسكريون ظلما عليهم لصالح قوات الشرطة. هذا ما وجدته القوات المسلحة في عهدين كانا تحت قيادة من صفوف القوات المسلحة، وهما: العهد المايوي والعهد الإنتقالي. كان تسليح الجيش في عهد مايو يأتي من المعونة العسكرية الأمريكية، حيث بلغت قيمتها 150 مليون دولار في السنة، وارتبط هذا العون بالإنحياز للموقف الإستراتيجي الأمريكي. وسنوضح فيما بعد كيف أنه كلف السودان أضعاف ما أعطاه، حيث تم دفع السودان نحو مسائل لا ناقة له فيها ولا جمل. ومع التخلي عن الإنحياز في العهد الديمقراطي، وانخفاض الدعم الأمريكي لأفريقيا، تقلص العون العسكري الأمريكي. ومما حال دون التسليح الغربي للسودان، هو أن أمريكا وبريطانيا ودول منظومة غرب أوروبا، أوضحت أنها لا تستطيع تسليح السودان وهو يحارب مسيحيين في جنوبه. كان متوقعا أن يعاون الإتحاد السوفيتي، في تسليح السودان بعد أن أزيلت الجفوة معه. ولكن أمرين حالا دون ذلك: 1-كانت العلاقات الأثيوبية السودانية مازالت متوترة والإتحاد السوفيتي حليف لأثيوبيا فلا يرجى مع ذلكم تسليح سوفيتي للسودان. 2-دخول الإتحاد السوفيتي، مرحلة جديدة بقيادة غورباتشوف، تمت فيها مراجعة أمر تسليح الآخرين، فاتجه نحو قضايا الإصلاح الداخلي، حتى توقف عن تسليح حلفائه أنفسهم في أثيوبيا.
الفصل الرابع: المسألة الاقتصادية
شرط الإستقرار لأي مجتمع هو أن تكون القيادة السياسية حائزة على رضا السكان ،وأن تكون قادرة على كفالة الأمن والمعيشة لهم. ومنذ أن تكونت دول العالم الثالث، بعد جلاء الإستعمار، كان هم قيادتها منصّبا حول الشرعية التي تنال بها رضا السكان، والتنمية التي تحقق بها أسباب المعيشة والأمن. ومنذ بداية الإستقلال نشأ تساؤل عن الأسلوب الأفضل لتحقيق التنمية: فرأي يقول أن الطريق الرأسمالي هو الأفضل. ورأي آخر يقول أن الطريق الإشتراكي هو الأفضل. ويستشهد الأول بالمثال الياباني ،بينما يستشهد الثاني بالإتحاد السوفيتي. وتتدخل القوى الكبرى في هذا الصراع،كل معسكر يدعو للتنمية وفق نهجه، ويعد بالدعم.باسم هذا النزاع وقعت انقلابات عسكرية. تارة يمينية، وتارة أخرى يسارية. وهناك آراء استقلت من المعسكرين ،مشيرة لوجود طريق آخر إسلامي، إضافة إلى طرائق أخرى عربية، أو أفريقية أو موفقة بين الرأسمالية والإشتراكية. لقد نشأ الإقتصاد الحديث في السودان في ظل الإستعمار. وكان الإستعمار البريطاني في السودان قد تهيأت له الإستنارة بعد مرحلته الأولى الهمجية الدموية فتجنب الأخطاء التي ارتكبها في شرق أفريقيا، عندما سمح للبعض امتلاك الأرض والإستيطان وتجنب كذلك الأخطاء التي ارتكبها في كل من مصر والعراق عندما سجل الأراضي للأفراد في إقطاعات كبيرة. لقد أبقى الإستعمار على ملامح ملكية الأرض في السودان كما تركتها دولة المهدية-الملكية العامة في الغالب ونشأت السكة حديد، والخدمات الإجتماعية- قطاعات عامة، وقام إنتاج القطن قطاعا خاصا في البداية، ولكن مشروع الجزيرة بعد نهاية فترة رخصته الأولى في 1950م، تم تأميمه وصار قطاعا عاما، لذلك عندما انجلى الإستعمار في السودان، كان في البلاد اقتصاد حديث، نشط، وقطاع عام كبير جدا. وفي عهد الحكم الوطني الأول، حدث توسع كبير. فأضيف المناقل لمشروع الجزيرة، واتجهت السكة حديد غربا وجنوبا بعد أن كانت محصورة في الخط الشمالي والشرقي والوسطى. عندما وقع الإنقلاب الأول في عام 1958م كان الإقتصاد السوداني مجدي بشكل قياسي، قادرا على كفالة معيشة الشعب السوداني، وعلى تحقيق درجة مقبولة من التنمية. لقد تجنب إنقلاب الفريق ابراهيم عبود، الخوض في المغامرات الإقتصادية. وأقام عددا من المشروعات التنموية، واحتفط الإقتصاد السوداني بجدواه بعد ثورة اكتوبر 1964م وحتى مايو 1969م أي بعد الإنقلاب الثاني. ملامح جدوى الإقتصاد السوداني المقصودة هي:- 1. كانت الإيرادات فائضة على المصروفات، مما يحقق فائضا في الميزانية العامة، يوجه للتنمية. 2. كان هيكل إيرادات الحكومة صحيا، بحيث كونت فوائض مشروعات القطاع العام من 25% إلى 40% من إيرادات الحكومة. 3. حقق ميزان المدفوعات فائضا سنويا خلق للسودان رصيدا بالعملة الصعبة. 4. كان الجنيه السوداني قويا يساوي 3.87 دولارا. 5. كان القطاعان العام والخاص يعملان بكفاءة معقولة. 6. استطاع الإقتصاد السوداني أن يقوم بذاته، سواء في التنمية، أو ضرورات المعاش، فلم يشهد تجارب المعونة الخارجية أو الإغاثة. إقتحم النظام المايوي بإدارته وسياساته، هذه الحال فشوهها تشويها أساسيا. أقدم على توسيع رقعة مشروعات القطاع العام، وأفسد إدارتها فخّربها.وشوه التجارة وهبط بالإنتاج ،وزاد المصروفات: ففاقت نسبة الإيرادات أضعافا وكبل السودان بحبل من الدين غليظ. فأضحت ملامح الإقتصاد السوداني بعد العهد المايوي: 1. زادت مصروفات الميزانية الداخلية على الإيرادات مما ألجأ المالية للإستدانة من النظام المصرفي، إستدانة تراكمت على عهد مايو حتى صارت مديونية الدولة لبنك السودان 13 بليون جنيه. 2. اتسع القطاع العام على عهد مايو نتيجة للتأميمات والمصادرات ولمشروعات جديدة أقامها،ولكن سوء الإدارة الإقتصادية لهذه المؤسسات جعل عائدها سالبا. 3. فكان حجم إستثمارات الدولة في القطاع العام لا يقل عن 50 بليون جنيه سوداني بلا عائد يذكر(150مليون جنيه سنويا) لذلك صارت إيرادات الدولة كلها من مصدرين هما : 4. الضرائب والإقتراض من النظام المصرفي. 5. لم تعد الميزانية الداخلية تحقق فائضا لذلك ساهمت الحكومة في تمويل التنمية من مدخراتها، بل صارت معتمدة في ذلك إعتمادا كاملا على القروض، والمعونات الأجنبية. 6. تدني الإنتاج: بحيث صار إنتاج المحصولات النقدية في الثمانينات نصف ما كان عليه في السبعينات. وتدنت تبعا لذلك قيمة الصادرات وزادت عليها نسبة الواردات عاما إثر عام، حتى بلغت قيمتها ضعف قيمة الصادرات، مما جر عجزا كبيرا في ميزان المدفوعات السوداني. 7. التضخم الداخلي وعجز ميزان المدفوعات أديا لتدهور قيمة الجنيه السوداني الذي كان 3.87 دولارا في أول عهد مايو. فصار الدولار يساوي أكثر من أربعة جنيهات في آخر ذلك العهد. 8. تدني الإنتاج والإنتاجية في القطاعين العام والخاص، في أغلب مناشط الإقتصاد الحيوية,فالسكة الحديد التي كانت تنقل 3 مليون طن من أول عهد مايو صارت تنقل نصف مليون طن فقط في آخر العهد. 9. أما القطاع الخاص فقد أقعده الإستهتار بحرمة المال والحقوق، ولذلك انصرف إلى العمل الطفيلي في المتاجرة قصيرة الأمد، وحيثما حقق دخولا، عمل على تهريبها للخارج. 10. منشآت القطاعين- العام والخاص التي أقميت في عهد مايو بالقروض في الغالب، درجت على إنتاج منخفض لغياب المدخلات من قطع الغيار والخدمات. ظاهرة الاغتراب ثمة عوامل طرد مثل تدني قيمة الجنيه السوداني، إهدار الحقوق القانونية والحريات العامة، والتضييق على الناس وغيرها.وعوامل جذب مثل ارتفاع مستوى الرواتب في بلاد البترول. عوامل الطرد والجذب دفعتا بعدد كبير من الكفاءات السودانية للهجرة حتى بلغ المغتربون السودانيون حوالى مليونين حسب بعض التقديرات. هؤلاء المواطنون بمكتسباتهم ومدخراتهم صاروا جزءً هاما من نسيج الإقتصاد السوداني، وهو اقتصاد مغترب وغير خاضع لظروف الإقتصاد الوطني. إذا أضفنا الأموال الكبيرة التي هربها السودانيون من الداخل خوفا عليها، إلى مدخرات هؤلاء المغتربين، لجاز لنا أن نصدق أن حجم أرصدة السودانيين بالخارج بلغت 20 بليون دولار. ويلاحظ أن هذه الظاهرة لم تكن موجودة من قبل- أي قبيل العهد المايوي، ولم يكن للسودانيين قبل ذلك أي أرصدة في البنوك الخارجية حتى أغنى أغنيائهم كانت أموالهم داخل السودان. لقد أبتلى الحكم الديمقراطي بوراثة عشر إشكاليات اقتصادية أساسية من النظام المايوي، سنذكرها هنا ونحدد ماذا فعلت الحكومة الديمقراطية لعلاجها: المشكل الأول: العجز الدائم في الميزان الداخلي والخارجي. المشكل الثاني: التدني الخطير في الإنتاج والإنتاجية. المشكل الثالث: التضخم ،حيث انعكس بصورة واضحة في ارتفاع الأسعار وفي انكماش القوة الشرائية للجنيه السوداني المشكل الرابع: تدني الإستثمار وانخفاض معدلات النمو. المشكل الخامس: توقف التنمية. المشكل السادس: الدين الخارجي، إذ بلغ ثلاثة أضعاف الدخل القومي. المشكل السابع: تغريب الثروة الوطنية. المشكل الثامن: إنهيار الخدمات الأساسية: الصحة –التعليم-المياه والكهرباء-الإسكان-الإتصالات السلكية واللاسلكية- الأمن. المشكل التاسع: الإضطراب التمويني وضائقة المعاش. عاشرا: إنهيار الخدمة المدنية والفراغ الإداري بالإضافة إلى ذلك، زاد الإستهلاك نتيجة لعدة عوامل أهمها: تأثير الإغتراب على العادات الإستهلاكية للمجتمع، والنزوح الكبير من الريف إلى المدينة.فلم تعد العودة إلى معدلات الإنتاج القديمة حلا في حد ذاتها، بل توسيع قاعدة الإنتاج، مما يتطلب إعادة بناء وتوسيع البنيات الأساسية من خزانات وكهرباء وطرق ووسائل نقل.هذا مع العلم بأن نظام مايو قد ترك إرثا من المديونية بلغت 14 بليون دولار. منها بليونين عبارة عن دين خارجي ل 155 مصرفا تجاريا عالميا،مما وضع السودان في القائمة السوداء في كل دوائر المال والأعمال. فكل تسهيلات بنك السودان (المصرف المركزي) لم تتجاوز عشرين مليون دولار في عام 1986م. ولم تتجاوز الطاقة التخزينية للمياه في الروصيرص وسنار –12 مليار متر مكعب.بينما تبلغ إحتياجات الزراعة والتوليد الكهربائي 14.5 مليار متر مكعب سنويا ويبلغ نصيب السودان من مياه النيل 18 مليار متر مكعب.فتفضل البلاد خيار التوليد الكهربائي عن الزراعة في الصيف وبالتالي تبقى ملايين الأفدنة دون زراعة والمصانع والمرافق دون كهرباء. وتدنت وسيلة النقل الأساسية (السكة حديد) من 6 مليون طن في عام 1969م إلى 600 الف طن في عام 1985م ولا توجد طرق تربط مناطق الإنتاج الرئيسية في غرب البلاد مع مناطق التصدير والإستهلاك. وعندما حقق الإنتاج الزراعي أرقاما قياسية في الأعوام 1986م-1988م، قعدت إمكانات البلاد من وسائل النقل وتجهيز الميناء عن تصدير كل الفوائض الممكن تصديرها. لذلك فإن الموقف أعقد مما يتصوره البعض، وأخطر من بداهة إعتقاد زمرة من العسكر والعقائديين. هذه هي الإشكالية المعروفة التي كانت تعمل في ظلها الحكومة الديمقراطية الوليدة. فماذا فعلت لعلاجها؟ وماذا حققت؟ المشكل الأول: العجز الداخلي والخارجي: ارتفعت نفقات الحكومة بنسبة عالية أثناء عهد مايو لطائفة من الأسباب: 1. توسع في مصروفات الحكومة المركزية للإنفاق السياسي على جهاز موسع للدولة وعلى رئاسة الجمهورية وعلى الإتحاد الإشتراكي وعلى الصحافة الحكومية وعلى أجهزة الأمن المتعددة.. 2. الصرف على الحكم الذاتي الإقليمي في الجنوب والحكومات الإقليمية في الشمال دون إيجاد إيرادات حقيقية إقليمية مواكبة. لم تواكب الإيرادات هذا الإنفجار الصرفي لجملة أسباب هي: 1. التهرب من دفع الضرائب. 2. التهريب الذي أفقد الدولة إيرادات جمركية ضخمة. 3. تدني رسوم الإنتاج لاشتغال المصانع بجزء محدود من إنتاجيتها ، بسبب عدم توفر المدخلات. 4. غياب فوائض مشروعات القطاع العام من إيرادات الحكومة وقد كان لها دور هام. وعند مجئ الحكم الديمقراطي عكفت الحكومة على الإهتمام بضبط الصرف، فحققت خفضا لعجز الميزانية في العامين الأول والثاني. وكان الإتجاه مستمرا للعام الثالث لولا طروء النفقات الإستثنائيه أدناه: 1. الزيادة التي طرأت على الفصل الأول من الموازنة لمقابلة الحد الأدنى للأجور ولإزالة المفارقات. 2. عبء الإنفاق الدفاعي الإضافي. 3. مواجهة كارثة السيول والفيضانات التي حدثت في عام 1988م. 4. مواجهة ظروف النازحين من الجنوب للشمال وعددهم ميلونين. أخلت هذه العوامل بالإنضباط الصرفي في العام الثالث فكان متوقعا دخول إيرادات، تمول كثيرا منها مثل برامج إعادة التعمير وبرامج النازحين. ولكن تأخر وصول الدعم المرتقب فكان على الحكومة مواجهة الموقف. بعد دراسة مسألة العجز، وجد أن حجم الإنفاق- مع ما بلغه لا يمكن تخفيضه كثيرا إلا إذا أمكن إيقاف الحرب وخفض النفقات العسكرية. وهو على أي حال حجم معقول بالمقياس الإقتصادي لأنه يمثل 18% إلى 20% من الدخل القومي. ولكن الرقم الذي يمكن التأثير عليه وبالتالي خفض العجز هو حجم الإيرادات.فالدولة تملك إستثمارات بخمسين بليونا من الجنيهات، وهذه يمكن أن يكون ريعها على الأقل 5 بليون جنيه سنويا،لولا ترهل مؤسسات القطاع العام. لقد تمت أيضا دراسة مشاكل مؤسسات القطاع العام، وتم وضع خطة لإعادة تأهيلها وتحسين إدارتها وخفض مصروفاتها بالتعاون مع البنك الدولي. فإن التزاما حازما بالإصلاح في مؤسسات القطاع العام هو المفتاح الحقيقي لإزالة عجز الميزانية الداخلية. أما العجز الخارجي فقد تم السعي لإزالته بما تحقق في زيادة في الإنتاج والصادرات. لقد جاء وقت في أواخر عهد مايو توقف فيه التصدير من السودان إلا قليلا. لقد استأنف السودان على عهد الحكم الديمقراطي التصدير بحجم لا بأس به حتى بلغت قيمة الصادرات في آخر ميزانية حوالي 700مليون دولار. إن الإقتصاد السوداني قادر على إزالة عجز الميزان الخارجي إذا تحققت الإجراءات الآتيه: 1. زيادة الصادرات وقد زادت بالفعل (العهد الديمقراطي) ولكن المطلوب رفع نسبة الزيادة. 2. استخراج بترول السودان وفي هذا المجال مخزون البترول السوداني الذي تم اكتشافه حتى الآن 4 بليون برميل ويمكن أن ينتج نصف مليون برميل يوميا ولكن شركة شيفرون توقفت عن متابعة العمل محتجة على الظرف الأمني. فعرضت عليها الحكومة إجراءات أمنية. بيد أنها مازالت تترقب، والمخرج هو إيجاد شركة بديلة تدفع لشيفرون العالمية ماصرفته، وتتولى استخراج البترول مع قدر من المرونة، لأن مصالح شركة شيفرون العالمية مع وجود تخمة في سوق البترول يجعل شفرون تفضل خيار ترك البترول السوداني في طبقات الأرض الباطنية في الوقت الحاضر- إن لليمن الشمالي مخزون يساوي نصف مخزون السودان،وبعد صرف أقل مما صرفت، شفرون وفي مدة اقل بدا استخراج البترول وتصدير مائتي الف برميل في اليوم ولعل السبب الأهم لهذا الاداء هو ان الشركة العاملة في اليمن الشمالي شركة صغيرة لا تكبلها مصالح بترولية عالمية. وإلى أن يتم إستخراج البترول السوداني فقد طرح السيد رئيس الوزراء عرضا لبعض الأشقاء وهو عرض ممكن وعادل لحل الأزمة البترولية: أن تضخ السعودية أو ليبيا لصالحنا 20 مليون برميل في السنة لسد حاجة السودان من بترول. على أن نسدده بعد استخراج البترول السوداني برميلا ببرميل. ويمكن أن تضمن الشركة المعنية (شفرون أو غيرها) هذا الإتفاق فإن حدث هذا، فإن فاتورة البترول سترفع عن كاهل ميزاننا الخارجي بمقدار 300/400بليون دولار، لقد تمت مناقشة هذه المسائل مع الأطراف المعنية، فقبلت ولكن تأخر التنفيذ. 3. إيقاف تغريب الثروة السودانية وتحقيق تدفق كبير للمدخرات السودانية من الخارج إلى الداخل. وفي هذا المجال قامت الحكومة الديمقراطية بعدة إجراءات لم تحقق المطلوب منها، ولكن دفع تدفق هذه الأموال إلى مبلغ 1-2 بليون دولار. هناك ضرورة قصوى لترشيد إستهلاك السلع المستوردة كالقمح والسلع والخدمات والتي يدخل فيها عنصر مستورد كالكهرباء والمياه.إن استخدام بلادنا للقمح ودقيق القمح وللبترول والمياه والكهرباء فيه إسراف لا يناسب واقعنا، وهامش الترشيد في هذه المجالات عريض. إن ظروف السودان الإقتصادية بما لحقها من تشويه هو السبب الأساسي في العجز الداخلي. وأهم بند فيه هو تدني الإيرادات وجفاف فوائض مؤسسات القطاع العام ومفتاح العلاج يكمن في إعادتها لربحيتها. والعجز الخارجي يمكن علاجه بالإستمرار في زيادة الصادرات مع تنفيذ برنامج البترول المذكور وترشيد الإستهلاك المبرمج له. المشكل الثاني :تدني الإنتاج والإنتاجية: شهد الإنتاج في عهد مايو تدنيا رهيبا في كل مرافق البلاد الصناعية والزراعية وفي القطاعين العام والخاص حتى كان إنتاج القطن مثلا- في الثمانينات (النصف الأول) نصف ما كان عليه في السبعينات. هذا التدني في الإنتاج هبط بالدخل القومي السوداني حتى صار في أواخر سنوات العهد المايوي بنسبة سالبة( –6% في السنة). ومنذ تولي الحكومة الديمقراطية سدة الحكم أولت الإنتاج إهتماما كبيرا. ففي القطاع التقليدي وزعت البذور المحسنة مجانا.ودعمت أسعار المحاصيل تشجيعا للإنتاج وحجم دعم هذه المحاصيل في عام 1987م وحده بلغ 1.4 مليون جنيه سوداني. وفي القطاع الزراعي والصناعي العام، قامت بوضع وتنفيذ برامج إعادة تأهيل المشاريع والمصانع ويحفز المنتجين بتجميد الديون وتحديد أسعار مجزية للمحاصيل الزراعية مثل القمح والقطن والفول. هذه الإجراءات زادت الإنتاج زيادة ملحوظة: في القطاع الخاص الزراعي والصناعي حددت الحكومة المدخلات المطلوبة ووضعت برامج لتحضيرها في أوقاتها المناسبة. أما المدخلات الزراعية للقطاع الخاص فقد أمكن تحضيرها بنسب عالية ولكن نسبة توافر المدخلات الصناعية للقطاع الخاص كانت أقل. هذه الإجراءات زادت الإنتاج مما انعكس على نمو الدخل القومي السوداني وفق الجدول الآتي: نسبة النمو في الدخل القومي العام -12.8 (حكومة نميري) 84-1985م +3.6 (العهد الديمقراطي) 85-1986م +4.3 (العهد الديمقراطي) 86-1987م +2.2 (العهد الديمقراطي) 87-1988م +12.3 (العهد الديمقراطي) 88-1989م -6.6 (حكومة البشير) 89-1990م
المرجع:تقارير صندوق النقد الدولي 1990م والخطة الرباعية 1988م. لقد ارتفع الإنتاج والإنتاجية في السودان على عهد الديمقراطية وأديا لمتوسط نمو جيد مفارق للنمو السالب الذي ورثناه من العهد المايوي. عند سقوط النظام المايوي كان نمو الدخل القومي سالبا –12.8% فارتفعت به الحكومة الديمقراطية لتصل به إلى +12.3% من يونيو 1989م وفق مضابط صندوق النقد الدولي وبنك السودان. لقد هبط النظام الإنقلابي العسكري في عامه الأول إلى –6.6 وفق تقديرات صندوق النقد الدولي. المشكل الثالث:التضخم: تمويل العجز المتراكم عن طريق الإقتراض من النظام المصرفي أدى لزيادة هائلة في كتلة النقود المتداولة حتى صار حجم النقود المتداول في آخر عهد مايو 17 بليون جنيه سوداني. هذه الزيادة لم تصحبها زيادة مماثلة في كمية السلع والخدمات المتداولة لذلك ظهرت في شكل زيادات في أسعار السلع والخدمات الموجودة في الواقع. هذه الزيادات في الأسعار هي التضخم الذي يقاس ويدل على تشويه الإقتصاد. كانت نسبة التضخم في آخر عام للنظام المايوي 60% في السنة نزلت هذه النسبة في عهد الحكومة الإنتقالية إلى 50% في السنة، ومنذ العام الأول للحكومة الديمقراطية نزلت النسبة إلى 40% وهبطت إلى 32% في العام الثاني، وفي العالم الثالث للديمقراطية بسبب الظروف التي ذكرناها سابقا- زيادات الأجور والصرف على إعادة التعمير بعد الأمطار والسيول المعروفة، ارتفعت مرة أخرى إلى 60%. ومنذ العام الأول للديكتاتورية الثالثة ارتفعت النسبة ، فأصبحت 800% وزادت السيولة في الإقتصاد بنسبة 55% في العام المالي 89/90. إن التضخم هو بارومتر يعكس العجز الداخلي والخارجي لإقتصاد البلاد ولا سبيل إلى علاجه علاجا ناجعا إلا بالعمل على إزالة ذلك العجز. المشكل الرابع: تدني الإستثمار: الإستثمار هو الوسيلة لزيادة الطاقة الإنتاجية الزراعية والصناعية والتعدينية وفي السنوات الأخيرة من عهد مايو توقف الإستثمار في القطاعين العام والخاص. وفي عهد الحكومة الديمقراطية وضع برنامجا موسعا للإستثمار وذلك لإعادة تأهيل مؤسسات القطاع العام وتوسيعها في بعض الحالات مثلا: - السكة حديد- إعادة تأهيل. - مشروع الجزيرة-إعادة تأهيل. - مصانع السكر-إعادة تأهيل. - مصانع الأسمنت- إعادة تأهيل وتوسيع. - مصانع النسيج- إعادة تأهيل. وبالنسبة للقطاع الخاص فقد وضعت الحكومة الديمقراطية قانونا جديدا لتشجيع الإستثمار بعد استشارة كل الأطراف المعنية، ولكن لوحظ بطء الإستثمار في هذا المجال وعدم الإستجابة الكافية إلا في مجال إنتاج عباد الشمس والذرة والمطاحن الخالطة للذرة والقمح بنسبة 50% لكل في الخبز. ويمكن رد عدم الإستجابة بالقدر الكافي لوجود طاقة إنتاجية كبيرة معطلة بسبب عدم توافر المدخلات بالقدر الكافي إضافة إلى انصراف كثير من الأموال الخاصة ومؤسسات التمويل -لا سيما التي سمت نفسها إسلامية لتمويل نشاط تجاري طفيلي يعود لأصحابه بعائد كبير، فلماذا يلجأ أصحاب الأموال للإستثمار الحقيقي ما دامت أموالهم تتمدد عن طريق قصير؟ وطريق قصير آخر ساهمت فيه البنوك الخاصة أيضا وهو الإتجار في الدولار. فما دامت أسعاره مرتفعة بإستمرار فهذا يتيح لها أرباحا مضمونة من المتاجرة فيه. لقد تم وضع قانون الإستثمار مما سّهل الإجراءات وشجع على الإستثمار ولكنه لن يحقق مقاصده ما لم تزل أسباب التشويه الحالية في الإقتصاد السوداني باحتواء التضخم وقفل أبواب الأنشطة الطفيلية وإلا إذا دعمت الثقة في إستقرار السودان وأزيل هاجس العدوان على أموال الناس وحقوقهم باحترام سيادة القانون. المشكل الخامس: توقف التنمية: إن إفلاس الإقتصاد السوداني من أواخر عهد مايو وانقطاع علاقة ذلك النظام بالعالم العربي والغربي بسبب السياسات التي عزلته هذه العوامل أدت إلى توقف مشروعات التنمية بالسودان. ومنذ قيام الحكومة الديمقراطية فإنها دخلت في نشاط تنموي كبير بلغ تمويله من المصادر العربية والغربية 3 بليون دولار. برنامج خلاصته: 1. إعادة تأهيل المشروعات الزراعية والمصانع. 2. رصف عدد كبير من الطرق: كوستي-الأبيض، الأبيض –الدبيبات،الطريق الدائري للجبال الشرقية، طريق سنجة- الدمازين، طريق خشم القربة. إعادة تأهيل طريق بورتسودان وطريق النيل الأبيض وطريق الدبيبات الدلنج ورصف طريق الدلنج –كادوقلي بأطوال تزيد على ما تم رصفه في 16 عاما من عهد مايو. وتم إنشاء الكباري الآتية: كبري سنجة،كبري السنجكاية، كبري الجنينة. وتم إنشاء المطارات الآتية: بورتسودان (كمطار عالمي) الفاشر نيالا- الجنينة-دنقلا(كمطار عالمي) الدمازين، كادوقلي. وفي مجال الكهرباء :تم التوجه لدعم كهربة المدن والريف على النحو الآتي: إقامة خط النيل الأبيض البديل الذي يكهرب النيل الأبيض شرقا وغربا من الرنك إلى القطينة، ضمن الشبكة الشرقية للشبكة القومية، إدخال التوربين السابع بخزان الروصيرص.. بدأ تنفيذ مشروع الخط الدائري بالخرطوم الذي كان سيحل مشكلة توزيع الكهرباء التي تعاني منها العاصمة وكهرباء الأبيض والقضارف والنهود. مشروعات المياه الحضرية والريفية: مياه العاصمة القومية،مياه الأبيض- مياه النهود، برنامج مكثف للمياه الريفية، مشروع اليونسيف للآبار السطحية بكردفان ودارفور والإقليم الأوسط ويشمل الآف الآبار ومياه الفاشر وبورتسودان. مشروعات التخزين: الصوامع المتحركة ،صومعة الخرطوم بحري الجديدة، صومعة الدبيبات تجربة المطامير الموسعة(البنك الزراعي) وقد ثبت نجاحها كنمط ناجح للتكنولوجيا الوسيطة، والتوسع في التخزين الاستثماري الخاص. لترشيد التنمية وضعت الحكومة البرنامج الرباعي للإنقاذ وإعادة التأهيل والتنمية. عرضت الحكومة هذا البرنامج على المجلس القومي للتخطيط الإقتصادي الذي كونته وأشركت فيه الأحزاب السياسية والنقابات والجامعات والمفكرين والعلماء ورجال الأعمال وأقامت معه أجهزة متخصصة. استعرض المجلس القومي للتخطيط الإقتصادي البرنامج الرباعي وبعد اقتراح تعديلات معينة أجازه وقرر أن يكون برنامج إعادة التعمير لما أتلفه موسم أمطار 1988م وما أتلفته الحرب في الجنوب ملحقين بالبرنامج الرباعي 1988م وخلاصته هي: استثمار 15 بليون جنيه سوداني على مدى البرنامج. تحقيق متوسط نمو 5% في السنة. وكان متوقعا أن يعرض البرنامج على ممولي نادي باريس وممولي الأسرة العربية لتحديد حجم مساهمتهم في الإستثمار ووضعت الحكومة برنامج تحت الإنتظار إذا وجدت مصادر التمويل- محددة أولويات مشروعات البنية الأساسية المطلوبة- للسودان وأهمها مشروعات أساسية: 1- طريق الجيلي- شندي –عطبرة-هيا- شمالا. 2- طريق الأبيض –النهود-أم كدادة-الفاشر-غربا. 3- طريق الجبلين-الرنك-ملكال-جنوبا. 4- تعلية خزان الروصيرص. 5- تشييد خزان ستيت. 6- تشييد خزان الحماداب. وفي مطلع عام 1989م عقدت الصناديق المالية العربية بقيادة وزراء المال في الدول الشقيقة بمبادرة من المملكة العربية السعودية اجتماعا استثنائيا في دولة الكويت لبحث وسائل دعم التنمية في السودان وحضر الإجتماع د.عمر نورالدائم وزير المالية حيث انبثقت عن الإجتماع لجنة للمتابعة واجتمعت اللجنة في الخرطوم في يونيو 1989م إلا أن وقوع الإنقلاب أوقف هذا المسعى. المشكل السادس: الدين الخارجي: بعد أن بطش نظام النميري بالحزب الشيوعي السوداني في عام 1971م حظي بشهر عسل مع البلاد الغربية.فأتيحت له فرص إقتراض من دول ومؤسسات غربية بحجم كبير ولأسباب سياسية. لم تراع تلك الدول والمؤسسات ضوابط الجدوى المعهودة في مثل هذه الحالات. ومنذ عام 1974م تراكمت رصائد البترودولارات لدى البنوك الغربية وكان من بين قراراتها للإستفادة من هذه الرصائد أن تعمل على تدويرها.وأدت سياسية التدوير هذه لإقراض عدد كبير من الدول حيث اقترض السودان بدوره يومئذ من 155مصرفا. هذه القروض لم تراع الضوابط التجارية المعهودة بل كان أكثرها تنقصه الوثائق القانونية المطلوبة. وأزعج النظام المايوي الأشقاء العرب بالسؤال حتى كان هم الوزراء السودانيين السفر للعواصم العربية المعنية وطلب القروض والمنح فانهالت على السودان أيضا قروض عربية. هكذا تراكم على السودان قروض حجمها 10بليون دولار تزيدها الفوائد "المستحقة"عليها حوالي بليون دولار كل عام.وهذه واحدة من أسوأ تركات النظام المايوي.تراكمت هذه الديون بزياداتها السنوية حتى بلغت 14 بليون وسوف تتضخم هذه الديون بحوالي بليون دولار كل عام إلى أن يتم وضع حد لهذه الدوامة. والغريب أن في أواخر عهد مايو اتضح أن الحكومة لا تملك إحصاء لهذه الديون فأستاجرت شركة متخصصة لإحصاء الديون المستحقة عليها من مصادرها! وبمجئ الحكومة المنتخبة اطلعنا على رواية التفريط والفساد هذه، فرأينا مراجعة الأمر.فعين النائب العام لجنة متخصصة قامت بالمراجعة. فوجدت أن كثيرا من تلك الديون غير موثقة. لقد تم دراسة مسألة الدين الخارجي وتم الإقتناع بأنه إضافة إلى تفريط نظام الإنقلاب المايوي إلا أن المسؤولية أيضا مشتركة :بين حكومة غير مسؤولة وحكومات صديقة تساهلت معها لأغراض سياسية، وبنوك أعمتها سياسية التدوير عن مراعاة الضوابط التجارية. وأصبح الرأي أن البلاد لا تستطيع تحمل هذا الدين وأعباءه، وأن الحكومة سوف لن توليه الأولوية على التنمية أو معاش الشعب السوداني وأن هذا الدين هو إجبار النظام الديمقراطي على دفع ثمن حماقات الدكتاتورية. لذلك تم اقتراح الآتي: 1- الإعتراف بأن المسؤولية عن هذا الدين مشتركة بين ثلاثة أطراف. 2- أن بعض البلاد الفقيرة والتي طالتها ظروف قاهرة طبيعية مثل الجفاف والتصحر ليس بوسعها مواجهة أعباء هذا الدين. لذلك ينبغي أن تجد معاملة خاصة للتخلص من ربقة الدين وذلك عن طريق إعفائه. 3- إيجاد وسيلة ما، لحماية البنوك التجارية من سلبيات آثار الإعفاء. 4- إرتباط الإعفاء بجدية البلاد المعنية إزاء قضية التنمية، وأن تُرفد دعما وتشجيعا في طريق التنمية. 5- وجود الدين بإسم هذه البلدان يحرمها من أي تسهيلات مالية أو تجارية أو مصرفية. بل يجعلها تعامل كبلاد مفلسة لذلك يجب الإسراع لحسم الموقف. 6- إن السودان، رغم عدم شرعية النظام الذي اقترض بإسمه مما يدل على بطلان أفعاله، لا يريد أن يقرر بشأن الموضوع منفردا ويرى أن يعقد مؤتمر دولي لتداول الأمر، واتخاذ قرار بشأنه.نشرت هذه الآراء على أوسع نطاق وكان لها أثر إيجابي في كثير من الأوساط. وقد ناظر بها السيد الصادق المهدي عددا من الساسة والمفكرين والصحافيين من أمريكا وأوروبا أمام إتحاد جامعة اكسفورد في فبراير 1987م وانقسم الرأي لصالحنا بنيل 75% من أصوات الحاضرين.واستجاب عدد من البلاد فبادرت مشكورة بإعفاء دينها على السودان. وقبِلها المؤتمر الخاص الذي عقدته منظمة الوحدة الأفريقية في ديسمبر 1987م وأصدر قرارات مشابهة لها. إن الخطة القومية التي وضعها السودان للتخلص من هذه التركة المايوية المثقلة والتي صارت خطة لجميع أفريقيا والتي وجدت تجاوبا كبيرا هي الوسيلة الأمثل للتعامل مع هذه التركة ،حيث أنه: 1- لاسبيل للإلتزام بهذا الدين. 2- لا مصلحة في الإنفراد باتخاذ قرار بشأنه. 3- لا مفر من إطار دولي لدراسة واختراع علاج للمشكلة وفق مقترحات السودان. 4- الإسراع في إيجاد الحل لأن السودان يعامل كبلد مفلس مما يحرمه من التسهيلات المتاحة في السوق العالمي. المشكل السابع: تغريب الثروة: لم يعرف السودان قبل عام 1969م مفهوم تغريب الثروة. ولكن لطائفة من الأسباب ذكرناها في محلها اغترب قرابة مليوني سوداني حيث صار وجودهم الإقتصادي خارج السودان وكونوا مدخرات بقيت بدورها في حسابات خارجية. بعد عام 1974م ظهر في السودان ما يشبه حركة الإنفتاح في مصر على عهد السادات، فاقترضت الحكومة السودانية مبالغ طائلة وصرفتها بطرق غير منضبطة، فانتفع بذلك عدد من محاسيب النظام. هؤلاء هرَبوا الجزء الأكبر مما حصلوا عليه من أموال عن طريق ما سرقوه عبر المقاولات والقروض التي أقرضهم إياها القطاع العام، فحولوها إلى دولارات وتم تهريبها إثر ذلك. وتفنن الناس في وسائل تغريب الثروة: فتارة يهربونها عبر فواتير إستيراد بأسعار زائدة عن الحقيقة Over invoicing وتارة أخرى يهربونها بفواتير تصدير ناقصة عن الحقيقة Under invoicing .لقد أقدم نظام مايو على تأميمات ومصادرات عشوائية- نفذت بطريقة هوجاء، فأفزعت أصحاب الأموال. وبقي الخوف قائما حتى عندما أعيدت لهم ممتلكاتهم، خاسرة ومخرَبة .فترسب انطباع عام بالإستخفاف بحرمة المال.فبحث أكثرهم وسائل يتم بها تهريب ما لديهم من أموال خارج السودان.وبعضهم باع أملاكه التي أعيدت وهرب قيمتها للخارج عن طريق شراء الدولارات. هنالك أرصدة حولّها بعض رجال النظام المايوي أنفسهم في تعاون مع المشاهير أمثال عدنان خاشقجي أو بحجة حماية "الثورة" عند اللزوم. لقد اختلفت تقديرات أموال السودانيين بالخارج ولكن بعد دراسة الأمر يمكن القول أنها لا تقل عن 20 بليون دولار. ويدل على هذا الحجم الكبير حجم الإستثمارات والنشاط التجاري السوداني في الخارج. حجم مشتروات السودانيين من عقارات من الخارج لا سيما في بريطانيا ومصر وحجم المبالغ التي يصرفها السودانيون على تعليم أبنائهم وبناتهم (غير المبعوثين عن طريق بعثات رسمية) وقد قدر المبلغ ب120 مليون دولار سنويا، إضافة إلى ما يصرفه السودانيون في الخارج على السياحة والعلاج بغير طريق التحويلات الرسمية. ففي عام واحد (1987م) زار بريطانيا أربعون ألف سوداني .يقدر ماصرفوه من مبالغ بحوالي (80-100)مليون دولار. لقد أدركت الحكومة المنتخبة أن هذه الثروة المغربة، يمكن أن تكون أكبر مصدر للعملة الصعبة للسودان ،إذا أمكن ربطها بالإقتصاد الوطني ،وتحويل ما يراد تحويله منها عبر القنوات الرسمية.فإن حدث ذلك، لكان تدفقها ما بين بليون إلى بليوني دولار سنويا. لقد اجتمعت الحكومة بالمغترب السوداني ووضعت برنامجا مفصلا لحل مشاكله في دار اغترابه ولحل مشاكله حال عودته إلى الوطن في إجازة أو عودة دائمة. إضافة إلى حل مشاكله القنصلية ومشاكل تعليم أبناء المغتربين وأقامت لهم مجتمعا تحكمه إدارة عامة مع تمثيل لكل الإدارات من الوزارات المختلفة التي يقصدها المغتربون بل أنشئت وزارة خاصة بالمغتربين على رأسها وزير دولة. وكان همّ الحكومة، عبر الوفود المرسلة لأماكن المغتربين، وعبر المؤتمرات التي أقيمت، أن يتم التفاهم الكامل بين الحكومة والمغتربين ويجدوا الرعاية الكاملة كمواطنين. هذه السياسة هي الصحيحة ومواصلتها ضرورة ولكنها لم تنجح في إقناع المغتربين باستخدام القنوات الرسمية لتحويلاتهم فظل حجم التحويل الرسمي لا يزيد عن 200مليون دولار في العام. إن أكثر الأسباب التي حالت دون بلوغ الهدف المنشود هو وجود سوق سوداء للدولار يمنح المغترب سعرا يفوق ما تمنحه الحكومة بما فيه السعر التشجيعي. إن الأدوات التي أفشلت خطة الحكومة في هذا المجال هي: 1- وجود سوق سوداء تمنح الدولار قيمة أعلى من القيمة الرسمية التشجيعية. 2- وجود مؤسسات داخل السودان وخارجه ذات ترخيص للعمل المصرفي القانوني ولكنها في واقع الأمر معولة على تجارة الدولار. 3- قيام جهاز كامل بوثائقه وقنواته داخل وخارج السودان يسهل لأصحاب الدولارات طلباتهم عن طريق قنوات غير قانونية. إنه نظام إجرام منظم يفوق أو يضارع المافيا في أدق صورها. هذا الوضع جعل لأصحاب الأموال المغتربة مصلحة في الهبوط المستمر بقيمة الجنيه السوداني لأن في ذلك زيادة مستمرة في قيمة أموالهم .إنه كسب دون جهد مبذول. لقد أقامت الحكومة أجهزة لردع هذه الممارسات ولكنها ظلت وستظل متمردة على كل إجراء إلا إذا حدث أمران هما: 1- تمكن الإقتصاد السوداني عن طريق إزالة العجز والإدارة الإقتصادية السليمة أن يثبت قيمة الجنيه السوداني ويجعلها مستقرة. 2- أن يستطاع خلق الثقة في الإقتصاد السوداني ليهرع أصحاب الأموال إلى الإستثمار فيه. فإذا فاتنا ذلك،فإن أصحاب الأموال المغتربة سيحفظون أموالهم بالدولار ولا يحولون منها إلا قدر الحاجة الماسة عن طريق السوق الأسود. هذا معناه أن الإقتصاد السوداني المغترب سوف يستمر في استنزاف الإقتصاد الوطني إلى ماشاء الله. المشكل الثامن: إنهيار الخدمات الأساسية: التعليم: وجدت الحكومة التعليم في السودان بحالة رثة. فوضعت برامج لإصلاحه ودعت إلى مؤتمر لبحث قضايا التربية والتعليم وتقديم توصيات للإصلاح. انعقد المؤتمر في مارس 1987م. وبعد دراسة المشاكل المختلفة قدمت توصيات أهمها: 1- ضرورة التخطيط للتربية والتعليم من كل المراحل للقضاء على ظاهرة الفاقد التربوي ولربط التعليم بحاجة البلاد الفعلية. 2- العدول عن النسبة العالية للتعليم الأكاديمي بالمقارنة بالتعليم الفني. النسبة القائمة هي :85% للأكاديمي و15% للفني. وحققت التوصية بقلب هذه النسبة لصالح التعليم الفني. 3- الإهتمام بالكتاب المدرسي وتحضير الأعداد الكافية منه، ومراجعة المناهج مراجعة جذرية. 4- الإهتمام بتدريب المعلمين في كل المراحل. باعتبارهم آباء الأجيال، وتحسين شروط خدمتهم الطاردة. 5- الإهتمام بتأصيل التعليم في البرامج التعليمية وبالتربية الدينية والوطنية. 6- الإهتمام بالأنشطة الإضافية كالرياضة والمكتبات والأنشطة الأدبية والإجتماعية ..الخ. 7- صيانة مؤسسات التعليم، وتكملة النقص في أدوات الكتابة والجلوس والتدريس والمعامل. هذه التوصيات وجدت القبول منا وشرعت وزارة التربية والتعليم في التنفيذ تحت مسؤولية السيد بكري عديل وقد تحقق الآتي: 1- تحسين شروط خدمة المعلمين في كل المستويات. 2- إعادة تنشيط مؤسسات تدريب المعلمين مثل كلية بخت الرضا. 3- وضع برنامج صيانة شامل لكل مؤسسات التعليم. 4- تكوين لجنة قومية لاستقطاب المال لصيانة المدراس. وقد نظمت حملات واسعة لهذا الغرض جمعت مبالغ كبيرة. 5- الدعوة لمؤتمر مؤهل لمراجعة المناهج على أساس تحقيق إصلاح جذري فيها يراعي الأصالة والمعاصرة واحتياجات السودان. وبدأ العمل في هذا الجهد التأسيسي وكون رئيس الوزراء لجنة قومية عالية التأهيل برئاسة د.الشيخ محجوب جعفر قامت بعمل شامل لإصلاح التعليم العالي. ورمت خطة الإصلاح التعليمي التي قررتها الحكومة للتعليم العام والفني والعالي الى الآتي: 1- الإلتزام بالتأهيل في حقل التعليم والسعي لتحقيقه. 2- زيادة نسبة التعليم الفني والمهني لتفوق نسبة الأكاديمي. 3- ربط التعليم بحاجة البلاد التنموية من كل مراحله. 4- البحث عن موارد إضافية: شعبية وخارجية لدعم ميزانيات التعليم. 5- تخطيط التعليم في كل مراحله واخضاع التعليم الأجنب والخاص للخطة الموحدة. 6- التنسيق بين مجالي التعليم العام والتعليم العالي. التعليم العالي: في سبتمبر 1986م تم تعيين اللجنة القومية المذكورة وحددت لها المشكل التي يعاني منها التعليم العالي وطلب منها السيد رئيس الوزراء دراسة وتقديم توصيات محددة لعلاجها فدرست اللجنة مشاكل التعليم العالي ودعت لعدد من المؤتمرات التداولية ثم قدمت توصيات خلاصتها: 1- تأصيل مناهج التعليم العالي كيلا يكون أداة للتغريب. 2- إيقاف التوسع الأفقي واعتماد التوسع من قاعدة البنيات الحالية (كأن توظف المبان لفصلين في اليوم أو لعامين دراسيين من العام الشمسي) إعطاء مؤسسات التعليم العالي الحالية طابعا قوميا-مثلا- بتوزيع كليات الجامعات على أقاليم السودان المختلفة. 3- تقديم التعليم المهني والفني على الأكاديمي. 4- توحيد هيكل التعليم العالي الإسلامي. 5- ترشيد البعثات الخارجية،ثم الإستغناء عنها للمرحلة الجامعية. ذلك أن السودانيين يصرفون حوالي 120 مليون دولار سنويا على تعليم جامعي عادي لأبنائهم في الخارج فإن أمكن جذب هذه الأموال لتوسيع فرص التعليم العالي لكان مفيدا للوطن ولهم. 6- تحقيق التجانس مع خطة التعليم العام والفني. 7- توسيع قنوات تمويل التعليم العالي عن طريق إنشاء مؤسسات إستثمارية وأنشطة تجارية. 8- ترشيد مصاريف الإعاشة في مؤسسات التعليم العالي-مثلا- بإنشاء كافتريا مدعومة للطعام وتسهيل السكن المدعوم وصرف النظر عن الداخلية الكاملة لصرف المال على أولويات أخرى. 9- التنسيق الشامل بين التعليم العالي والتدريب والبحث العلمي. تم دراسة وقبول هذه التوصيات ثم شرع في تنفيذها. لقد كانت مؤسسات التعليم العالي ومبانيه وأثاثاته ومكاتبه ومعامله ومكتباته وملاعبه كلها في حالة رثه للغاية لذلك تم تكليف الجهات المعنية بوضع برامج شاملة لإعادة التأهيل. ولدى زيارة السيد رئيس الوزراء للبنك الدولي ناقش مع رئيسه خطة يمولها البنك لإعادة تأهيل مؤسسات التعليم العالي، فوافق وانتدب لجنة فنية لدارسة الأمر في السودان ،وقد وضع البرنامج ويشارك في تمويله البنك الدولي واليونسكو مع ما تخصص الحكومة من اعتمادات لإعادة التأهيل. وتم إخراج البحث العلمي من قصره العاجي بتكوين مجلس تنسيقي للتعليم العالي والبحث العلمي. وسبق أن قدم طلب إلى المجلس القومي للبحوث أن يقدم خطة قومية للبحث العلمي في السودان، بحيث تلبي حاجة البحث العلمي في السودان في جميع المرافق وتلتزم بها جميع وحدات البحث العلمي في المصالح والجامعات. وتم تقديم الخطة المقترحة وتمت دراستها في مؤتمر تداولي وتم إجراء بعض التعديلات فيها، وانتهي هذا المجهود إلى مشروع خطة قومية للبحث العلمي. ستوجه الدعوة لمؤتمر موسع تحضره الأسرة العلمية السوانية لاتخاذ قرار بشأنها. لقد كان عمل المجلس القومي للبحوث منطلقا من غير استرشاد بخطة محددة توضح الأولويات المناسبة للسودان ومن غير تنسيق مع التدريب والتعليم العالي فتم وضع حد لهذا. الصحة: لقد تردت حالة الخدمات الطبية في السودان لدرجة بالغة. فورثنا من النظام المايوي مستشفيات حضرية في المدن ومستشفيات ريفية أهملت حكومة النظام المايوي صيانتها وتأهيلها مع أن مستواها قبل عام 1969م كان حسنا. أهم ما قامت به الحكومة المنتخبة في شأن الخدمات الصحية: 1. وضع برنامج لإعادة تأهيل المستشفيات الحضرية الكبيرة واستقطاب عون منظمة الصحة العالمية واليونسيف للمساهمة في ذلك وتشجيع مجهودات إعادة التأهيل التي قامت بها اللجان القومية مثل مجهود إعادة تأهيل مستشفي امدرمان التعليمي بقيادة د.موسى عبدالله حامد وزملائه. 2. وضع برنامج شامل لإعادة تأهيل المستشفيات الريفية وعددها 170 مستشفى أمكن إعادة تأهيل نصفها وكان العمل سائرا في نصفها الباقي إضافة إلى ما قام بها الأخوة الأردنيين لتأهيل مستشفى كاس. 3. دعم برامج الطب الوقائي -لا سيّما مشروع اليونسيف السوداني لتحصين أطفال السودان ضد انتشار أوبئة مستوطنة. نفذ هذا البرنامج في السودان بمستوى عال فاق مثيلاته في الدول الأخرى. وفي هذا الصدد لا بد من كلمة تقدير لممثل اليونسيف في السودان مستر دوتش كول ونائبته جين كاميل (زوجة السفير البريطاني) فقد كانا يعملان بروح التضحية والتفاني، وقد ذلل لهما السيد رئيس الوزراء ووزير الصحة كل العقبات أمام البرنامج الإنساني الصحي لإنقاذ أطفال السودان.الطريقة المثلى التي نفذ بها مشروع اليونسيف في السودان تعتبر نموذجا مرجعيا. لقد تقدم إصلاح الخدمات الطبية في عهد الديمقراطية خطوات ملموسة. وكان السيد رئيس الوزراء ووزير الصحة د.عبدالرحمن أبوالكل، يزمعان الدعوة لمؤتمر صحي ليطلع على برامجنا إضافة إلى القضايا المختلفة ثم يقترح خطة قومية صحية كي تكون دليلا للإصلاح الصحي في السودان ووسيلة لاستقطاب التعاون الدولي مع بلادنا في الحقل الصحي. التعليم والتدريب الصحي في البلاد يتطلبان الدعوة لمؤتمر يهتم بأمريهما و الدعوة لمثل هذا المؤتمر لا مناص من الشروع فيها عندما يسترد السودان حريته. الإسكان: إن للعاصمة القومية كما للمدن السودانية الأخرى، خطة سكنية وضعت قبل عشرين عاما. أخفقت هذه الخطط تماما في الحقبة الماضية لعدة أسباب: 1. ازدحام عدد من المدن لا سيما العاصمة بالسكن (العشوائي). 2. انحراف بعض المنتفعين الذين حولوا ما خصص لهم من قطع لأغراض مختلفة جريا وراء الكسب. 3. التدخلات السياسية لا سيما على عهد مايو الذي كان يقرر ما يشاء دون حساب. لقد كانت خلاصة البرنامج الموضوع في هذا الصدد: 1. إعادة النظر في الخطط السكنية ووضع خطط جديدة تأخذ في الحسبان المستجدات والواقع الجديد. 2. استيعاب المحتاجين لسكن اضطراري في مناطق مخططة لهم تقدم فيها الخدمات الضرورية وتوزع فيها قطع سكنية لهؤلاء. 3. وضع برنامج للسكن القطاعي بحيث تعمل الشرائح المختلفة مع الدولة في تسهيل سكن أعضائها –مثلا: 1. لقطاع العمال بالتعاون مع نقاباتهم. 2. للمهنيين بالتعاون مع نقاباتهم. 3. للقوات النظامية بالتعاون مع قياداتها. 4. التوسع في السكن الإستثماري لكل الدرجات. 5. التوسع في المساكن الشعبية. تم تنفيذ جزء من هذا البرنامج وتبقى الجزء الآخر تحت الدراسة. ولا يرجى لأزمة السكن حلا فوريا دون اتباع هذا الطريق. المياه: وجدت الحكومة المنتخبة حالة خدمات المياه في المدن والريف بالغة السوء. حسب تقدير عدد سكانها في عام 1983م، قدر احتياج العاصمة القومية للمياه ب 750ألف متر مكعب يوميا. لكن طاقة إنتاج المياه في العاصمة هي فقط 250 الف متر مكعب في اليوم، ومعلوم إن حجم سكان العاصمة قد ازداد لأكثر من الضعف فيما بين 1983م و1988م إضافة إلى الزيادة الطبيعية التي نتجت بسبب النازحين واللاجئين. لذلك وضعت الحكومة الديمقراطية برنامجا لمياه العاصمة وشرعت في تنفيذه على النحو الآتي: - إعادة تأهيل وتوسيع محطة المقرن التي تضخ 72ألف م.م لتضخ 90 ألف م.م في اليوم. - تأهيل محطة بحري التي تضخ 36 الف م.م لتضخ 180الف م.م - محطة الخرطوم الجديدة قيد الإنشاء لتضخ 300الف م.م في اليوم. - محطة القماير (الجديدة) قيد الإنشاء لتضخ 36الف م.م في اليوم. كما تم وضع برنامج شامل لتحديث كل شبكات توزيع المياه في جميع أنحاء العاصمة القومية ولقد قطع التنفيذ شوطا. ولعل أكبر مشروع لمياه المدن تم وضعه هو مشروع مياه بوتسودان الذي تبلغ تكلفته 310 مليون دولار.وذلك لحسم ظاهرة شح المياه بتلك المنطقة وقد شارك في تمويله البنك الدولي والصناديق العربية وبنك التنمية الأفريقي وألمانيا الإتحادية. ومشروع مياه الأبيض مدها من بارا الذي تنفذه شركات يوغسلافية تنفيذا للبرتوكول اليوغسلافي وتم توسعة مياه الفاشر بهدف تزويد الفاشر بمياه مضمونة ،إضافة إلى مياه النهود. ووضعت الحكومة الديمقراطية برنامجا موسعا للمياه الريفية بإشراف د.آدم مادبو من آبار جوفية وحفائر وآبار سطحية، بما يبلغ آلاف الوحدات المائية في كل البلاد كما تم وضع برنامج لإعادة تأهيل الحفائر والآبار القائمة التي تحتاج لتطهير وتجويف مع احتياج الآبار لإصلاح آلات الضخ وتأمين الوقود. الكهرباء: تبلغ حاجة السودان حاليا للكهرباء ما مقداره 500 ميقاواط تكفي المولدات الحالية من مصادر كهرومائية وحرارية لسد حاجة البلاد من الكهرباء ولكنها غير مأمونة لأن ظروف تدفق مياه النيل ربما أعاقت الإنتاج. - ولزيادة إنتاج الكهرباء في البلاد، فقد أُقدم على مشروع لإنتاج ثلاثمائة ميقاوات تصدرها أثيوبيا للسودان بعد ربط شبكة البلدين. وقد تمت دراسة المشروع حيث أبدى البنك الدولي استعداده لتمويله. - هنالك مشروع خزان الحماداب ومن المنتظر توليده لألف ميقاوات. - مشروع استيراد الكهرباء من زائير عبر شبكة دولية تمر من زائير فالسودان ثم مصر لتوصيل الكهرباء من شلالات جنجا. - تم إدخال كسلا والقضارف وخشم القربة في الشبكة القومية. - تم تمويل وبدأ العمل في إقامة مشروع كهربة النيل الأبيض، إذ سيمكن من كهربة مدن وريف النيل الأبيض من الرنك إلى القطينة. يتيح المشروع الذي تم تمويله من البرتوكول اليوغسلافي الري المستديم لمليون فدان على ضفتي النيل الأبيض مما يجعله أكبر بستان في السودان. - وأقيم في الجزيرة ابا معدا للتعليم الفني على نمط جديد يؤهل الطلبة فنيا ودينيا ويكون أساسا لتدريب الكوادر المطلوبة لنهضة النيل الأبيض المرتبطة بالكهرباء وتم وضع مشروع لتطوير الجزيرة أبا كنموذج للعمل الزراعي المكثف المقترن بصناعات خفيفة ليعمم في مناطق النيل الأبيض الأخرى كي تلعب الجزيرة أبا دورا رائدا مثلما لعبته في الماضي عندما كانت النموذج الذي قامت عليه مشاريع إنتاج القطن الخاصة. - وأهم مشروع توزيع للكهرباء الحضرية هو مشروع الخط الدائري في العاصمة وهو خط يدور حول العاصمة بضغط كهربائي عال ويمد الشبكات الفرعية بهدف حل مشكلة توزيع الكهرباء في العاصمة القومية وقد مولته دولة الكويت بما قيمته 42 مليون دولار وقطع العمل فيه شوطا بعيدا. الإتصالات السلكية واللاسلكية: كانت هذه الخدمات منهارة تماما وقد تم وضع برنامج لإعادة تأهيلها ولإنشاء إضافات تلحقها كالآتي: - كبانية الخرطوم جنوب والعمارات والديم وهذه تم إنشاؤها. - البرمجة لكبانية جديدة لأمدرمان وأخرى جديدة للخرطوم بحري. - إنشاء جهاز إتصال لاسلكي هاتفي شامل لمشروع الجزيرة والمناقل مولته اليابان بما قيمته 35مليون دولار. - إقامة إتصال هاتفي بالراديو لربط مدن كردفان ودارفور ولربط الإقليمين ببعضهما وبالعاصمة وكان هذا سيتم تنفيذه ضمن البروتكول التركي. - إعادة تأهيل محطات الأقمار الصناعية وعددها 14 موزعة على 14 من مدن السودان بحيث تكون ثلاث محطات بالجنوب ومثلها بكردفان ومحطتين في كل من أقاليم دارفور والأوسط والشمالي والشرقي. هذا البرنامج سوف يربط هذه المدن لاسلكيا ويربطها بالعاصمة القومية من بعد. الخدمات الأمنية : كان جعفر نميري يناصب الشرطة العداء ومنذ سقوطه بدأت الشرطة تسترد مكانتها ووضعت الحكومة المنتخبة برامج إعادة تأهيل القوات النظامية المختلفة كالشرطة والسجون والمطافئ وحرس الصيد.لقد استطاعت الحكومة الديمقراطية تحسين شروط خدمة ومعاشات الشرطة وتزويدها بالمركبات وأدوات الإتصال اللاسلكي كما تم تسليحها وقد خصص جزء من البرتوكول اليوغسلافي لسد حاجة الشرطة من هذه الأشياء.وكانت الشرطة العاصمية عاجزة عن ملاحقة الجريمة فبدأ مشروع شامل لتأهيلها وأشرف السيد أبوشامة على وضع سيارة مزودة بأدوات الإتصال اللاسلكي وبطاقم شرطي على استعداد في كل أنحاء العاصمة.بلغ عدد هذه السيارات أكثر من أربعمائة سيارة ساهمت بفاعلية في أمن العاصمة كذلك دعمت شرطة الأقاليم لا سيما في كردفان ودارفور. ولعبت الشرطة دورا أساسيا في الأمن هناك، بل كان أداء شرطة الطوارئ في معارك ضواحي كادوقلي متفوقا جدا. لقد بلغت المرحلة الأولى والثانية من خطة تأهيل الشرطة 160 مليون جنيه تم تنفيذها بالكامل قبل يونيو 1989م ورصدت المبالغ في ميزانية 89/90 للمراحل الأخرى. الفصل الخامس: التموين والمعيشة
لم يعرف السودان المشاكل التموينية قبل 1969م، إلا في ظروف الحرب العالمية الثانية(1940-1945م) ولكن فيما عدا تلك الظروف الشاذة التي وقعت فيها الحرب، معطلة سبل الإتصال والترحيل، فإن السودان كان يحظي بوضع تمويني سليم. كان إنتاجنا المحلي كافيا لسد حاجة المواطنين وكنا نصدر أكثر مما نستورد. مما أتاح لنا رصيدا من العملات الصعبة، فمول به كل حاجتنا من الواردات.و كانت التجارة الخارجية في السودان تقوم بها شركات خاصة فتصدر صادراتنا. وتعمل شركات خاصة أخرى في استيراد حاجة البلاد، وتقوم تجارة جملة بتوزيع السلع على تجارة التجزئة في البقالات والمتاجر المنتشرة في أحياء المدن والأرياف. هذا النظام كان يسير بكفاءة وكانت الحكومة تحتكر بعض الواردات مثل السكر والبترول وتوزعه ميدانيا عبر قنوات محددة وكانت البنوك القائمة في البلاد تمول تجارة التصدير والإستيراد والتجارة الداخلية. هذا النظام كان يعمل به قبل عام 1969م بكفاءة معقولة ولم تظهر مشكلة تموينية أبدا. بيد أن النظام المايوي انبري له فغيره تماما. فقام بتأميم التجارة- صادرها وواردها. وربط التوزيع الميداني بقنوات الإتحاد الإشتراكي، ليشتري بها الولاء السياسي من القاعدة الشعبية. وبذا مسخ نظام مايو التجارة السودانية، وجر البلاد إلى تجارة مشوهة، لم تخرج من أسرها بعد. ليس العيب في أصل التأميم. ولكن العيب في تأميم مرتجل تولى إدارة مؤسساته في معظم الأحيان جهلة لا هم لهم إلا الإنتفاع الذاتي. ومع أنهم استلموا المسؤوليات باسم الإشتراكية ومصلحة الجماعة، فقد قاموا بتحويل المؤسسات إلى مصالح شخصية ذاتية. فهموا الإشتراكية أنها تعني مصلحة أدعيائها فعاثوا في الأرض فسادا وحطموا النظام التجاري السوداني. فقد نشأت سبع مشاكل في مجال التموين في ظل مايو نستعرض فيما يلي كيفية مجابهتها، لحلها: المشكل الأول: الإضطراب السكاني آخر تعداد للسكان جرى في السودان في عام 1983م ولكن الرئيس المخلوع قرر عدم نشره لأن عدد سكان السودان جاء أقل مما أعلن على الناس وكان يباهي بكثرة السودانيين، فلما جاء التعداد أقل من الأعداد التي أعلنها تملكه الغضب! كان يقول بأن العدد هو 25 مليون وجاء التعداد محددا أن تعداد سكان السودان حوالي 21.6 مليون ومهما كانت قيمة تعداد 1983م، فإن حركة واسعة من الريف إلى المدن قد تمت، دفع إليها إهمال الريف وحالة الأمطار من الأعوام (78-1984م)، حيث كانت دون الوسط مما ألجأ كثيرا من سكان الريف إلى المدن. حتى أن نسبة زيادة سكان المدن الكبيرة في السودان صارت في الأعوام الأخيرة في عهد مايو 8 % في السنة. كانت أكثر المدن تضررا من هذه الزيادة الورمية في السكان هي العاصمة القومية. وفي عام الجفاف (83-1984م) ازدحمت العاصمة بعدد كبير من النازحين ،ثم كثر عدد النازحين إليها بعد عام 1986م، بسبب ظروف الأمن في الجنوب. لذلك قدرت معتمدية العاصمة سكانها في عام 1988م بعدد 7 مليون. مع أن تعدادها الذي قامت عليه المعادلة التموينية لا يزيد عن 3.5مليون.هذا الإضطراب في حقيقة عدد السكان، كان له أثره في عدم دقة الحصص التموينية الموزعة على الأقاليم المختلفة. لقد شرع في إجراء تعداد جديد لسكان السودان .ومن ثم تقرر وضع سياسة سكانية قومية، تحدد ماهو الوضع الأمثل بالنسبة للنمو السكاني، ولنسبة الحضر للريف، وما هو الهرم السكاني الأمثل، ماهو الكم والنوع الذي ينبغي أن يكون عليه سكان السودان.لقد وجهت تساؤلات محددة في هذا الصدد للمؤتمر السكاني الثالث الذي عقد في الخرطوم في تشرين الأول أكتوبر 1987م، وكونت لجنة قومية انبثقت في المؤتمر لوضع مشروع سياسة قومية مثلى للسكان في السودان. المطلوب تكملة التعداد السكاني الجديد ليتم الإستهداء به في التخطيط التمويني في البلاد كذلك المطلوب وضع خطة سكانية قومية لتحديد الوضع الأمثل لحجم ونوع سكان السودان. المشكل الثاني: اللاجئون لجأ إلى السودان عدد كبير من جيرانه من أثيوبيا ومن تشاد ويوغندا حتى بلغ العدد مليوني نسمة. هذا العدد الكبير انتشر في السودان في شرقه وغربه ووسطه وجنوبه دون وجود برنامج سوداني واضح نحوهم سوى كرم الضيافة المعهود في أهل السودان. ومنذ أن اتضح غياب سياسة محددة نحو اللاجئين تم تعيين لجنة قومية برئاسة البروفسير مدثر عبدالرحيم لدراسة المشكلة من كل أبعادها وآثارها السلبية على السودان.وما ينبغي عمله لمصلحة اللاجئين ولحماية مصالح السودان. عكفت اللجنة على دراسة الموقف ثم رفعت تقريرها وخلاصته: 1. ينبغي إجراء إحصاء دقيق للاجئين مع استخراج الأوراق الثبوتية وبطاقات الهوية حال تحركهم. 2. حصر إقامة اللاجئين داخل معسكرات في مناطق آمنة على مسافة معقولة (50كلم على الأقل من حدود دولهم( والحيلولة دون اختلاطهم بالمواطنين إلا في حدود معينة ومنع استقرارهم في المدن. 3. ضرورة تأدية اللاجئين لعمل إنتاجي مستمر أثناء الإقامة في السودان. 4. تشجيع اللاجئين للعودة الإختيارية لبلادهم. 5. استقطاب العون الدولي لا سيما من منظمة غوث اللاجئين لاحتواء آثار وجودهم السلبية على خطة البلاد التموينية وعلى بنياته الأساسية. 6. وضع برامج تساهم فيها الأمم المتحدة لتشجيع عودة اللاجئين إلى بلادهم عن طريق مساعدات تخصص لاستقرار العائدين في أوطانهم. لقد شرع في تنفيذ هذه التوصيات واستطاعت الحكومة الديمقراطية بتعاون الحكومة اليوغندية تنظيم عودة اللاجئين اليوغنديين ولكن لم يتم بعد حصر اللاجئين في معسكراتهم المعتمدة بل ما زالت أعدادا كبيرة منهم في المدن الكبيرة مثل كسلا-بورتسودان-الخرطوم ونيالا. هذا الوجود يؤثر سلبا على الموقف التمويني في السودان.وقد تفهمت هيئة غوث اللاجئين هذا الموقف والتزمت بمساعدة السودان على إحتواء آثاره السالبة: على اقتصاده وعلى تموينه. المشكل الثالث: النازحون كثر عدد النازحين في مناطق الجفاف إلى العاصمة القومية وبعض المدن الأخرى مثل نيالا –كوستى في عام 1984م. ثم جاء عدد كبير من النازحين من الجنوب بسبب ظروف الأمن إلى الشمال : إلى كردفان ودارفور والإقليم الأوسط والعاصمة القومية حتى بلغ عددهم مليوني نسمة في عام 1988م. ظاهرة النزوح هذه، من مواقع القتال في الجنوب إلى أقاليم الشمال، في حد ذاتها دليل على معان سياسية إيجابية لأن هؤلاء المواطنون لم يعتبروا الشماليين ولا العرب ولا المسلمين أعداءهم فبحثوا عن المأوى في جوارهم. وكان بعض الناس يرى في هذا النزوح تخطيطا سياسيا وعملا لخلق أطواق بشرية جنوبية في الشمال لا سيما العاصمة القومية.وروج هؤلاء لرأيهم حتى خلقوا فزعا وكادوا يبثون روحا عدائية في مناطق الشمال ضد هؤلاء النازحين حيثما استقروا، بيد أن السيد رئيس الوزراء -بعد استطلاع الحقائق وجد أن حالة هؤلاء النازحين من حيث الضعف والمشكلة، حالة استنجاد حقيقي ونفور من ظروف القتال.وأنهم أحق بالعطف والضيافة. وخاطب سيادته سكان المناطق التي اتجه إليها النازحون أن يحسنوا استقبالهم وضيافتهم كأخوة في الوطن منكوبين. وقامت الحكومة بإسعافهم غذائيا وعلاجيا وكونت لجنة قومية لدراسة أحوالهم. وأوصت اللجنة بأن يتم إحصاء عدد النازحين في المناطق المختلفة، وأن تكون لهم إدارات ذاتية وتعد لهم ترتيبات أمنية لإدارة شؤونهم ورعاية أمنهم وأن يعمل على مدهم بالإغاثة الغذائية اللازمة وبالخدمات الضرورية من صحة ومياه، إضافة إلى تحديد مناطق بعينها في أقاليم الشمال يتم ترحيلهم إليها توطئة لدخولهم في عمل إنتاجي، حيث يتم تزويدهم في تلك المناطق بالخدمات الضرورية. وفي تموز (يوليو)1987م اتصل السيد رئيس الوزراء بالأمين العام للأمم المتحدة وتحدث معه في موضوع النازحين حيث أوضح له أن مايريدون عمله بصددهم يفوق طاقة البلاد فلا مناص من مساعدة الأمم المتحدة. فأرسل الأمين العام مساعده للشؤون السياسية والخاصة السيد عبدالرحيم فرح للإطلاع على الأمر في السودان. وبعد اطلاعه على الحقائق، وما أعد من برنامج ،كلف السيد لامونتير ممثل اليونسيف في أفريقيا،وهو رجل نشط ذو مروءة وإلمام. فبنى على البرنامج المقدم، وقدم تقريرا للأمم المتحدة نوقش في الجمعية العمومية. فقررت الأمم المتحدة بالإجماع مساعدة السودان في هذا الأمر الإنساني الهام.وإلى أن يتم ترحيلهم ويشرع في تنفيذ البرنامج المعد لإغاثتهم فإن وجودهم حيث هم الآن يشكل ضغطا على الموارد التموينية في تلك المناطق. هنالك مشكلة أخرى سببت وسوف تسبب خللا تموينيا: ففي مشروع الجزيرة وفي المشروعات الزراعية الكبيرة مثل مشروع خشم القربة تم إيجاد فرص لاستخدام مواطنين في الزراعة وغيرها من أجل العمل وبالفعل تم استيعاب عدد كبير من عمال الزراعة والري والصناعة والحراسة والترحيل..الخ. إستقر هؤلاء المواطنون في معسكرات سميت "بكنابي" ولكن إدارات المشاريع التي استقروا فيها لم تخطط لهم ضمن مسؤولياتها كما لم تفعل إدارات الأقاليم التي تقع فيها تلك المشاريع. فلم يجدوا الخدمات الإجتماعية المستحقة في السكن أو التموين.هذه الثغرات قررت الحكومة سدها باعتماد حقهم في الخدمات الاجتماعية وتخصيص السكن لهم وإدخالهم في الخطة التموينية. المشكل الرابع: قنوات التوزيع في نظام الديكتاتورية الثانية، حاول النظام الربط بين التموين والولاء السياسي لذلك جعل لجان الإتحاد الإشتراكي والمجالس الشعبية قنوات للتوزيع.وأقيمت جمعيات تعاونية. في حقيقتها هذه القنوات درجت على الانتفاع بالمواد التموينية التي أشرفت على توزيعها ونشأت ثلاث قنوات لتوزيع المواد التموينية هي :بقالات الأحياء والجمعيات التعاونية ومواقع العمل. هذه القنوات لم تكن منضبطة ولا منسقة مع بعضها ولذلك ارتبطت بعلتين: 1. أن يحصل مواطن ما، على مواد تموينية من الثلاث قنوات. 2. أن يحول المشرفون على هذه القناة أو تلك بعض المواد لتباع في السوق الأسود حتى صار هذا السوق يمتص جزءا كبيرا من المواد التموينية. وضعت الحكومة الديمقراطية انضباطا مفاده الآتي: 1. توحيد قناة توزيع المواد التموينية. 2. ضبط التوزيع عن طريق بطاقات تموينية توزع على المواطنين ويدون فيها ما يشترون. 3. إعادة تحديد حصص العاصمة والأقاليم على أساس واقعي. 4. قيام لجان شعبية للرقابة. 5. الإسراع بتكوين المجالس المحلية على أساس ديمقراطي لتشرف على سير التموين. 6. إقامة جهاز مباحث تموين لضبط التوزيع ومراقبة الأسعار ومحاصرة السوق الأسود. أما ما يتعلق بقيام المجالس المحلية الديمقراطية فقد كون رئيس الوزراء لجنة قومية برئاسة د.الجزولي دفع الله تم تكليفها بدراسة الأمر وتقديم توصيات بشأنه، بما في ذلك مشروع قانون للحكم المحلي الديمقراطي.وقد أنجزت اللجنة مهامها بتقديم دراسة جيدة ومشروع قانون للحكم المحلي .حيث استعرضت الحكومة ذلك التقرير وأدخلت عليه بعض التعديلات ولكنها أجازته في جوهره. مشروع قانون الحكم المحلي المجاز: 1. تقسيم البلاد إلى 150 مجلسا محليا. 2. الإنتخاب المباشر أساس العضوية في هذه المجالس. 3. تحظى المجالس بشخصيتها الإعتبارية وتنتخب رؤساءها وتكون لجانها المتخصصة بالإنتخاب. 4. يشكل التنفيذيون جهازا تنفيذيا لهذه المجالس. 5. توكل مهمة التشريع في المسائل المحلية إلى المجالس. وعلى ضوء ذلك التقرير وضع قانون الحكم المحلي الذي أجيز بأمر مؤقت بعد تعثر سببه استئنافات المناطق المختلفة حول حدود المجالس وعددها. أما اللجان الشعبية فقد تعثرت كثيرا في الأقاليم بسبب خلافات حزبية حول تكوينها لا سيما بين حزبي الإتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية. أما إعادة تحديد حصص الأقاليم فقد تم بطريقة عادلة بالنسبة لكل الأقاليم ماعدا العاصمة القومية التي حال الإختلاف حول حقيقة عدد سكانها دون التخصيص العادل. أما مشروع بطاقات التموين فقد بدأ تنفيذه. كذلك قام جهاز مباحث التموين. إن إيجاد المطلوب للتموين من الإنتاج والإستيراد ممكن، لولا عقبة عدالة التوزيع،نسبة لأن السوق الأسود هو أداة لأشخاص ذوي قدرات هائلة في التأثير على قنوات التوزيع وربما أمكن دحر السوق الأسود ومفاسد أصحابه بخطة تموينيه تقوم على إشراف المجالس المحلية المنتخبة وتوحيد قنوات التوزيع وتعميم بطاقات التموين إلى جانب رفع كفاءة مباحث التموين وتجنب ظهور الندرة في السلع التموينية. المشكل الخامس: تدني الإنتاج المحلي المواد التموينية الضرورية وهي السكر- الخبز-الوقود- الذرة-زيت الطعام-والسلع المصنعة(الصابون-الأقمشة الشعبية-الكبريت-حجارة البطارية-الأحذية)تنتج غالبا في السودان والباقي يتم إستيراده. هنالك مصانع في السودان تستطيع أن توفر كل حاجة البلاد من السلع المصنعة الضرورية إذا أمكن توفير المدخلات لها(الكهرباء-قطع الغيار-الخامات).المدخلات اللازمة للصناعة السودانية كيما ترتفع نسبة إنتاجيتها إلى المستوى المطلوب تبلغ قيمتها 300مليون دولار في السنة.تدنى الإنتاج الصناعي في عهد مايو لعدم تمكن توفير المبلغ المذكور إلى متوسط 25% من الطاقة الإنتاجية للمصانع. وفي عهد الحكومة الديمقراطية أمكن توفير حوالي 50% إلى 60%من المبلغ المطلوب مما رفع الإنتاج ولكن ليس للحجم الذي يغطي الحاجة تماما،إلا في بعض السلع.أما السكر فإن استهلاك البلاد المقدر له يبلغ600 ألف طن في السنة. ولايتعدى إنتاج البلاد منه الـ 500ألف طن في السنة.والحل الذي تم إقراره هو أن يوزع إنتاج البلاد توزيعا تموينيا عادلا بسعر محدد.ويستورد ما بين مئة ومئتي ألف طن من الخارج ليباع بأسعار التكلفة على أن يستورد سكر الصناعات حوالي 50ألف طن بسعر التكلفة. أما الخبز فإن إستهلاك البلاد للقمح والدقيق يبلغ 600ألف طن في السنة.ينتج السودان الآن حوالى ثلثها ويستورد الثلث عن طريق القرض الأمريكي الميسر(480PL) ويستورد الثلث الثالث تجاريا من موارده الذاتية. وتم اعتماد زيادة الإنتاج المحلي إلى ما لا يقل عن 300ألف طن في السنة، وأن يخلط القمح بالذرة لإنتاج خبز مخلوط بنسبة 50% ذرة و50% قمح وتم التصديق لمشروع مطاحن كبيرة بمبلغ 5 مليون دولار من قرض بنك التنمية الأفريقي للبنك الصناعي لاستيراد مطاحن الذرة المحسنة لتوفير الدقيق المطلوب للخلط وأسند التنفيذ لشركة السيد عثمان الطيب لما لها عن سابق خبرة في هذا العمل في نيجريا. أما الذرة فبعد أن تدنى إنتاج البلاد منها في عهد مايو فإن سنوات الديمقراطية أنتجت منه كميات كبيرة غطت الإستهلاك السنوي من الذرة و مقداره مليوني طن في السنة. وحققت مخزونا استراتجيا يبلغ 700ألف طن في السنة وصدرت فائضا ساهم في دعم صادرات السودان على طول سنوات الديمقراطية الثلاث. أما الوقود فإن فاتورة البترول للسودان من بنزين وجازولين وسائر المحروقات تبلغ حوالى 300 مليون دولار في السنة وذلك لاستيراد ميلون واربعمائة ألف طن سنويا.لقد عجز نظام مايو تماما أمام فاتورة البترول. وأثناء الفترة الانتقالية غطت هدايا الأشقاء حاجة السودان ترحيبا بالوضع الجديد في السودان.أما في عهد الحكومة الديمقراطية فقد كان الحل كالآتي:- - في أول ستة عشر شهرا من عمر الحكومة دفعت الحكومة فاتورة البترول من مواردها الذاتية.واستفادت من منحة سعودية لثلاثة أشهر.ولكن الذي غطى حاجة العام التالي هو قرض ميسر من الجماهيرية العربية الليبية زود السودان بستمائة ألف طن رفعت إلى 860ألف طن في ايلول (سبتمبر) 1988م باتفاق وقعه مبارك الفاضل المهدي كوزير للطاقة. وأوفت الجماهيرية بالتزامها كاملا مما غطى 60%من إحتياجات السودان من البترول الخام حيث دفع السودان باقي احتياجاته البترولية من موارده الذاتية. - عرض السودان على عدد من الأشقاء من منتجي البترول فكرة أن يقوموا بمد السودان بمليون وثلاثمائة ألف طن سنويا لتغطية استهلاك السودان السنوي على أن يستمر هذا لأكثر من عام حتى يستخرج السودان بتروله وعندها يسدد السودان ماعليه برميلا ببرميل.ووعدوا بدراسة الموضوع،وريثما يتم الإتفاق على هذا الموضوع فإن الحكومة استطاعت أن توفر حاجة البلاد من البترول لمدة ثلاثة أعوام بكفاءة معقولة.وفيما يتعلق بشح الزيوت والشحوم في نيسان( ابريل) 1989م فقد اتصل السيد رئيس الوزراء بالحكومة الإيطالية لتزويد السودان باحتياجاته في هذا المجال. وذلك في حدود أربعين مليون دولار منحة من ايطاليا ونجح د.بشير عمر كوزير للطاقة في إجراء اللازم في روما لولا وقوع إنقلاب يونيو،مما أدى إلى تجميد التنفيذ.وكان هذا على حساب الموسم الزراعي. وكان رئيس الوزراء متجها إلى ليبيا ومصر في الاسبوع الأول من تموز(يوليو) لبحث مزيد من التعاون الإقتصادي والسياسي. وعليه فإن جميع الأطراف التي كانت تتعامل مع النظام الديمقراطي سوف ترى حسابات جديدة للتعامل،أو عدم التعامل مع النظام الإنقلابي في السودان. المشكل السادس: إضطراب الإستيراد إن العجز في الميزان الخارجي معناه أن السودان لا يستطيع -كما كان الحال قبل 1969م أن يغطي ما قيمته 500مليون دولار. لقد استطاعت الحكومة المنتخبة عبر الأعوام الثلاثة أن تسد الفجوة بالقروض والمنح وموارد المغتربين.وكان سد الفجوة من أسباب الضغط على الدولار.فالمستوردين لأي سلعة سواء للإستهلاك أو للمدخلات الصناعية يلجأون للسوق الأسود لشراء الدولار.هذا اللجوء هو سبب الإرتفاع المستمر في قيمة الدولار.ولا يهدأ هذا الإرتفاع إلا إذا تحقق الآتي: 1. ترشيد إستهلاك السلع المستوردة كالبترول والقمح والدواء... إلخ.ذلك أن حاجتنا لاستيرد الدواء تبلغ الآن 80مليون دولار في السنة في القطاعين العام والخاص.ويمكن ان ينخفض هذا الرقم كثيرا إذا استوردنا الدواء بعبوات كبيرة وإذا نشّطنا الصناعة المحلية للدواء ووفرنا لها المدخلات. 2. توظيف بعض مدخرات المغتربين في تمويل بعض الضروريات المستوردة ضمن خطة تجارية يرتضونها. 3. زيادة إنتاج محصولات السودان النقدية للتصدير. 4. حل مشكلة فاتورة البترول وفق الإقتراح المذكور سابقا أو الإسراع بإستخراج البترول السوداني. ورغم الحاجة الماسة فإن الحكومة الديمقراطية استطاعت أن تفي بحاجة البلاد التموينية بنسبة عالية (70%) أكثر مما كان عليه الحال في السنوات الأخيرة في عهد مايو. وطبعا أكثر كثيرا مما صار إليه الحال في عهد الديكتاتورية العسكرية الثالثة. 5. ترشيد إستيراد السلع الكمالية والتركيز على إستيراد السلع الضرورية. المشكل السابع:الفساد التجاري لقد تطور جهاز متعدد القنوات، كثير المنتفعين، هو جهاز السوق الأسود.وصار له قنوات تمويل داخل وخارج السودان. واكتسب خبرات ومهارات وزبائن.ووجد السبيل للتعامل مع شركات أجنبية وقوى عديدة حتى صار مافيا شرقية(مقابل مافيا الغرب إيطالية الأصل).هذا الكيان هو أحد آثار مايو الخطيرة جدا على السودان وقام إلى جانب ذلك المارد التجاري كيان آخر يعمل بالتهريب.فتم تهريب الصمغ العربي والسكر إلى أثيوبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وتهريب الشاي والبن والخمور من زائير وأثيوبيا.وتهريب الجمال إلى مصر وأثيوبيا وليبيا بالإضافة إلى تهريب الضأن إلى السعودية وتهريب السجائر منها. السوق الأسود والتهريب، غولان ترعرعا في ظل الديكتاتورية الثانية، وصارا مشكلتين لابد من تعبئة القدرات الوطنية وتعاون الجيران معنا لاحتوائهما.لقد تم وضع برنامج لذلك،بيد أن برنامج محاربة السوق الأسود عطلت بعض وجوهه اختلافات سياسية حالت دون الحزم المطلوب: فمثلا ،بعد حملة ناجحة لبرنامج مكافحة السوق الأسود في عام 1987م تم ضبط بضائع مخزنة قيمتها 600 مليون جنيه سوداني،ولكن اختلافات سياسية حول درجة الحزم وقرارات قضائية حول درجة الإثبات حالت دون تحقيق المفعول اللازم.ومع تلك الصعوبات زيدت إمكانيات الشرطة وأعطى رجال الأمن حوافز 25% من قيمة المهربات،ولكن الأمر يحتاج لتعاون صادق من الجيران. إن إمكانيات السودان الزراعية والصناعية كفيلة بسد حاجة البلاد الضرورية: - إذا أمكن توفير المدخلات الزراعية 170 مليون دولار والمدخلات الصناعية 300مليون دولار. - وإن أمكن تنظيم التجارة الخارجية والداخلية على أسس تمكنها من الأداء بكفاءة عالية. - وإن أمكن ضبط قنوات التوزيع داخليا ومحاصرة السوق الأسود والتهريب، وضرب الكيانات الداخلية والخارجية التي انتظمت حولهما. إنها أهداف ممكنة التحقيق: وهي صعبة في ظروف الديمقراطية ولكنها مستحيلة في ظروف الديكتاتورية. لأن ظروفها تنشط كل الأعمال السرية والسوق الأسود والتهريب.وهما أكثر الأنشطة اعتمادا على السرية. الفصل السادس: الفساد
الفساد المالي والإداري ظاهرة صحبت كل مجتمعات الإنسان. وليس واردا في مجتمع الإنسان أن تختفي تماما ولكنها تزيد حتى تكاد تعم، وتنقص حتى تكاد تغيب. ومن الناس: قلة لا يغريها فساد، ومن الناس: قله فاسدة بطبعها. وفيما بين هؤلاء وأولئك أغلبية الناس. وأغلبية الناس يدفعهم للفساد عاملان: الحاجة وغياب المساءلة. فإن زادت الحاجة لأي سبب، وغابت المساءلة، فثق أن الفساد سوف يطغى. لذلك كانت نظم الحكم الفردي دائما أكثر النظم تفريخا للفساد. أما النظم التي تقوم على الشورى والمساءلة والحريات الأساسية فتضيق فيها فرص الفساد. الفساد المالي والإداري نوعان: نوع يمارسه القادة والتنفيذيون المسؤولون على المستوى السياسي ونوع آخر تمارسه الأجهزة الأدارية والقضائية والأمنية والإدارات الإقتصادية والمؤسسات النشطة في العمل الإقتصادي الزراعي والصناعي والتعديني والتجاري والمصرفي. إن نوعي الفساد منتشران في بلاد العالم الثالث بدرجة كبيرة. حتى ،أنه يقدر أن حوالي 40% من الدخل القومي في جيوب الفساد. لقد كان الفساد من أهم الأسباب التي أثارت شعوب أمريكا الجنوبية ضد الديكتاتوريات العسكرية .إن ما سببته تلك النظم من فساد مالي وإداري، وهزائم عسكرية، وتجاوزات في حقوق الإنسان، هي الأسباب التي جعلت كثيرا من شعوب أمريكا الجنوبية كارهين للديكتاتورية العسكرية، محتملين المشاكل في ظل النظم الديمقراطية. ففي فنزويلا والأرجنتين بلغ التضخم أكثر من 1000% في السنة،اختفت البضائع التموينية حتى هجم الناس على البقالات وانهار الأمن والنظام في كثير من المدن في عام 1989م، ورغم ذلك لم يحرك العسكريون ساكنا لاستلام السلطة، لأن المفاسد التي ارتكبت في عهد الديكتاتورية أبلغ شانا. الفساد المالي والاداري ليس محصورا في النظم الديكتاتورية وحدها: ففي 1973م أُتهم سبيرو اقنيو نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بأنه استلم رشوة مقدارها 10ألف دولار وكانت التهمة شبه ثابتة لذلك استقال من منصبه. وفي نفس العام أُتهم الرئيس الأمريكي نكسون بفساد إداري بأنه أمر جماعته للسطو على مبنى ووترقيت. وعندما كشفت صحيفة "واشنطن بوست" عن الخبر نفى علمه بما حدث، فكذب على الشعب الأمريكي واتضح بعد التحقيق وجود أشرطة مسجلة تدل على أنه كان يعلم ويتابع عملية السطو، لذلك استقال قبل أن يحاكمه الكونغرس الأمريكي. وفي آذار (مارس) 1989م قال جورج كوستاكوس مدير بنك كريت في اليونان،والذي اتهم بسرقة 210 مليون دولار من مال البنك، قال أنه كان يدفع الرشوة لزعماء الحزب الحاكم وعلى رأسهم رئيس الوزراء اندرياس باباندريو وأن رئيس الوزراء استلم منه عن طريق وسيط مبلغ 734.000 ألف دولار. وبعد مناقشة هذه الإتهامات قرر البرلمان اليوناني الجديد أن فيها ما يكفي من البينات لتقديم رئيس الوزراء وبعض زملائه للمحاكمة وسيقدمون. وفي الهند، يواجه رئيس الوزراء راجيف غاندي إتهاما بأن صفقة شراء الهند لأسلحة سويدية بملبغ 1.3 بليون دولار شملت 50 مليون دولار رشاوى لمسؤولين هنود، وأن رئيس الوزراء ساهم في التستر عليهم والإتهام مازال قائما، وينذر بأن يلعب دورا هاما في انتخابات الهند المتوقعه قبل عام 1990م. وقد حدث. تلك الإتهامات كلها متعلقة بنظم ديمقراطية لذلك كانت مفتوحة ومعرضة للرأي العام والقضاء. أما في السودان وفي عهد نميري فقد كان الفساد المالي والإداري كبيرا وبقي ليزكم أنوف الناس نذكر منه: • غالبية القروض التي تراكمت على السودان حتى صارت مع متأخرات فوائدها 14 بليون دولار تمت بطرق غير سليمة وغير موثقة وانطوت على سرقات كثيرة للمال العام: • أعطت السعودية قرضا للسودان مبلغه 200مليون دولار في عام 1972م أودع 10% منه في حساب خاص لصالح جعفر نميري كمستلم لشركائه من السودانيين. • وهناك فضيحة ترحيل اليهود الفلاشا في عام 1983م (عام الشريعة) والرشاوي التي استلمت في هذه العملية مما ذكرته المحاكم السودانية. • وهناك أسوأ إهدار للمال العام في فضيحة مالية إدارية حدثت في عام 1985م، عندما اتفق نميري مع الشهير عدنان خاشقجي على استغلال ثروات السودان مناصفة بين السودان وبين خاشقجي وقد وصفت هذه الصفقة بأنها أشبه بالصفقات التي كان يعقدها المستعمرون مع زعماء العشائر في أفريقيا في القرن التاسع عشر وقبله. • أما على مستوى الإدارات وأجهزة الأمن والدفاع والبنوك وغيرها من الأجهزة فقد استشرى فساد كبير في عهد مايو فكان للأسف عدد من رجال الشرطة يعملون مع المهربين. وفي كثير من مرافق الخدمة العامة صار عدد ممن لديه الأمر بترخيص أو رسم أو ضريبة أو تصديق يجد سبيلا للإنتفاع الذاتي، يدفعهم لذلك تدني القوى الشرائية لمرتباتهم الرسمية وضغط الحياة. • وقد بلغ فساد البنوك- لاسيما الخاصة التي انتشرت في السودان على عهد الإنفتاح الذي أعقب عام 1974م مبلغا كبيرا. وعينت لجنة مؤهلة أثناء الفترة الإنتقاليه لمراجعة أعمال تلك البنوك ووجدت في ممارستها فسادا كبيرا أهمه : - عدم إلتزامها بما أبرمته من عقد مع بنك السودان لدى تصديقها. - وأنها تجاوزت السقوف المسموح بها للإقراض. - وأنها عملت في تجارة العملة وغيرها من الممارسات الضارة بالإقتصاد. إن الفاسد المالي والإداري على مستوى أجهزة الأمن والدفاع والقضاء والخدمة المدنية والبنوك، استمر حتى بعد سقوط الديكتاتورية.إننا سوف نتطرق للإصلاحات التي قامت بها الحكومة الديمقراطية لاحتواء الفساد في هذه المرافق. لايخالنا شك في أن الفساد الذي قام به بعض الضباط والقادة لاسيما في المتاجرة بظروف الحرب في الجنوب قد لعب دورا في الهبوط بروح القوات المعنوية وزمجرة الجنود. فبعض الضباط يستغل المساحة المحدودة للترحيل الجوي والنهري والبري وعبر طريق السكة حديد لأغراض تجارية ذاتية، وبعضم يوافق على اصطحاب الأطواف لتجارة الأفراد على أن يكون له نصيب منها "الخمس" أو النصف وبذلك يسمونهم. إن نشاط هؤلاء الفاسدين في كل المرافق أثار غضب الآخرين من زملائهم الغاضبين على الفساد. ماذا فعلت الحكومة الديمقراطية مع الفساد في هذا المستوى؟ يقول السيد الصادق المهدي في مذكراته:" أما على مستوى القوات النظاميه فقد وجهت قادتها للقيام ببرنامج محدد لمحاربة الفساد وتطهير المفسدين على أسس موضوعيه وعادلة. أما على مستوى الخدمة المدنية فسوف أبين ذلك عندما أتطرق للخدمة المدنية في فصل لاحق. أما على مستوى البنوك فقد اكتملت التحقيقات في البنوك الخاصة واتخذت إجراءات المحاسبة وكونت لجنة للتحقيق في أداء البنوك العامة ومراجعة أعمالها.ولكن الأمر الذي سوف أركز عليه هنا هو الفساد على المستوى السياسي أثناء حكم الديمقراطيه،لاسيما وقد اتخذت حركة "حزيران" يونيو 1989م من الفساد ذريعة للإطاحة بالديمقراطية مرجعه صدى أقوال بعض الصحف الحزبية المعارضة أثناء الديمقراطية. إن الحقيقة التي أود أن أركز عليها هي أن الديمقراطية الثالثة في السودان كانت خالية نسبيا من الفساد المالي والاداري لدرجة مدهشة وأنه بالمقارنة مع تجارب السودان في الماضي وتجارب الدول الأخرى ذات الظروف المشابهة للسودان فإن تجربة النظام الديمقراطية الأخيرة في السودان، تجربة احترام المال العام وانضباط على المستوى الإداري. الإتهامات المحددة: 1. أثناء فترة الحكومة الأولى (1986-1987م)، إتهم د.أبو حريرة بعض زملائه بالفساد أثناء جلسة مجلس الوزراء. وتصدى له الأخ مبارك الفاضل المهدي متحديا له،فسحب أبوحريرة إتهاماته.هذا مسجل في مضابط المجلس. 2. وفي مرة أخرى دخل د.محمد أبوحريرة مع عدد من زملائه في اتهامات ونتيجة لذلك عينت لجنة برئاسة القاضي (م) دفع الله الرضي، لتقصي الحقائق ولم يجد أساسا لاتهام أو مساءلة جنائية. 3. واتٌهم د.أبوحريرة نفسه بأنه أقام شركة لحوم تعاونية إسما، ولكنها فعلا مكونة من محاسيب، وأعطاها امتيازات حكومية وطالب لها بضمان مالي حكومي. نعم تلك الشركة لم تكن تعاونية بالمعنى الصحيح، ولا تستحق ضمانا حكوميا. وقد أضاعت مالا عاما بالفعل( 18مليون جنيه). وأنا اعتقد أنه خطأ إداري شارك فيه المصرف الذي أقرض المال في تجازوه للضوابط المطلوبة في إدارة القرض. 4. ثم اتهم د.بشير عمر بأنه أعطى تعويضات لآل المهدي على أرض أم دوم. 5. ود. عزالدين علي عامر على أثاثات ومعدات عيادته،وأثير الموضوع في الجمعية التأسيسية. وهنا أود أن أذكر حقيقة هي: أن الدكتور بشير عمر لم يستشر رئيس الوزراء لا بشأن الضمان لشركة اللحوم المشار إليها بطلب من أبي حريرة ولا بشأن تعويضات آل المهدي ود.عزالدين، كذلك لم يعرض الأمر على مجلس الوزراء. يقول السيد الصادق المهدي:" لم يترسب لدي أي شعور بأن د.بشير قام بهذه الأعمال بسوء نية وكان في تقديري بعد سماعي الإتهامات أنه لم يأخذ الأبعاد السياسية في الحسبان، لذلك عندما عرض الأمر على الجمعية التأسيسية تقدم الدكتور بشير عمر بشرح واف للموضوع من كل جوانبه وأمام الحقائق أيدت الجمعية التأسيسية ما فعل وزير المالية. "ولكن لوجود ملابسات سياسية حول موضوع التعويضات رأيت أن يحال الأمر للقضاء. فوجهت بإلغاء قرارات وزير المالية ولجوء المتضررين للقضاء.وقد كان ذلك برضاء وزير المالية إسكاتا للأصوات التي اعتادت الصيد في الماء العكر". 6. ووجه وزير التجارة في حكومة الجبهة الوطنية المتحدة (السيد ميرغني سليمان) لزميله وزير الداخلية (السيد مبارك الفاضل المهدي) نقدا حول إجراءات قام بها أثناء توليه وزارة التجارة تتعلق بصفقة الذرة المخلوط بالقمح. حيث تعاقد البنك القومي للتصدير والإستيراد مع عدد من التجار لتصدير ذرة واستيراد قمح وتمويل إستيراد بترول، على أن يستورد القمح قبل تصدير الذرة. وطالب السيد مبارك الفاضل المهدي بتقصي الحقائق في هذا الإتهام وأي اتهامات أخرى تشاع عنه. "وكونت لجنة لتقصي الحقائق شملت أمين عام مجلس الوزراء –أمين عام الجمعية التأسيسية-وكيل النائب العام ومحافظ بنك السودان. وبعد أدائها القسم، شرعت اللجنة في عملها وانتهت بعدم وجود أساس يصلح للإتهام، بل أشاد بعض المسؤولين الذين تم استجوابهم في الوزارات المعنية بأدائه في الوزارة". 7. ثم صدرت تهم جزافية بحق السيد ادريس البنا نائب رئيس مجلس رأس الدولة بأنه أساء التصرف في الإغاثات التي جاءت للبلاد. "والذي لا يعلمه كثيرون هو أن ادريس البنا رئيس لجنة فرعية سودانية لمؤتمر الشعب العربي وهو تنظيم للشعوب العربية رئاسته في طرابلس.قرر هذا التنظيم التضامن مع الشعب السوداني في ظروف المجاعة وخصص مساعدات لتوزع في السودان عن طريق لجنته الفرعية.وكانت هذه الإجراءات قائمة قبل أن يصبح ادريس البنا عضوا في مجلس رأس الدولة،أثناء عهد الحكومة الإنتقالية.وقد أثارت صحف المعارضة خاصة "ألوان" التهم ضده في أمر الإغاثة السورية والليبية ورد عليها الأخ إدريس البنا في حينها". وبعد قيام انقلاب 30 يونيو تم تعيين لجان للتحقيق في الفساد وتقديم المفسدين لمحاكم عسكرية خاصة وكانت أولى القضايا ضد ادريس البنا حيث اتهم بتحويل حفارة جاءت من ليبيا للسودان لمصلحته الخاصة. وبعد محاكمة هزلية كشفت جهل الإتهام والقاضي، حكمت المحكمة بالسجن أربعين سنة،هذا مع أن إدريس البنا بيده خطاب من مكتب الإخاء الليبي (السفارة) فيه تأكيد من أمين مؤتمر الشعب العربي أن هذه الحفارة مرسلة منهم كتنظيم للشعوب لادريس البنا بصفته رئيس لجنة المؤتمر السودانية للتصرف فيها بالكيفية التي تقررها اللجنة فلهم حق التصرف دون سواهم.وبعد اسبوعين من المحاكمة الهزيلة أرسل رئيس المحكمة للأخ ادريس البنا خطابا يذكر فيه أن الحكم عليه قد ألغي وأصبح هو بريئا مما اتهم به اللهم إلا اذا كانت ضده تهم أخرى. 8. ثم حاكمت محكمة خاصة أخرى الأخ عثمان عمر الشريف على ثمان قطع أرض صدق بها كوزير للإسكان.الإتهام أصلا لا أساس له فالتصديق بهذه القطع من اختصاص الوزير القانوني وإن صح أن هناك سوء تقدير في تصرفه فالمحاسبة على ذلك سياسية أمام الجمعية أو أمام الناخبين وليست جنائية أمام القضاء .إن حق التصديق على قطع الأرض وعلى الرخص التجارية يقع ضمن صلاحيات الوزير القانونية وكل وزير يراعي ضوابط معينة في التصديق فإن أخطأ فلا يقال أنه خرق القانون بل الخطأ تقديري ويحاسب سياسيا. 9. ثم حوكم إسماعيل أبكر وزير الإسكان الأسبق، بعد أن أتهم، لمنحه قطعا سكنية لبعض المواطنين. 10. أثارت صحافة إنقلاب حزيران ضجة كبيرة حول إعفاءات جمركية قررتها الحكومة الديمقراطية: الإعفاء حق قانوني للحكومة الشرعية ولكن لكشف الحقائق نوضح الآتي: 1. أعطت الحكومة الديمقراطية إعفاءات مستحقة لبعض المسؤولين، وعندما قامت حكومة الإنقلاب فإنها أصدرت قانونا بتاريخ أيلول (سبتمبر) 1989م ،زادت فيه مخصصات ورواتب وامتيازات رئيس وأعضاء مجلس الوزراء ووزراء الدولة وحكام الأقاليم ومعتمد العاصمة ونوابهم زيادات فاقت ما كانت عليه مخصصاتهم في العهد الديمقراطي ومنحتهم ضعف الإعفاءات القديمة واستلم أعضاء المجلس العسكري سلفيات بلغت 200ألف جنيه لكلٍ، وتوزعوا منازل الدولة وخصص لبعضهم أكثر من منزل بحجة أن له زوجتين. 2. أعطت الحكومة الديمقراطية إعفاءات لبعض ضباط الجيش من رتبة مقدم إلى فريق. هذه مسألة لها تاريخها ففي آخر عام لنظام مايو، أراد الرئيس المخلوع إستمالة ضباط القوات المسلحة فقرر أن يمنح رخصة لتصدير ذرة للحصول على عملة صعبة لاستيراد سيارات هوندا معفية من الجمارك وتباع لعدد من ضباط الجيش بالتقسيط. الملاحظ أن هذا الترخيص لتصدير الذرة كان في عام المجاعة التي عمت السودان كله، وبدأ موت الناس جوعا يشاع، ودفع عدد من الضباط عربونا للإستفادة من هذه الفرصة. ولكن الإجراء كله- كعادة أساليب مايو اضطرب بفساد الوسطاء وصارت المشكلة معلقة على طول الفترة الإنتقالية.وبعد مجيئ الحكومة الديمقراطية كان السيد رئيس الوزراء زيرا للدفاع وحيثما ذهب في طوافه على الوحدات العسكرية سأله الضباط عن صفقة الهوندا.فأجرى تحقيقا أوضح له فساد ماحدث فالذرة المصرح بتصديره تاه ما بين الوسطاء. ولكن تبقى حقيقة أن عددا من الضباط وعدوا بسيارات ودفعوا أقساطا.فرأى رئيس الوزراء إلغاء الصفقة ومفاسدها وفتح صفحة جديدة لاستيراد سيارات للضباط المعنيين على أساس إجراءات سليمة فوصلت ألف وثلاثمائة سيارة جديدة، بلغ إعفاؤها الجمركي 138مليون جنيه ،أُعتمدت ضمن الميزانية. 3. أعطي إذن خاص لبعض شرائح المهنيين (الأطباء والأساتذة) لاستيراد سيارات،إذن كانت قد قررته الحكومة الإنتقالية وأمضته الحكومة الديمقراطية. 4. إعفاءات أعطيت لنواب الجمعية التأسيسية لاستيراد 250 سيارة بلغت في جملتها 38 مليون جنيه.هذه الإعفاءات مستحقة فالنائب يخدم الجمهور وهو لدائرة واسعة وحركته فيها جزء لا يتجزأ من رفع كفاءة نيابية. هذا هو الإمتياز الوحيد الذي نقضته حكومة الإنقلاب وهو إجراء فيه ظلم لقطاع انتخبه الشعب ويعمل في متابعة الخدمات للجمهور :مركزيا وإقليميا. إن الإعفاء حق قانوني مارسته حكومة شرعية منتخبة وسحبه بهذه الطريقة فيه غبن للنواب. هذه هي قصة الفساد التي ركزت عليها أجهزة الإعلام، ولم تجد شيئا آخر تدعم به مزاعم الفساد بعد عام من البحث الدقيق عن فساد الحكم الديمقراطي الذي قصدوه دون سواه. ولذلك صرفوا النظر عن مفاسد مايو لأنهم لا يبحثون عن الفساد من حيث هو بل عن فساد ذي عائد سياسي لصالحهم. لقد كان النظام الديمقراطي في السودان نظاما مفتوحا فكل حركة يقوم بها المسؤول في أي موقع يراها الآخرون وكانت هناك صحافة حرة تتهم جزافا.وكان هناك قضاء مستقل لذلك فإن أي تهمة أو شبهة أثيرت، نوقشت بإسهاب في الصحافة وفي الجمعية التأسيسية وحققت فيها الحكومة بواسطة لجان مؤهلة. بالإضافة لهذه الضمانات فإن قانون الإجراءات المالية والمحاسبية الذي تتعامل به حكومة السودان يجعل كل المال في يد وزير المالية ومن ينتدبهم للوزارات والمصالح الحكومية المختلفة. فالمراقب المالي والمدير المالي لكل وزارة يتبع في الواقع لوزارة المالية ويكون منتدبا منها ويعمل وفق الميزانية العامة المجازة من الحكومة ومن البرلمان ولا يخرج عن تنفيذ بنودها.ثم هناك مكتب يراجع كل الأداء ويلفت نظر المسؤول المعني إذا حدثت أي مخالفة بصورة لرئيس الوزراء لعلاج الموقف. وله أن يلفت النظر لأي مخالفة في تقريره للجمعية التأسيسية. وهناك رقابة أخرى، مصدرها التكوين الإئتلافي للحكم في العهد الديمقراطي الثالث فلا يجرؤ وزير من حزب أن يغفل ذلك. فالحزب الآخر سيطلع على أي إجراء خاطئ ويكشفه. هذه العوامل يضاف إليها أن الوزراء وكبار المسؤولين في العهد الديمقراطي حساسون جدا للرأي العام،لذلك يمكن القول أن عهد الديمقراطية الثالثة خلا من الفساد المالي والإداري على المستوى السياسي والتنفيذي بصورة يحق للسودان أن يباهي بها. مهم جدا أن يكون المسؤولون عن المال العام أمناء. ولكن هذا وحده لا يكفي فكم أمين صار لصا، وكم مؤتمن خان أمانته...كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى)الآية 6و7 من سورة العلق. الأهم هو أن توجد مؤسسات محاسبة ومساءلة يراعيها الأمين، فيحافظ على أمانته ويخشاها الآخرون.إن وجود حريات أساسية في النظام الديمقراطي وصحافة حرة وقضاء مستقل هي العوامل التي تعطي الأمانة ضمانا مؤسسيا وتتصدى لفساد المفسدين.أما إذا غابت المؤسسات وصار الحكم فرديا، وسلب القضاء استقلاله، وحرمت الصحافة حريتها، وكتم الرأي الآخر، وامتنع النقد الحر، فإن الفساد سوف يطغى على كل شئ.إنها قاعدة نفسية واجتماعية معروفة إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
الفصل السابع: قضايا قومية ومشاركة دولية
السودان في عهد نظام مايو تأرجح ما بين الإمتثال للوصاية الشرقية في حماية مصر الناصرية في أعوامه الأولى وبين الإمتثال للوصاية الغربية في حماية مصر الساداتية في أعوامه الاخيرة. وسنرى في الفصل عن السياسية الخارجية إبان الديمقراطية الثالثة كيف انفصل السودان عن التبعية والوصاية وانطلق في خطه الوطني الأصيل بلا انحياز ولا محورية. لا انقطاعا عن الغرب أو الشرق أو مصر بل وضعا للعلاقات معها على الأساس المستقيم. إن عدم الإنحياز وعدم المحورية لم يعنيا أبدا أن السودان انكفأ على نفسه، بل سنوضح في ذلك المجال كيف خلق السودان صداقات أساسية مناسبة لمصالحه القومية وفي الفصل الحالي سنوضح كيف اهتم سودان الديمقراطية الثالثة بالقضايا القومية الملحة وبالأزمات الوطنية وكيف عبأ الجهد الرسمي والشعبي والدولي لدراسة وعلاج تلك المشاكل. لقد أعد السودان خطته التنموية الرباعية ،وكان منتظرا أن تبحث مع الدول الصديقة والدول الشقيقة لتحديد دورها في التمويل كما أن السودان درس مشاكل مختلفة وبرمج لعلاجها في إطار مشاركة إقليمية ودولية. في هذا الفصل سوف نركز على تسع قضايا ملحة درست في مؤتمرات جامعة شارك فيها قادة الحكم الديمقراطي والإداريون والفنيون والأكاديميون وخبراء دوليون. القضية الأولى- الجفاف والتصحر نظم السودان مع بعض جيرانه الهيئة الحكومية للتنمية ومحاربة الجفاف (ايقاد). وهي منظمة تضم السودان وجيبوتي،والصومال،وأثيوبيا،وكينيا،ويوغندا. بحث اعضاء هذه المنظمة مشاكل الجفاف والتصحر وكيفية محاربتهما وتقدموا بمشروعات لتحقيق الغرض،قدم السودان 23مشروعا بتكلفة قدرها 170مليون دولار. وفي آذار مارس 1987م اجتمع مؤتمر للدول التي أبدت استعدادها لمساعدة افريقيا على محاربة الجفاف والتصحر.في هذا المؤتمر بحثت مشروعات السودان وقد وجدت القبول والإستعداد للتمويل.وقدم السودان 5 مشروعات أخرى في إطار محاربة الجفاف والتصحر وجدت القبول في مؤتمر برنامج الأمم المتحدة للتنمية بتكلفة قدرها 20مليون دولار. وجرت الدراسة الأولية بين د.حاج الطيب كممثل لدول شرق أفريقيا ود.المحمدي عيد وزير البيئة المصري ممثلا لدول شمال أفريقيا لسبعة عشر مشروعا مستفيدين من المياه الجوفيه في الحوض النوبي في شمال السودان وجنوب مصر- 6 مشاريع في الجانب المصري-ومثلها في الجانب السوداني و5 مشاريع مشتركة. اتفق السيد رئيس الوزراء مع الأستاذ العالم عبدالسلام رئيس أكاديمية العالم الثالث للعلوم والحائز على جائزة نوبل للفيزياء على إنشاء مركز دولي لأبحاث الصحراء بالخرطوم وعرضت الفكرة على مؤتمر الهيئة الإقليمية للتنمية ومحاربة الجفاف بشرق أفريقيا، فقبل الفكرة وتبناها. وعرضت الفكرة على برنامج الأمم المتحدة للبيئة فتبناها،بعد ذلك خاطبنا اليونسكو واليونسيف والفاو والبنك الدولي وحكومات ايطاليا والنرويج والمانيا للمشاركة في التمويل وكانت الردود إيجابية ،وكونا لجنة عالمية من 14 عالما من جامعات العالم، ولجنة سودانية قومية من بعض العلماء في مفوضية الإغاثة وإعادة التعمير والمجلس القومي للبحوث وجامعة الخرطوم لمتابعة التنفيذ وخصصنا قطعة أرض مساحتها 20فدان ليقوم عليها المركز ومزارع الأبحاث التابعة له. هذا المركز سوف يكون مركز الإشعاع لسياسات محاربة الجفاف والتصحر في أفريقيا.لقد لعب سودان الديمقراطية دورا رائدا في تركيز الإهتمام الأفريقي والعالمي على قضايا الجفاف والتصحر وعن طريق المركز الجديد سيقيم السودان المنبر المناسب لمواجهة هذين العدوين اللدودين للحياة. القضية الثانية-الإغاثة وإعادة التعمير هناك عدد من الأسباب بعضها طبيعي وبعضها بفعل الإنسان ساقت لبلادنا الجفاف والتصحر. أما الأسباب الطبيعية، فأهمها تدني معدل هبوط الأمطار في الست سنوات من 1978م إلى 1984م وأما الأسباب العائدة لأفعال الإنسان: فهي التوسع غير المرشد في الزراعة الآلية، زيادة الحيوان عن احتمال المراعي،وكثرة الإحتطاب للوقود، والتراخي في تطبيق قوانين صيانة التربة وحماية الموارد الطبيعية. لقد كانت هناك مؤشرات عامة للشر الزاحف ولكن حكومة نميري لم تعبأ بها. بل ظل يكرر إنتقاده للنظام الأثيوبي بأنه عاجز عن إطعام شعبه ولذلك عندما ظهرت المجاعة في السودان لم يشأ أن يعترف بها مكابرة،بل ظلت حكومته تعطي التصديق لمصدري الذرة بينما بدأ السودانيون في غرب السودان يموتون جوعا فعلا.واستمر يواصل هذه الحماقة، حتى بدأ طوافا بالأقاليم يصحبه أمين الزكاة ليشرحا للناس نظام الزكاة الجديد الذي توهم الرئيس المخلوع أنه سوف يملأ الخزينة العامة بالمال بين عشية وضحاها- كان في اندفاعه لا يّذكر وان تذكر لا يفهم أن للزكاة مصارفها المحددة ولا يستطيع أن يوجهها لمصروفات الدولة المختلفة.وكان في اندفاعه لا يّذكر أن البلاد كانت تعاني من مجاعة، وفي عام المجاعة عطل عمر رضي الله عنه جمع الزكاة! وأثناء طوافه واجهه مواطنو إقليم دارفور بحقائق المجاعة، فأوقف طوافه السخيف، وفرضت حقيقة المجاعة وجودها في السودان.ولحسن الحظ كان الأمريكيون عن طريق سفارتهم ومعونتهم متابعين لحقائق الموقف في السودان فقاموا بهمة إنسانية حميدة بنقل كمية هائلة من الذرة للسودان وكان لهم الفضل الأكبر في إنقاذ السودان من تلك المجاعة. وكُونت في عهد مايو لجنة للإشراف على الإغاثة برئاسة النائب الأول لرئيس الجمهورية آنذاك. وفي عهد الحكومة الإنقالية بدأ أول تخطيط علمي للإغاثة بإنشاء مفوضية الإغاثة وإعادة التعمير، وصدر قانونها في 8 ابريل (نيسان) 1986م. وعندما جاءت الحكومة الديمقراطية تولى السيد رئيس الوزراء الإشراف على الإغاثة. وكون بموجب القانون مجلس إدارة قومي من 34 شخصا يمثلون الفعاليات السياسية وحكام الأقاليم ووكلاء الوزارات والقوات المسلحة والشرطة وبعض الشخصيات القومية. ورأى ان يكون لهذا المجلس الإشراف العام لوضع برنامج علمي موضوعي للإغاثة وإعادة التعمير، دون تأثر بمقاصد حزبية أو شخصية. وعلى ضوء حقائق الموقف وضعت مفوضية الإغاثة خطة سنوية مستفيدة من: • تقارير حكام الأقاليم. • تقارير الجمعيات الطوعية. • تقارير فرق المسح الميداني والتي ترسلها للمفوضية. • المعلومات المتوفرة لدى إدارة الإنذار المبكر بالمفوضية. وعلى ضوء هذه المعلومات وزعت الكميات الآتية (من الذرة)على كل أنحاء السودان وكانت كافية بالغرض: 1986-222ألف طن. 1987-82ألف طن. 1988-219ألف طن. اللجنة الدولية للصليب الأحمر: بعد وضع البرنامج القومي للإغاثة لاحظ سيادته صعوبة في إغاثة مواطنينا في المناطق المتأثرة بالقتال ولذلك اقترح على بعض المواطنين على رأسهم السيد إدريس البنا تكوين مجلس من رجال الدين الإسلامي والمسيحي والسماح له بالإتصال بحملة السلاح ليعطيهم الطرفان الأمان لنقل مواد الإغاثه للجنوب. كان هذا في تموز (يوليو) 1987م وفعلا تكون مجلس سمي مجلس الرحمة الإسلامي-المسيحي واتصل بحملة السلاح في أديس أبابا ولكنهم رفضوا الإقتراح. كان السيد رئيس الوزراء يقرأ كتابا عن الحرب العالمية الثانية فلفت نظره الدور الإنساني الكبير الذي قام به الصليب الأحمر. ففكر في مخاطبة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في جنيف لتقوم بتوصيل الإغاثة للمناطق المتأثرة بالقتال. وفي آذار (مارس) 1988م كتب خطابا بهذا المعنى لرئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر فرد موافقا في آيار(مايو) 1988م، فكونت لجنة سودانية برئاسة حاج الطيب وعضوية بعض سفرائنا من الخارجية وممثلين للقوات المسلحة والشرطة وكلف السيد صلاح عبدالسلام وزير شئون الرئاسة بالإشراف عليها لتنظم مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر مهمة إغاثة المناطق المتأثرة بالقتال. وفوضت اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتتفاوض مع الحركه الشعبية، ففعلت. ولكن هذه المفاوضات أخذت زمنا طويلا- 7أشهر- للتوصل لاتفاق، بدأ بموجبه نقل الإغاثة. ولكن حجم وسرعة حركة هذا البرنامج كان متواضعا. كل ما استطاعت ان تنقله اللجنة الدولية للصليب الأحمر بلغ 15ألف طن(؟) حتى نهاية برنامجها. ولكن ينبغي أن نشكر اللجنة الدولية للصليب الأحمر -لاسيما ممثلها في الخرطوم دومنيك قرس على جهدهم. فإن العمل الذي قاموا به كان ممهدا للعمليات الأكبر التي تمت فيما بعد. شريان الحياة: لم تكن قدرات اللجنة الدولية للصليب الأحمر كبيرة، لذلك كان ما استطاعت أن تنقله من إغاثه محدودا. وبفعل الجوع والحاجة نزح من جنوب السودان إلى الشمال: العاصمة والإقليم الأوسط وإقليم كردفان وإقليم دارفور، عدد كبير من الجنوبيين بلغ مليوني نفس.لذلك اتصل السيد رئيس الوزراء بالسكرتير العام للأمم المتحدة في تموز (يوليو) 1988م وأبلغ أنه يعتقد أن حجم الإغاثة المطلوب في ظروف تعرقل فيها الحرب النقل والتوزيع، وتكاثر عدد النازحين، مشاكل بلغت حجما لا يطيقها الجهد الذاتي ولذلك اقترح أن تتدخل الأمم المتحدة لتنظيم جهد دولي لمواجهتها، لا في السودان وحده، ولكن أيضا في دول القرن المجاورة. وأن تتخذ الأمم المتحدة هذا الجهد الإنساني العالمي مدخلا للسلام. فإن هذه المآسي الإنسانيه لن يحاط بها إلا إذا تحقق السلام .تجاوب السكرتير العام للأمم المتحدة مع هذه الآراء وأرسل فورا مساعده للشؤون السياسية والشئؤون الخاصة السيد عبدالرحيم فرح لزيارة السودان. ولتحديد البرنامج السوداني المطلوب، كونت لجنة من مفوض النازحين، مفوض الإغاثة، وممثلين للمالية والخارجية، بجانب ممثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبرنامج الغذاء العالمي، وممثل الفاو، ورئيس وحدة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة. أعدت اللجنة تقريرا أوليا لنوع وحجم الإغاثه المطلوبة للنازحين واقترن الأمر بفكرة أوسع تغيث النازحين في كل أقاليم الشمال، وتنقل الإغاثه للمتضررين بالأقاليم الجنوبية.ورؤي بالتفاهم بيننا وبين سكرتير الأمم المتحدةعن طريق مندوب خاص عينه هو السيد جيمس قرانت المدير التنفيذي لمنظمة اليونسيف أن يدعو السودان بالتضامن مع الأمم المتحدة إلى مؤتمر دولي خاص يعقد في الخرطوم، لبحث هذه المشاكل.ووجهت الدعوة للمؤتمر الذي انعقد في 8-9 آذار(مارس) 1989م وكان "لوزير الإغاثه والنازحين دور مقدر في التحضير له وحضره جميع المدعوين، وبعد التداول حول ورقة عمل أعدت لهم بإتقان تقرر أن تعطى أولوية لتحضير ونقل الإغاثة للجهات المتضررة. وكانت الإحتياجات المقدرة 173ألف طن من المواد الغذائية والمواد الأخرى بتكلفة قدرها 132مليون دولار. توفر منها في نفس يوم المؤتمر 77 مليون دولار وفي اجتماع لاحق في واشنطن في 11/4/1989م أمكن سد الفجوة الباقية (55مليون دولار)، ووجه المؤتمر نداء لحكومة السودان وللحركة الشعبية للإلتزام بشهر هدوء (وقف إطلاق نار محدود) لتمكين عمليات الإغاثة من الوصول لغاياتها. وبعد دراسة مقررات المؤتمر وافقت الحركة عليها كلها. كان هذا موقف إيجابي من الحركة الشعبية، فقد استجابت لمؤتمر لم تكن طرفا في التحضير له، ولم تدع لحضوره، وكان من المتوقع أن يبدأ البرنامج أول نيسان (ابريل) 1989م ولكنه تأخر قليلا ثم بدأ بطاقة ترحيل كبيرة وبإمكانات هائلة، فقد زيدت ميزانية البرنامج 50 ميلون دولار أخري لتصبح 182 مليون دولار.وهكذا انطلق "شريان الحياة" البرنامج الفريد في حجمه ونوعه فلم يحدث قبل ذلك في العالم أن نظمت عملية إغاثة، ونقل لها بهذا الحجم ، عبر خطوط القتال بين جهات مازالت في حالة حرب. إن نجاح هذا البرنامج بهذه الصورة أدى لبروز نهج جديد في تنظيم العلاقات الإنسانية في ظروف الحرب سمي THE SUDANESE FORMULA وسجل بهذا الإسم في الأمم المتحدة واعتبر نمط تسعى الأمم المتحدة لتطبيقه في الظروف المماثلة مثل: أفغانستان-أنجولا-أثيوبيا-الصومال...الخ. ونحن نستعرض النجدة الإنسانية الكبرى التي أخذت بيد السودان في ساعة المحنة في عام المجاعة (1983-1984م) وفي الإهتمام بمشروعات إعادة التعمير من آثار الجفاف والتصحر وفي نجدة المتضررين بالقتال من مواطنينا نشيد بالضمير الإنساني الحي لدى عدد من حكومات وشعوب أميركا وأوروبا الغربية ولدى الأسرة الدولية كما تمثلها الأمم المتحدة. ونخص بالذكر والتقدير أمين عام الأمم المتحدة (بيريز ديكويار) ومدير الفاو (ادوارد صوما) ومدير برنامج الغذاء العالمي (جيمس انقرام) أما مدير اليونسيف (جيمس قرانت) فله شكر وتقدير خاص لأنه وقف معنا بوعي المفكر ووجدان المؤمن واندفاع المحب. وأظهر عدد من المسؤولين من غير السودانيين حماسة خاصة للمساعدة في هذه المهام الإنسانيه مثل السفير الأمريكي (اندرسون) والبريطاني (بيفن) والهولندي (بيرت فيت) والإيطالي (د.فارينللي) وممثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (وارن ونوب) ... عقد من الهمم الإنسانية التي مهما قيل عن نواياها فقد نجدتنا أعمالها بما فاق كل تصور. قائمة الذين استجابوا لإغاثة السودان في هذا المجال حسب حجم ونوع ما قدموا وهم: 1. الولايات المتحدة الأمريكية- السيد/السفير اندرسون. 2. برنامج الغذاء العالمي-السيد/جوبر. 3. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي-السيد/وارن ونوب. 4. هولندا- السيد/السفير بيرت فيت. 5. المجموعة الأوروبية- السيد/دايك ماستر 6. إيطاليا-السيد/السفير د.فارينللي. 7. اليونسيف –السيد/جيمس قرانت. فلهم منا جميعا -أهل السودان الشكر الجزيل. القضية الثالثه-النازحون بعد الوقوف على حال النازحين، كّون رئيس الوزراء جهازا خاصا بهم، ليكون له كيانه القانوني أسوة بمفوضية الإغاثة. وبعد دراسة الأمر من جميع جوانبه تقرر الآتي: 1. إحصاء النازحين. 2. تقديم الإغاثه العاجلة لهم. 3. تحديد مناطق يرحلون إليها في الأقاليم الشمالية حيث يعملون لكسب قوتهم. 4. إقامة أجهزة إدارة وأمن لحفظ النظام بينهم. وقد وضع برنامجا شاملا، تناوله السيد لامونير ممثل اليونسيف في أفريقيا، وعلى أساسه وضع تقرير شامل، عرضه الأمين العام على الأمم المتحدة فقررت مساعدة السودان بموجبه. هذا البرنامج عُزم أن يلحق به قبل موسم 89/90 ولكن الإنشغال بشريان الحياة حال دون ذلك. إن الإسراع بهذا البرنامج ضرورة قصوى للأخذ بيد هؤلاء المواطنين وإلى جانب ما فيه من معان إنسانية، فإن فيه هدفا وطنيا جليلا وهو: أن يشعر هؤلاء الأخوة أن من بالشمال هم إخوتهم رغم التباين العرقي والديني مما يدعم إحساسهم بسودانيتهم، وهو الإحساس الذي جاء بهم نحو الشمال في المقام الأول، ولعله هو الإحساس الذي جعل الحركة الشعبية تقبل برنامجا دعت إليه آلية حكومة يناصبونها العداء. وهو قطعا أحد العوامل التي دفعتنا في الحكومة للتفكير في هذا البرنامج. هذا الإحساس المشترك بالإنتماء لوطن واحد هو الأساس المتين للوحدة الوطنية. القضية الرابعة-اللاجئون لقد ذكرنا سابقا أن السودان وضع سياسة قومية محددة نحو اللاجئين وهي سياسة اشتملت على ملامح جديدة لم تعرفها هيئة غوث اللاجئين من قبل ويمكن أن يكون لها أثرها في قضية اللاجئين في العالم وربما استنبط منها نهج سوداني آخر . SUDANESE FORMULA تلك الملامح الجديدة التي اشتملت عليها خطتنا هي: 1. أن يميز بوضوح بين اللاجئ لأسباب قهرية سياسية، واللاجئ لأسباب المجاعة والمرض. فالأخير لا يعتبر لاجئ ويعمل على توصيل الإغاثة أو العلاج له في وطنه. 2. ألا يطلب من أي قطر إستقبال أكثر من 10% من حجم سكانه من اللاجئين لأن في ذلك تشويها لكل أوضاعه وتعجيزا له. 3. أن تسرع الأسرة الدولية بمساعدة القطر المعني لتحمل العبء الإستهلاكي للاجئين والأثر السلبي على البنيات الأساسية والخدمات الإجتماعية في الوطن المضيف. 4. أن تهتم هيئة غوث اللاجئين ببرامج عودة اللاجئين الإختيارية لأوطانهم، وأن تشجع على ذلك بمساعدات للعائدين حتى تكون العودة مغرية. 5. أن يشتغل اللاجئون في وطن اللجوء في أعمال إنتاجية مخصصة لهم بحيث لا تزحم سوق العمل أمام المواطنين وبحيث يستطيعون المساهمة في إعاشة أنفسهم. لقد نوقشت هذه الأفكار مع ممثلي هيئة غوث اللاجئين وإنا ننتظر أن يكون لها أثرها في التفكير والتخطيط نحو اللاجئين في كل مكان. القضية الخامسة-السكان لقد اكتشف الوعي الإنساني العصري الحاجة لسياسة سكانية كونية، لأن عدد سكان الأرض صارالآن 5 بليون نسمة ولابد من تنظيم الأسرة العالمية بصورة تتفق وأفضل الحياة لسكان الأرض: الآن وللأجيال القادمة. والحاجة ماسة لسياسة سكانية إقليمية في كل منطقة جغرافية في العالم.هذه السياسات السكانية الكونية والإقليمية ينبغي أن ترفدها وتتناسق معها سياسة سكانية قومية في كل قطر من أقطار العالم. لذلك تم التعاون مع مؤتمر السكان الثالث المنعقد في الخرطوم في تشرين الأول (اكتوبر) 1987م المحضور دوليا واقترح أن يساعدنا في وضع سياسة سكان قومية للسودان. وبعد استلام توصيات المؤتمر، كّون جهاز قومي للسكان مهمته وضع خطة سكانية للسودان ،تناقشها وتقرها الأجهزة الشرعية لتصبح ملزمة لكل أجهزتنا التنفيذية. وليقوم عليها برنامج سكاني سوداني محدد. القضية السادسة –الموارد المائية إن الأمر الذي استقر عليه إتجاه السودان في الماضي هو أن تعنى وزارة الري، بالري الذي مصدره النيل أو فروعه أو روفده أو الأنهر الأخرى التي تشق أرض السودان. إن تدفق مياه النيل كله لا يتجاوز 84 بليون متر مكعب في المتوسط السنوي نصيب السودان منها حسب اتفاقية 1959م هو 18 بليون متر مكعب. لكن في السودان موارد مائية أخرى، فحصيلة مياه الأمطار التي تهطل في السودان الممكن حصرها وجمعها والإستفادة منها تبلغ 200 بليون متر مكعب والمياه الجوفية في السودان تقدر ب 250بليون متر مكعب، هذه الكميات الهائلة التي تبلغ خمسة أضاعف تدفق مياه النيل ،يمكن الإستفادة منها إذا أقيمت البنيات الأساسية المناسبة وذلك يعطي السودان مواردا مائية كافية لتأمين مستقبله الزراعي، ذلك أن الشح في السودان في الماء وليس في الأرض الزراعية. لذلك قررنا توسيع اختصاصات وزراة الري في السودان لتقوم بدراسة وتطوير إستغلال هذه الموارد المائية ولوضع خطة بعيدة المدى لاستغلال موارد البلاد المائية. لقد عملت دراسات مبدئية ساهم فيها سودانيون وخبراء دوليون وينبغي أن نواصل تنشيط الجهد السوداني واستقطاب الخبرة والتكنولوجيا والتمويل الأجنبي لتحقيق هذا الهدف الوطني الهام. القضية السابعة-إعادة التعمير آثار السيول والأمطار: في عام 1988م هطلت الأمطار على السودان بصورة غير عادية، وفاض النيل بحجم غير عادي، بل غير النيل مجراه. أما مقياس الأمطار فمتوسط هطول الأمطار على العاصمة سنويا يبلغ 160مم لكن في اسبوع واحد من يوم: 30/7/1988م إلى يوم: 7/8/1988م هطلت أمطار في العاصمة بلغت 279.5م م. أما النيل فقد كان مقياسه قريبا من مقياس فيضان 1946م ولكن لأن أمطارا هطلت بصورة غير معتادة في مناطق السودان الشمالية مما أدى لتدفق سيول زادت من مياه النيل في شمال السودان وهجمت على القرى على ضفاف النيل فإن فيضان 1988م كان أبلغ أثرا على الإقليم الشمالي من فيضان 1946م. أما في العاصمة فقد أدى هطول الأمطار بالحجم المذكور إلى إيقاف الحياة. فقد تأثر توليد وتوزيع الكهرباء لأن عددا من محطات التوليد غطتها المياه وتأثرت تنقية وتوزيع المياه لزيادة الطمي وإتلافه للمواسير وعرقلة التنقية.لقد كان الطمي في زمن الفيضان العادي 13غراما في لتر الماء الواحد.لكن في آب (اغسطس) كان اللتر من الماء يحتوي على 27غراما من الطمي. إن توقف الكهرباء يوقف المطاحن والمصانع. وانقطاع المياه يوقف الحياة. وهذا ماكان في العاصمة حتى تعرضت لمجاعة وضائقة شديدة. ولمواجهة هذا الموقف عينت لجنة وزارية برئاسة عمر نورالدائم (وزير المالية) وأعطيت صلاحيات استثنائيه وفوضت لاستخدام كل إمكانيات السودان، واستقطاب كل عون الأشقاء والأصدقاء لمواجهة هذا الظرف الحرج.فأقبلت اللجنة على عملها بهمة شديدة ،مواصلة الليل بالنهار، متفقدة أحوال الناس في كل أنحاء العاصمة والأقاليم، مستنفرة لكل قدراتنا.نجحت اللجنة نجاحا باهرا إذ: • أمكن توزيع عدد كبير من الخيام لإيواء الذين سقطت منازلهم. • أمكن توزيع الغذاء للناس بصورة دقيقه وعادلة. • أمكن احتواء الأوبئة حتى أنه لم ينتشر وباء واحد. • استخدت القوات المسلحة في استلام وتوزيع الإغاثه ولعبت دورا متقنا في هذا العمل. • أشرف النواب على لجان شعبية في المناطق المختلفة للتأكد من عدالة توزيع الإغاثات. إن عمل اللجنة الوزارية للإغاثة في الفترة التي أعقبت الكارثة مباشرة( 4/8/1988م) نموذج حي للنجاح الذي يستطيعه أهل السودان عندما يكون عملهم نفيريا تتكاتف في سبيله كل المجهودات. الوزراء- الخدمة المدنية-القوات المسلحة-النواب-اللجان الشعبية. لقد اعتمدت اللجنة غالبا على مخزون السودان الغذائي لدرء الكارثة ولكن جاءتنا نجدة سريعة –هذه المرة من الأشقاء فاقوا الأصدقاء- من الغذاء والدواء والخيام،كان النصيب الأكبر من المملكة العربية السعودية ولكن كل الأشقاء تقريبا ساهموا: الجماهيرية الليبية-العراق-مصر-الجزائر-اليمن الشمالي-سورية-الأردن-إيران –تركيا-نيجيريا...الخ "وبعد أن احتوينا الآثار المباشرة للأمطار والسيول والفيضانات كون مجلس الوزراء لجنة عليا برئاستي لإحصاء الخسائر ووضع خطة لإعادة التعمير.اجتمعت هذه اللجنة وعينت لجنة فنية برئاسة أبوزيد محمد صالح لإحصاء الخسائر في كل أنحاء السودان.بسرعة فائقة أحصت اللجنة الخسائر وقدرتها بمبلغ 14 بليون جنيه سوداني في كل أنحاء الوطن. اجتمعت اللجنة الوزراية العليا واعتمدت حجم الخسائر، ووضعت برنامجا لإعادة التأهيل وإعادة التعمير اشتركت فيه الوزارات المختلفة. ثم خاطبت البنك الدولي للدعوة لمؤتمر دولي لدراسة حجم الخسائر والبرنامج الذي وضعناه لإعادة التعمير,وكانت تلبية البنك الدولي سريعة جدا. فانعقد مؤتمر دولي في الخرطوم في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1988م واستعرض المؤتمر حجم الخسائر ومقترحاتنا لإعادة التعمير وكونت لجان تخصصية اشترك فيها الخبراء والإداريون السودانيون وانتهى المؤتمر إلى القرارات الآتية: 1. إعتماد برنامج تأهيل وإعادة تعمير لكل الخسائر في حدود 407 ميلون دولار. 2. إنشاء جهاز خاص لمتابعة أعمال إعادة التعمير بصورة تتناسب مع سرعة الإنجاز المطلوبة على أن يكتمل في ظرف عامين. 3. تدفع الأسرة الدولية 90%، من التكاليف. على أن يدفع السودان 10%. ثم دعا البنك الدولي إلى مؤتمر عالمي في باريس في أول كانون الأول (ديسمبر) 1988م حضرته إلى حانب الدول الغربية المانحة أمريكا واليابان والسعودية وصندوق النقد الدولي وفيه حددت كل هذه الأطراف مساهماتها المالية في تمويل برنامج إعادة التعمير في حدود 407 ميلون دولار فكان هذا تجسيدا عمليا لنجاح سياسة السودان الخارجية والمكانة التي يتمتع بها بين دول العالم كافة. درست الحكومة هذا البرنامج، ووافقت عليه. حيث كلفت اللجنة الوزارية العليا بمتابعة خطوات التنفيذ.وبدأ العمل فعلا في تنفيذ هذا البرنامج الذي من شأنه إعادة تعمير وتأهيل البنيات الأساسية والخدمات الإجتماعية ووسائل الإنتاج التي لحقت بها الخسائر لا سيما في العاصمة والإقليم الشمالي حيث كان التلف أكبر. ولقد بذل السيد جاسب سنج ممثل البنك الدولي في السودان جهدا وافرا. فقد لعب دورا أساسيا في استيعاب المشكلة ومخاطبة رئاسته وكان يعمل في موقعه بوعي وإمكانات الموظف الدولي وعاطفة المواطن السوداني فلا يمكن تناول المشكل المذكور دن أن نحبوه بالإختصاص ونخصه بالشكر. ولابد من الإشادة برئاسة البنك الدولي لاستجابتها لكل نداء وجهناه لها في هذا المجال إضافة إلى إعادة تأهيل مؤسسات التعليم العالي ومجال إصلاح جميع مؤسسات القطاع العام وغيرها من المشروعات السودانية الهامة.إن البنك الدولي منذ عهد ماكنمارا صار ذا وعي وعقل وقلب دولي حقا.وانتهى به الأمر إلى إدراك مشاكل العالم الفقير والوعي بأبعادها الإجتماعية ولقد تخلص كثيرا من الأغلال التي قيدت مواقعه في الخمسينات من هذا القرن. القضية الثامنة-الأبعاد الإنسانية للتنمية كان الفكر الإقتصادي الغربي لا يعطي الجوانب الإنسانية والاجتماعية في التنمية أهمية كبيرة. وكان نقد ذلك التقصير من أهم ماجاء في الفكر الإشتراكي. وبفتور الحرب الباردة ومراجعة الفكر الرأسمالي لبعض آرائه بدأ شعور حقيقي بضرورة الإهتمام بالأبعاد الإنسانية والإجتماعية في الغرب. ثم بدأ هذا الوعي في الإنتشار. كان الفكر التنموي الأفريقي مهتما أساسا بالأبعاد الإنسانية والإجتماعيه. لذلك أجتمعت كل مصادر الفكر الإنساني حول الإهتمام بهذه القضايا. وصار التيار الغالب ألا تقبل زيادة دخل الفرد أساسا للنمو، بل ينبغي أن يؤخذ في الحسبان كيفية توزيع ذلك الدخل بين الناس ونصيب الخدمات الإجتماعية منه. تثبيتا لهذا الدور التنموي الصحوي فقد عقد مؤتمر دولي في الخرطوم حضرته الأمم المتحدة ومنظمة الأمم للتنمية الصناعية وعدد من الدول الأفريقية في آذار (مارس) 1988م لدراسة الأبعاد الإنسانية للتنمية في أفريقيا. وأحسن السودان الضيافة من حيث المخاطبة الفكرية للمؤتمر التي كانت على مستوى الأحداث. ومن حيث الإعداد للمؤتمر فقد قاد الدكتور بشير عمر (وزير المالية) يعاونه فريق المالية التحضير والدراسة بكفاءة عالية. وخاطب السيد رئيس الوزراء المؤتمر بأفكار محددة استقبلها المؤتمرون استقبالا إيجابيا وبعد التداول أصدر المؤتمر إعلان الخرطوم حيث صار معيارا لقياس الأبعاد الإنسانية للتنمية من أفريقيا. وكانت خلاصة- إعلان الخرطوم مايلي:- 1. ألا تقاس التنمية بنصيب الفرد من الدخل القومي فحسب بل تحدد أيضا عدالة التوزيع وتوزيع الخدمات الإجتماعية الضرورية. 2. تأصيل سياسات التنمية منعا للإستلاب والإستغراب. 3. إعطاء أولوية في التنمية لحاجات الإنسان الضرورية من مأكل ومشرب وصحة وتعليم وسكن. 4. الإهتمام بالتنمية الريفية لتكون التنمية متوازنة. 5. احترام حقوق الإنسان فلا تكون التنمية على حسابها بل دعما لها. 6. الإهتمام بتوازن البيئة. 7. إستئصال الأمراض المستوطنة يعطي أولوية في البرنامج الصحي. 8. أن يراعي التعليم الإستخدام الأمثل للموارد البشرية ومطالب التأصيل والعصرنة وأن يعمل على محو الأمية. 9. الحيلولة دون هجرة العقول بوسائل اختيارية. 10. الإهتمام بدور المرأة في النشاط الإقتصادي والتنمية بصورة تتناسب مع ظروفها الشخصية والإجتماعية. إن إعلان الخرطوم من السياسات التي شع بها السودان الديمقراطي في قارته وعالمه. القضية التاسعه-إعادة تعمير الجنوب لقد لحق بالجنوب تخريب كبير بسبب الحرب. والجنوب أصلا أكثر تخلفا من بقية أنحاء القطر، هذا معناه أن فجوة التنمية بين الشمال والجنوب قد اتسعت كثيرا. لقد وضعنا برامج لتعمير الجنوب عندما تضع الحرب الأهلية أوزارها. ونبهنا كل أصدقائنا وأشقائنا إلى ذلك الأمر فوجدنا منهم إستعدادا جادا للمساهمة في هذا البرنامج.وعندما قابل السيد رئيس الوزراء أمين عام الأمم المتحدة ذكر له الموضوع، فوافق على أن يكون للأمم المتحدة دورها في توجيه النداء والمشاركة في المؤتمر. ثم ناقش الموضوع مع السيد جيمس قرانت أثناء عمليات شريان الحياة فأبدى تجاوبا حماسيا مع الموضوع لذلك فإن برنامج تعمير الجنوب الآن من أولويات حكومة السودان وسيجد إحتضانا دوليا عندما يقف إطلاق النار. إن ماحدث من دراسة وتحضير، لبرامج علاج في مجال هذه القضايا التسع، يوضح ظهور نمط جديد في الحكم: نمط قومي، يجمع السياسيين والإداريين والفنيين والنقابيين والأكاديميين في عمل مشترك .ثم يشترك في الدراسة والقرار خبراء دوليون ودول صديقة في منبر قومي- دولي تقدم نتائجه لاتخاذ القرار السياسي الملزم. هذا النمط سيبقى وينمو ما بقي في السودان حكم ديمقراطي مستنير وسيقتدى به في أنحاء العالم الأخرى.
الفصل الثامن إلغاء قوانين سبتمبر 1983م والقوانين البديلة
الأنصار في السودان هم سلالة الدعوة التي جسّدت تطلعات الأمة الإسلامية في البعث الإسلامي والوحدة الإسلامية وتحرير ديار الإسلام من قبضة الإستعمار. وفي 1885م أسست تلك الدعوة دولة قوية على إقليم أوسع من إقليم السودان الحالي وشخصت بأبصارها إلى كل أنحاء العالم الإسلامي فتصدى لها الإستعمار، وقد كان في عنفوانه، فحاصرها بالعدوان وصاولته بالجهاد. فتغلب عليها. ولكن خليفة المهدي وسائر خلفائه وأمرائه استشهدوا ولم يستسلموا حتى أن الأمير عثمان دقنة بعد أن أمضى في الأسر سنين، فوتح في إطلاق سراحه إذا قبل أن يعود للحياة الطبيعية فقال : أنا بايعت على الجهاد وسأموت على بيعتي. هذه الروح أبقت الدعوة حية بعد زوال الدولة. وفي عهد الحكم الثنائي انبرى لها السيد عبدالرحمن الذي غير الأسلوب، ولكن لم ينكس الراية. فأبقى روح الجهاد والإلتزام الإسلامي وسلامة العبادات أساسا لتربية الأنصار وإن كان قد نسج حول هذا الجديد ثوبا من حرير. وعبأ الإمام عبدالرحمن المهدي الأنصار ومن حالفهم من القوى السياسية لتحقيق استقلال السودان. وبعد صراع طويل أجمع السودانيون على الإستقلال. وكان واضحا أن معركة التأصيل والتعمير ستأتي بعد التحرير. وبعد أن اكتملت معركة التحرير واستقل السودان، تعثر الإستقرار السياسي في السودان، ثم بدأت أولى حلقات الإستعمار الداخلي (الحكم العسكري الأول) في عام 1958م. وأثناء ذلك الحكم في عهد الإمام الهادي عقد الأنصار مؤتمرا في الجزيرة أبا –في آذار(مارس) 1963م وهناك -بعيدا عن جواسيس الخرطوم، وضعت معالم البرنامج السياسي للمستقبل. وتقرر أن يكون الهدف هو بناء مجتمع إسلامي متطور.ومنذ ذلك المؤتمر شرعت قيادة الأنصار، ثم قيادة حزب الأمة فيما بعد، تدعو للنهج الإسلامي الذي يلبي تطلعات الشعب السوداني ويلائم تاريخهم. لقد كانت القوى السياسية السودانية ترفع شعارا إسلاميا. لذلك لم يكن مستغربا أن تتجه بعد إسقاط نظام الفريق إبراهيم عبود في 21 تشرين الأول (اكتوبر) 1964م وبعد قيام الجمعية التأسيسية وانصرافها لمهمة وضع دستور البلاد الدائم ،إلى النص على التشريع الإسلامي في الدستور الدائم المقترح.هذا ما تضمنه مشروع دستور 1967م الذي أجازته لجنة دستور قومية، وأحيل للجمعية التأسيسية لمناقشته.وبينما كان يناقش وقع إنقلاب 25 مايو1969م الذي كان في بداية عهده يساري التوجه فمزق "الوريقة الصفراء" أي دستور التشريع الإسلامي مثلما مزق الدستور الديمقراطي المؤقت(دستور 1956 المعدل 1964م)- الدستور الذي كانت تحكم به البلاد منذ ثورة اكتوبر. وبينما مضى نظام الديكتاتورية الثانية يحاول تأسيس دولة "ديمقراطية شعبية" في السودان، مضت القوى الوطنية والإسلامية تكّون جبهة وطنية عريضة ضده. وأخفقت شعارات اليسار. واختلف النظام بين عناصره الشيوعية وغير الشيوعية. وبطش جعفر نميري بحلفاء الأمس في مذابح مشهورة. وفي حالة عدائه للشيوعية وجد داخليا بعض القوى السودانية التي رحبت بأفعاله، ووجد خارجيا ترحيبا غربيا وعربيا.وبدأت تداعب خاطر جعفر نميري أفكار إسلامية، ما لبث أن صاغها في كتاب- أو صيغت له في كتاب- نشره بإسم النهج الإسلامي لماذا؟ هذا الكتاب تحدث عن أهمية الإلتزام الإسلامي. وربط برنامجه الإسلامي هذا بالتربية والترشيد وقال: إن هذا هو كل ما يمكن تحقيقه في هذا الجيل، على أن تتولى أجيال أخرى ما وراء ذلك. وقبيل المصالحة الوطنية فكر في إجراء إصلاحات تشريعية إسلامية. فعين لجنة لأسلمة القوانين، برئاسة د.حسن الترابي في كانون الثاني (يناير) 1977م.عكفت هذه اللجنة على مشروع الأسلمة، وتطرقت لموضوع تطبيق الحدود. فالتزمت نهجا متدرجا ورأت أن في مثل هذا التطبيق المتدرج المقترح مصلحة كبيرة للإسلام. تحدثت –مثلا- عن ضرورة التدرج في تحريم الخمر والعقوبة عليها، حتى لا يفر بعض الناس من الدين نفسه، فرارا من هذا التحريم.اتخذوا نهجا تخفيفيا لم يرضه آخرون. حتى أن مجلة المجتمع الإسلامية الكويتية، رمت الترابي بتحليل الخمر. هكذا كان إتجاه الرئيس المخلوع وحلفائه (الأخوان المسلمون) يتعاملون مع الشعار الإسلامي ،بطريقة مخففة تميل إلى التربية والتدرج. وكان العالم الإسلامي منذ 1975م، يمر بمرحلة أطلق عليها "الصحوة الإسلامية" وهي مرحلة إنصراف عن الأيدلوجيات الوافدة واستقبال للبعث الإسلامي. وكثرت على الساحة الإسلامية نداءات الصحوة الإسلامية ومن بينها منبر عالمي اسمه المجلس الإسلامي العالمي مركزه في لندن. كان الأنصار والأخوان المسلمون السودانيون أعضاء في هذا المجلس. ومساهمة من هذا المجلس في فكر الصحوة الإسلامية، وضع بمشاركة واسعة من أعضائه من كل أنحاء العالم الإسلامي وموافقتهم وثائق أساسية توضح النظام السياسي الإسلامي –والنظام الإقتصادي الإسلامي –وحقوق الإنسان في الإسلام -ومشروع دستور إسلامي. وكان أمين عام هذا المجلس الأخ سالم عزام وهو مسلم مخلص شجاع ينسق مجهودات الجميع ويدعو المؤتمرات لمناقشة ونشر هذه الوثائق الهامة. وأهم سمات هذه الوثائق: 1. أن النظام السياسي الإسلامي يقوم على الشورى والحرية واستقلال القضاء. 2. أن النظام الإقتصادي الإسلامي يقوم على العدالة وكفالة معيشة الكافة. 3. أن حقوق الإنسان: في الحرية، والكرامة ،والحرمات الشخصية ،والعدالة هبة من الله، ولايجوز لبشر أن يعتدي عليها. 4. أن النظام الإسلامي يقيم الحرية والعدالة الإجتماعية، ويحمي الحقوق بالعقوبات الشرعية. فالنظام قبل الحدود والحدود لحماية النظام. وكان أمين عام المجلس الإسلامي يبعث بهذه الوثائق للحكومات الإسلامية، مناشدا لها وللمفكرين والدعاة والحركات الإسلامية التجاوب معها. وهكذا خلق المجلس الإسلامي رأيا عاما إسلاميا ذا معالم واضحة، وقفت جنبا إلى جنب مع أطروحات البعث الإسلامي الأخرى التي زحمت الساحة الإسلامية. وعلى إثر وقوع الثورة الإسلامية في إيران ونجاحها وإرتفاع راية الإسلام في مجالات مختلفة، مع حضور إسلامي على رأس حركات تحرير مختلفة، فزع الفكر الغربي من الصحوة الإسلامية. وصاروا يخشون أن تنجح الصحوة في إيجاد فكر إسلامي مستقل من الفكر والثقافة الغربية وقادر على تعبئة الشعوب الإسلامية في مواقف متحررة من التبعية للغرب، فتضع حدا لتغريب الثروة. وتقيم كيانا فكريا وسياسيا أكثر تحديا للغرب من الكيان الشيوعي نفسه –لأن الشيوعية في نهاية المطاف اجتهاد غربي- وإن رأوه منحرفا.وكان واردا في أذهان كثير من مفكري الغرب أن هذه الصحوة يمكن إجهاضها من الداخل، وذلك عن طريق تبني الإنتهازيين لها، فيتخذونها وسيلة لدعم سلطتهم، ويطبقونها بطريقة مشوهة فاشلة، فيخبو بريقها مثلما حدث لشعارات القومية العربية. ومثلما حدث لشعارات الإشتراكية الأفريقية (على يد الزعيم نكروما وآخرين). لا أحد يعلم على وجه اليقين لماذا تبنى جعفر نميري وضياء الحق في باكستان الحماس للشعار الإسلامي. ولكنهما تبنيا هذا الشعار بحماسة، وربطاه بتدعيم سلطانهما. وربطاه أيضا ،بخطٍ لهما في السياسة الخارجية ملتزم استراتيجيا بالتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية.ويفسر السيد الصادق تبني كل من جعفر نميري وضياء الحق للشعار الإسلامي مع إلتزامهما بالتحالف مع أمريكا بقوله:"إنني أظن ظنا معقولا أن جهة ما في الغرب كانت حريصة على تبني هذين الديكتاتورين للشريعة الإسلامية ليحرقا هذا الشعار. فيتخذ من تجربتهما البرهان على عدم صلاحية الشريعة والأيام ستكشف الحقائق جلية". في نسيان (ابريل) 1983م كان نميري يطوف بإقليم دارفور، وهناك أعلن عن تطهير الهيئة القضائية من 45 قاضيا .رماهم بكل قبيح من فساد الأخلاق، وسوء السلوك. رفض قضاة السودان هذا الإجراء والإتهام الذي انبثق منه وقدموا إستقالات جماعية في شهر حزيران (يونيو). وحاول أن يقهرهم بتعيين قضاة من أرباب المعاشات، وحاول أن يجلب قضاة من مصر. لكن الوسائل المختلفة لم تسعفه. لذلك تراجع أمام موقف القضاة وأعيد المفصولين في أول ايلول (سبتمبر) 1983م. وكان النظام مكروها معزولا، فأراد أن يغطي تراجعه التكتيكي هذا، بهجوم استراتيجي، لكيلا يرمى النظام بالضعف. لذلك أعلن في 8 ايلول (سبتمبر) ما أسماه "الثورة التشريعية". وفي هذه الثورة أعلن أول حلقة من قوانين أيلول (سبتمبر) لتطبيق الحدود. وأعلن أنه قد طبق الشريعة الإسلامية. وتصور الرئيس المخلوع أنه بهذه الثورة التشريعية قد حقق: 1. إيجاد ركيزة فكرية لنظامه المتهاوي ،ركيزة لها سندها الأصيل في السودان. 2. أنه بإعلان تطبيق الشريعة سوف يصبح حاكما شرعيا طاعته واجبة بأمر الدين ومخالفته بغي يعاقب عليه الدين. 3. أن أحكام الإسلام الحدَية، ستردع كل المخالفين. وأن في إعلانها ما يثير حماسة المسلمين داخل السودان وخارجه فيدعمون نظامه. ولكي لا يشارك أحد في فضل هذا -الإنجاز فإن الرئيس المخلوع لم يشرك حلفاءه (الأخوان المسلمين) في القرار ولا في وضع القوانين.بل أوكل المهمة لأشخاص يستمدون وجودهم منه (النيل أبوقرون- عوض الجيد- وبدرية سليمان) وترك للأخوان المسلمين دور التجاوب والتأييد والتعبئة. الأشخاص قليلي الخبرة والمعرفة الذين أوكل إليهم صياغة هذه القوانين، صاغوها فأصدروها بأوامر مؤقتة. وألزم لجنة التشريع في مجلس الشعب ومجلس الشعب نفسه رفع لائحة المجلس، لإجازة هذه القوانين دون مناقشة. وقد كان. القوانين التي صدرت على التوالي، وسميت (قوانين سبتمبر) تبلغ عشرة قوانين. وتلى إصدارها إعلام كبير بأن السودان قد طبق شرع الله. وعلى صدى ذلك بويع جعفر نميري إماما للدين. يقول السيد الصادق المهدي: كنت خارج البلاد عندما صدرت هذه القوانين. ولما قفلت راجعا، اجتمعت إلى زملائي ،فرأوا أن الذي حدث يشوه الإسلام، ويعارض النهج الإسلامي الذي خططنا له مع آخرين. عندما صليت بالناس في عيد الأضحى المبارك في يوم 18 ايلول (سبتمبر) 1983م، أوردت في الخطبة تعليقا على التشريعات الجديدة- ما خلاصته: أ-أننا نرحب بتطبيق الشريعة الإسلامية في السودان. ب-تطبيق الشريعة يعني أن يقوم نظام سياسي واقتصادي وإسلامي بكل حقوقه وضوابطه، ثم تأتي العقوبات الشرعية لحمايته. ولكن أن نبدأ بالعقوبات- فتشويه للإسلام . ج-إن السودان يعاني من مجاعة. وفي عام المجاعة عطل عمر رضي الله عنه حد السرقة. كما عطله في حالة الحاجة ،فلم يقطع غلامي حاطب بن أبي بلتعة لأنه كان يجيعهما.أما عيبها من الناحية الإسلامية فبيانه: 1. لقد اتفق جميع دعاة الشريعة الإسلامية في هذا العصر أن البدء في تطبيق الشريعة بالعقوبات فيه تشويه للإسلام وهزيمة لمقاصده،هذا ما جاء على لسان الشيخ حسن البنا في مصر وما قاله الشيخ أبو الأعلى في باكستان.كلاهما تحدث عن كيفية تطبيق الشريعة وعن الضوابط اللازمة في هذا الصدد.وكلاهما أسس حركة إسلامية.الأول مؤسس حركة الأخوان المسلمين.والثاني مؤسس حركة الجماعة الإسلامية. 2. وإذا صرفنا النظر عن تلك النقطة، فكثير من الجرائم التي نصت عليها الأحكام جرائم أركانها وضعية وعقوباتها إسلامية مثلا: • السرقة الحدية في الشريعة :هي أخذ مال الغير خفية من حرز دون اضطرار على أن يبلغ المسروق نصابا معينا. هذا التعريف للسرقة لم يراع في هذه الأحكام. فلم تراع شروط الحرز، ولا الخفية، ولا الإضطرار،وقطعت الأيدي بموجب أركان وضعية للجريمة. • الحرابة في الشريعة لها أركانها وهي النهب المسلح مع تعذر النجدة.هذه الأحكام أطلقت الحرابة على كل نهب أو كسر لمنزل أو دكان دون ضوابط. • في الشريعة لا يجوز أن يرمى أحد بتهمة فيها عبارة الزنا إلا إذا جاء معه بثلاثة شهود هو رابعهم.هذه الأحكام نصت على ماسمته الشروع في الزنا- إن مفهوم الشروع في الزنا هو مفهوم وضعي. • لذلك عندما دعوت جماعة من علماء المسلمين من مصر وباكستان والأردن في عام 1987م وكلفتهم بإصدار رأي في قوانين سبتمبر هذه بعد دراستها، قالوا أنها معيبة في جوهرها وفي صياغتها وقدموا تصويبا لها. عيوبها من الناحية العدالية: 1. في قانون سبتمبر الجنائي أدخل النظام قانون أمن الدولة، وهو قانون ظالم يصادر حريات المواطنين وحقوقهم. 2. القوانين لم تراع أبدا وجود سودانيين غير مسلمين -لا سيما في الجنوب لهم حق المواطنة والرأي فيما يطبق عليهم من أحكام. خصوصا إن كانت صادرة من تشريعات مخالفة لدينهم.لذلك عارضوها جميعا حتى أولئك الذين كانوا مؤيدين للنظام أمثال أبيل الير وجوزيف لاقو. 3. إن تطبيق الشريعة واجب على كل مسلم ولكن استنباط الأحكام وتقنينها، إجراءات اجتهادية للمسلمين فيها حق الشورى. هذه الأحكام صدرت بطريقة فوقية، مستعجلة، خالية من الشورى الواجبة. العيوب التطبيقية لقد أساء نظام مايو إساءة بالغة للإسلام وللعدالة بطريقة تطبيق القوانين.صادر النظام الضوابط القضائية المعهودة وأقام جهازا قضائيا"للعدالة الناجزة"، اختار له قضاة حسب ولائهم السياسي له.ونتيجة لهذا التفريط في العدالة وقعت مهازل كبيرة- فقطع من الأيدي 200 في ظرف عام واحد. وجلد عدد كبير من الرجال والنساء بتهمة الشروع في الزنا دون إثبات.وفتح بلاغ ضد محمود محمد طه وآخرين تحت قانون أمن الدولة لأنهم وزعوا منشورا ضد السلطة الحاكمة. وأثناء المحاكمة غير القاضي التهمة للردة. وحكم عليه بتأييد حكم صدر ضده في بورتسودان في عام 1965م- أي الردة. وأعدم تنفيذا لهذا الحكم إهدارا لكل عدالة شرعية ووضعية. هذا التشويه لعدالة السماء، ولعدل الإنسان، أثار غضب أهل السودان على قوانين سبتمبر 1983م :على جوهرها وعلى صياغتها وعلى تطبيقها. فقرر ميثاق الإنتفاضة إلغاءها. لقد خاض حزب الأمة الإنتخابات العامة في 1987م ببرنامج أجازه مؤتمره العام، الذي انعقد في فبراير 1986م وهو برنامج نهج الصحوة. وكان نص نهج الصحوة في هذا الصدد هو إلغاء قوانين سبتمبر وإصدار قوانين بديلة صحيحة، من حيث إسلاميتها وعدالتها. وبعد الإنتخابات قرر حزب الأمة والإتحادي الديمقراطي تكوين إئتلاف بينهما وآخرين في حكومة الوحدة الوطنية، واتفقا على ميثاق ليحكم سياسات وبرامج تلك الحكومة.يقول السيد الصادق المهدي "كانت أول مشكلة واجهت الحزبين في هذا المجال هي : إلحاح حزب الأمة على "النص على إلغاء قوانين سبتمبر ورفض الإتحادي الديمقراطي للإلغاء طالبا تعديل القوانين" ورغم أن الحزب الإتحادي كان قد وقع على ميثاق الإنتفاضة، وفي الميثاق النص على الإلغاء، إلا أنه تراجع عن هذا الإلتزام.وفي النهاية اتفق على تعبير توفيقي (إصدار قوانين بديلة لقوانين سبتمبر تلغى بموجبها). لعل السبب هو تخوف الحزب الإتحادي الديمقراطي من الدعاية الإعلامية الصحافية من قبل الجبهة الإسلامية وسط قواعدها،وفيما يلي الخطى التي اتخذت في هذا الطريق: 1. في ظرف شهرين من قيام الحكومة المنتخبة قدم النائب العام أول مشروع بديل للقانون الجنائي أي قدمه في سبتمبر 1986م .لم نقبل ذلك المشروع وقررت الحكومة توسيع دائرة التشاور بشأنه. 2. وجه النائب العام النداء لكل الجهات السياسية والحقوقية للمساهمة في الأمر .وبالفعل تقدمت عدد من الجهات بمشروعات قوانين نذكر منها: • مشروع قانون نقابة المحامين. • مقترحات قدمتها الهيئة القضائية بطريقة غير مباشرة. • مشروع قانون اقترحته الجبهة الإسلامية القومية. • مشروع قانون اقترحه الأخ علي محمود حسنين. جمع النائب العام في ديوانه هذه المشروعات، وبعدها قدم مشروع قانون منقح ،عرض على الهيئتين البرلمانيتين للأمة وللإتحادي الديمقراطي.أبدت الهيئة الإتحادية عليه تحفظات.لذلك اتفق على تكوين لجنة فنية مشتركة من الحزبين . 3. تكونت لجنة من الحزبين مقررها جبرالله خمسين وتاج السر مصطفى وقدما بعد فترة مشروع قانون بديل. 4. قبل الوصول لحل حاسم للقوانين البديلة دعي السيد الصادق المهدي لتقديم محاضرة عن قوانين سبتمبر والقوانين البديلة في ندوة جريدة السياسة.كان ذلك في اكتوبر 1987م .بعد الندوة أتفق أن يقوم د.خالد فرح على الموضوع بجهد أهلي. لتكوين منبر شعبي فني قومي لبحث قضية القوانين البديلة. وأقدم د.خالد فرح على الموضوع بهمة ونشاط فوجه الدعوة في منزله لعدد من الشخصيات الممثلة لكل الأحزاب السياسية وبعض النقابات وبعض المفكرين فحضر الإجتماع المنعقد في 6/11/1987م الأخوة: ميرغني النصري. أبيل ألير. عثمان خالد مضوي. الطيب أبوجديري. الحبر نورالدائم. الدو اجو دينق. عثمان عبدالله. جبرالله خمسين. محمد عمر بشير. اندرو ويو. انعام عبدالرحمن المهدي. خالد فرح. مناسا مجوك. عبدالوهاب محمد عبدالوهاب. بونا ملوال. خلف الله الرشيد. محمد نورالدين الطاهر. مدثر عبدالرحيم. الصادق المهدي. أطلق على هذه المجموعة (اللجنة الأم) وانبثقت منها لجنة تنفيذ ومتابعة مكونة من : ميرغني النصري. ابيل الير. الطيب أبوجديري. عثمان خالد مضوي. جبرالله خمسين. اندرو ويو. عبدالوهاب محمد عبدالوهاب. الحبر نورالدائم. محمد نورالدين الطاهر -مقررا وفي بداية عمل هذه اللجنة أتفق على المبادئ الآتية: 1. الحوار الديمقراطي هو السبيل الأوفق والطريق المعبد لحل المشكلات، لا المواجهة والعنف.وفي إطار ذلك يعطى المؤتمر الدستوري أولوية قصوى لتحديد السمات العامة للمجتمع والدولة وشكلها. 2. التنوع الحضاري والثقافي حقيقة ماثلة في السودان يتحتم الإعتراف بها ومعالجة مشكلاتنا الوطنية على ضوئها. 3. الوفاق يقوم على كفالة فرص النمو والتعبير، المتكافئة لكل ثقافة أو حضارة تمارسها المجموعات الوطنية. 4. لا مكان لفرض الإسلام على غير المسلمين أو لقسر المسلمين على التخلي عن عقيدتهم. 5. القوانين السارية (قوانين سبتمبر) يلزم إستبدالها لأنها غير مبرأة من الشوائب إسلاميا، ومعيبة فنيا، وشرعت في غيبة الديمقراطية والشورى. 6. تتحدد الأسس الدستورية والقانونية للبلاد عبر المؤتمرالقومي الدستوري وتجاز بواسطة الجمعية التأسيسية. 7. لا اعتراض على تطبيق أحكام الشريعة على المسلمين. بعد الاتفاق على هذه المباديء العامة،دخلت لجنة المتابعة في مهمة فنية :هي مهمة مراجعة التراث القانوني الموجود بالتفصيل للإتفاق على قوانين بديلة.وفي هذه المرحلة إنضم للجنة مندوبون من نقابة المحامين هم الأخوة:اسحق شداد-د.سليم عيسى-جلال السيد-تيسير مدثر-مامون أحمد محمود-جريس أسعد. شرعت اللجنة الموسعة في عملها مستمدة من خبرة أعضائها الطويلة في الحقل القانوني ومستفيدة من الأدب القانوني الآتي: 1- مشروعات القوانين التي أعدها ديوان النائب العام كقوانين بديلة. 2- قوانين عام 1974. 3- مشروعات قوانين نقابة المحامين. 4- مشروعات قوانين الجبهة الإسلامية القومية. 5- قوانين 1925 و 1929. 6- قوانين الإثبات 1972 و 1983 ومشروعات الإثبات 1976،وقانون الحركة 1962. 7- التجربة المهنية الطويلة والسوابق القضائية في السودان. درجت اللجنة على الإجتماع كل يوم سبت وثلاثاء في فترة زمنية امتدت من نوفمبر 1987 إلى مارس 1988 وأثناء عملها،اشترك فيها حقوقيون آخرون: حافظ الشيخ الزاكي ويوهانس بور اكول .وفي نهاية الفترة قدمت اللجنة تقاريرها وهي مكونة من خمسة قوانين بديلة اتفق عليها هي: قانون العقوبات. قانون الإجراءات الجنائية. قانون الإجراءات المدنية. قانون الإثبات. قانون الحركة. وفي التقرير النهائي أوضحت اللجنة الفنية أنهم اتفقوا على تلك القوانين ،إلا أنهم استبقوا مسألة أحكام الحدود لتكون اللجنة الأم ،لجنة سياسية ،فنية للنظر فيها. إن هذه القوانين التي اتفق عليها،تشكل أعلى درجة وفاق وأكثر اجتهاد قانوني سوداني حديث.وكان المتوقع أن يقبل الجميع هذه القوانين كقوانين بديلة ،مع تكوين لجنة سياسية فنية لمناقشة مسألة الحدود ويضم ما يتفق عليه بشأنها إلى قانون العقوبات.ولكن دخلت عوامل غير موضوعية حالت دون ذلك هي: • الإتحادي الديمقراطي سحب ممثله من آحر مرحلة بعد أن كان قد شارك في كل المراحل وذلك نتيجة لسوء العلاقات بين نائب أمين عام الحزب(الأخ سيد أحمد الحسين) ومنسق اللجنة الأخ خالد فرح.صحيح كان من الممكن البحث عن شخص غير مختلف عليه ليكون منسق اللجنة ولكن لم يفطن أحد لهذه المشكلة ولم يظن أحد أنها يمكن أن تكون سببا لعرقلة عمل من هذا النوع –لا سيما ومن العسير إيجاد شخص يلاحق الآخرين في منازلهم ويحرص على جمعهم مثل الأخ خالد فرح. • الجبهة الإسلامية ،مع أنها شاركت في كل المراحل بل وفي الآخر كانت تطالب بأن يصّعد عمل هذه اللجنة(لجنة الوفاق) ليأخذ طابعا رسميا- من مقابلة بين السيد الصادق المهدي والدكتور حسن الترابي- ومع هذا الإقتراح ،انسحبت الجبهة فجأة من اللجنة في آخر اجتماع لها.ولدى صدور التقرير النهائي ،أعلن الأخ حافظ الشيخ في الصحف أنه انسحب تنفيذا لقرار حزبي!والتفسير المعقول لهذا التناقض هو أن الجبهة كانت مستمرة في اللجنة وترى أن تتحذ طابعا أكثر رسمية،ولكن لاح بعد ذلك شبح استفحال الخلاف بين الحزبين الكبيرين فرأت أن تحتفظ بموقفها كله للمساومة به في حلبة التنافس السياسي . 5. بعد ذلك كونت حكومة الوفاق الوطني في مايو 1988 وانضمت الجبهة الإسلامية القومية للحكم.وصار د.حسن الترابي وزيرا للعدل ونائبا عاما.وكنا نتوقع أن يبني على إنجاز لجنة الوفاق المشار إليها ويضيف مقترحات بشأن تطبيق الحدود.لو أنه فعل ذلك لاختصر الطريق وحاصر المشكلة .ولكنه لم يفعل ذلك.بل دخلوا كجبهة في حملة إعلامية حزبية هدفها أنهم دخلوا الحكومة لتطبيق الشريعة معطين الإنطباع أن الآخرين كانوا يعبثون.(لو بنوا على الإنجاز القومي لهزم الإنطباع الذي أرادوا إعطاءه). لقد حرصت الجبهة الإسلامية القومية-لأسباب سياسية وحزبية،أن تضع بصماتها على القوانين البديلة.نفس هذا المنطق استعدى الآخرين –لا سيما الإتحادي الديمقراطي الذي حرص ألا تكون بصمات الجبهة على القوانين البديلة.إن حرص الجبهة على الكسب السياسي الحزبي بالقوانين الإسلامية أضر بمصير القوانين ضررا بالغا. 6. في سبتمبر 1988 قدم النائب العام أول القوانين البديلة باسم القانون الجنائي لعام 1988م وبعد الفحص، اتضح أنه ذات المشروع الذي سبق أن قدمته الجبهة الإسلامية مع تعديلات طفيفة.نوقش الأمر في مجلس الوزراء وصار واضحا أن العامل الأهم ليس هو تقديم مشروع قانون جنائي، بل لمن ينسب الفضل، ومشروع من يكون الأساس؟الموقف الذي انتهى له المجلس هو:إدخال تعديلات في المشروع وإرساله للجمعية مصحوبا بالمشروعات الأخرى وهي: • مشروع قانون لجنة الوفاق. • مشروع قانون لجنة الحزبين المشتركة (جبر الله و تاج السر مصطفى) لتبحث الجمعية هذا الأدب القانوني وتقرر بشأنه. وكان واضحا أن ثمة خلافات مهمة ينبغي أن تقرر الجمعية بشأنها هي: 1- اختلافات فنية وقانونية: فهل يؤخذ بالترقيم المعهود لمواد القانون الجنائي وقدرها 532 مادة ،أم بالترقيم الجديد للمواد وقدرها 132 مادة .وهل يعتمد النص المقتضب في صياغة الأحكام ،أم النص المطول المصحوب بالشروح والأمثلة؟ 2- اختلافات إجتهادية إسلامية حول عدد الحدود ما بين اتجاهين: معتدل ومتشدد.فمن قائل الحدود أربعة وقائل بل ثمانية. 3- كيف يستثنى غير المسلمين من الأحكام الإسلامية؟جغرافيا أم شخصيا؟أم على مزج بين الإثنين؟ لقد قدمت الحكومة المشروع الجنائي الجديد وأرفقت معه المشروعات الأخرى المذكورة ،وبدأ النقاش في الجمعية في اكتوبر 1988.وبعد تداول الأمر ،أحيل للجنة التشريع في الجمعية التأسيسية ،وهنا ثار جدل:هل أجازت الجمعية المشروع في مرحلة القراءة الثانية وحولته للجنة التشريع لتقديم تقرير بشأنه في مرحلة اللجنة أو مرحلة القراءة الثالثة؟-(هذا رأي الجبهة الإسلامية).أم أن الأمر كان يسير بطريقة غير معتادة في لوائح الجمعية مما يجعل أعمال لجنة التشريع مندرجة في مرحلة القراءة الثانية؟-(رأي الإتحادي الديمقراطي). الحقيقة هي أن طريقة مناقشة مشروع القانون الجنائي المذكور في مجلس الوزراء وفي الجمعية التأسيسية وأهمية الموضوع الفريدة اقتضت أن يكون بحث الموضوع بصورة فضفاضة فيها عدم التزام باللوائح .وقبل أن يقدم الموضوع للجمعية وقع انقلاب حزيران. إن الجهد السوداني الذي بذل في سبيل وضع قوانين بديلة لقوانين سبتمبر جهد ضخم وجاد وقد أثمر أدبا قانونيا ضخما سطرته أقلام سودانية وسيكون رصيدا أساسيا للتشريع السوداني. إن التشريع في مسائل حساسة تثير المشاعر وتختلف حولها الآراء أمر عسير جدا في ظروف الديمقراطية .وبالرغم من ذلك فقد كان إنجاز هذه قاب قوسين أو أدنى.لقد أبطأ بالمهمة عدة عوامل بعضها موضوعي وبعضها ذاتي نلخص أهمها وهي: 1. أن هذه التشريعات تمس عقيدة المسلمين ،فهم يتطلعون للإمتثال لأمر الله -ففيها إنفاذا لواجبات العقيدة. كذلك إنها تمس مشاعر وآراء غير المسلمين الذين يرون أن عقيدتهم وحريتهم توجب ألا تطبق عليهم أحكام دين آخر. 2. زاد الأمر تعقيدا عدم وجود أغلبية من حزب واحد تحسم الأمر فصار محتاجا لتسويات واتفاقيات. 3. ومن أسباب التعطيل أن الجبهة الإسلامية القومية جعلت التشريع الإسلامي سبب وجودها ووسيلة تماسك قواعدها فلابد إذن أن يتم التشريع الإسلامي بصورة يكون فيها الفضل الأكبر لها، وإلا فلا مبرر لوجودها أصلا. وما دام في الأمر مصلحة حزبية فإن ذلك يثير التنافس الحزبي لدى الآخرين ويتأثر مصير القوانين بهذا التنافس. 4. ومنذ مدة ظهر تعارض بين الإسراع بإصدار التشريعات الإسلامية وبين العدول عن ذلك إلى حين عقد المؤتمر القومي الدستوري للإتفاق بشأنها .هذا الرأي الأخير قبلته أحزاب ونقابات السودان إلا الجبهة الإسلامية القومية وقد كان تجميدها مقترنا بعقد المؤتمر القومي الدستوري في يوم 18/9/1989م.وهذا الرأي هو الصحيح وما عداه تعصب حزبي لا يجدي. إننا الآن إذا ألقينا نظرة موضوعية للأمر نجد أن الذي ينبغي عمله هو إلغاء قوانين سبتمبر للأسباب التي سقناها وإصدار القوانين البديلة التي صاغتها لجنة الوفاق وهي قوانين اشتركت فيها كل الأحزاب ونقابة المحامين في فترة 4 أشهر من العمل الجاد.وهي قوانين تتسم بالآتي: 1. أنها تقنين لكل التراث القانوني السوداني والسوابق القضائية والتطورات القانونية في السودان. 2. أن فيها ضبطا للأحكام مما يضيق مجال تقديرات القاضي. 3. أن فيها إدخالا للدية كعقوبة إسلامية-في كل المواد الخاصة بالأذى مع تقدير الدية على أساس نقدي. 4. لقد صيغت أحكام القتل والقصاص في النفس كما هي في الأحكام الإسلامية وقد قبل ذلك غير المسلمين على أساس تمشيه مع أعرافهم. 5. إلغاء المواد الفضفاضة في قوانين سبتمبر مثل المادة 105 والمادة 327 أ (الإخلال بالأمن العام) والمادة 351(تبديد المال العام عن طريق الإهمال). 6. أبقى المشروع على نفس ترقيم المواد القديمة لاعتياد الجهات المختلفة :من شرطة واتهام ومتهمين ومحامين عليها. 7. توسع المشروع في الأمثلة والشروح،وهذا مفيد لا سيما وقد تدنى مستوى التعليم الحقوقي في البلاد. 8. أدخلت مادة جديدة توجبها مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان لمنع التعدي على الحرمات الشخصية. إن هذه النصوص قد اتفق عليها الجميع والديات وأحكام القصاص في النفس التي تطابق الشريعة قبلها غير المسلمين على أساس العرف الذي اعتادوه.أما أحكام الحريات الشخصية التي يراها المسلمون من الشريعة يراها الآخرون من حقوق الإنسان هكذا وقع التطابق مما يجعل تطبيق هذه الأحكام شاملا بلا استثناء. أما مسألة الحدود الشرعية فسوف يتفق بشأنها في المؤتمر الدستوري القومي وفيه يتفق على كيفية تطبيقها بما يوفق بين رغبات المسلمين وحقوق غير المسلمين. إننا في وطن واحد نريد أن نحافظ على وحدته وفي وطننا قتال نريد أن نوقفه فماذا يضيرنا أن نؤجل تطبيق بعض الأحكام الشرعية العقابية حتى يتفق بشأنها؟ومن قواعد الشريعة الأساسية أن درأ المفسدة مقدم على جلب المصلحة!! وشريعة الإسلام في كثير من وجوهها قائمة في بلادنا اليوم :نصلي ونصوم ونحج ونقيم الزكاة.ونقيم على الشريعة أخلاقنا ومعاملاتنا وأحوالنا الشخصية ونقيم عليها قيمنا وثقافتنا ونستعد لتوسيع الأحكام الشرعية بالفكر والتشريع الرصين،فما الضير أن نتريث إذا كان في ذلك درء مفسدة الحرب؟؟إن أسوأ ما في نهج مايو ونهج الجبهة الإسلامية القومية أمران هما: الأمر الأول:إيهام الناس أن تطبيق الحدود هو الشريعة كأن الشريعة مؤسسة عقابية!! بينما ترتبط الشريعة بقضية الصحوة الإسلامية وهي قضية تأصيل وأسلمة للمعرفة وانتصاف للشرق كله أمام غصب الغاصبين: • الصحوة الإسلامية تعني رد اعتبار لحضارة كانت تحمل مشعل الحضارة بحق. • الصحوة الإسلامية تعني فكرا يعالج قضايا الحكم والتنمية والمجتمع بصورة أفضل مما يوجد في الأيدولوجيات الأخرى. • الصحوة الإسلامية تعني إسعاف الفكر والحضارة الإنسانية المعاصرة بمعاني تفتقدها ولا خلاص لها إلا بها. • الصحوة الإسلامية تعني النظرة الشاملة الكلية المتوازنة للإنسان والمجتمع والتخلص من النظرات المبتسرة. هذه الكنوز المعنوية الحافلة والإمكانات المادية الضخمة انصرف عنها هؤلاء وحاولوا صرف قضية الإسلام عنها ليجعلوها قضية عقوبات لا قيمة لها أصلا إلا في حماية مجتمع إسلامي. الأمر الثاني: هو الربط بين مصلحة حزب ما ومصلحة الإسلام على نحو ما تحاول الجبهة الإسلامية. يمكن لفئة أن تقوم بدور الرائد: "ولتكن منكم أمة يدعون للخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون .." أما أن تقوم فئة بتكوين حزب تعلم أنه أداة صراع على السلطة وتستخدمه كأداة صراع على السلطة ثم تحاول جعل هذا النفق الضيق قناة الإسلام الوحيدة، دعما لطموحاتها، فخطر على الإسلام ما بعده خطر. لقد وجه كثير من الناس انتقادا للسيد الصادق المهدي وحزب الأمة وحملوه مسئولية عدم إلغاء قوانين سبتمبر حسب ما أعلن الحزب في برنامج نهج الصحوة ومواقفه السياسية. ولكن الحقيقة أن السيد الصادق المهدي وحزب الأمة عملا وسعهما لاقناع الحزب الإتحادي الديمقراطي -الشريك في الحكم بإلغاء هذه القوانين عند تكوين أول حكومة في مايو 1986.وبعد أن وافق الإتحادي الديمقراطي على الإلغاء شريطة إيجاد البديل،قام السيد الصادق المهدي بجهود جبارة في صياغة البديل والإتفاق عليه.ولكن عدم حماسة الحزب الإتحادي الديمقراطي لمشروع الإلغاء من الأساس أجهضت كل هذه المجهودات التي قام بها حزب الأمة.ولم يكن باستطاعة الحزب بقوته النيابية –منفردا تمرير الإلغاء المنشود على صعيد الجمعية التأسيسية.
لقد كان هنري كيسنجر أثناء أزمة البترول فيما بعد 1974م، حريصا على ارتفاع أسعار البترول. مع أن الظاهر من سياساته أنه ضد إرتفاعها-لأنه يعتقد أن ذلك في المدى البعيد لمصلحة مستهلكي البترول لأنهم سيجدون له بديلا كما أن ارتفاع سعر البترول يؤذي اليابان وألمانيا الغربية أكثر من غيرهما- وهما منافسا أميركا إقتصاديا!!
الفصل التاسع: أجهزة الدولة
تقوم الدولة الحديثة على مؤسسات ينبغي أن تعمل في تكامل وتناسق لتحقيق أهداف المجتمع التي يتضمنها دستوره. وعندما يكون الحكم استبداديا فإن جميع الأجهزة تخضع للإدارة العليا المتحكمة. فلا شيء يفصل بين السلطات، كما هو الحال في السودان في ظل الديكتاتورية الثانية. أما في ظل الديمقراطية، فالدستور يحدد صلاحيات مؤسسات الدولة والجميع يمتثل لذلك. السلطات الأساسية في الدولة الحديثة أربع هي: • السلطة التنفيذية. • السلطة التشريعية. • السلطة القضائية. • الصحافة. السلطة التنفيذية السلطة السيادية والتنفيذية تدخلان في مجال واحد وقد تتولاهما جهة واحدة كما هو الحال في الجمهورية الرئاسية.وقد تتولاهما جهتان :رئيس الجمهورية أو المجلس السيادي ومجلس وزراء كما هو الحال في الجمهورية البرلمانية. لقد اعتاد السودان منذ استقلاله أن يقسم الأمر بين مجلس سيادة أو مجلس رأس دولة يتولى الصلاحيات السيادية ومجلس وزراء يتولى المسئوليات التنفيذية. ومن خصائص هذا التقسيم في النظام البرلماني،أن تكون صلاحيات المجلس السيادي رمزية لأنه يمارسها دون مساءلة بينما مجلس الوزراء مسئول للبرلمان حيث يحاسب هناك على أدائه. وعندما اتفق الحزبان الكبيران(الأمة والإتحادي) على تكوين حكومة الوحدة الوطنية ،اتفقا أن يكون رئيس الوزراء من الحزب الأكبر ورئيس مجلس رأس الدولة من الحزب الثاني. ولكيلا ينشأ نزاع في الإختصاصات عين الحزبان الكبيران لجنة لتحديد اختصاصات مجلس رأس الدولة ومجلس الوزراء بصفة قاطعة على ضوء الدستور البرلماني القائم(دستور 1985 المؤقت). قامت هذه اللجنة بدراسة للمؤسسات المشابهة في بلدان أخرى وخلصت إلى الآتي: 1. أن رأس الدولة يملك ولا يحكم –أي يرمز للسيادة ولكن لا يمارسها من تلقاء نفسه. 2. كل المناشط التنفيذية من اختصاص مجلس الوزراء. 3. المناشط السيادية التي يمارسها مجلس رأس الدولة يمارسها بتوصية من مجلس الوزراء. قبلت لجنة الحزبين هذه التوصيات وكونت لجنة لتفريغ القوانين السارية وقتها على ضوء هذه الأسس.وقد كان .و صار الأمر كالآتي: 1- صلاحيات مجلس رأس الدولة الدستورية حصرت في قوانين الأوسمة والأنواط والزيارات الإنسانية والتصديق على التشريع الذي يجيزه مجلس الوزراء بأمر مؤقت أو الذي تجيزه الجمعية التأسيسية.والتصديق على أحكام الإعدام. 2- الأنشطة ذات الطابع التنفيذي كتعيين الوزراء أو ترقيات القوات المسلحة يمارسها مجلس رأس الدولة بتوصية من رئيس الوزراء أو الوزير المختص. هذا هو الأساس النظري ولكن هناك عوامل في الواقع السياسي لم تخضع تماما لهذا الأساس.فرئيس مجلس رأس الدولة هو أحد زعماء حزب سياسي شريك في السلطة التنفيذية.وأعضاء مجلس رأس الدولة الآخرون هم أيضا ساسة معروفون لذلك كان لهم دور سياسي وممارسات دخلت في نطاق العمل التنفيذي مثل: - أن يحضر رئيس مجلس رأس الدولة مؤتمرات القمة العربية في قيادة وفد السودان مع أن هذه المؤتمرات تتناول قضايا سياسية وتنفيذية. - أن يبحث مجلس رأس الدولة أمورا سياسية وداخلة في النطاق التنفيذي مع وفود أجنبية أو شقيقة زائرة للبلاد. - قيام رئيس مجلس رأس الدولة والأعضاء بزيارات ميدانية في السودان حيث تعرض لهم قضايا سياسية وتنفيذية فيقررون بشأنها أحيانا. - أن مجلس رأس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وهذا مفهوم رمزي لتكريم القوات المسلحة .ولكن هذه الرمزية خلقت لدى بعض الناس فهما خاطئا كأن القوات المسلحة ليست جزءا من الجهاز التنفيذي أو كأنها ليست خاضعة للحكومة.بل هي كذلك وينبغي أن تكون خاضعة للحكومة وأي تصرف يقوم به رأس الدولة نحوها ينبغي أن يكون بتوصية من رئيس الوزراء أو وزير الدفاع..لكن الفهم الخاطيء لهذا الموضوع خلق فجوة زادت من تهميش وزير الدفاع وبالتالي من إضعاف صلة الحكومة بالقوات المسلحة وخضوعها لها. إن الدستور واضح في بيان الصلاحيات ولكن هناك سببان خلقا تداخلا غير مشروع وجعلا رأس الدولة يمارس بعض الأنشطة التي ليست له بموجب الدستور الذي ارتضته البلاد .وهما: السبب الأول: أن مجلس راس الدولة مكون من ساسة كانوا نشطين في أحزابهم فواصلوا في الموقع الجديد بعض نشاطهم. السبب الثاني: الرمزية والحيل الدستورية التي توجد في الدساتير الديمقراطية محتاجة لتطور في الفهم والممارسة قل ما يوجد في بلاد حديثة العهد بالدولة الجديدة والمجتمع الحديث. وهنالك حالات قام فيها مجلس رأس الدولة بأنشطة سياسية ذات أثر تنفيذي ولكنها كانت بتوصية من الحكومة كالحالات الآتية: - التماس رئيس الوزراء من رئيس وأعضاء مجلس رأس الدولة إعلان ومتابعة التعبئة العامة بعد حادث احتلال الكرمك وقيسان.وقد تم ذلك واجتمع مجلس رأس الدولة بالسيد الصادق المهدي وبالسيد محمد عثمان الميرغني وبآخرين كزعماء أحزاب وخاطب عدد من الإجتماعات لتعبئة إمكانات السودان ومخاطبة الأشقاء لدعم السودان.وكانت حملة ناجحة وموفقة. - التمس السيد رئيس الوزراء من د.علي حسن تاج الدين عضو المجلس دعوة القوى السياسية لمناقشة ميثاق الوفاق في نيسان(ابريل) 1988 .فوجه الدعوة للقوى السياسية السودانية كلها ودار نقاش مثمر جدا في القصر .تناول كثيرا من القضايا المزمع بحثها في المؤتمر القومي الدستوري وسوف تشكل وقائع ما دار رصيدا ثريا للمستقبل.وفي نهاية تلك المناقشات أمكن التوصل لميثاق الوفاق الوطني الذي قامت على أساسه حكومة الوفاق الوطني في أيار(مايو) 1988. - وفي آذار(مارس) 1987 التمس من ادريس البنا نائب رئيس مجلس رأس الدولة رعاية مجلس الرحمة الإسلامي –المسيحي الذي أنيط به إيجاد وسيلة لتوصيل الإغاثة والدواء للمتضررين من غير المقاتلين عبر خطوط القتال. وقام المجلس بإجراء الإتصالات اللازمة ولكنه لم يجد تجاوبا من الحركة. - التمس من السيد ميرغني النصري عضو المجلس دعوة القوى السياسية والفئوية مناقشة قضية توحيد الجبهة الداخلية في شباط(فبراير) 1989 وقد وجه السيد ميرغني الدعوة لكل القوى السياسية والفئوية السودانية وترأس اجتماعات دامت شهرا وأثمرت البرنامج المرحلي الذي وقع عليه 29 حزبا ونقابة والذي بموجبه قامت حكومة الجبهة الوطنية المتحدة في آذار(مارس)1989.لقد كان جهدا مقدرا خلق رصيدا من الأدب السياسي السوداني له أثره في تطور البلاد السياسي. وأحيانا كثيرة قام رئيس وأعضاء مجلس رأس الدولة بمبادرات من عندهم في مجالات مختلفة ،مبادرات لم تعترض عليها الحكومة أو رحبت بها مثل: - التوسط لإزالة الفرقة :كالإجتماع الذي دعا إليه السيد أحمد الميرغني في القصر في يوم 4/1/1989 لإيجاد صيغة توفيقية بين الأمة والإتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية حول مبادرة السلام.وقد كان الإجتماع موفقا وصدر بيان من القصر بذلك. - مجهودات استقطاب الإغاثة من بعض البلاد العربية التي قام بها السيد إدريس البنا. - تبني وثائق توفيقية سياسية مثل تبني السيد ميرغني النصري لوثيقة الدفاع عن الديمقراطية والإعلان الوطني للسلام. وأهم عمل قام به السيد ميرغني النصري في هذا المجال هو رئاسته للجنة الوفاق التي صاغت القوانين البديلة وما توصلت إليه تلك اللجنة من أسس ستكون رصيدا قويا للمؤتمر القومي الدستوري في موضوع التوفيق بين الإلتزام الديني والوحدة الوطنية. وبالرغم من التجاوزات التي حدثت والثغرات التي ظهرت فإن رئيس وأعضاء مجلس رأس الدولة كانوا يدركون حدود مسئولياتهم وإن تخطوها فبحذر وكانوا أقرب إلى تبني المسائل القومية.ولا بد من ذكر أن السيد أحمد الميرغني منذ انتخابه رئيسا لمجلس رأس الدولة حرص على تجنب الأنشطة الحزبية والتزام النهج القومي. والشهادة لله أنه مع كل أسباب الإحتكاك السياسية والحزبية لم تقع أزمة واحدة حقيقية بين مجلس رأس الدولة ومجلس الوزراء على نحو الأزمات التي كانت تنشأ بين المرحومين السيد إسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة والسيد محمد أحمد محجوب رئيس مجلس الوزراء في منتصف الستينات. إن تاريخ العلاقة بين رأس الدولة الرمزي ومجلس الوزراء التنفيذي حافل بالنزاعات الحادة في كل أنحاء العالم وأهم مجال تطور فيه هذا النزاع هو نظام الحكم البريطاني. حيث كان التطور السياسي الديمقراطي أصلا من ضمن مراحل انتزاع البرلمان للسلطة الفعلية من الملك حتى صار العرش رمزيا لا يمارس سلطات حقيقية وصار هذا هو النمط الذي قيست عليه صلاحيات رئاسة الجمهورية البرلمانية. في مجال العلاقة بين رأس الدولة ومجلس الوزراء أيضا كما في الحالات الأخرى التي طرقناها من قبل كان أداء الديمقراطية الثالثة في السودان أفضل من سابقاتها.
الخدمة المدنية كانت سمعة الخدمة المدنية في السودان طيبة جدا، من حيث الأمانة والكفاءة بل كان كثير من المراقبين الأجانب الذين يزورون السودان يدهشون لمستوى جامعته ولمستوى شرطته ولمستوى قواته المسلحة ولمستوى قضائه وسائر مؤسساته فيقولون إن السودان هو بروسيا أفريقيا (إشارة لامتياز بروسيا في المانيا). ولكن الخدمة المدنية السودانية تعرضت لأولى هزاتها في عهد الديكتاتورية الأولى. لذلك عندما تولى السيد الصادق المهدي رئاسة الوزراء في آيار (مايو) 1966م عين لجنة مؤهلة برئاسة المرحوم السيد كرار محمد أحمد لدراسة مشاكل الخدمة المدنية واقتراح وسائل الإصلاح. وقبل أن تفرغ اللجنة من أعمالها ضايقته المناورات داخل البرلمان :(فطلبت تأييدا من الكتل البرلمانية لبرنامج اقترحته -فوقف معي من وقف ولكن تأييد البرنامج سقط بعشرة أصوات). فاستقال في آيار (مايو)1969م وفي تموز (يوليو) 1967م صدر تقرير كرار ولكنه أهمل. ثم تعرضت البلاد لطامة المايوية، فلحق بالخدمة المدنية مفاسد كثيرة خلاصتها: 1. التطهير العشوائي: لقد صنف النظام المايوي السودانيين على أساس أعوانه (وهم في المرحلة الأولى اليسار وحلفاؤه )وخصومه (وهم بقية أهل السودان).وانبري يستأصل أعداءه من مواقع الخدمة المدنية ويعين بدلهم أعوانه بصرف النظر عن الكفاءة والتجربة. هكذا طرد تعسفيا عددا كبيرا من موظفي وعمال السودان المهرة -هذا أكبر نزيف شهدته الخدمة المدنية. واتجه هؤلاء المطرودين للإغتراب: فكانوا رأس الرمح في حركة هجرة العقول التي تمت في السودان بحجم كبير وكانوا أساس السمعة الطيبة التي اكتسبها السودانيون في الخارج. من يسمع الملك فهد أو أو العقيد القذافي أو الأمير الحسن أو أمير الكويت أو رئيس جمهورية اليمن..الخ يتحدثون عن أداء السودانيين في بلادهم وفي دواوينهم يحس بالفخر والإعجاب لهذه الجماعات المهاجرة من أهل السودان.ولكنهم من ناحية أخرى خسارة على الخدمة المدنية السودانية. 2. تصور النظام المايوي أنه يمثل تحالف قوى الشعب العامل. متى اجتمعوا ومتى تحالفوا وكيف؟ولكن مهما كانت حقيقة الأمر فالنظام فرض نفسه وصيا وأعلن تحالفا بين الموظفين –العمال-المزارعين-الجنود-والرأسمالية الوطنية.وكما قرر لها تحالفها قرر لها مباديء هذا التحالف وألزمها بها .فمن لم ينحرط في الولاء لهذه التصورات التعسفية فإنه عدو للشعب ولقوى تحالفه مندرج في الثورة المضادة وعليه اللعنة!بهذا الأسلوب حاول النظام تسيس الخدمة المدنية.وعلى أساس هذا النهج صارت الخدمة المدنية أداة "للحزب"الحاكم فتسلق على رأسها الموالون للنظام أو الإنتهازيون الذين يحسنون مسح الجوخ.وانبرت وحدات الإتحاد الإشتراكي في مواقع العمل تحاول السيطرة على المصالح والوزارات مستعينة بأجهزة الأمن والقهر. هذا التسيس الأرعن شكل إفسادا واستنزافا للحدمة المدنية ما بعده إفساد. 3. ونظام مايو كان يعشق عبارة التثوير في حد ذاتها ظنا منه أن هذا النهج يعطيه شرعية ويبرهن على ثوريته ويقدم التوجه السياسي والثوري كما يتصوره على النظم واللوائح .لذلك انتهك نظم الخدمة المدنية ولوائحها وتخطى اختصاصات الوزارات والمصالح.وفي الثلث الأخير من ذلك العهد بعد أن استحكم حكم الفرد طغى القصر على كل الممارسات فتعدى على النظم واللوائح. وبلغت الفوضى أن القروض الخارجية التي تحكمها القوانين واللوائح استبيحت لكل من يجد الضوء الأخضر من القصر فتعقد الصفقات والإتفاقيات وتتراكم على البلاد الإلتزامات دون ضابط من قانون أو لائحة.هكذا تراكمت الديون على البلاد:ديون لم يكن النظام نفسه يعرف حجمها ولا تفاصيلها. 4. وفي عهد مايو تدنت قوة الجنيه السوداني الشرائية ففقدت في الفترة من 1970 إلى 1977 ألف % من قيمتها .هذه الظاهرة سببت ضغوطا معيشية لكل أصحاب الدخل المحدود برواتب أو أجور مما دفع كثيرا منهم للفساد المالي لدعم دخولهم.هكذا انتشر الفساد المالي في أجهزة الخدمة المدنية السودانية بصورة لم يعهدها السودان من قبل. 5. استباحة اللوائح،والإصرار على ولاء سياسي مصطنع،وتدني قيمة الجنيه السوداني،والترهيب الأمني..هذه العوامل كانت طاردة للكفاءات السودانية الإدارية والفنية والأكاديمية والتنفيذية والمهنية والماهرة بحجم كبير حتى أنك تجد تخصصا ما فقد كوادره بنسبة 90%(المساحون،الفنيون في المهن الطبية،خبراء الإرصاد الجوي ..الخ).هذا كان على حساب الخدمة المدنية. 6. وكثر في عهد مايو التوسع في تكوين الهيئات المستقلة فتحول عدد كبير من المصالح لهيئات مستقلة بفكرة تحسين الأداء.ولكن الذي حدث فعلا كان كالمستجير من الرمضاء بالنار .فالهيئات نشأت بطرق غير منضبطة فأقامت امبراطوريات يتربع على عرشها أصحاب الولاء للنظام بعيدة عن المساءلة يحرص قادتها على توفير امتيازات ورواتب العاملين فيها دون حرص مماثل على رفع الإنتاج وتحسين الأداء.ليس العيب في فكرة تكوين هيئات مستقلة بقانون.ولكن العيب في ممارسة كانت وبالا على الاقتصاد السوداني إذ جعلت استثمارا مقداره 50 بليون جنيه يمد إيرادات الدولة بمبلغ 150 مليون جنيه سنويا:أكبرجمل تمخض فولد فأرا صغيرا!! 7. وقامت تنظيمات نقابية في جميع الوحدات في القطاع العام وهذاه أيضا نشأت بطريقة غير منضبطة.فكبار المسئولين وهم في الواقع هم المخدمون دخلوا في عضوية هذه النقابات.مع من يكون التفاوض بين النقابة والإدارة في هذه الحالة؟ النقابات محكومة بمصالح أعضائها وهذا طبيعي والإدارة محكومة بمصلحة دافع الضريبة صاحب القطاع العام.لقد أهدر حق الأخير كثيرا تماما مما أدى للنتائج التي شهدناها في أداء كثير من هذه الهيئات.إذا كان كبار المسؤولين في هذه الهيئات أعضاء في النقابات وربما رؤساء لها ،وعليهم حتما تحقيق مصلحة الأعضاء لضمان إعادة الإنتخاب فمن الذي يعني بأمر المصلحة العامة؟هذه ظروف أدت لضغوط مستمرة لنيل الحقوق وتفريط مستمر في الواجبات وهو أمر يضر على المدى البعيد بمصلحة النقابات نفسها لأنه يقتل الدجاجة التي تبيض الذهب.وفي حالة صفاء وموضوعية فإن القواعد النقابية أول من يعترف بذلك ويوافق على الإصلاح ولكن في حالة الغفلة عن الأمر ترجح كفة الحقوق على الواجبات. هذه المفاسد استحكمت في الخدمة المدنية السودانية التي ورثها السودان من عهد مايو –الديكتاتورية الثانية.وعندما جاء عهد الحكومة الإنتقالية فإنها استشعرت مسؤوليتها نحو الخدمة المدنية وقررت تكوين لجنة قومية لدراسة مشاكل الخدمة المدنية والتوصية بإصلاحها برئاسة الأخ كرم الله العوض أحد علماء وخبراء الإدارة المعدودين في السودان. عكفت هذه اللجنة على مهمتها وفرغت منها بعد نهاية الفترة الإنتقالية مباشرة. وفي بداية مسئوليته سلم السيد رئيس الوزراء التقرير فأمر بتوزيعه على زملائه وعلى كل الجهات المعنية لدراسته وعقد عددا من الاجتماعات للتشاور بشأنه ثم عرضه على مجلس الوزراء فاتخذ قرارا بقبوله. خلاصة التقرير والتوصيات التي قدمتها لجنة كرم الله: أمنت اللجنة على المفاسد المذكورة أعلاه الموروثة في عهد الديكتاتورية الثانية وكانت أهم توصياتها: 1- كفالة جيدة للخدمة المدنية لكيلا تتأثر بتنازع الولاء السياسي. 2- تقنين الوزارات والمصالح بما يحدد صلاحياتها بالقانون واللوائح ويحول دون تداخل الاختصاصات. 3- احترام قوانين ولوائح الخدمة المدنية. 4- توضيح حدود المسئولية الوزارية والمسئولية الإدارية لمنع الإحتكاك الوارد بين المستويين. 5- كفالة حقوق العاملين في الخدمة المدنية بدعم لجنة الخدمة المدنية وحماية حقوق الجمهور الذي يتعامل معهم. 6- تنظيم الاغتراب بصورة لا تخل بمستوى الخدمة العامة في البلاد. 7- التخطيط لاستغلال الموارد البشرية وعلاج مشكلة فائض العمالة والاهتمام بالتدريب لسد نقص الكفاءات. هذه المباديء كونت برنامج الحكومة الديمقراطية نحو الخدمة المدنية والتزم بها الوزراء.واجتمع السيد رئيس الوزراء بقادة الخدمة المدنية وأكد لهم هذا التوجه وطلب منهم اللاتزام به. لقد التزم الوزراء بهذا التوجه فلم يتعرض أحد لكوادر الخدمة المدنية بأي إجراء تعسفي.ومع اختلاف الوزراء والحكومات فإن المسئولية في الخدمة المدنية ظلت كما هي عليه، تحكمها القوانين واللوائح في مسائل الترقية والنقل والامتيازات.لم يعف أحد أو يعين لانتمائه الحزبي فحسب بل كان الضمان لعدم التعسف في هذا المجال أن القرار بإعفاء أو تعيين كبار أعضاء الخدمة المدنية من اختصاصات مجلس الوزراء كله.صحيح أن المجلس فوض هذه السلطة لسيادته ومارسها طوال فترة ثلاث سنوات بالانضباط والموضوعية حتى أنه على طول تلك السنوات ورغم تعدد الأحزاب لم يطعن أحد في تلك الممارسة وبقي التفويض له من مجلس الوزراء حتى النهاية. وكانت لجنة الخدمة المدنية هي مرجعه في كل الشؤون المعنية ولم يحدث أن رد لها قرارا أو فرض عليها قرارا.وأولى اهتماما كبيرا بجهاز المراجعة ابتداء من الاعتراف بدوره المفتاحي ،الى إعطائه كل الإمكانات اللازمة لأداء عمله ،إالى الإهتمام بتقاريره.والإهتمام بالمراجعة كمؤسسة هامة للدولة وإجازة قانون المراجعين القانونيين لضبط المهنة وإعطائها الإحترام والإعتراف الدولي. اهتمت الحكومة الديمقراطية بموضوع فائض العمالة وعملت على علاجه بصورة لا تؤدي للتشريد وذلك بتحديد مواطنه بدقة وإيقاف الأيدي الفائضة عن حاجة العمل مع صرف مرتباتها وأجورها الأساسية كإعاشة وتدريبها لعمل بديل في القطاع العام أو الخاص. ووضع برنامج أولي لفائض العمالة وخوطبت منظمة العمل الدولية بشأنه فانتدبت خبراء وضعوا مع الفنيين السودانيين برنامجا مستمدا من برنامجنا ،ينتظر إذا نفذ بدقة أن يعالج عطالة الخريجين ،وهي ظاهرة اهتمت الحكومة بعلاجها في المنبع :بتخطيط التعليم وتوجيهه نحو حاجة البلاد الفعلية كما أوضحنا سابقا. البرنامج الخاص بعطالة الخريجين وجه استخدامهم في الوظائف الشاغرة الآن وايجاد عمل قطاع خاص لهم بتمويل وتسهيلات حكومية وتدريب بعضهم للأعمال التي لا تؤهلهم قدراتهم الحالية لها. أداء الهيئات المستقلة كان من المشاكل التي قعدت بالخدمة المدنية ،لذلك عينت الحكومة لجنة مؤهلة لدراستها ،فقدمت اللجنة تقريرا حدد عيوبها،وأهمها: 1- أن هذه الهيئات تدير ثروة عامة ضخمة ولكنها لا تساهم في إيرادات الدولة بما يتناسب مع هذا المال العام الضخم. 2- الرقابة على هذه الهيئات ضعيفة فميزانياتها لا تقدم مع الميزانية العامة.وحساباتها مت؟أخرة.وتستعمل كثيرا من الحيل لإخفاء حساباتها ورصائدها الحقيقية.ولا تلجأ للحكومة إلا للحصول على القروض. 3- لا توجد صلة مؤسسية بهذه الهيئات وفي كثير من الحالات صلتها بالوزير شخصيا وهذه صلة محدودة بقدرات الوزير مما يترك ثغرات كبيرة.لذلك أوصت اللجنة بالآتي: - إصلاح جميع وجوه أداء هذه الهيئات لتعود الإستثمارات بعائد مناسب للمال العام المستثمر فيها. - إحكام الرقابة على هذه الهيئات للتأكد من حسن الأداء والحيلولة دون إخفاء الحسابات وتأخير الميزانيات والمراجعات. - أن يكون مبدأ الاستقلال والشخصية الاعتبارية وسيلة لزيادة المرونة والربحية والإنتاجية والإنتاج فإن لم يؤد لذلك فلا معنى له.ومن المشاكل التي زعزعت الخدمة المدنية مسألة ترتيب وتقويم الوظائف كالمقارنة بين مؤهلات المهندسين المختلفة والمقارنة بين المهن المختلفة من حقوقيين وأطباء واقتصاديين ومهندسين وأساتذة ..الخ.والمقارنة بين المواقع المختلفة داخل المهنة الواحدة كالأساتذة-مثلا-وكل هذه المسائل لا يوجد في السودان دليل مدروس لتوجيه السياسة فيها.لذلك عينت لجنة مؤهلة برئاسة د.قلباوي محمد صالح الخبير السوداني ذي الصيت العالمي في ميدانه. عكفت هذه اللجنة على دراسة الموقف من جميع جوانبه والمتوقع أن تقدم كتابا للخدمة المدنية يحدد تقويما وترتيبا عادلا لكل وظائف الخدمة العامة في السودان،ليدرس ذلك التقويم على المستوى التشريعي والسياسي ،فإن أقر يصبح الدليل المعتمد للخدمة العامة في السودان .وبذلك يعلم أصحاب التخصصات المختلفة الموقع الذي ينتظرهم في الخدمة العامة السودانية دون غموض.هذا سيزود السودان لأول مرة في تاريخه دليلا لتقويم وترتيب الوظائف والمهن والتخصصات بالصورة التي يرضاها السودانيون لأنفسهم وتخدم مصالحهم وتكون مرجعا لحسم الخلافات بين أرباب المهن المختلفة.
الحكم الاقليمي الحكم الإقليمي هو وجه من وجوه اللا مركزية التي تلائم ظروف السودان من حيث تنوع سكانه وسعة إقليمه وتعدد جيرانه. وهو اتجاه تفاهم عليه السيد الصادق المهدي مع المرحوم وليم دينق أثناء انعقاد لجنة الإثنى عشر المنبثقة من مؤتمر المائدة المستديرة وتراضى عليه بقية أعضاء اللجنة فدخل في توصياتها .ثم عرضت توصيات اللجنة لمؤتمر جميع الأحزاب السودانية عندما سلمت لرئيس الوزراء في كانون الأول (ديسمبر)1966م وتداولها ذلك المؤتمر وأخذ بها. وأرسلت قرارات ذلك المؤتمر للجنة الدستور القومية فأدخلت نصا على الحكم الإقليمي في مشروع دستور 1967م. وفي عهد الديكتاتورية الثانية استمد منها النظام المايوي نظام الحكم الذاتي الإقليمي الذي تضمنته إتفاقية أديس أبابا 1972م كما استمد منها النظام قانون الحكم الإقليمي الذي أصدره في عام 1980م. وكما أفسد النظام المايوي كثيرا من السياسات الصحيحة فإنه أيضا أفسد الحكم الإقليمي.أفسده في الجنوب حتى هبت ضده حركات المقاومة المسلحة وأفسده في بقية أنحاء السودان لأنه جعل من حاكم الإقليم نميريا صغيرا يتحكم في الإقليم حسب هوى الأخ الأكبر.كانت مفاسد الحكم الإقليمي على عهد الديكتاتوية الثانية هي: 1. الفساد السياسي: فحاكم الإقليم ذو الصلاحيات الكبيرة يختار بطريقة هي في النهاية تعيين من رئيس الجمهورية ولذلك يصبح ولاؤه لمن عينه، ولا يهتم بمساءلة ومحاسبة إقليمية. وهذا فيه ما فيه من إهدار لفكرة اللامركزية لأنها تعني توزيعا حقيقيا للسلطة من المركز للإقليم وكان أكبر دليل على هذا أن عددا من أقاليم السودان كانت تتضور جوعا ولكن رئيس الجمهورية كان يتكتم على المجاعة فجاراه حكام الأقاليم على ذلك. 2. والحكم الإقليمي لم ينفذ بطريقة فيها ضبط للعلاقة الإدارية بين المركز والإقليم بحيث يتولى الإقليم صلاحياته وتتولى الإدارة المركزية صلاحياتها بطريقة تمنع الإحتكاك والتداخل. 3. وأسوأ ما أخفق فيه الحكم الإقليمي المايوي ،أن الأقاليم لم تكن لديها الصلاحيات ولا الإمكانات المالية لتمويل قراراتها فكانت معتمدة تماما على الحكومة المركزية . هذه الظاهرة وحدها كافية لجعل الحكم الإقليمي إسما على غير مسمى. عندما جاءت الحكومة الديمقراطية درست مشاكل الحكم الإقليمي الموروث واستأنست برأي اللجنة القومية المكونة لموضوع الحكم المحلي وما تراه من ربط بين الحكم المحلي والحكم الإقليمي ،كما استأنسنا برأي مؤتمر الضباط الإداريين الذي شجعناه وشاركنا فيه و اهتممنا بتوصياته حول الحكم الإقليمي.وانطلاقا من هذه الدراسات وضع برنامج إصلاح الحكم الإقليمي وخلاصته: 1. أن، يكون حاكم الإقليم من أبنائه المؤهلين الذين يحظون بتأييد غالبية أهل الإقليم كما يمثلهم نوابهم المنتخبون وأن يكون هو ونائبه والوزراء الإقليميون عاملين في الإقليم في شكل مسؤولية جماعية لتصريف شؤؤن الإقليم. 2. ضبط بيان الصلاحيات المركزية والإقليمية بصورة تحول دون التدخل والنزاع ،على أن تحّول المسائل الخلافية لمجلس الوزراء للبت فيها إن لزم. 3. وضع لائحة تعامل مالي بين المالية والإقليم لتأمين الميزانيات الإقليمية وللتوجه نحو تحديد إيرادات معينة للإقليم ليحقق الإكتفاء الذاتي. 4. تحقيق مقدار من المشاركة الشعبية عن طريق لجان شعبية موزونة التكوين. هذا هو الإصلاح المرحلي الذي قررناه. ولكن مستقبل الحكم الإقليمي الملائم للسودان الكامل الديمقراطية وهل يقف عند صلاحياته المعهودة ام توسع الصلاحيات في اتجاه فيدرالي ؟هذه المسائل أدرجت في أجندة المؤتمر القومي الدستوري الذي كان متوقعا انعقاه في كانون الأول (ديسمير)1988م ثم اتفق علي انعقاده في 18 ايلول (سبتمبر)1989م. إن مستقبل الحكم الإقليمي في السودان أو البديل الفدرالي له سوف يكون على صدر أجندة المؤتمر القومي الدستوري المزمع والذي سوف يتطرق بالنقاش والحل لكل قضايا السودان الوطنية، لاتخاذ قرارات بشأنها تفتح المجال واسعا لبناء الوطن. الهيئة القضائية استقلال القضاء هو أحد أركان الديمقراطية. الأركان الأخرى هي: الحكم النيابي-الحريات الأساسية- وسيادة حكم القانون.لذلك فالديكتاتورية في أي شكل كانت تبدأ دائما بالمواجهة مع القضاء لأنها لا تستطيع أن تحكم استبداديا إلا إذا طوعت القضاء لإرادتها الديكتاتورية.صحيح أنها تستطيع دون أي تدخل من القضاء أن تغير القانون وعلى القضاء أن ينفذ القانون كما تصدره هي كجهة مشّرعة. ولكن يمكن للقضاء أن يعترض: إذا سحب القانون حقوق الإنسان. والديكتاتورية تريد أن يُطبق القانون بطريقة غير محايدة. الديكتاتوية تطوع القضاء إما بفرض سيطرتها على الهيئة القضائية إن استطاعت وأما بتهميش الهيئة القضائية القائمة وتكوين هيئة قضائية موازية لها تمنحها صلاحيات القضاء وتضمن انصياعها لها أو بتكوين محاكم خاصة يجلس عليها للقضاء كوادر الدكتاتورية أنفسهم. القضاء غير المحايد غير المستقل لا يكون أبدا أداة لعدالة. بل يكون حتما أداة للحرمان من العدالة. لذلك نصت المادة 14 من الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي أقرته الدول عام 1976م كجزء من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (وقد وقّع السودان على هذا الميثاق في 18/2/1986م ) على حق الإنسان في أن يحاكم أمام محكمة منشأة بموجب قانون أمام قاض مؤهل ومستقل ومجرد. ونصت المادة 7/أ من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان (والذي وقّعه السودان في 18/3/1986م )على حق الإنسان في أن يحاكم أمام محكمة محايدة. إن التناقض بين استقلال القضاء والنظام الدكتاتوري ضرورة تقتضيها طبيعة الديكتاتورية وحقيقة تؤكدها وقائع التاريخ .ليس التناقض بين النظام الديكتاتوري والهيئة القضائية مستغربا بل عدم حدوثه هو المستغرب. ولكن الذي يحدث أحيانا حتى في النظم الديمقراطية أن ينشأ تعارض بين الحكومة (الهيئة التنفيذية) والهيئة القضائية. إن حكومات السودان في ظل الديمقراطية درجت على احترام الهيئة القضائية إلى درجة التقديس .هذه الحقيقة أدت إلى تجاوزات أضرت بالمصلحة العامة. فالسيد بابكر عوض الله رئيس القضاء بعد ثورة اكتوبر استخدم منصبه للقيام بأعمال سياسية أضرت بالبلاد وكانت من بين الأشياء التي مهدت لانقلاب 25مايو 1969م . إن استقلال القضاء جزء من معادلة تعني أيضا حياد القضاء. وكثيرا ما يكون القضاة -لا سيما في مجتمع مفتوح ومتداخل كالمجتمع السوداني معروفين بانتماء سياسي معين ،هؤلاء لا يمكن أن يكونوا أهلا للقضاء المستقل المتوقع الحيدة.وأثناء عهد الحكومة الديمقراطية الثالثة في سنتها الأولى بعد انتفاضة رجب/ابريل1985م كان رئيس الجهاز القضائي في الخرطوم شخص ينتمي إلى حزب المعارضة وكان يستخدم منصبه للنظر السريع في القضايا ضد الحكومة ويماطل في أي قضايا ترفعها الحكومة ضد آخرين. وفي ذات مرة لاحظ النائب العام (عبد المحمود الحاج صالح )أن إحدى المنظمات-منظمة الدعوة غير مرخصة لأنها لم تجدد رخصتها منذ ثلاث سنوات وكان على القاضي المختص أن يحكم في ظرف خمس دقائق أهي مرخصة أم غير مرخصة؟ هذا الأمر موطل فيه لمدة عامين. السجل حافل بحالات كثيرة استغل فيها القضاة قدسية استقلال القضاء وتصرفوا بغير حياد لأن لهم إنتماءا سياسيا. المسألة الثانية التي شكت منها الحكومة الديمقراطية هي تعطيل نظر القضايا. وهي مسألة يتفنن فيها بعض المحامين ويجدون إستجابة من بعض القضاة .ولا شك أن في هذه الأمور مصالح متبادلة. لهذا السبب ولأسباب أخرى نجد أن كثيرا من القضايا تقادمت جدا، وهو أمر له آثاره الضارة سياسيا وأمنيا واقتصاديا. فكيف يمكن أن يساءل القضاء للإسراع بنظر القضايا؟إنها عله لها أضرارا بالغة وقد تسبب الأذي للديمقراطية نفسها لأن المماطلة في إنجاز العدالة ظلم. مسألة ثالثة هي أن إستقلال القضاء وصل درجة في السودان أبعدت وزير المالية من أي صلة بما قرر القضاء لأنفسهم من شروط الخدمة. فالهيئة القضائية تقرر بصدد شروط خدمتها ما تشاء دون مراعاة لإمكانيات موارد الدولة ،ودون مراعاة للأثر التسللي لقراراتها إذ أن بعض فئات المهنيين تقيس حالها بحالهم وتتطلع لشروط خدمة مماثلة. هذا يعني أن الهيئة القضائية دون علمها تؤثر سلبا على ميزانية البلاد وعلى استقرار هياكل الخدمة فيها. إن استقلال القضاء كما مورس في ظل الديمقراطية الثالثة أدى لوجود قضاة ذوي اتجاهات سياسية حزبية استغلوا حقيقة استقلال القضاء لتعطيل أعمال الحكومة أي لتعطيل إرادة الأغلبية ولتدعيم إرادة معارضيها لتمكين الأقلية. التعطيل في نظر القضايا كان له أثره في سخط المواطنين على الأداء الديمقراطي .كما كان له أثره في تعويق النشاط الإقتصادي، وأدى إلى اتخاذ القضاة شروط خدمة غير مراعية لظروف البلاد المالية ومثيرة لمطالب مماثلة من ديوان النائب العام مما فتح الباب لخلق مفارقات جديدة لا يكون معها استقرار. إن استقلال القضاء ركيزة من ركائز الديمقرطية، ولكن ماذا يكون الحال إذا أدى استقلال القضاء لممارسات سببت خطرا على الديمقراطية؟ إن كل ما ذكرنا هنا لم يقصد منه النيل من مبدأ استقلال القضاء. ولكن قصد منه قفل باب الأمراض التي تلج من باب استقلال القضاء لقفلها قفلا محكما بكل الوسائل. إننا في الديمقراطية الثالثة صبرنا على كل التجاوزات، إحتراما للهيئة القضائية ولمبدأ استقلالها.ولكن لم يغب عنا الدرس المفيد جدا للمستقبل. وأرجو ألا يكون قد غاب على القضاة والحقوقيين السودانيين، لنخطط معا لقيام هيئة قضائية مستقلة مع ضوابط محكمة تؤكد أهلية وحيدة القضاء. وتؤكد عمل الهيئة القضائية مع أركان الدولة الأخرى في أداء يحفظ الديمقراطية والعدالة ويقي القضاء والبلاد شر فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.
الصحافة الصحافة هي هبة العصر الحديث وهي ركن من أركان الدولة لأنها تجلس على عرش الخبر والرأي ولا شئ أقوى من رأي آن أوانه، أو خبر كشفت حقيقته لجاهليه.لذلك لعبت الصحافة في العالم الحديث دورا مفتاحيا في حالتي الحرب والسلم وصار يطلق عليها –ليس مجازا- السلطة الرابعة أي رابعة السلطات الثلاث:التنفيذية والتشريعية والقضائية. إن للمبادرة الصحفية أثرا ماضيا. فالمبادرة الصحفية –الواشنطن بوست- مثلا،هي التي أقالت رئيس الجمهورية الأمريكية ريتشارد نيكسون. وعندما زار السيد الصادق المهدي الولايات المتحدة في عام 1989م قابل السناتور وليام فلبرايت زعيم الأغلبية الديمقراطية في الكونجرس الأمريكي (سابقا) فحكى له عن سلطان الإعلام وتأثير الصحافة وكيف أن آراءه لا تجد مجالها بسبب مواقف الذين يسيطرون على الصحافة. كان يتحدث عن وجود عناصر تسيطر على الصحافة والإعلام بما قد يجعلها تنحرف عن خدمة مصالح الولايات المتحدة لخدمة مصالح أخرى كاللوبي الصهيوني. وللصحافة البريطانية دورها المعروف في تكوين وإسقاط الحكومات وتوجيه الرأي العام البريطاني. وكلنا يعلم قوة الصحافة المصرية ودورها الفعّال في العالم العربي ،وقد خلفتها -لحين الصحافة اللبنانية. ثم الآن الصحافة السعودية والكويتية وصحافة المهجر. وللصحافة دور مرموق جدا في السودان الحديث. ومن بين أدوار الإمام الراحل عبدالرحمن المهدي الرائدة في تكوين السودان الحديث دوره في رعاية الصحافة. إذ كان كثير الإهتمام بها، وأصدر أول صحفية سودانية يومية (صحيفة النيل). لقد شهد السودان منذ استقلاله نهضة صحفية قوية استمرت حتى مايو 1969م. عندما وقع إنقلاب مايو كانت الصحافة السودانية الحزبية والمستقلة ناضجة تماما .ناضجة كمهنة ،وناجحة كصناعة رائجة ورابحة- لاسيما صحف: الأيام –الصحافة – الرأي العام – السودان الجديد. وفي عهد الدكتاتورية الثانية أممت الصحف وماتت مهنيا وصناعيا، إذ صارت دواوين مهمتها التطبيل والتضليل وصارت مؤسسات خاسرة من الناحية التجارية. بعد سقوط نظام مايو قامت الحكومة الإنتقالية، فأعادت حرية الصحافة ،وأبقت على صحيفتي الأيام والصحافة في القطاع العام، ورخّصت لإصدار الصحف الحزبية ولإصدار عدد هائل من الصحف المستقلة. لقد وضعت الحكومة الإنتقالية أقل الضوابط للصحف التي رخصتها. فصار عددها كبيرا جدا(حوالى 60 صحيفة ومجلة) هذه الصحف بعضها صدر ولكن لما كانت تكاليف الصدور باهظة جدا فإنها في الغالب اعتمدت على غيرها من حزب سياسي أو جهاز مخابرات أجنبي. عندما جاء عهد الحكومة الديمقراطية، كان واضحا أنه لكي تقوم الصحافة بدورها المطلوب هناك ثلاثة ضوابط مطلوبة: • قانون الصحافة والمطبوعات. • الانضباط الاختياري الذي يقدره الشخص المسئول من حيث الوطنية والكفاءة الصحفية. • ضابط الترخيص الذي يجب ألا يعطى إلا لجهة تقدر المسئولية الصحفية ولا تستغل الحرية لقتل الحرية وأن تكون قدراتها المالية وافية ومعروفة المصدر. قانون الصحافة والمطبوعات: كوّنت الحكومة الإنتقالية في عام 1985م لجنة برئاسة السيد بشير محمد سعيد لإعادة النظر في قانون الصحافة القديم. وفي عهد أول حكومة منتخبة نظر السيد محمد توفيق في تقرير لجنة الأستاذ بشير فوجد أنها قننت الحقوق ولم تراع الواجبات! ولسد هذه الثغرة شُكّلت لجنة من وزير الثقافة رئيسا، والنائب العام، ومبارك المهدي وألدو أجو أعضاء. قدمت اللجنة تقريرها. وبموجبه تم تعديل المشروع، فأجازه المجلس وأودعه الوزير في الجمعية. ولكن لدى نظره أبدت الهيئة البرلمانية للإتحادي الديمقراطي عليه بعض التحفظات لذلك سحبه الوزير (د. مامون سنادة) لإجراء التعديلات. أجريت التعديلات وعرض المشروع على مجلس الوزراء فأجازه وأدرج في الجمعية، ولكن قبل إجازته أبدى بعض الصحفيين ملاحظات للوزير الجديد(التوم محمد التوم) فرأى أن يأخذ بها فسحب القانون وأدخل عليه تعديلات ،ثم عرضه على مجلس الوزراء ولكن المجلس لم يوافق عليه. وبقي الحال كذلك إلى أن عين عبدالله محمد احمد وزيرا للإعلام والثقافة فأدخل في المشروع تعديلا جذريا .إزاء الإختلاف بين الحمائم (الذين يريدون القانون بدون أنياب) والصقور (الذين يريدونه بأنياب) قرر الوزير الجديد د. بشير عمر تشكيل لجنة برئاسة السيد بشير محمد سعيد وعرض توصياتها على رجال الصحافة ونقابة الصحفيين وانتهى الأمر لمشروع مقبول من كل الأطراف اعتمده الوزير الجديد د. حسين أبوصالح وقدمه لمجلس الوزراء. إن الذي أدى لهذا التطويل هو الإختلاف حول مدى النصوص العقابية في القانون، والإختلاف حول الصلاحيات الإدارية بين الحمائم والصقور وفي هذا الجدل دخلت الهيئات البرلمانية والمصالح الصحفية. كانت خلاصة مشروع القانون الأخير الذي أشرف عليه د. بشير عمر وأيد مضمونه د. حسين أبوصالح كالآتي: 1. تنظيم تسجيل الصحف وتنظيم ماليتها. 2. تنظيم قيد (سجل الصحفيين). 3. تحديد شروط وأهلية العاملين في الحقل الصحفي. 4. تضمين القانون ميثاق شرف يرتب أخلاقيات المهنة. 5. تنظيم علاقة الصحافة بالسلطة السيادية والتشريعية والتنفيذية. 6. تنظيم علاقة الصحافة بوزارة الثقافة والإعلام : الحقوق والواجبات وتنظيم دعم الدولة لقطاع الصحافة في مجالات التدريب واستيراد الورق .. الخ 7. أن تقوم الصحافة بدور واضح في الوحدة الوطنية ،حب الوطن، السلام، التنمية الإقتصادية، السلوك القويم، والأخلاق. 8. أن تقوم كذلك بدور واضح في ترسيخ علاقات السودان مع جيرانه والعالم من أجل السلام والنماء العادل. 9. فّصل عقوبات متفق عليها لمساءلة الذين يخالفون بنود القانون وإقامة محكمة صحفية تنزل العقوبة على المخالفين. 10. تنظيم التعامل مع أسرار الدولة وأسرار القوات المسلحة بما يحفظها. ضوابط الترخيص: لقد منحت الحكومة الإنتقالية عددا كبيرا من الصحف والمجلات ترخيص صدور دون مراعاة ضوابط محكمة، مما أعطي فرصة لكثيرين دخلوا في هذا المجال دون تأهيل حقيقي. واختلف الرأي حول ما يجب عمله للتخلص من آثار هذه التصديقات. وفي النهاية إتفقنا أنه بصدور القانون الجديد تعد كل التصديقات الماضية لاغية وعلى الصحف والمجلات أن تتقدم من جديد بطلب الترخيص مما يتيح الفرصة لفحص مؤهلات مقدمي الطلبات واتخاذ قرار بشأن إعطاء أو منع الترخيص. الضوابط الإختيارية: تعامل السيد الصادق المهدي في أثناء حكومته 1966/1967م مع الصحافة على أساس الإتصال المباشر. فكان يعقد اجتماعا دوريا لمقابلة رؤساء تحرير الصحف ويعقد مؤتمرا صحفيا شهريا للإجابة على أسئلة المحررين وكانت هذه الصلات كافية لإقامة علاقة طيبة بين الحكومة والصحافة ولقيام الصحافة بدورها الحر البناء. ومنذ انتخابه في عهد الديمقراطية الثالثة عاد إلى التعامل المباشر مع الصحافة بعقد إجتماع دوري لرؤساء التحرير، ليسمع منهم ويسمعوا منه بحرية تامة .وعقد مؤتمر صحفي شهري مفتوح، وكان في هذه المؤتمرات يبدأ بإلقاء بيان حول كل أحداث الساعة، ثم يجيب على أسئلة أو تعليقات الصحفيين بصراحة تامة. وكان هو ووزير الإعلام والثقافة (وقد تعددوا) في إتصال مباشر مع نقابة الصحفيين -لا سيما عندما تم انتخابها ومارست نشاطها. وكان يبحث معهم مطالبهم النقابية ودور الحكومة في مساعدتهم على تحقيقها. هذه الأساليب لم تجد هذه المرة (أي في الديمقراطية الثالثة)في جعل الصحافة تقوم بدورها الحر البناء المعهود. وهنا لابد من تحليل العوامل التي طرأت على الميدان الصحفي وأفسدته بل جعلته وبالا على الحرية وعلى الديمقراطية. كانت الحكومة قد قررت رفع يدها عن صحيفتي الأيام والصحافة وإيقاف صدورهما بتمويل حكومي.لقد كان لهما دور هام أثناء الفترة الإنتقالية. وعندما قررت الحكومة رفع اليد عنهما أُعتقد أنهما ستصدران بمجهود أصحابهما وتمارسان دورهما المعتدل المستقل القديم .هذا لم يحدث. وأدى غيابهما إلى فراغ صحفي كبير. كانت الجهة السياسية الوحيدة الثرية ماليا بما حققت أثناء مشاركتها لنظام مايو هي الجبهة الإسلامية القومية فتمددت بصحفها العديدة في هذا الفراغ الصحفي. أصدرت الجبهة الراية-وألوان- وحلمنتيش-والجماهير- والأسبوع –والسوداني. واستعارت الجبهة صفحة من تجارب النازية الصحفية فرأت أن تركز صحفها على أسلوب متطرف يركز على الرأي الحاد المتطرف والخبر المثير الكاذب والسر الخطير المكتوم. ولم تراع في ذلك حرمة لأحد، ولا احتراما لرأي، ولا تقديرا لعرض، بصورة هددت إستقرار الأوضاع ،وهددت الديمقراطية، وخلقت مدرسة سوء تتلمذت عليها وفاقتها صحفية الرأي وصحيفة الوطن متباريتين في كشف الأسرار وهتك الأعراض واستباحة حرمات الإنتفاضة نفسها بالتطبيل لعودة الطاغية. هذه المدرسة الكاذبة الخاطئة هي التي خلقت إنطباعا بفشل الديمقراطية،وهي التي روجت للديكتاتورية حتى توهم الناس إذا عصف عاصف بالديمقراطية فإنه سيجد الشعب بحرا متلاطما يؤيده منقذا من الديمقراطية. إلى جانب هذه المدرسة قامت صحف تابعة لبعض أجهزة المخابرات العربية. وفي الحالين فإن القواعد الليبرالية حالت دون استئصال أعداء الحرية الذين استغلوا الحرية لقتلها. لقد كان من الخطأ الفادح أن ترفع يد الحكومة عن صحيفتي الأيام والصحافة دون التأكد أنهما سوف تصدران مباشرة بعد رفع يد الحكومة في ثوبهما الجديد. ولكن برز الفراغ الذي اندفع فيه من لم يخش الله ولم يرحم السودان. إن الديمقراطية القادمة في السودان ينبغي أن تأتي مصفحة بدروس الديمقراطية الثالثة. فتقيم صحافة حرة ولكنها مؤهلة وجادة ومسئولة وملتزمة بالرأي الموضوعي والخبر الصادق مراعية لميثاق أخلاقي وقانون يحدد الحقوق والواجبات ورادع للمتلاعبين. لقد لعبت الصحافة بصورتها غير المنضبطة في فترة الديمقراطية الثالثة دورا أساسيا في هدم الديمقراطية والحريات وتشويه صورة الأحزاب والشخصيات السياسية، مستغلة الثغرات القانونية التي سمحت لها بالقذف والسب وإساءة السمعة دون رقيب أو محاسب.فاستخدمت الصحافة حريتها لتسوية الخصومات الشخصية والسياسية وكانت بعض الصحف أداة لأجهزة الإستخبارات الأجنبية، استغلتها لإشاعة الفتنة وهدم النظام الديمقراطي. الفصل العاشر: السلام
أهم شعارين أطلقتهما ثورة اكتوبر 1964م ،هما: الديمقراطية والحل السلمي لمشكلة الجنوب. لذلك اتجهت القوى السياسية بعد ثورة اكتوبر إلى الدعوة لمؤتمر المائدة المستديرة، الذي دعيت إليه كل الأحزاب الشمالية وحزب سانو الذي كان يمثل القيادة السياسية للتمرد ليجلسوا حول مائدة المفاوضات بحضور مراقبين من دول الجوار للإتفاق على حل سلمي. عقد المؤتمر في مارس 1965م ،ولكنه لم يفلح في الوصول إلى حل. لعل السبب الأساسي هو أن طرفين في الإجتماع هما الشيخ على عبدالرحمن والسيد أقري جادين إتخذا موقفين متشددين. والسبب الثاني المانع من الوصول لحل هو أن التمرد كان يقوم على حركة سياسية هي حركة سانو وحركة عسكرية هي أنيانيا- ولم تحضر أنيانيا للمؤتمر مما قلل فاعليته. ولكيلا ينتهي الأمر إلى إعلان الفشل أتفق على تكوين لجنة من إثني عشرة شخصا لتواصل السعي لإيجاد حل. واصلت اللجنة عملها لمدة عام واشترك فيها حزب سانو بقيادة وليم دينق رحمه الله. لقد ساعد وجوده على الإعتدال فاتفق على استبعاد الوضع القائم وقتئذ في الجنوب وعلى استبعاد الإنفصال والبحث عن حل فيما بين ذلك. وبعد نقاش طويل إستمر لمدة عام أتفق على نظام حكم إقليمي وإن أختلف على أمرين: الأول: هل يشكل الجنوب إقليما واحدا أم ثلاثة أقاليم؟ الثاني: كيف يختار رئيس الحكومة الإقليمية؟ بهذه الصورة سلمت توصيات المؤتمر لرئيس الحكومة في ديسمبر1966م فدعى كل الأحزاب السودانية لمؤتمر، كلف السيد محمد صالح الشنقيطي برئاسته لبحث توصيات لجنة الإثنى عشر، ولحسم النقطتين المختلف عليهما وقد كان. فاتفق على أنه للأقاليم الجنوبية الحق في أن تتحد إن شاءت. وأن يكون رئيس الحكومة الإقليمية بالإنتخاب في عملية يكون فيها المرشح إقليميا والتعيين مركزيا. وأجاز المؤتمر توصيات لجنة الإثنى عشر الأخرى كما هي. لقد كانت تلك الآراء تعتبر توجهات راديكالية لم تهضمها السياسية السودانية لذلك نفرت منها عناصر كثيرة داخل الأحزاب الكبيرة. بل أعلن عدم الموافقة عليها بعض كبار الزعماء وقامت لجنة إتحاد الإداريين بحملة ضدها فقابلوا رؤساء الأحزاب وشرحوا لهم أن الحكم الإقليمي سوف يؤدي لتمزيق السودان!! وبينما الجدل حول الحكم الإقليمي كان محتدما تغيرت الحكومة في مايو 1967م ثم واجهت الحكومة الجديدة برئاسة السيد محمد احمد محجوب تطورات أزمة الشرق الأوسط بعد حرب 5 يونيو والدعوة لمؤتمر الخرطوم مما صرف التركيز عن قرارات مؤتمر الأحزاب وبعد حين وقع إنقلاب 25مايو 1969م . في بداية عهد الإنقلاب وقد كان يساري الإتجاه، إزداد نشاط حركة أنيانيا وحسمت خلافاتها الداخلية واتحدت تحت قيادة السيد جوزيف لاقو ثم انقلب نظام مايو على إتجاهه الأول بعد إنقلاب يوليو 1971م .فهرعت عناصر عديدة في الغرب وفي مجلس الكنائس العالمي والأفريقي والسوداني تتوسط لإيجاد حل سلمي .وبعد تفاوض في أديس أبابا تم الاتفاق الذي باركه الأمبراطور هيلاسلاسي على اتفاقية 1972م. خلاصة الإتفاقية: 1. قيام حكم ذاتي إقليمي يقوده مجلس تنفيذي عال ويتولى التشريع فيه مجلس نيابي منتخب. 2. توزيع مسئوليات الحكم بين المركز والإقليم وحددت قائمة بصلاحيات الحكم الذاتي الإقليمي بالقانون. 3. القوات النظامية تتبع للإقليم ماعدا القوات المسلحة فتكون قومية تابعة للمركز. ولكن في أول خمس سنوات تكون القوات المسلحة المرابطة في الجنوب مناصفة بين القوات القومية وقوات أنيانيا، ثم تدمج القوتان في التكوين القومي. 4. لا يجوز تعديل الإتفاقية إلا بقرار يجيزه ثلثا أعضاء مجلس الشعب الإقليمي و80% من المواطنين في الجنوب في إستفتاء عام. 5. ولتأكيد حماية الإتفاقية من التعديلات، صيغت في قانون أدخل برمته في الدستور. (هذا الإجراء معناه نظام فيدرالي لأن الفرق بين الحكم الفيدرالي والإقليمي ليس في نوع الصلاحيات التي يمارسها ولكن في أن صلاحيات الحكم الفيدرالي مستمدة من الدستور بينما صلاحيات الحكم الإقليمي مستمدة من القانون وحده). هذا الإتفاق أدى إلى السلام. وقام الحكم الذاتي الإقليمي في الجنوب، ومنذ بداية الأمر بدأت تظهر بعض العيوب أهمها: 1. أن الإتفاق كان برعاية نظام مطعون في شرعيته وفي غياب كلمة الشعب السوداني الحر، فما هي جدواه؟ 2. النظام الجديد يقتضي أن يترك للحكم الذاتي الإقليمي أن يمارس صلاحياته بحرية، ولكن الديكتاتورية لا تعرف عضويا توزيع الصلاحيات لأنها تقوم على وحدانية صاحب أو أصحاب السلطة فكان رئيس الجمهورية يتدخل في شئون الإقليم باستمرار. 3. أهمل الجانب الإقتصادي في الجنوب وكذلك الجانب المالي ولم يبق من هذا إلا حصة من المال تدفعها الخرطوم لجوبا كمرتبات وأجور للعاملين والأدهى من هذا فإن قوات أنانيا وعدت بالإستيعاب الكامل: بعضها في القوات المسلحة وبعضها في الشرطة وفي السجون وفي حرس الصيد وفي المطافئ والآخرون في وظائف مدنية.هذا لم ينفذ. 4. كان تصور نظام مايو أنه بعد الإتفاقية فقد نال الجنوبيون حظهم في السلطة في الحكم الذاتي الإقليمي لذلك لاحق لهم في المشاركة في الحكومة المركزية إلا ما يقرره رئيس الجمهورية حسب تقديراته السياسية. هذه العوامل أدت لظهور حركة مقاومة جديدة في 1975م سمت نفسها أنيانيا الثانية وكان هدفها الإنفصال الصريح. هذا التمرد لم يكن واسعا أو شاملا ولكن مع الوقت ارتكب نظام مايو طائفة أخرى من الأخطاء هي:- 1. تزايد تدخل رئيس الجمهورية في شئون الحكم الذاتي الإقليمي -لا سيما في إنتخاب رئيس المجلس التنفيذي العالي –السلطة التنفيذية في الإقليم –فخرق بذلك الإتفاقية. 2. وقع اختلاف حول موقع المصفاة الجديدة الذي عزمت شركة شيفرون على إقامته لاستغلال البترول السوداني بين رأيين:- • رأي فني اقتصادي رأته شركة شيفرون وأيدته الحكومة المركزية وفحواه أن تقام المصافة في كوستي باعتبارها ميناء السودان الداخلي وأفضل مركز لتوزيع البترول. • رأي سياسي إقتصادي إقليمي قرره المجلس التنفيذي العالي وفحواه أن الجنوب متخلف إقتصاديا ولم ينفذ الوعد بإعادة تعميره بعد الإتفاقية واستخراج البترول في مناطق جنوبية لذلك ينبغي أن توضع جل البنيات الأساسية المتعلقة باستغلال البترول في مناطق جنوبية لتساهم في تجسير فجوة التنمية . فقرروا أن تكون المصافاة في بانتيو.هذا الخلاف لم يتعامل معه الرئيس المخلوع بالحكمة بل بسياسة لي الذراع . ج. كان المتنافسان على رئاسة المجلس التنفيذي العالي هما السيد أبل ألير والسيد جوزيف لاقو وكان جوزيف لاقو وآخرون من الإستوائيه يرون إستمرار الجنوب إقليما موحدا يتيح الفرصة لهمينة الدينكا وهم قبيلة أبل ألير(دنكا بور) لذلك تبنى جوزيف لاقو تقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم. وفي عام 1981م صار الرئيس المخلوع يتخوف من أن بقاء الجنوب كتلة واحدة يجعله مركز قوة مؤثرة- لا سيما بعد أن جهر المجلس التنفيذي العالي بمعارضة قراره حول موقع المصفاة الجديد.لذلك قرر إضعاف هذا المركز بتقسيم الجنوب متجاوبا مع رأي جوزيف لاقو والإستوائيين الذين أيدوه فأصدر أمرا جمهوريا بالتقسيم، معدلا إتفاقية 1972م بغير الوسائل المحددة المنصوص عليها في الإتفاقية للتعديل-تم هذا الإجراءفي عام 1983م. د. وفي عام 1982م قام في عدن حلف عدن الثلاثي من الجماهيرية الليبية وأثيوبيا واليمن الجنوبية. أهمية هذا المحور هو أنه كان محورا مضادا لمحور مصر- السودان الذي أقامته إتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والسودان تحت مظلة أمريكية. هذا المحور الجديد نشأ موجها للمحور السوداني المصري نشطا في خلق المتاعب للسودان مثلما كان السودان يخلق المتاعب لأثيوبيا عن طريق دعم الحركات المناوئة ولليبيا ولليمن الجنوبية حيث يخلق السودان لهما المتاعب متبنيا المناوئين . وللأسف كان السودان في تبنيه لهؤلاء المناوئين يعمل لحساب استراتيجيات دولية أمريكية دون أدنى حساب لرد الفعل ضد أمنه القومي. هـ. وفي عام 1982م أيضا قرر النظام أن الأوان قد آن لدمج القوات المسلحة في بعضها بعضا مثلما اتفق عليه. ووضع برنامج الدمج بطريقة لم تراع المستجدات، فقد صار كثير من الجنوبيين يعتقدون أن النظام قد خرق الإتفاقية. ولم تراع واقع الحال فأفراد القوات الجنوبية استقروا في مناطقهم الجنوبية بصورة لا تتاح لهم (سكنا ومعيشة) في غيرها لذلك عندما صدرت الأوامر بنقل بعض الوحدات إلى الشمال رفضت تنفيذ الأوامر. الكتبية 105 التي كانت مقيمة في بور لم تنفذ أمر النقل فتحركت ضدها قيادة الإقليم ووقع قتال فتفرق من نجا من ضباطها وأفرادها وانضموا في الأول لحركة أنيانيا الثانية، ولكن وقع اختلاف بينهما حول الإنفصال وحول مدى التعاون مع أثيوبيا وكانت النتيجة أن كوّن هؤلاء حركة جديدة سموها الحركة الشعبية لتحرير السودان وسموا ذراعها العسكري الجيش الشعبي لتحرير السودان واتخذوا للحركتين قيادة واحدة :العقيد جون قرنق- قالوا إن تجربة فصل القيادة السياسية عن العسكرية كما كان الحال بالنسبة لسانو وأنانيا الأولى أدت لأخطاء وأن تجربة الجبهة الوطنية التي كانت قيادتها السياسية والعسكرية واحدة هي الأفضل. ومنذ أول أيامها وجدت هذه الحركة حاضنا قويا هو حلف عدن: فمدها بالمال والسلاح والتدريب والتغطية السياسية والدبلوماسية والإعلامية. وبسرعة كبيرة أثبتت الحركة الجديدة فاعلية ميدانية ،إذ حققت الآتي:- 1. تهديد ثم إيقاف العمل في مشروع جنقلي –مشروع جنقلى مشروع شق ترعة كبيرة تتجمع فيها المياه المفرقة في السدود مما يوفر 10مليار متر مكعب كان جلها يبدده التبخر وهو مشروع يزيد المياه للسودان ومصر ولكن عليه اعتراض من ناحية أن المشروع المخطط يعني بشق القناة وبتطوير حياة القبائل التي تعيش على ضفتيها ولكن التنفيذ اهتم بشق القناة وأهمل تطوير حياة السكان. 2. عرقلة ثم إيقاف العمل في استخراج البترول –هنا أيضا توجد مشكلة حول كيفية الإستغلال وتوزيع العائد بين المركز والإقليم. 3. تهديد وعرقلة الملاحة النهرية ما بين الشمال والجنوب. 4. تهديد النقاط الحدودية بين السودان وأثيوبيا. هذه العوامل مع عوامل أخرى ذكرناها سابقا تضافرت لكي تسقط الديكتاتورية الثانية في السودان. بعد ذلك تطلع الجميع في السودان للحركة الشعبية لتوقف إطلاق النار وتدخل مع النظام الجديد في السودان في تفاوض للمشاركة في تطور الأحداث في السودان. لكن الحركة لم تستجب. بل اعتبرت أن ماحدث في السودان هو إجراء شكلي ونظام يقوده نفس جنرالات النظام المباد، فأطلقت عليه الطبعة الثانية من مايو. لكن قادة النظام الجديد مابرحوا يخاطبون الحركة الشعبية لتعديل موقفها والإستجابة للسلام. فأرسل اللواء عثمان عبدالله وزير الدفاع خطابا للعقيد جون قرنق رئيس الحركة الشعبية في مايو1985م . وأرسل د.الجزولي دفع الله رئيس الوزراء خطابا مماثلا في يونيو 1985م. وأصدرت الحكومة الإنتقالية بيانا سمته البيان السياسي التمهيدي حول المؤتمر القومي لمسألة الجنوب تضمن البيان النقاط المطلوب حسمها لتحقيق السلام في اغسطس 1985م. لم تستجب الحركة لهذه المخاطبات. وحينما أجابت كانت الإجابة في شكل خطاب أرسل لرئيس الوزراء وسلم في منطقة الناصر بطريقة وسعت الشقة بين الطرفين. نستطيع أن نقول أنه لم يجر أي تفاهم أو حوار أو حتى تعارف بين حكومة الفترة الإنتقالية على المستويين العسكري والمدني وبين الحركة الشعبية. ولكن على الصعيد الشعبي فقد حدث تطور إيجابي جدا إذ أثمرت اتصالات التجمع الوطني لإنقاذ السودان (وهو التنظيم الجامع لأحزاب ونقابات الإنتفاضة) أثمرت الإتفاق على إجتماع هام في كوكادام كالآتي: كوكادام هو مصيف أخت الإمبراطورهيلاسلاسي وبه بحيرة طبيعية كبيرة وخزان ومحطة لتوليد الكهرباء ويقع على بعد 90كيلومتر جنوبي أديس أبابا.انعقد حوار كوكادام في الفترة من 14/3/ 1986 إلى 28/3/1986م.وضم وفد الخرطوم 27 رجلا وسيدة (نعمات مالك) اشترك من الأحزاب الآتية:- حزب الأمة. الحزب الشيوعي. الحزب الإشتراكي الإسلامي. حزب البعث. الناصريون. إتحاد القوى الوطنية. المؤتمر الديمقراطي. ومن النقابات: التجمع النقابي بكل نقاباته. ضم وفد الحركة الشعبية 33 شخصا هؤلاء الذين شاركوا في الحوار في مائدة المفاوضات. ولكن ضم الوفد أيضا 4 سيدات اشتركن في المفاوضات الجانبية. حضر د.جون قرنق الاسبوع الأول من الحوار ثم اعتذر وأناب عنه كاربينو ووليم نون وأروك طن، ليقودوا الحوار من جانبه. وأبرز نقاط إعلان كوكادام هي:- 1. إعتبار ان القضية المطروحة ليست قضية إقليمية تخص الجنوب بل قضية قومية تخص السودان كله. 2. أن تكون أجندة المؤتمر الدستوري هي بحث:- • نظام الحكم . • الهوية. • عدالة توزيع الثروة . • اقتسام السلطة. • علاقة الدين بالدولة. 3. تم الإتفاق على أن يسود دستور 56 المعدل في الفترة من تاريخ تشكيل الحكومة الديمقراطية (مايو1986م) إلى انعقاد المؤتمر الدستوري الذي سيقرر نوع وشكل الدستور الذي سيقره المؤتمر لتجيزه الجمعية التأسيسية من بعد كدستور دائم للسودان. 4. إلغاء قوانين سبتمبر 1983م. 5. لتهيئة المناخ لعقد المؤتمر وبجانب إلغاء قوانين سبتمبر تلغى الإتفاقيات والأحلاف العسكرية التي تمس سيادة السودان. 6. وفيما يتعلق بالحكومة اختلف الأمر على رأيين ضُمنا في الإعلان هما: • الحركة ترى أن تحل الحكومة آنذاك قبيل المؤتمر الدستوري لتحل محلها حكومة وفاق وطني. • القوى السياسية والنقابية الوافدة من الخرطوم ترى أن يترك ذلك ليقرر من داخل المؤتمر الدستوري (مع الموافقة على حل الحكومة وتشكيل حكومة وفاق وطني لفترة انتقالية في حالة نجاح المؤتمر الدستوري) . هذا الإعلان الهام صدر في وقت لم يجد ما يستحقه من الإهتمام والمتابعة لسببين: السبب الأول: هو أنه صدر في 28/3/1986م أي في وقت انتهى فيه عمر الحكومة الإنتقالية وكانت الأحزاب كلها مشغولة بالمعركة الإنتخابيةالتي بدأت فعلا ووصلت قمتها. السبب الثاني: أن حزبين كبيرين من أحزاب السودان قاطعا اجتماع وإعلان كوكادام هما: الإتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية القومية. لقد وقع الإعلان الهام على حديد بارد!! يقول السيد الصادق المهدي"وعاد الأخ بشير عمر من أثيوبيا حيث كان ممثلنا في الإجتماع وأحضر لي معه خطابا خاصا من د. جون قرنق خلاصته: أنه يثق بوطنيتي وأصالة حزب الأمة ويشيد بشعاره السودان للسودانيين وأنه يتطلع للسلام ويريد أن نعمل معا لتحقيقه. فرددت عليه شاكرا للخطاب مؤكدا عزمي لتحقيق السلام معترفا بوجود مظالم ينبغي أن تزال متطلعا لنتعاون معا من أجل السلام وبناء الوطن. لذلك عندما كونت الحكومة وكنت أتوقع الذهاب لمؤتمر القمة الأفريقي في يوليو 1986 أجريت تدابير لألتقي مع قادة الحركة على هامش المؤتمر. تم الإجتماع في آخر يوليو 1986 واستغرق 9 ساعات وحضره معي د.حماد بقادي وأعضاء وفد التجمع النقابي كمراقبين.وحضره من الجانب الآخر : جون قرنق-وليم نون-أروك –يوسف كوة-لام أكول. تبادلنا في الإجتماع وجهات النظر واتفقنا على أن يكون إعلان كوكادام هو الأساس وعلى ضرورة توسيع إعلان كوكادام بمشاركة الحزبين الكبيرين اللذين قاطعاه. واتفقنا على أن يستمر دستور 85 المؤقت بدل العودة لدستور 56المعدل 64 مع تعديل المادة الرابعة لتكون أشمل. واختلفنا حول القوانين التي ستحل محل قوانين سبتمبر 1983م عند إلغائها قالوا: العودة لقوانين 1974م وقلت: نصدر قوانين جديدة يتفق عليها على أساس مبدأ واضح: القوانين العادية يعم تطبيقها كل البلاد.القوانين ذات الصبغة الدينية تخصص في نطاق المجموعة الوطنية الخاصة بها. انتهى اللقاء على نبرة ودية على أن يواصل الطرفان المساعي للحل السلمي. كان انطباعي أن أغلبية من حضروا الإجتماع يفكرون باعتدال لا سيما د.جون قرنق نفسه وأروك طون ولم أر مانعا أيدولوجيا أو نفسيا للإتفاق. وكان هذا هو الإنطباع الذي نقلته لزملائي. ولكن بعد اسبوعين من الإجتماع- في 16/8/1986م –أسقطت طائرة الركاب المدنية بالقرب من ملكال فسمم إسقاطها مناخ العلاقات بيننا وبين الحركة. وإلى الآن لا أدري لماذا أشادت الحركة بالحادث فقد يبدو لي قد وقع عن طريق الخطأ أو عدم الإنضباط ومعلوم أن ضحاياه كلهم مدنيون وجلهم جنوبيون بأسرهم وأطفالهم. هذا الحادث الفظيع وضع حدا لتلك الإتصالات. وفي الفترة التالية تمت اللقاءات والوساطات الآتية: 1. ندوة واشنطن في فبراير 1987م حضرها بصفة غير رسمية كل الأطراف.كان قرارها أن مفتاح الحل السلمي يكمن في: الديمقراطية والإعتراف بالتنوع في السودان. 2. أعقب ذلك توسط السيدين أباسانجو (رئيس جمهورية نيجريا السابق) وفرانسيس دينق: وجدا من الطرفين استجابة ووجدا فجوة الثقة بين الطرفين ولكن ممكن تجسيرها. 3. ثم توسط آخرون وساطة أدت لإجتماع في لندن بين وزير الدفاع (فضل الله برمة) ورئيس هيئة الأركان (عبد العظيم صديق) من جانب وأروك طن وزميل له من الجانب الآخر في ديسمبر 1987م.هذا الإجتماع ركز على ضرورة إيجاد صيغة مقبولة للتنوع القانوني في السودان. 4. ثم دعينا والحركة لمؤتمر انتراكشن في هراري في مارس 1988م وقد حضرها وفد يمثل جميع أطراف الحكومة والحركة ودار حوار جاد وحاد وكانت التوصية أنه في إطار الديمقراطية والإعتراف بتنوع ثقافات وأعراق السودان يمكن إيجاد صيغة للتعايش بينها. 5. في يوليو 1988م اجتمع وفد الأحزاب الأفريقية (برئاسة اليابا سرور) والحركة في أديس أبابا وانتهى الإجتماع لضرورة عقد المؤتمر القومي الدستوري قبل آخر ديسمبر1988م. 6. وفي 16/11/1988م تم إجتماع الميرغني/قرنق بعد أن مهد له اجتماع حزبي من الأخوة سيد أحمد الحسين ومحمد توفيق من جانب ولام اكول من الجانب الآخر. أدى اجتماع الميرغني /قرنق لمبادرة السلام السودانية التي بنت على ما تحقق في كوكادام ولكنها تجاوزت ذلك وتوصلت لحل بعض المسائل التي لم يحسمها إعلان كوكادام وهي: أ.تجاوز الإختلاف حول الدستور واعتماد دستور 1985م المؤقت. ب.وضع صيغة مرنة للقوانين وهي: أن تجمد الأحكام الإسلامية لحين القرار بشأنها في المؤتمر الدستوري. ج.إنعقاد المؤتمر القومي الدستوري في آخر ديسمبر1988م. هذه الإتفاقيه أحدثت تطويرا حقيقيا لبرنامج السلام. كانت سياسة حكومة الديمقراطية الثالثه نحو السلام تسير في أربعة محاور هي: المحور الاول- المحورالدولي: (في خطابي للجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر 1986م ناشدت العالم لا سيما الدول الكبرى أن تعطي السلام الإقليمي أهمية خاصة لإطفاء بؤر القتال التي صارت خطرا على السلام ومستقبل الشعوب. وفي زيارتي لموسكو ولواشنطن خاطبت القيادة السياسية والحكومية للدولتين العظميين بأهمية دورهما في إطفاء بؤر القتال لا سيما القرن الأفريقي الذي كاد القتال أن يهلك شعوبه. تجاوبت القيادة في واشطن وفي موسكو مع هذا النداء بل دخل نقاش السلام في القرن الأفريقي في أجندة لقاءاتهما وصار كلاهما يطلعني أولا بأول على ما حققا من تقدم بشأن السلام في القرن الأفريقي وكنت أبدي لهما الملاحظات على ما يدور بينهما وأجد منهما ردودا ناجزة وإفادات وافية. هذا النداء صادف مناخا دوليا حسنا إذ تحركت الدولتان العظميان في إتجاه وفاقي اذاب جليد الحرب الباردة ووظف قدراتهما الهائلة نحو السلام فخطيا معا خطوات طيبة في طريقه: في أفغانستان –في أنجولا- في نكاراقوا- في كل مكان في العالم. المحور الثاني -المحور الإقليمي: لقد وظف جعفر نميري نفسه وبلاده لخدمة إستراتيجيات أجنبية لا ناقة للسودان فيها ولا جمل. فتبنى الحركات المناوئة لعدد من جيرانه وسمح للمناوئين، وفرق من الخبراء الأجانب بالتحرك داخل السودان بحرية تامة.لذلك عندما وقع التمرد السوداني فإنه أعطى أولئك الجيران فرصة ذهبية لرد الصاع صاعين.وللأسف عندما حدث ذلك لم يشأ الذين سّخروا نميري في المقام الأول أن يقفوا معه لصد الخطر الجديد. وعندما انتخب رئيس الوزراء كان همه الأول التخلص من تلك الأحلاف المشبوهة ووقف توظيف السودان لصالح أي استراتيجية لا تنطلق من مصالحه الوطنية. وكان الشعار الذي رفعته الحكومة هو حسن الجوار مع الجميع، والعمل على تحقيق السلام في السودان وفي البلاد المجاورة له. رفعنا شعار السلام في دول الجوار والأمن المشترك في القرن الأفريقي والبحر الأحمر. لم يكن الحديث في هذه المسائل سهلا مع الأخوة الأثيوبيين في بداية الطريق لأن سياسات نميري المضطربة –لا سيما الممتثلة للأستراتيجيات الأجنبية خلقت في نفسهم صدودا كبيرا،ولكن مع الأيام أدركوا الفرق بين ما كان في السودان وما صار فيهعلى يد الديمقراطية.اندفع النظام الأثيوبي متجاوبا معنا في البحث عن الحل السلمي بل اتفقنا على صيغة لحسن الجوار والتعاون وأعلنت أثيوبيا توجهها للحل السلمي في بلادها واستعدادها للتفاوض دون شروط مسبقة مع المناوئين لها، وثقتها في السودان كوسيط في هذا المجال. لقد كانت علاقتي بقيادة الحركات الأرترية حميمة منذ أمد بعيد، فاجتمعت بهم وتحدثنا مليا.وبعد نقاش طويل توصلنا لإتفاق مع الحركات الخمس الآتية: جبهة تحرير أرتريا- القوات الشعبية (سبي) والآن (برج). جبهة تحرير أرتريا –المجلس الثوري (أحمد ناصر). جبهة تحرير أرتريا- اللجنة الثورية (عبدالقادر جيلاني) . جبهة تحرير أرتريا – (عبدالله ادريس). قوات التحرير الشعبية- (محمد سعيد). توصلنا مع هؤلاء الأصدقاء لإتفاق أن يقدموا على الحل السلمي دون شروط مسبقة، وأن يوحدوا موقفهم وأن يعتمدوا السودان وسيطا. وقد كان. وبدأت المفاوضات بينهم والحكومة الأثيوبية وتحادثت طويلا مع الأخ اسياس افوركي أمين عام الحركة الشعبية لتحرير أرتريا ثم توصلنا لاتفاق وقعه مندوبي الأخ عبدالله محمد أحمد خلاصته: 1. السلام والحل السلمي هدفنا جميعا. 2. تتحد الفصائل الأرتريه وتقدم على التفاوض دون شروط مسبقة. 3. يحترم الأخوة الأرتريون مصالح السودان وقوانينه وكرم ضيافته. 4. السودان وسيط موثوق به وعليه أن يسعى لجمع أطراف النزاع. هكذا حصل السودان على ثقة الحكومة الأثيوبيه والحركات الثورية الست واتجه يعمل للسلام الإقليمي المكمل للسلام الوطني. المحور الثالث- المحور الانساني- إبتداء من مجلس الرحمة الإسلامي المسيحي، واصل السودان مجهوداته لإيجاد وسيلة لإنقاذ المتضررين بآثار القتال من موطنيه عبر خطوط القتال. وفي مارس استجابت اللجنة الدولية للصليب الأحمر لطلبنا واتصلت بالطرف الآخر ووجدت منه استجابة فشرعت في نقل الإغاثة والأدوية للمتضررين. لقد كان في عملها هذا تمهيد لأكبر برامج هذا المحور- برنامج شريان الحياة. فقد تجاوبت الأمم المتحدة معنا ودعونا لمؤتمر 8-9مارس 1989م قرر المؤتمر: • نقل 173 ألف طن من مواد الإغاثة للمناطق المتضررة. • التماس الطرفين السماح بشهر هدوء (وقف إطلاق نار محدود) لتمكين النقل نهرا وجوا وبرا عن طريق السكة حديد. • تمويل هذه العمليه بميزانية 132 مليون دولار زيدت لتصبح 182مليون دولار. • تسير وسائل النقل المختلفة دون حراسات تحت علم الأمم المتحده عبر خطوط القتال. لقد نجح برنامج شريان الحياة وأغاث المتضررين كما خلق قدوة للآخرين في ظروف مشابهة.كما خلق قدرا من حسن النوايا بين الحكومة والحركة الشعبية. المحور الرابع- المحور التفاوضي: كان إتفاق 16/11/1988م معلما بارزا على طريق السلام ومنذ توقيعه حرص السيد رئيس الوزراء على تأكيد تجاوبه معه كما أعلن حزب الأمة تجاوبه في بيان. وكان أحد الحلفاء في الحكومة:الجبهة الإسلامية مراهن ضده ولم تكن هناك مصلحة وطنية في جعله أساس تفرقة بين الحلفاء الثلاثة. لذلك حرص السيد الصادق المهدي على إيجاد صيغة تحقق الإجماع. وفي يوم 27/12/1988م توصل رئيس الوزراء لصيغة وافق عليها السيد محمد عثمان الميرغني وأعلناها في نفس اليوم. ثم اجتمع الأخوة محمد عثمان الميرغني –حسن الترابي-الصادق المهدي. في القصر لدى السيد أحمد الميرغني في 4/1/1989م وأمن الجميع على الصيغة المعلنة في 27/12/1988م . ثم طرأت على حكومة الوفاق ظروف لا صلة لها بمبادرة السلام أدت لانسحاب الإتحاي الديمقراطي من الحكومة .. فلو أن الجبهة كانت أكثر مرونة نحو مبادرة السلام ولو أن الإتحادي الديمقراطي لم ينسحب من الحكومة في 28/12/1988 لتجنبنا كثيرا من الشرور. أدى إنسحاب الإتحادي الديقمراطي من الحكومة إلى ظهور شرخ في الجبهة الداخلية ساهم مع عوامل التدني القتالي في جبهة شرق الإستوائية إلى مذكرة القوات المسلحة الشهيرة في 22 فبراير 1989م. ثم جاءت مرحلة محادثات القصر تحت إشراف السيد ميرغني النصري: تلك المحادثات أدت لاتفاق كامل بين القوى السياسية والنقابية، إتفاق شمل الموافقة على مبادرة السلام بالتوضيحات التي أشار إليها بيان 27/12/1988م. ولكن الجبهة الإسلاميه انعزلت مرة أخرى. كان متوقعا ان تدخل الجبهة الإسلامية طرفا في هذا الإتفاق –لا سيما بعد التفاهم الذي تم في إجتماع القصر في 4/1/1989م، ولكن اتضح أن إتجاهات الجبهة صارت أسيرة للتعبئة المتطرفة التي عبأت بها قواعدها. فجعلت تلك القواعد تتصور أن تطبيق الحدود هو تطبيق الشريعة وأن تدابير الوفاق هذه تعطل فورية الحكم بشرع الله! هذه التعبئة حرمت الجبهة من أي مرونة بل صار قادتها المعروفون باعتدالهم مضطرين للمزايدة لكسب ثقة القواعد الملتهبة. فواجهوا إجماع السودانيين في القصر بشعارات ثورة المصاحف وثورة المساجد والجهاد .هكذا دخلوا في اللا معقول وعندما وجدوا أن الشارع السوداني لا يتجاوب مع هذه النداءات المحمومة والتي لا يبررها مبرر ، أوغلوا في العزلة وفي اللا معقول. المرحلة الأخيرة: قامت حكومة الجبهة الوطنية وكوّن مجلس الوزراء لجنة وزارية برئاسة الأخ سيد احمد الحسين وكلفناها بمواصلة مساعي السلام والإتصال بالحركة الشعبية للإتفاق على تنفيذ المبادرة وعلى عقد المؤتمر الدستوري. تمت الإتصالات فأدت لاتفاق على اجتماع في 4 يوليو 1989م في العاصمة الأثيوبية لمراجعة ما تم بشأن المبادرة وتم الإتفاق أيضا على موعد المؤتمر القومي الدستوري في 18/9/1989م. قال السيد رئيس الوزراء:(ولتحضير ملف الحكومة الخاص باجتماع 4 يوليو تم الآتي: 1. كاتبت رئيس الوزراء المصري بشأن قرارنا الخاص بإلغاء إتفاقية الدفاع المشترك التي صار إلغاؤها رسميا تقنينا لواقع ماثل.رد د.عاطف صدقي بالموافقة على ذلك ما دامت هذه هي رغبة السودان.وأعلن إلغاء إتفاقية الدفاع المشترك المبرمة بين السادات ونميري في 1976 بموافقة الطرفين. 2. وكان البرتكول السوداني الليبي الذي وقع عليه من الجانب السوداني وزير دفاع الفترة الإنتقاليه (اللواء عثمان عبدالله) قد استنفذ مدته وأعلنت ليبيا على لسان الأخ العقيد أبوبكر يونس ترحيبها ودعمها لمساعي السلام السودانية. 3. استشارت اللجنة الفنية التابعة للجنة الوزارية ،بعض المحامين السودانيين وهم الأخوة:خلف الله الرشيد-عبدالمجيد إمام-دفع الله الرضي-محمد ابراهيم خليل-وآخرين لتقديم إستشارة قانونية بشأن تنفيذ بند تجميد الحدود الوارد في مبادرة السلام السودانية.أفتى هؤلاء المحامون بإصدار الجمعية التأسيسية قانونا لإلغاء مواد الحدود الموجودة في القوانين القائمة تنفيذا لهذا البند في الإتفاقيه. وفي إجتماعي باللجنة الوزارية قلت لهم إن الأخوة القانونيين لم يفسروا النص ولكن أعطونا رأيا آخر فالنص يقول تجميد وهم يقولون إلغاء. وبعد تداول الرأي رأيت أن يكون تفسير التجميد كالآتي: 1. توقيع العقوبة على الجرائم الحدية تعزيرا دون الحد وتقنين ذلك الإجراء. 2. يصدر رأس الدولة عفوا على المحكومين بالقطع وذلك على أساس أن العيوب الموجودة في قوانين سبتمبر شبهة تدرأ الحد. 3. الذين عليهم ديات وظلوا في السجن لمدد طويلة لأنهم لا يستطيعون دفعها تدفع دياتهم الدولة من الزكاة. تداولت اللجنة الوزارية هذه الآراء بعد أن قدمها ديوان النائب العام في شكل ورقة عمل - وافقت اللجنة على هذا التفسير للتجميد ،إلا أن أحد أعضائها د.بشير عمر تحفظ على فكرة إصدار قانون من الجمعية التأسيسية للوقوف بعقوبات الجرائم الحدية عند التعزير ودون الحد ،لأنه لا يريد أن يكون الموضوع محل أخذ ورد يفتح معارك جانبية. ولكن في إجتماعي مع اللجنة الوزارية لاستعراض ورقة العمل رأيت إستبعاد التحفظ وإجراء التقنين اللازم عن طريق الجمعية مع شرح الموضوع للنواب على أننا بهذا ندرأ مفسدة الحرب، وأن الإجراء كله مؤقت وسنقرر بشأن أسس التشريعات الإسلامية في المؤتمر القومي الدستوري المزمع إنعقاده في 18/9/1989م. لقد كان تحرك السودان ناجحا في المحاور الأربعة التي ذكرناها، بل كان تحركا نموذجيا. وضع إطار للسلام الإقليمي وللعلاقات الإنسانية في مناطق القتال ولمحادثات إنهاء الحروب الأهلية. إن النجاح في المحاور الأربعة، جعل السلام قاب قوسين أو أدنى .ولابد لأي منصف أن يقدر هذا الجهد الضخم الذي استطاع به السودانيون وضع برنامج للسلام واضح المعالم، والسير فيه قدما . إنني إذ أفكر مليا في قضية العنف السياسي في السودان، أجد نفسي متسائلا لماذا يلجأ الأخوة الجنوبيون كلما وقع خلاف إلى حمل السلاح: أنيانيا الأولى-أنيانيا الثانية-أنيانيا الثالثة-الجيش الشعبي؟ ربما كان الرد هو أن عوامل التفوق الشمالي السياسية والإقتصادية والثقافية كبيرة مما يجرد الرأي الجنوبي من قدرات يصارعون بها في المجالات السياسية والإقتصادية، فيلجأون للعنف بدلها. لابد إذن من الإتفاق على أساس عادل في مجال السلطة السياسية والثروة والهوية والخصائص الثقافية- إتفاق عادل فلا يشعر طرف من الأطراف بظلم فيه، يلجأ معه لوسائل المقاومة. ولابد أن نعترف أن الإخوة الجنوبيين إذا تأملوا إتفاقاتنا الأساسية معهم تحيروا في مصداقيتنا (أي نحن الشماليين): • ففي أواخر عام 1955م وافقونا على إعلان إستقلال السودان من داخل البرلمان، بشرط أن ينص على النظام الفيدرالي لدى بحث دستور السودان الدائم.وبدأ النظر في دستور السودان الدائم في البرلمان السوداني وقبل أن ينظر فيه وقع إنقلاب 1958م ،وحل البرلمان، وانتهى الحديث عن الدستور الدائم وضاع الوعد الذي بموجبه وافقوا على قرار إعلان الإستقلال من داخل البرلمان. • وفي 1967م إتفقنا معهم على الحكم الإقليمي بعد محادثات طويلة، بدأت بمؤتمر المائدة المستديرة ثم لجنة الإثنى عشر ثم مؤتمر الأحزاب السودانية وضُمّن هذا الإتفاق في مشروع دستور 1967م وبينما المشروع يناقش وقع إنقلاب مايو 1969م وانتهى الحديث عن الحكم الإقليمي. • وفي 1972م استند نظام مايو على قرار مؤتمر الأحزاب السودانية -مع تعديلات وأبرم إتفاقية 1972م ثم شرع يمزقها إربا إربا ،عمدا ومع سبق الإصرار. • وفي مارس 1986م إتفقنا معهم على إعلان كوكادام، فأدت ظروف البلاد إلى عدم متابعة الإتفاق بالحسم المطلوب.وبعد ضياع زمن طويل غال أجمعنا على برنامج سلام وافقنا عليه قادة الحركة الشعبية وصار السلام قاب قوسين أو أدنى فإذا بانقلاب يقع في 30/6/1989م، يبدأ من مربع الصفر. هذه الحقائق والتصرفات- وهي طبعا ليست مخططة من جهة واحدة لكنها تنسب لمواقف الشمال وتغرس الظن والشك وقلة الثقة. إذا كنا نعتب على إخوتنا في الجنوب لجوءهم السريع للعنف فينبغي أن نأخذ على أنفسنا أننا أعطيناهم مبررات لذلك. ولا يجدينا الآن إلا أن نواجه الحقائق لانتشالهم وانتشالنا من مستنقع الموت والدمار الذي استنزف بلادنا منذ استقلالها ويوشك أن يلقي بظله الثقيل على كل قدراتنا.
محادثات السلام في عهد الإنقاذ محادثات السلام 19-20/8/1989م(أديس أبابا): سنتحدث عن موقف وفد الحكومة ثم موقف وفد الحركة ثم نعلق تعليقا عاما. موقف وفد الحكومة: كان وفد الحكومة برئاسة العقيد محمد الأمين خليفة وعضوية العميد كمال علي مختار ،العقيد حسن ضحوي،العميد بابكر نصار،والسفراء :عمر بريدو،سعيد سعد،عثمان نافع، علي نميري،والأستاذين مدثر عبدالرحيم ود.عبدالله إدريس. وكان واضحا أن وفد الحكومة يعتبر أن كل جهد سابق فاته الزمن، ويريد أن يبدأ من جديد للاتفاق على: 1- وقف إطلاق النار. 2- وقف الحملات الإعلامية المعادية. 3- إنشاء وسائل إتصال موثوق بها بين الطرفين. أي أن وفد الحكومة كان يريد بحث إجراءات دون أدنى تطرق للمواضيع التي كانت محل حوار واتفاق منذ سقوط نظام نميري.لذلك عندما طولب وفد الحكومة أن يدلي برأي حول مسائل جوهرية،لا مسائل إجراءات إرتبك ارتباكا كبيرا هذا بيانه: -بشأن الرأي في الإتفاقيات السابقة بين الحكومة والقوى السياسية: جاءت أقوال متناقضة من ممثلي وفد الحكومة: العقيد محمد الأمين: نحن ألغينا الدستور دعك من الإتفاقيات الحزبية. عمر بريدو:ليس هناك تناقض بين الجهود السابقة (إتفاقيات القوى السياسية وبين الجهود الحالية بعد30/6/1989م). -بشان الرأي حول القوانين الإسلامية: جاءت أقوال ممثلي وفد الحكومة متعارضة: د.عبدالله إدريس: لقد جاء أمر تجميد هذه القوانين في بيان ومحتوى سياسي يقتضي بعدم تنفيذ قوانين الحدود إلى حين قيام المؤتمر الدستوري. في تقديري أن هذا الأمر مازال معمولا به في السودان. على نميري: أما في شأن الموقف من قوانين سبتمبر فيمكن الرجوع للخرطوم لاستجلاء الأمر. محمد الأمين خليفة:هذا الموضوع سيناقش لاحقا في المؤتمر الدستوري. وطبعا هناك الرأي المعلن: أن تعرض على إستفتاء شعبي وهذا ما استشهد به أحد الحاضرين. -مع أن الوفد لم يطرح حلا معينا للمشكلة سوى النقاط الإجرائية، فقد كان عدم إنضباط الوفد الحكومي لدرجة أن أحد أعضائه طرح مايراه حلا للمشكلة بصورة محددة لم تكن في ملف الآخرين:قال بابكر نصار:في تقديري أن المشكلة تبدأ بالعام 1983م وبالقرار رقم (1) الذي أصدره نميري وقسّم الجنوب خارقا إتفاقيه 1972م. ونعتبر هذا الخرق هو رأس المشكلة: الحل يبدأ بمعالجة هذا الخرق والعودة لاتفاقية أديس أبابا. -وواضح أن الوفد لم يدرس ملف المشكلة ولذلك يرى أن حديث وفد الحركة عن قضايا السودان عامة غير مسموح به بل أوضح أحد أعضاء الوفد أنه يرى أن الوضع الإقليمي في السودان معناه أن يحصر كل أهل إقليم في إقليمهم ولاحاجة لمشاكل قومية! قال حسن ضحوي: نحن جئنا لحل مشكلة الجنوب فقط إذا كان منصور خالد يريد أن يبدأ حربا فيبدأ تلك الحرب من أمدرمان وإن كان ياسر عرمان (من أبناء الشرق)يريد الحرب فليبدأ من كسلا. -وواضح أن وفد الحكومة لم يدرس مشاكل المشاركة في السلطة وتوزيع الثروة وغيرها من القضايا التي ظلت تناقشها القوى السياسية والنقابية في السودان منذ عام 1985م لذلك عندما ذكر أحد المفاوضين من وفد الحركة شيئا عن توزيع الثروة، رد عليه حسن ضحوي بقوله :أما بشأن الحديث عن الثروة وتوزيعها والذي ذكر من الطرف الآخر فأين هي الثروة التي تأتي من الجنوب لتوزيعها؟ موقف وفد الحركة: كان وفد الحركة برئاسة د.لام أكول وعضوية د.منصور خالد، نقيب جستن ياك، دينق الور ،لوال دينق لوال، بازرعة، ياسر عرمان،زامباداكو. 1. كان واضحا أن وفد الحركة يعتبر أن المدخل للمباحثات هو إعلان كوكادام مارس 1986م ومبادرة السلام 16/11/1988م مع إضافة النقاط الأربع الجديدة التي أذاعها د.جون قرنق وكررها لام اكول وهي: • حل الحكومة الحالية وتكوين حكومة انتقالية عريضة تشارك فيها الأحزاب والنقابات والحركة الشعبية. • إنشاء جيش قومي مكون من القوات المسلحة والجيش الشعبي. • التحضير لانتخابات عامة وقيام جمعية تأسيسية لدراسة وإجازة دستور البلاد. 2. كان واضحا أن وفد الحركة قد درس موقفه وحدده تماما وبيانه حسب ماورد في أقوال أعضائه في المحادثات: 1. أنهم يتطلعون لحل مشاكل السودان وأن الحركة وجميع القوى السياسية والنقابية في السودان اتفقت على إطار لم يشذ إلا الجبهة الإسلامية وأن عدم إلتزام النظام الجديد بما اتفق عليه الجميع ووافقت عليه الحركة معناه أن النظام الجديد يقف موقف الجبهة الإسلامية القومية، هذا ما قاله لام اكول. 2. وقال أيضا: لا نقبل إتفاقا فوقيا بيننا وبينكم، فهذا هو الذي حدث في إتفاقية 1972م .إذ كانت في غياب الشعب السوداني. ليس لهذه الحكومة الشرعية التي تمثل بها السودان. ولذلك نركز على مسألة الديمقراطية. 3. قالوا إن الوفد الحكومي أهمل جوهر الموضوعات، وركز على مسائل إجرائية: فوقف إطلاق النار مستمر منذ مدة وبرنامج الإغاثة مستمر. أما البرامج الإعلامية فإن اتفقنا فهي تروج لاتفاقنا. وفي خمس مناسبات ذكر متحدث باسم الحركة أن هذا الإجتماع لا معنى له، لأن الفجوة بين الطرفين كبيرة جدا ولأن وفد الحكومة غير موافق على الإتفاقيات السابقة وليس له بديل لها. تعليق عام: كان التناقض تاما بين الطرفين، فالنظام يريد المحافظة على بعض الإجراءات الموروثة من النظام السابق : وقف إطلاق النار –وبرنامج الإغاثة ولكنه يريد إلغاء الإتفاقيات السابقة دون أن يطرح أي بديل لها . وأما الحركة فهي تريد أن تحافظ على الإتفاقيات الممهورة مع النظام السابق وتريد تصفية النظام الحالي وإقامة نظام ديمقراطي. لقد عطل النظام الجديد برنامج سلام أجمع عليه السودانيون، بمن في ذلك الحركة الشعبية، ولم يقدم بديلا يرتضيه لنفسه ناهيك أن يقبله أو يرفضه الآخرون. هذا الإقتناع الذي تأكد لكل الناس بأن النظام الجديد لا يعرف ماذا يريد في موضوع وطني هام، هو الذي جعل النظام يستعير بعض أساليب الديمقراطية الثالثة ويدعو للحوار الوطني في مؤتمر: فماذا حقق المؤتمر؟ مؤتمر الحوار الوطني 19-21 اكتوبر 1989 (الخرطوم): عندما أعلن النظام الإنقلابي أنه ثورة إنقاذ ،توهم الناس أنه درس المشاكل القومية ووجد لها حلولا فاستلم السلطة لتطبيق تلك الحلول. ولكن التجربة أثبتت لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن النظام جاء عاريا من التفكير في أي مسألة بل أن أداء وفد النظام في اجتماع أديس أبابا كان صورة من الطفولة السياسية ،والتناقض إضافة لقلة الوعي والخبرة . ثم لجأ النظام إلى مسرحية مؤتمر الحوار :كانت خلاصته ما ورد في ميثاق السودان الذي أصدرته الجبهة، إذ جعل من الفدرالية مرتكزا لتمرير قوانين سبتمبر على أساس التنوع القانوني.ولم تتم الإشارة إلى المؤتمرات السابقة في كوكادام ومبادرة السلام السودانية وإجراءت التمهيد للمؤتمر الدستوري بل تجنب الحديث عن المؤتمر الدستوري نفسه . توصيات مؤتمر الحوار: القسم الأول: كانت التوصيات التي صدرت عن مؤتمر الحوار وهي مسلمات بدهية لا يختلف عليها أحد مثل : - أثر الفوارق التنموية في الصراع . - أن الدين سبب إتحاد وتسامح ولكن التعصب هو سبب الفرقة. - أن للحرب آثارا مدمرة. القسم الثاني: يتكون القسم الثاني من 19توصية فيها بيان وبرمجة لخطط إعادة التعمير في الجنوب عندما تضع الحرب أوزارها. وهي تعدد وجوه التعمير المطلوب وتطالب بتعبئة الإمكانات الوطنية والدولية لتحقيقها وليس ثمة من يختلف على ذلك. القسم الثالث: تناول التعليق على المعالجات السابقة متجنبا ذكر كوكادام أو مبادرة السلام السودانية ومتجنبا الحديث عن المؤتمر الدستوري كمنبر لمناقشة الحل، ومع ذلك ذكرت التوصيات أنها توافق على الحصيلة الموضوعية لتلك المعالجات وذكر من ذلك الآتي: 1. الموافقة على معالجة قضايا الوطن في إطار الوحدة. 2. تطوير أطر تلائم واقع البلاد وتصون القيم الديمقراطية. 3. تجديد وقف إطلاق النار. 4. استمرار إنسياب الإغاثة. هذا القسم ذكر بعض النتائج الموضوعية للمعالجات السابقة وأغفل بعضها -لا سيما ما اتفقت عليه القوى السياسية والنقابية مع الحركة من إطار للسلام وبرنامج للسلام. القسم الرابع: هذا القسم خططت توصياته لسلطة تنفيذية يتولاها رئيس الجمهورية ونائبه منتخبان بالإنتخاب الحر المباشر وسلطة تشريعية فدرالية منتخبة انتخابا حرا مباشرا، ولولايات تمارس صلاحيات محددة. يمارس التشريع فيها مجالس منتخبة ولقضاء منسقا. وتناولت التوصيات بيانا مفصلا للصلاحيات الفيدرالية وصلاحيات الولايات. إنه تمرين مقبول لنظام فيدرالي ديمقراطي ينقصه إدخال عنصر التوازن الذي درجنا عليه في الديمقراطية الثالثة.التوازن الذي يضع أسسا عادلة لمشاركة الإقليميين في السلطة المركزية أو الفدرالية، وفي هذا ضم توصيات مقبولة حول: • التخطيط التنموي الهادف لسد الفجوة التنموية. • أسس لتقسيم الدخل القومي. • ميثاق سياسي فدرالي، يحدد أدب التعامل السياسي بين جهات الإختصاص المختلفة. إن هذا القسم من الناحية النظرية والأكاديمية فيه تحضير جيد واقتراحات معقولة. وفي نهاية هذا القسم تناولت التوصيات مسألة الهوية، فأعطت توصيات واقعية منطلقة من مقولة العروبة والأفريقية أساسان مهمان في تركيبه السودان وتناولت مسألة الدين والدولة وقدمت فيها توصيات شبيهة بالمبادئ التي اتفقت عليها لجنة الوفاق ولعل التعديل الوحيد الوارد في هذه التوصيات هو تعميم القوانين العادية وتخصيص القوانين ذات المضمون الديني توفيقا بين الوحدة الوطنيه والالتزام الديني. إن التوصيات لم تأخذ في الحسبان الحقائق الآتية: 1. ما درجت عليه تجربة الديمقراطية الثالثة من التوازن في المشاركة في السلطة المركزية.التوازن الذي تأخذ به الممارسة الديمقراطية فيحقق مشاركة عادلة للعناصر الجهوية والفئوية. 2. ولم تأخذ في الحسبان تجربة الحكم الذاتي الإقليمي في الجنوب وقد كانت عاجزة تماما بسبب العجز المالي.فالسلطات مهما أطلق عيها من تسمية تظل حبرا على ورق إذا لم تكن هناك جدوى مالية للولاية. وهذه التوصيات لم تتناول بيانا عمليا لهذا الجانب. 3. إن توزيع السلطات السياسية إذا لم يستند لقواعد ديمقراطية سيودي به فلابد إذن من وسائل واضحة لإقامة واستمرار النظام الفيدرالي المنشود على أساس ديمقراطي سليم. 4. إن التوصيات مضت في منحاها النظري دون أن تأخذ في الحسبان النظام الجديد في السودان ذي الأسس الدستورية الأوتوقراطية فإما أن يعدل النظام لصالح الديمقراطية أو تعدل التوصيات لصالح الأوتوقراطية. 5. ولم تشر التوصيات لحقيقة أن موقف السودان القومي من السلام أمر يهم قوى سياسية ومهنية وفئوية كثيرة لا يتبلور الموقف القومي في الحقيقة إلا إذا شاركت كيف تكون مشاركتها؟ وماشرعية أي برنامج يتفق عليه إذا عزلت؟ 6. ولم تتناول التوصيات آراء الحركة الشعبية والجيش الشعبي وهم قوى لها رأيها واجتهادها .لقد سكتت التوصيات عن تحديد موقف من برنامج الحركة الشعبية للسلام. ونظرا لأهمية النقاط الست المذكورة والتي أغفلها المؤتمر فإن المؤتمر وتوصياته لن يخرجا من كونهما تمرين أكاديمي نظري مفيد في تطوير الملكات العقلية والخطابية ولكنه يفقد الفاعلية السياسية والتاريخية. محادثات نيروبي 30 نوفمبر-5 ديسمبر 1989م: في محادثات نيروبي بين حكومة الجبهة والحركة الشعبية تكررت نفس المسرحية التي تمت في محادثات أديس أبابا في أغسطس 89 ،الإختلاف الوحيد أن حكومة الجبهة جاءت لتعرض مقرراتها في مؤتور الحوار الوطني كإطار للتسوية السلمية فردت عليها الحركة الشعبية بأنها تعتبر مقررات مؤتمر الحوار الوطني ورقة عمل لحكومة الجبهة الإسلامية عليها أن تطرحها في المؤتمر الدستوري وهو الإطار الوحيد للسلام بحضور كل القوى السياسية والفئوية.وكررت مطالبها بحل المجلس العسكري وتكوين حكومة ذات قاعدة عريضة تقوم بالدعوة للمؤتمر القومي الدستوري على أساس اعتماد الديمقراطية التعددية كأساس للحكم في السودان الجديد ،ورفض وفد حكومة الجبهة الإسلامية هذا التصريح وانتهت المحادثات لطريق مسدود.
الفصل الحادي عشر: السياسة الخارجية
سياسة البلاد الخارجية هي التي تحكم علاقتها بالدول الأخرى وهي تتأثر بعوامل محددة أهمها: العامل الجغرافي:فموقع الدولة في أي القارات،وموقعها داخل تلك القارة،ومن هم جيرانها،وهل بينهم حواجز طبيعية أو لا ،وهل بينهم أنهار مشتركة أم لا، هذه العوامل الجغرافية لها أثرها. العامل التاريخي:فلكل شعب تاريخه وعبر تاريخه اكتسب انتماءه الحضاري والثقافي والعرقي والقومي،فهذه العوامل تقوم بدورها تقريبا أو مباعدة بين الدول والشعوب. العامل المصلحي:فالمصالح الإقتصادية كأن تكون منتجة لمنتجات سوقها في بلاد أخرى والمصالح الأمنية كأن تستورد سلاحا من بلاد ما تلعب دورها في التنافس والتناصر والعداء بين الدول. العامل الديني والفكري:فالعقيدة المشتركة أو الأيدلوجيا المشتركة أو الأديان المتنافسة والأيدلوجيات المتعارضة تلعب دورها تقريبا ومباعدة بين الدول. العامل الدولي: فمنذ نشأة الأمم المتحدة والإلتزام بمواثيقها والتعامل مع منظماتها المتخصصة صار للسياسة الخارجية بعدا دوليا يضع للبلدان قواعد سلوك جماعي. السودان منذ استقلاله انضم للأمم المتحدة ووقع على مواثيقها وانضم إلى منظماتها المتخصصة.وأوجبت العوامل التاريخية والجغرافية على السودان الإنضمام للجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية ،ومؤتمر الدول الإسلامية،موقعا على مواثيقها ملتزما بتوجيهاتها. كما انضم السودان لكتلة عدم الإنحياز منذ تأسيسها في باندونق في عام 1954 وإلى مجموعة الـ77 وهي جماعة أفظعها ظلم النظام العالمي الإقتصادي والتجاري والنقدي العالمي فتكتلت لتخدم مصالحها أمام الدول الصناعية الغنية المنتفعة بالنظام العالمي القائم. وكان واضحا لأهل السودان أن تنوع مجموعاتهم الداخلية وتعدد جيرانهم إقليميا ووقوعهم جسرا بين المشرق والمغرب العربي ،وحلقة بين العرب وأفريقيا جنوب الصحراء،وواصلا بين الشرق وغرب أفريقيا جنوب الصحراء ،وواصلا بين شرق وغرب أفريقيا وقرنها،عوامل تاريخية وجغرافية تشد السودان إلى عدم الإنحياز وعدم المحورية في سياسته الخارجية. و عدم الإنحيازلأن: الإنحياز لأي معسكر دولي يفرض عليك: • تنسيق سياستك مع معسكر دولي ذي مصالح كونية لا تهمك. • الإرتباط بمعسكر ما،يكسبك عداء المعسكر المعادي له بصورة مضرة للوطن.المعسكر الذي تنحاز له يعتبر أنك انحزت له طالبا الحماية لنفسك فلا يعبأ بك والمعسكر الآخر يصنفك عدوا ويحيط ضدك المؤمرات. • الإنحياز لمعسكر يقفل باب التعامل مع المعسكر المعادي له بل والتعامل مع المحايدين بينما عدم الإنحياز يتيح فرص التعامل مع ثلاثتهم . • عدم الإنحياز لا يعني أن تكون العلاقات مسطرة بالمسطرة فإن كانت لك مصالح إقتصادية أكثر مع الغرب فإنها تنمو في ظل عدم الإنحياز دون أن يتوقف ذلك على نمو مواز في العلاقات مع الشرق.كذلك لا يمنع أن تنمو مصالح أمنية كالتسليح من الشرق وهلم جرا. • عدم الإنحياز لا يمنع بل يوجب أن نقول للمحسن من الدول الكبرى أحسنت وللمسيء أسأت. أما لماذا عدم المحورية؟ فلأن التمحور يفرض على البلد: • أن تتحالف مع بعض الجيران وتعادي بعضهم الآخر. • أن تنسق مع الحلفاء للتدخل في شؤون الأعداء فتجذب إليها تدخلهم في شؤونها. • أن تدخل البلاد المتجاورة في استغلال تركيباتها القومية الهشة لإثارة الفتن مما يودي بالأمن والسلام في الإقليم ويفتح باب تدخل الإستراتيجيات الدولية في المنطقة بدل أن يتخذ الجيران تدابير أمن إقليمي مشترك يقفل الباب أمام تدخل الإستراتيجيات الدولية. هذا النهج القائم على عدم الإنحياز وعدم المحورية هو الذي لزم سياسة السودان الخارجية منذ استقلاله حتى مايو 1969م. ولكي نتابع الآثار المدمرة لسياسة النظام المايوي الخارجية (الأوتقراطية الثانية)على بلادنا ،نقول:أن هذا النظام أعلن انحيازه في الأول نحو الشرق الشيوعي.ففتح على بابه شرورا كثيرة. نتائج الإنحياز للشرق: • لم يفده الإنحياز للشرق كثيرا من حيث دعم التنمية ولا من حيث السلامة الأمنية.فالعون الإقتصادي الذي جاء للسودان على عهد نظام عبود اليميني كان أكثر من العون الإقتصادي الذي جاء للسودان على عهد نميري الإشتراكي العلمي!والتسليح السوفيتي كله أتفق عليه قبل وقوع الإنقلاب على يد حكومة الديمقراطية الثانية (كان د.آدم مادبو وزيرا للدفاع). • الإنحياز للشرق الشيوعي فتح على السودان عداوة الغرب فنشط في دعم التمرد ضد السودان: حيث أنانيا الأولى بوسائل غير مباشرة. • وانقطع العون الغربي عن السودان . • وتمحور السودان في الأول مع مصر الناصرية ،فلم يفده ذلك شيئا يذكر ولكن جر عليه عداوة دول ومحاور أخرى ،حيث كسب عداوة المملكة العربية السعودية والإمبراطورية الأثيوبية .ثم حدث تطوران هامان هما: اتهم النظام الإتحاد السوفيتي بأنه تآمر ضده في إنقلاب يوليو 1971م فعاداه عداء شديدا. وتوفي عبدالناصر فخلفه السادات الذي اتجه بسرعة اتجاهات في حقيقتها ضد الناصرية على خط مستقيم.صار السادات يحاول منافسة اسرائيل في التقرب من أمريكا. عندما اتجه النظام المايوي إتجاها آخر في سياساته الخارجية فإنه لم يعد لسياسة الإستقامة السودانية المعهودة ،بل انقلب 180 درجة منحازا للغرب دوليا ،ومقيما محورا إقليميا مع مصر السادات. نتائج الإنحياز للغرب: • هذا الإنحياز مكن السودان من مساعدات غربية ولكنه قفل أبواب الشرق على السودان :فالمعدات المدنية والعسكرية شخصت معطلة في كل مكان لعدم وجود قطع غيار. • ولكن أهم مساويء الوضع الجديد أنه زج بالسودان في استراتيجيات دولية لا مصلحة له فيها بل أصابه منها أذى جسيم:دفع السودان ليقوم بدور في دعم الحركات المناوئة لأثيوبيا الإشتراكية مع أن الضرورة الجيو بوليتيكية تقضي أن يتجنب السودان ما أمكن العداء مع أثيوبيا لسببين أساسيين هما: - أن النيل الأزرق وأهم أنهارنا الأخرى تنبع في أثيوبيا. - أن أهم هياكلنا الإقتصادية تقع بالقرب من حدودنا مع أثيوبيا. • كان قيام السودان بهذا الدور بعيدا كل البعد عن مصالح السودان القومية مندرجا في استراتيجيات دولية غريبة على مصالحنا.هذا الدور هو الذي حضّ أثيوبيا للدخول في حلف عدن الموجه ضد المحور السوداني المصري ولاحتضانه لحركة العنف المسلح ضد السودان. • دفع السودان ليقوم بدور في تشاد لصالح استراتيجيات أجنبية.موقف السودان الطبيعي من تشاد (ومن كل نزاع ينشأ بين جيرانه )هو الحياد بين شرائحها المتنازعة وإن تدخل فاللتوسط بينهم بالحسنى ،وعدم الدخول طرفا في النزاع. • أقحم السودان طرفا في النزاع التشادي/الليبي بسبب أن استراتيجية أمريكا في المنطقة اقتضت تأديب ليبيا ،وإن أمكن التخلص من العقيد القذافي واقتضى هذا الخط إتخاذ تشاد ميدان معركة بين الأطراف المختلفة. هذا الإقحام جرّ على السودان مزيدا من العداء الليبي الذي تحول إلى دعم كبير لحركة العنف المسلح السودانية ،بينما كان موقف السودان الطبيعي هو عدم الدخول طرفا في النزاع ومحاولة إيجاد حل سلمي ليبي –تشادي ما أمكن . • هذا الدور السوداني في السياسة التشادية أهدر أمن إقليم دارفور لأن من بين تدابير الصراع استخدم حسين هبري إقليم دارفور ليقفز منه بمساعدة نميري إلى السلطة في انجمينا.لذلك صار القفز للسلطة في انجمينا من دار فور جزءا من دروب الصراع على السلطة في تشاد. • دفع السودان لتسهيل ترحيل الفلاشا اليهود الأثيوبيين لاسرائيل حيث ذهبوا" لتعمير"الأراضي العربية المحتلة وبعضهم استقر في مستوطنات الضفة الغربية المحتلة.متخليا بذلك من إلتزاماته الدولية أيضا: فوقف المستوطنات من قرارات الأمم المتحدة. • إن في أمريكا دورا هاما للوبي الصهيوني،وعن طريق التبعية السودانية استطاع هذا اللوبي أن يطول سياسة السودان.النتيجة المباشرة لهذه السياسات هي تحرك آخرين لعمل محور مضاد للمحور السوداني المصري.فقام محور عدن :الليبي، الأثيوبي، اليمني فاحتضن حركة العنف المسلح وشكل خطرا كبيرا على أمن السودان القومي. وبعد أن أسقطنا النظام المايوي اتجهنا لسياسة خارجية سودانية غير منحازة ومتخلية عن المحورية. فيما يتعلق بعدم الإنحياز : 1. لبى السيد رئيس الوزراء دعوة لزيارة الإتحاد السوفيتي وعبرها عمل على تطبيع العلاقات السودانية السوفيتية لتقوم على الصداقة بلا عداء ولا تبعية.فقد كان الرئيس المخلوع في الأول متزلفا نحو الإتحاد السوفياتي ،ثم صار معاديه إلى حد شتم الإتحاد السوفياتي ،توددا للمعسكر الغربي ،مستمرا في ذلك حتى بعد أن تخلى الغرب عن ألفاظ الحرب الباردة فكان ملكيا أكثر من الملك! وفي موسكو بحث بصراحة ووضوح مع القيادة السوفياتية ما يريد أن تكون عليه علاقتنا.وكانت القيادة السوفياتية الجديدة لحسن الحظ تراجع سياساتها على ضوء مفاهيم ملائمة جدا لما كان يقول. ثم بحث العلاقات الإقتصادية وتطلعنا إلى تأهيل المصانع السوفياتية في السودان وزيادة طاقتها. ثم تناول تطوير العلاقات التجارية والثقافية،والتسلح للسودان وإعادة تأهيل الأسلحة المشتراة من الإتحاد السوفيتي .ثم البحث والإتفاق على مشروعية العلاقة الثقافية والروحية بين المسلمين في السودان والإتحاد السوفيتي.إضافة إلى ضرورة الإنسحاب من أفغانستان ،وقيام الإتحاد السوفياتي كدولة كبرى بدور أساسي في السلام في القرن الأفريقي. 2. ألغت الحكومة الديمقراطية التسهيلات التي منحت للولايات المتحدة في السودان .وفي مقابلة مع المسئولين الأمريكيين قال لهم رئيس الوزراء أن أمام أمريكا الخيار بين نوعين من الحكم: حكام يقدمون مصالح أمريكا على مصالخ شعوبهم :هؤلاء ستضطر أمريكا إذا أرادت إستمرارهم أن ترسل لهم مشاة البحرية الأمريكية لحمايتهم. وحكام يقدمون مصالح شعوبهم :هؤلاء تسندهم شعوبهم وهم في حالة السودان في عهد الديمقراطية الثالثة لم يكونوا أعداء لأمريكا بل أصدقاء تتكيف صداقاتهم بحسب مصالح شعوبهم. وعند زيارته للولايات المتحدة تحادث مع نائب الرئيس جورج بوش ووزير الخارجية شولتز ووزير الدفاع.شاكرا الحكومة الأمريكية على دورها الإنساني الرائع في إغاثة السودان أيام المجاعة وطالبا وقوف أمريكا مع التنمية في السودان،ومع السلام في القرن الأفريقي على نحو فعالَ،وأن تمدنا بالدعم الدفاعي باعتبار أن السودان ديمقراطي وموال للحريات في أفريقيا ،لتخلق بيننا وبينهم مصالح مشتركة. إننا غير منحازين لحلف ناتو ولكننا منحازون للديمقرطية .وغير منحازين للاستراتيجية الأمريكية، لكننا منحازون لتنمية مواردنا وتنميتها.لقد وجد السيد رئيس الوزراء تفهما لهذه الآراء. الحقيقة أن كثيرا من قيادات العالم الثالث يتصورون أن هناك خانة واحدة للعلاقة مع الدول الكبرى هي :خانة التبعية.وتستمريء الدول الكبرى ذلك فتقوم العلاقة على التبعية .الخيار الصحيح هو الثالث: الذي هو لا تبعية ولا هو عداء وهو أنسب ما يلائم مرحلة الوفاق الدولي. 3. عدم المحورية اقتضى إلغاء إتفاقية الدفاع المشترك مع مصر :تلك الإتفاقية عقدها الرئيس المخلوع مع الرئيس المصري أنور السادات مباشرة بعد انتفاضة 2 يوليو 1976 كوسيلة لحماية النظام المايوي خلاصتها: - عقد اجتماع دوري نصف سنوي بين هيئة أركان البلدين-لتنسيق الخطط الدفاعية. - عقد اجتماع سنوي دوري بين وزراء الدفاع والخارجية في البلدين لتنسيق السياسات الدفاعية والخارجية. - القيام بتدريبات مشتركة بين القوات المسلحة في البلدين ليعملا معا عند اللزوم. - التضامن الدفاعي بين قوات البلدين في حالة عدوان طرف ثالث. - نجدة الطرف الآخر في حالة تعرضه لخطر حتى إذا حالت ظروف دون استنجاده. هذه الإتفاقية أضرت بالسودان للأسباب الآتية: 1. لوحت بوجود دعم مصري لنظام نميري حماه، وحمى بذلك الظلم والإستبداد في السودان. كما هدد التحركات ضده . 2. استفزاز جماعة حلف عدن الذين ترجموا مشاعرهم دعما حقيقيا لحركة العنف المسلح ضد السودان.بينما لم تدعم إتفاقية الدفاع المشترك دفاع السودان بشيء ،لأن الطرف المصري ألح على إعتبار القتال في الجنوب مسألة داخلية مع أنه يعلم حجم التدخل الأجنبي لصالح الطرف الآخر. 3. جرّت السودان طرفا في سياسات مصر الشرق أوسطية وهي سياسات اتخذت على عهد السادات نهجا ضد المصالح القومية العربية ومهما كانت مبرراتها الوطنية المصرية فلا مصلحة للسودان في الدخول فيها. ألغيت تلك الإتفاقية تخلصا من المحورية .وكان واضحا أن ذلك لا يلغي العلاقات السودانية المصرية الخاصة . كان السودانيون في الماضي مختلفين حول العلاقة مع مصر بين اتحاديين واستقلاليين .هذا الخلاف حسم بحل ارتضاه الجميع هو:استقلال السودان وقيام علاقة خاصة مع مصر.وأن أفضل صورة لهذه العلاقة هي الإخاء الذي أهدافه تحقيق مصالح إقتصادية مشتركة-لا سيما الأمن الغذائي بين البلدين،ومصالح ثقافية وتجارية ومائية مشتركة. يقول السيد الصادق المهدي:"لقد بذلت كقيادة للحكومة ولحزب الأمة مجهودا كبيرا لنقل العلاقة مع مصر من التوتر الذي شابها في الفترة الإنتقالية ،مما أدى لحرق العلم المصري بسبب وجود نميري في مصر.ولقد نقلنا تلك العلاقة إلى وضعها الطبيعي وذلك بتوقيع ميثاق الإخاء وتجاوز الإرث الماضي في عهد النميري.ولتعميق الثقة بيننا وبين مصر ،كنا قد بعثنا مبعوثا في عام 1983 هو الدكتور ابراهيم الأمين ممثلا لنا في مصر ،وقد قام بمجهود كبير في تنقية الأجواء وتعميق الإتصالات :سواء في المجال الرسمي مع الحكومة والمسئولين أو في مجال الأحزاب وقادتها،إضافة إلى الصحافة وإعلامها..وفي الفترة الإنتقالية ،استضفنا العديد من الوفود السياسية المصرية خاصة الحزب الوطني الحاكم.ورحبنا بهم في مهرجانات شعبية في دار الأمة بأمدرمان .وأجرينا معهم حوارات موسعة ثم اختتمنا كل ذلك بعقد اتفاق تعاون وتكامل في عام 1989 بين حزب الأمة والحزب الوطني الحاكم، نص على ترتيب الكوادر والمعسكرات السياسية المشتركة وإقامة الندوات .إضافة إلى جميع أوجه النشاط الحزبي بهدف تعميق الصلات في إطار من الإخاء الرحب والعمل الفاعل. إن نمط العلاقة بين مصر والسودان الذي وسم المرحلة النميرية كان فوقيا، تجاوز الأطر الشعبية.وكان معزولا عن الشورى.لذلك لم يرضي طموحات الشعب السوداني الذي أطاح بنظام النميري في انتفاضة شعبية فيما بعد. كذلك أن العلاقة ذات السمة العدائية بين البلدين ليست واردة ،لأنها لن تلبي طموح الشعبين المصري والسوداني ولابد من استصحاب المصالح المشتركة المنطلقة من ثوابت التاريخ والجغرافيا والعقل والعاطفة.هذه هي التي تبقى لأن منها ما ينفع الناس وخير لقادة البلدين تكييف أنفسهم مع حقائقها .ومما يثلج الصدر كثيرا أن هذه الحقائق بدأت تظهر لكثير من الكتاب المصريين والصحافيين والساسة.إن في تفهم هؤلاء لهذه الحقائق كرسل وعي للرأي العام المصري،أكبر ضمان على أن دسائس المندسين لن تطال أزلية العلاقة بين شعبي وادي النيل. 4. إن التمسك بنمط علاقات سادت إبان العهد المايوي -قد تجاوزها الواقع السياسي للسودان اتضح أيضا في الموقف من الجارة تشاد:لقد حظي الرئيس التشادي حسين هبري بدعم نظام مايو،حتى وصل إلى السلطة.فتحالف الإثنان في سياساتهما الإقليمية تحالفا استظل بإستراتيجيات أجنبية .بعد سقوط نظام نميري في 6 نيسان (ابريل)1985 كانت سياستنا نحو الجارة تشاد ترتكز على المقومات الآتية: الإعتراف بالحكم القائم في تشاد والتعامل معه بموجب المواثيق الدولية. عدم دخول السودان طرفا في نزاعات الشرائح التشادية إلا كوسيط للصلح -على أن يتم ذلك بناء على طلب منهم. لا يسمح السودان باستغلال أراضيه لتكون مسرحا لاقتتال جيران. ولا يدخل طرفا في نزاعاتهم ويسعى للتدخل كوسيط للصلح بطلب منهم. هذه المواقف صحيحة ومنطلقة من مصالح السودان ولكن لأنها تمثل تراجعا من موقف التحالف القديم لم يرض عنها حسين هبري.حيث شرع في إطلاق الإتهامات ضدنا.ويلاحظ أننا تمسكنا حتى الآخِر بأسس السياسة نحو تشاد نصا وروحا. لقد كانت السياسة التشادية بقيادة حسين هبري كثيرة الإنفعالات، مما جعله على خلاف مع أكثر جيرانه: نيجريا،والنيجر،والسودان وبدون شك ليبيا. إننا لم نقصده بسوء ومهما كانت إنفعالاته حرصنا على مبادئ سياستنا نحوه.وعندما أحس السيد رئيس الوزراء الصادق المهدي، بأنه يثير الإتهامات ضدنا ليجد دعما أميركيا وفرنسيا -لأنه اعتاد على إثارة تلك الإتهامات بمناسبة وبدون مناسبة ، خاطب رئيس الوزراء أمريكا وفرنسا لكيلا يقعان تحت طائلة إستغلال هبري، وإن استطاعتا أن تبينا له بأن السودان لا يقصده بسوء، بيد أنه لن يدخل طرفا معه في صراعاته الداخلية أو الخارجية. إضافة للموقف من تشاد نتناول بالشرح أدناه علاقات سودان الديمقراطية الثالثة مع بعض البلدان التي اتهمنا بسببها بالعزلة السياسية: الموقف من كينيا: أخذ بعض الناس على رئيس الوزراء موقفه من كينيا. إن كينيا بقيادة رئيسها أروب موي في الأصل قطر مجاور وصديق للسودان.وحاول الرئيس أروب موي أن يلعب دورا في تحقيق السلام في السودان، ولكن مع مر الأيام تقاعس ذلك الدور وصارت كينيا مسرحا للتدخل في شؤون السودان وجاءتنا معلومات مفادها الآتي: • أن جرحى حركة العنف المسلح يعالجون في المستشفيات الكينية. • أن كينيا أعطت حركة العنف المسلح مكتبا في نيروبي وهو باسم الإغاثة، ينظم لها إمدادات داخل السودان. • أن هناك معسكرات لحركة العنف المسلح في بعض مناطق كينيا الشمالية. • أن هناك دعم بالأسلحة من إسرائيل لحركة العنف المسلح يصل لها عن طريق كينيا. ولفتنا نظر كينيا لهذا كله وحاولنا عدة مرات بأن تجتمع اللجنة الوزارية المشتركة لبحث هذه المآخذ وعلاجها ولبحث الخلافات المعلقة حول الحدود بيننا، دون جدوى ،فاكتفت كينيا بنفي غير مقنع لمساعداتها لحركة العنف المسلح. لذلك ،لم يكن هناك بد من الإحتجاج العلني. لقد كان كثيرا من الناس في أفريقيا يتوقعون من السيد أروب موي أن يلعب دور الرجل الكبير في شرق أفريقيا،ولكنه مؤخرا صار متباعدا من الإجتماعات الأفريقية والإقليمية، وساءت علاقاته مع أغلب جيرانه فناصبها العداء: (تنزانيا،يوغندا،الصومال،السودان). إن السودان يتطلع لعلاقة صداقة مستمرة مع كينيا ولكن هذه لن تكون إذا تدخلت كينيا في شؤون السودان بالسوء. بل لن تقوم علاقة حسن جوار كما ينبغي، إلا على أساس إحترام متبادل للمصالح القومية. الموقف من جمهورية أفريقيا الوسطى: وهناك حادث قطع العلاقات الدبلوماسية الذي قررته جمهورية أفريقيا الوسطى مع السودان، إنه إجراء لا مبرر له وهاهي الحقائق: -موظفو الملاحة الجوية في السودان لديهم تعلميات مستمرة بألا يسمح لطائرات بعبور السودان إن كان إتجاهها نحو إسرائيل أو جنوب أفريقيا. -غادر رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى عاصمته، وأعطت طائرته الملاحة الجوية السودانية خبرا بأنها ستعبر الأجواء السودانية متجهة إلى مصر. فأعطيت الطائرة إذنا بعبور الأجواء السودانية. -ثم أرسلت الطائرة إشارة أخرى للملاحة الجوية السودانية بأنها متجهة لإسرائيل فلم تعط إذنا بعبور الأجواء السودانية. -اعتبر رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى هذه إهانة له، فقرر قطع العلاقات مع السودان. إنه إجراء ليس له ما يبرره! موقف السودان من الحرب العراقية-الإيرانية: لعل أكثر ما رمينا به: هو أن موقف السودان من الحرب العراقية –الإيرانية لم يكن صحيحا. وأنه شذّ عن الصف العربي. ماهو موقف السودان من تلك الحرب؟ يقول المهدي: "في تشرين الأول(اكتوبر) 1980م ،وقبل أن أتولى مسؤولية في السودان، عقدت مؤتمرا صحافيا في لندن قلت فيه أن تصعيد العراق للمناوشات الحدودية والحملات الإعلامية التي نشطت بينها وبين إيران لتصبح حربا كاملة: خطأ. فلابد فورا من وقف إطلاق النار، والتزام الجنود حدود بلادهم الوطنية، والإجتماع لإيجاد حل سلمي للمشاكل .وقلت من ظن أن هذه الحرب سوف تنتهي بسرعة واهم، فإنها ستكون حرب إستنزاف طويلة: تدمر طرفيها، وتتيح فرصة للتدخل الأجنبي على أوسع نطاق في شؤون الخليج. واستمرت الحرب واتضح أنها ستطول .فبدأ الوسطاء يتدخلون وفي هذه الأثناء تغيرت الأوضاع في السودان وقامت الديمقراطية الثالثة". كان موقف العراق مستجيبا للوسطاء وكان موقف إيران مستمرا في الحرب إلا إذا أدين العراق. ماذا فعل السودان لإيقاف الحرب؟ يقول المهدي: 1. "استجبت (كرئيس للوزراء) لدعوة لزيارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهناك أثرت ضرورة إيقاف الحرب في وسط إيراني كان يرفض الحديث عن ذلك ويتجه بكلياته للتعبئة الحربية من أجل النصر.ورأت القيادة الإيرانية أن تستمع إلي، فانعقد اجتماع في كانون الأول(ديسمبر) 1986م في منزل رئيس الجمهورية حجة الإسلام علي حسيني خامنئي وحضره: حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني (رئيس مجلس الشورى)مير علي موسوي (رئيس الوزراء) السيد أحمد بن الإمام الخميني،السيد عبد الكريم موسوي اردبيلي (رئيس القضاء)،السيد علي أكبر ولايتي (وزير الخارجية)". وفي الإجتماع قلت لهم: "أنا وآخرون من مفكري العالم الثالث أذكر منهم أحمد مختار أمبو رأينا أن نتدخل في أزمة الرهائن لحلها على أساس سليم وكان يهمنا في ذلك أمران: الأول: ألا يؤخذ على بلد إسلامي أنها أسرت مستأمنيها. الثاني: أن في حل الأزمة ما يحسن فرص إنتخاب الرئيس كارتر أمام منافسه السيد رونالد ريجان وتقديرنا أن إنتخاب كارتر أفضل للعالم الثالث. واقترحنا حلا عادلا ومناسبا ولكن للأسف لم نجد تجاوبا من القيادة الإيرانية .ثم حلت الأزمة بشروط أقل كثيرا في حق إيران من الأسس التي اقترحناها. هذه الحرب الحالية لا يمكن أن تصل لنتيجة حاسمة، بمعنى: انتصار كامل وهزيمة كاملة للطرف الآخر. كل ما سيحدث هو تدمير الإقتصاد في البلدين، وإتاحة الفرصة للتدخل الأجنبي، وتعميق العداوات. واقترحت مشروعا كاملا لكيفية إنهاء تلك الحرب، وقلت: إن لم يقبل هذا المشروع واستمرت الحرب، وبدا أن إيران سوف تنتصر انتصارا كاملا لإخضاع العراق، فالذي سيحدث قبل وصول تلك المرحلة هو أن العرب كلهم بمن فيهم نحن (السودان) سنقف مع العراق. وأن الأسرة الدولية كذلك ستقف مع العراق. تناول الحاضرون الحديث مستفسرين عن بعض تفاصيل المشروع ولكنهم انقسموا على رأيين: رأي متجاوب مع ما قلت. ورأي متحفظ عليه. هذا(أي الرأي المتجاوب) أقنعني عمليا بوجود"حزب سلام" ينبغي الإستمرار في مخاطبته. 2. وفي زيارتي لطهران حضرت صلاة الجمعة: وهي مناسبة تعبوية أساسية في إيران. فقبل الصلاة وأثناء الخطبة وبعد الصلاة إندفعت نداءات التعبئة الجهادية للحرب بصورة لم أشهد لها مثيلا وأعطيت فرصة مخاطبة هذا البحر من المشاعر القتالية فخاطبتهم بنبرة شاذة على ما عهدوا داعيا للسلام وإيقاف الحرب. 3. لقد اقتنعت إن من بين وسائل إيقاف الحرب وتشجيع دعاة السلام أن تقوم ضغوط من علماء ومفكرين من كل أنحاء العالم الإسلامي بالدعوة لإيقاف الحرب. وخاطبت عددا من المفكرين والعلماء في هذا الشأن ووجدت أن جماعة منهم تزمع عقد مؤتمر شعبي لهذا الغرض، فاستضفت ذلك المؤتمر في الخرطوم في تشرين الأول(اكتوبر) 1978م وكان مؤتمرا ناجحا ساهم في التعبئة من أجل إيقاف الحرب. 4. وزرت العراق: وفي العراق عاتبني الأخ الرئيس العراقي صدام حسين على ما ظنه موقف السودان أو موقفي من الحرب. فأوضحت له أنني كمسلم وكعربي أرى وقف هذه الحرب ضرورة. ثم تساءلت إن كنتم ترون أن إيران تريد الإستمرار في الحرب وأن العراق مستجيبة لنداء السلام فموقفنا موضوعيا متطابق -ولكن لنا أسلوبنا. في النهاية أبدى تفهمه لموقفنا. 5. وزرت المملكة العربية السعودية والكويت وقطر وبعد تداول الرأي حول العلاقات الثنائية تناولنا بحث الحرب وكانوا قد وصلوا إلى يأس تام من أن تستجيب إيران للصلح. ولكني نقلت لهم صورة أخرى، واستشهدت بأزمة الرهائن. وأنها بعد طول تأزم انتهت. وأن السلام حتما آت. وأن ثمة تيارا قويا في إيران مع السلام.وأنه مهما كان الأمر ففي النهاية سيبقى :عرب وفرس وسنة وشيعة ولابد أن يتعايشوا قوميا ومذهبيا فلا سبيل لحل يقوم على إستئصال أحد هذه الأطراف. وبدا لي أن الملك في المملكة السعودية والأمير في الكويت ونائب الأمير في قطر (كان الأمير غائبا) يرون في هذا الخط أملا ويريدون معرفة تطوراته.
السياسة الإقليمية وضع السودان مقترحات محددة لتستهدي بها منظمة الوحدة الأفريقية في ربع القرن القادم أهمها: - الإهتمام بالتنمية من منطلق الإعتماد على الذات وإزالة سلبيات الأداء الوطني. - التركيز على إيقاف الحروب داخل الأقطار الأفريقية وفيما بينها. وإيجاد أداة أفريقية لتحقيق ذلك. - السعي عبر حوار الشمال والجنوب لتحقيق نظام اقتصادي وتجاري ونقدي عالمي أعدل. - تطوير العلاقات الإفريقية لمصلحة طرفيها وقفل باب الفرقة بينهم. - الإهتمام بحقوق الإنسان الأفريقي المهددة تاريخيا: عن طريق الرق والإستعمار. والمهددة حاليا: عن طريق الجلادين والسفاحين الظلمة وإيجاد وسائل لإيقاف الظلم وتحقيق العدالة وفرض إحترام حقوق الإنسان الأفريقي. واتجهت سياستنا لتحقيق حسن الجوار مع كل الجيران بصرف النظر عن اختلافات النظم الحاكمة. وقد كان ما تحقق في هذا الصدد من تحسين العلاقات بأثيوبيا بعد العداء الشديد إنجازا كبيرا. واتجهنا لتكوين ودعم المنظمات الإقليمية مثل "الإيقاد"، للعمل المشترك بين الجيران الستة: السودان، أثيوبيا،كينيا يوغندا،الصومال، وجيبوتي لمحاربة الجفاف والتصحر. كذلك نشّطنا البرامج الإقليمية لمحاربة آفة الجراد ولصيانة البيئة وللتعاون الثقافي … وهلم جرا…
السياسة العربية على ضوء مصالح السودان وظروفه الجغرافية والتاريخية تم الإتفاق على إقامة علاقة خاصة مع كل من: السعودية، ومصر، وليبيا. أما السعودية فقد تم اقتراح كثير من الأسس لتطوير العلاقة: لقد سمعنا من الملك فهد وإخوته أطيب كلام. بل أن الملك فهد في إجتماع معه وبعد أن تحدثنا عن العلاقات وخصوصيتها قال للصادق المهدي: هاهم أخوتك سلطان وسعود فأمرهم بما ترى أساسا لتطوير علاقتنا وسد حاجات السودان، وقد كان أن تحدثوا مليا. لقد قدم الصندوق السعودي كثيرا من القروض لمشروعات التنمية السودانية كما قدمت المملكة معونات بترولية وغذائية إضافة إلى تبنيها الدعوة لعقد مؤتمر الصناديق العربية لدعم السودان. وقدمت أكبر معونة إبان فترة السيول التي دهمت البلاد. أما مصر فقد عرض عليها ميثاق الإخاء حيث تم توقيعه معا. وحقق عمليا من نشاط اقتصادي مشترك أكثر مما حققت الإتفاقيات الفوقية التي أبرمها السادات ونميري. ولاشك أن قادة البلدين وشعبيهما سوف يتخلصان تماما من أي رواسب ويقيمان العلاقة الخاصة بينهما على الثوابت والمصالح المشتركة. أما العلاقة الخاصة بليبيا فقد وضعت لها أسس: ولا يوجد تحفظ بل حماس . ولا توجد حساسيات. ذلك أن وجود المعارضة الديمقراطية في ليبيا أثناء الديكتاتورية الثانية خلق علاقات قوية بين قادتها وقادة الثورة الليبية مما كان له أثره في دعم العلاقات. كثير من الناس لا سيما المتأثرين بالإعلام الغربي والإعلام المايوي يسيئون فهم الأحوال في ليبيا ويتهمون علاقتنا بها. إن قيادة الجماهيرية العربية الليبية قيادة فريدة من نوعها:فالعقيد القذافي وزملاؤه دخلوا معا الكلية الحربية وفكرة الثورة في أذهانهم والعقيد نفسه أهل نفسه لقيادة الثورة بالدراسة العسكرية ودراسة التاريخ والتفقه وتطور مؤهلاته كعالم عسكري ومفكر. وهو لزملائه أستاذ ، تزاملوا معه في عمل تاريخي.هذه الملامح لا توجد في التجارب الأخرى التي نشهدها في العالم العربي والأفريقي. وعندما هب هؤلاء الشبان بعملهم، كانت ليبيا كما مهملا، لا يعرف لها أحد شأنا. لذلك إهتموا بإعلاء شأنها بصورة تبدو للآخرين مبالغا فيها.ولكنها تشبع حاجة حقيقية في هذه المرحلة من تاريخ ليبيا. ونزعة التنظير لكل شئ نزعة لها ما يبررها:إذ أن الفكر والإجتهاد السياسي كانا معطلين في ليبيا قبل الثورة! مما يجعل ليبيا عرضة للغزو الفكري والثقافي. فالحرص على التنظير يشكل حماية لها من الغزو ويملأ الفراغ ويساهم بإجتهاد ليبي في الساحة العربية والعالمية. هذه القيادة التاريخية خلقت لليبيا دورا عربيا وأفريقيا وإسلاميا وقادت معركة المنتجين مع الشركات في السبعينات بصورة قياسية. وبنت في ليبيا إقتصادا متقدما حقق تنمية ذات أبعاد اجتماعية وعدالة إجتماعية. وأثبتت قدرة على الثورية وعلى المرونة ومراجعة السياسات الخاطئة. "ان العلاقة التي قامت بيننا وبين الأخ العقيد معمر القذافي وزملائه علاقة فريدة في نوعها،فيها التوافق الفكري نحو كثير من القضايا، وفيه الإختلاف، وفيها إحترام متبادل، ومودة في العلاقات الشخصية- نمت أثناء ظروف عسيرة على أيام المعارضة لنظام النميري فكانت قوية وراسخة". وقد اختلفنا في جوانب عديدة منها : نظرتنا للديمقراطية فتجاربنا في هذا الصدد مختلفة ، نظرتنا للبرامج الاقتصادية، نظرتنا للسياسة العربية والإفريقية ولكننا مع الإختلاف لم نشكك في أصالة تفكيرهم . وإن مقولاتهم وإجتهادات العقيد القذافي لا يقلدون فيها أحدا. ومع الإختلاف احترموا وجهات نظرنا لأننا معا كنا نستلهم:البعث الإسلامي،الوحدة العربية،التضامن الأفريقي،الإنتصار للمستضعفين،التحرر من السيطرة الأجنبية،والتأصيل الذي يتكامل ولا يتناقض مع العصر الحديث. لذلك كانت ليبيا قيادة تاريخية وشعبا من أكثر الأقطار العربية التي وقفت مع الديمقراطية الثالثة مع أن لهم اجتهادا مختلفا في الديمقراطية. إن قيام علاقة خاصة بين ليبيا والسودان على هدى المثل المشتركة المستلهمة وعلى أساس المصالح المشتركة أمر متفق عليه .ويرجى مستقبلا أن ينمو نموا مضطردا بدافع من العوامل الموضوعية والذاتية العديدة الموجبة له. لقد قامت الآن في النطاق العربي ثلاثة تجمعات هي: مجلس التعاون الخليجي بين دول الخليج. الإتحاد المغاربي- بين دول المغرب العربي. الإتحاد العربي بين مصر والعراق واليمن الشمالي والأردن. التكوين الأول (مجلس التعاون الخليجي) له مبررات جغرافية وتاريخية وثقافية وإجتماعية فالتركيب الإجتماعي لأعضائه متشابه جدا ومصالحهم الإقتصادية تجمع بينهم في إنتاج النفط. والتكوين الثاني (الإتحاد المغاربي) له أيضا مبررات عديدة من :جوار جغرافي وإطلال على البحر الأبيض وعوامل تاريخية وثقافية كثيرة. أما التكوين الثالث ( الإتحاد العربي) فليس له مقومات الإتحادين السابقين وتبدو عليه سمة وفاق مرحلي بين أعضائه الأربعة. ليس للسودان مصلحة في الإنضمام لأي واحد من هذه التجمعات-حتى إن سمحت لوائحهم بذلك. إن مصلحة السودان هي أن يقيم معها كلها علاقات تعاون عبر السعودية وليبيا ومصر. إن استطاع السودان التغلب على المشاكل الداخلية القاهرة التي تواجهه ليقوم بدور إقليمي مؤثر فإن أكثر تكتل يناسبه هو إتحاد اقليمي يضمه مع مصر والسعودية وليبيا وأثيوبيا ويوغندا.
السياسة الأفريقية إن أهم دور للسودان في المجال الأفريقي هو دوره الواصل في داخل منظمة الوحدة الأفريقية بين دول شرق وغرب وقرن أفريقيا. ودوره الواصل بين أفريقيا العربية وأفريقيا جنوب الصحراء .وفي المجال الأفريقي فثمة عوامل جغرافية وتاريخية تقتضى أن يكون للسودان علاقة خاصة بأثيوبيا ويوغندا. لقد دفع خطر الجفاف والتصحر- وهو خطر مشترك ببلادنا، للقيام بدور رائد-منذ الفترة الإنتقالية- في تكوين منظمة الإيقاد-ثم بعد قيام الحكومة الديمقراطية –في تطورها .هذا الدور سوف يدعمه السودان عن طريق المعهد العالمي المزمع إنشاؤه في الخرطوم لعلوم الجفاف والتصحر. والسودان هو البلد الوحيد المجاور لكل أقطار وادي النيل. وتقع على عاتقه مهمة تطوير (ديبلوماسية النيل) حتى تبلغ درجة إتفاقية دولية لحوض النيل تشارك فيها كل دول النيل (دول المنبع والمجرى والمصب). لقد شرع السودان بالفعل في عهد الديمقراطية في رسم الخطى نحو هذا الوفاق المأمول.
السياسة الإسلامية لقد لعبنا دورا في لفت نظر تركيا للعلاقة الخاصة بينها وبين البلاد الإسلامية، ودارت بين رئيسي وزراء البلدين في هذا المجال مناقشات أدت إلى تفاهم مثمر، قام عليه تطور كبير في العلاقات بين بلدينا .وهناك مجال لتطوير العلاقات السودانية الباكستانية، والسودانية الإيرانية، والسودانية الأفغانية-بل السودان مرشح ليواصل ما بدأناه من دور، لإنهاء الحرب في أفغانستان، وتحقيق الإستقرار فيها. كل هذا على الصعيد الثنائي أما على الصعيد الجماعي فقد قررت الحكومة الديمقراطية في إطار وثيقة السياسة الخارجية القيام بمبادرات لرفع مستوى التعاون بن الدول والشعوب الإسلامية تحقق: *أقصى تضامن في مجال المصالح المشتركة. *تعاون في أعمال النجدة مثل: الكوارث والإغاثة. *توحيد النظر في المجالات الشعائرية الإسلامية. *فتح باب حوار جاد مع المسيحيين واليهود بقصد تنظيم الحرية الدينية والتعايش بين الأديان. ونرى أن يسمح السودان للمجموعات الوطنية المسيحية السودانية بتنظيم العلاقات مع إخوتهم في الملة بصورة تخدم أهدافهم الروحية، الثقافية، الشعائرية المشتركة.
النتائج العملية لسياسة السودان الخارجية لقد حققت سياسية السودان الخارجية في عهد الديمقراطية الثالثة نتائج إيجابية محددة- وإن كان قد غطى عليها ضباب الذين يعتقدون أن علاقة معناها تبعية. فإن لم تكن هناك تبعيات معناه لا توجد علاقات. بهذا المقياس لم تكن للسودان علاقات ولكن بعيدا من هذا الضباب سنقف على نتائج علاقات السودان الخارجية: في مجال التنمية: وجدت التنمية السودانية في عهد الديمقراطية تجاوبا كبيرا حتى بلغت المبالغ المبرمجة لأغراض التنمية 3 بليون دولار. وأهم ما حدث في هذا المجال تطوير العلاقات السودانية-اليابانية حتى أصبح السودان أكبر مستفيد من العون الياباني في أفريقيا. إن الذي يؤهل اليابان للمكان الأول في هذا المجال هو أن اليابان هي الآن أغنى دولة في العالم وأضخمها رصيدا ماليا. وأكثر من ذلك في زيارته لليابان أدرك رئيس الوزراء ،ما كان يعلمه نظريا: كيف وفقت اليابان بين عصريتها وأصالتها ،وكيف أن اليابان نهضت من عزلة وتخلف، إلى قيادة المجتمع الصناعي الحديث. بل كيف أن التجربة اليابانية هي أبلغ دليل على عبقرية الإنسان: فاليابان بلا موارد طبيعية استطاعت أن تبلغ ما بلغت من نهضة إقتصادية .لقد وجد(رئيس الوزراء) أن زعماء الكتل المختلفة في الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم في اليابان يعطون العلاقة بالسودان أهمية خاصة. بل أن اليابان تقدم على كل البلاد الصديقة لنا، بتكوين جماعة نيابية قوية للصداقة السودانية اليابانية، شارك فيها ثلاثة نواب وزراء من اليابان فكونوا اللوبي السوداني. لقد اقترح على اليابان دراسة جميع الموارد الطبيعية السودانية للإتفاق معنا على الإنتفاع بها بجهد مشترك: ووافقوا، وكان متوقعا وصول فريق الخبراء في عام 1989م . وبعد اليابان تأتي إيطاليا: هذا البلد الذي لم تربطنا به علاقات تاريخية معينة ولكن حققت إيطاليا نهضة إقتصادية، وبوعي سليم ونظرة إنسانية،اقتحمت مجال العون الإقتصادي التنموي والإنساني بصورة فاقت الكثيرين. لقد لمست إيطاليا في السودان الديمقراطي معاني، تجاوبت مع مشاعرها، فقد قبضت بعض المنظمات الثورية خبراء إيطاليين يعملون في بعض مشروعات أثيوبيا، فكنا نسعى ونطلق سراح هؤلاء دون أي ابتزاز أو مقابل. إن التعاون بيننا وبين إيطاليا صار ذا حجم كبير، ولا تشوبه شائبة. كانت تقديرات العون الإيطالي الجديد في حدود 500ميلون دولار. كان دور المانيا الغربية في التنمية في السودان كبيرا. ولكنه تدنى منذ عهد الديكتاتورية الثانية، بسبب الحرب في الجنوب، والدعايات المرتبطة بها. ولا يفوتنا أن نذكر الدور الهولندي الكبير في تنمية السودان .ولا أجد خلفية تاريخية تفسر هذا الإهتمام الهولندي لتطوير العلاقه مع السودان.و مثل هذه العلاقة أحق بالتقدير والإشادة. وهناك الدول ذات العلاقة التاريخية بالسودان وتنميته مثل: أمريكا وبريطانيا. إننا لن نعدد جميع الذين وقفوا مع التنمية في السودان، ولا يسعنا أن نقدر لهم جميعا دورهم الصديق الواعي. توضح هذه القائمة ترتيب الدول التي ساهمت في التنمية في الديمقراطية الثالثة ، حسب حجم ونوع الدور: 1. اليابان 2. إيطاليا 3. أميركا. 4. هولندا. 5. ألمانيا الإتحادية. 6. النرويج. 7. الدنمارك. 8. بلجيكا. 9. السويد. 10. كندا. إلى جانب هذا الدور، ينبغي ذكر الدور التنموي الهائل الذي قامت به الصناديق العربية :الصندوق السعودي والصندوق الكويتي والدور الكبير الذي قام به بنك التنمية الإسلامي وبنك التنمية الأفريقي. في مجال التسليح: كان تسليح السودان في الجزء الأخير من عهد مايو معتمدا على المعونة العسكرية الأمريكية وقد بلغت أقصاها 150مليون دولار في السنة. كانت لهذه المعونة تبعات أشرنا إليها. ثم تقلصت المعونة العسكرية الأمريكية ،حتى تلاشت. وكان آخرها صفقة العربات الهامر المدرعة. وهي 60 عربة مزودة بأجهزة استطلاع وإنذار مسلحة ومصفحة. أستخدمت في مراقبة وحراسة حدودنا الغربية وبدل المعونة الأمريكية العسكرية صار تسليحنا معتمدا على مصدرين هما : الأول: الدعم غير المشروط من الأشقاء: وهذا المصدر إشترك فيه معظم الأشقاء بدرجات متفاوتة: الجماهيرية الليبية- المملكة السعودية-مصر- العراق والأردن. الثاني: الأسلحة المشتراة عن طريق قروض ميسرة وصفقات متكافئة وبرتوكولات من الدول الصديقة. إننا نشكر لأشقائنا جميعا الذين عاونوا قواتنا المسلحة والشرطة بأسلحة وذخائر ومركبات وطائرات وراجمات ومدافع وهاونات… الخ. أما الصفقات التجارية فإن أهم تطور حدث في مجالها، هو ما تمخضت عنه زيارتي كرئيس وزراء للصين الشعبية. فقد رأينا أن نزود قواتنا من الصين بكل إحتياجات الطيران والدفاع الجوي والمدفعية والآلات المدرعة وقد كان. لقد كانت مقابلة القادة في الحكومة والحزب في الصين تجربة مثيرة: فقد قصّ علينا زملاء ماو تسي تونغ تجربتهم، والتعبئة التي حققتها الأيدلوجية في مراحلها الأولى. ثم كيف أنها صارت بعد ذلك ضبابا يحجب الحقائق. فرأوا بنظرة عملية أن يعملوا على رفع كفاءة الإنتاج ،والإنتاج بكل الوسائل المتاحة. وكيف أنهم كانوا في مراحل أولى يهتمون بتصدير الثورة -بمفهومهم لها، لكل أنحاء العالم، فوجدوا أن للآخرين ظروفهم الخاصة بهم، فأمسكوا عن هذا النهج. ورأوا أن يتركوا للآخرين حرية اختيار النظم والبرامج والسياسات التي يختارونها، ولا يتدخلوا في شؤونهم، وأن يتعاملوا معهم على أساس المصلحة المشتركة .فوجدوا منا كل إشادة بهذه الإستفادة من التجارب. وسمعوا منا تقديرنا للتعامل مع الصين الشعبية ،وكيف أنهم كسبوا إعجاب شعبنا: بدقة وكفاءة التنفيذ، وبمعقولية أسعار المنتجات الصينية و بالطريقة المتواضعة التي يتصرف بها العمال والمهندسون الصينيون. وأبدى كل الزعماء إعجابهم بتاريخ السودان -لا سيما غوردون باشا، كان أحد الذين اشتركوا ضد الشعب الصيني في حروب الأفيون مما خلق رابطة بينهم وبين تاريخ السودان. إذ ظهر غوردون باشا نفسه في مسرح أحداث التاريخ السوداني ووضع في السودان حدا لأدواره الإستعمارية. وبعد محادثات مثمرة إتفقنا على كيفية سداد ديونهم على السودان، وعلى قيام علاقة خاصة بيننا في إطار تسليح قواتنا المسلحة، واطلعوا على احتياجاتها، وأبرمنا صفقة لسدها بمبلغ 160 ميلون دولار .واتفقنا أن يكون بيننا هذا التعامل، وما يقتضي من تزويد بقطع الغيار والذخائر والخبراء- لا سيما وتجربتنا أن السلاح الصيني أقل تكلفة وأقل تعقيدا وذو كفاءة قتالية عالية والمدربون الصينيون موطئون أكنافا يعملون في تواضع جم. يلى الصفقه الصينية الصفقة اليوغسلافية. لقد تطورت علاقة السودان بيوغسلافيا ولمست تطابقا تاما في نظرة يوغسلافيا والسودان للسياسة الدولية ووجدت تقديرا كبيرا للسودان لدى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وقادة الحزب في يوغسلافيا. لذلك وضعنا أساس تعاون بيننا في داخل معسكر عدم الإنحياز ونمت بيننا وبين قادتهم صداقات، وطورنا البروتكول مع يوغسلافيا بشقيه: المدني -الإقتصادي والعسكري. أما الشق المدني-الإقتصادي، فقد أثمر إتفاقات هامة: شرعت الشركات اليوغسلافية في تنفيذها بتمويل البروتوكول اليوغسلافي مثل كهرباء النيل الأبيض ومياه الأبيض من بارا.. إلخ وقد عملت الشركات اليوغسلافية في السودان بكفاءة عالية. أما الشق العسكري: فقد زدنا حجم البروتكول اليوغسلافي العسكري ليبلغ 50ميلون دولار في السنة ،اشترينا بها أسطولا كاملا للبحرية –النهرية السودانية التي أسسناها لأول مرة في تاريخ السودان: أسطول لنقل الجنود وعتادهم والوقود والمؤن، تحرسه 4 زوارق مسلحة مصفحة للعمل في الخط النهري بين الشمال والجنوب. وشمل البروتكول اليوغسلافي أيضا مشتروات للمدفعية وذخائر وأدوات إتصال لاسلكي ومركبات للقوات المسلحة. لقد بلغت قيمة التسليح والذخائر والآليات المستوردة للقوات المسلحة في آخر عامين من الديمقراطية من المصدرين الأول والثاني المذكورين هنا(450) مليون دولار في السنة.
في مجال الإغاثة: لقد أوضحنا تفصيلا في فصل سابق ما أصابه السودان من نجاح في هذا المجال وخلاصته: إغاثات وزعت لمناطق إحتياج كالآتي: 222 ألف طن في 1986م . 82 ألف طن في 1987م. 219ألف طن في 1988م. استفاد السودان من خدمات اللجنة الدولية للصليب الأحمر: فنقلت للمناطق المتضررة بالقتال إغاثة حجمها 15 ألف طن. برنامج شريان الحياة الذي نقل في شهرين 173ألف طن. وتعد مجهودات الإغاثه السودانية من أنجح وأكبر وأكفأ برامج الإغاثة في العالم. في مجال السلام: لقد استطعنا بمجهود مخطط بوعي، أن نبرز رأي السودان بصورة أقنعت الجميع بمصداقيته عبر المجالات المختلفة الإعلامية والفكرية والديبلوماسية كالآتي: في منبر الأمم المتحدة :في تشرين الأول(اكتوبر) 1986م. في منابر منظمة الوحدة الأفريقية: في تموز(يوليو)1986م وتموز(يوليو) 1987م. في ورشة واشنطن: في شباط(فبراير) 1987م. في ندوة انتراكشن في هراري: في آذار (مارس) 1988م. في ندوة بيرقن بالنروج: في كانون الأول(ديسمبر) 1988م. في الزيارات المتعدة للوفود السودانية للبلاد الأفريقية. عبر ندوة جراح الحرب التي عقدت في الخرطوم: في آب (أغسطس) 1988م. وفي جلسة الإستماع في البرلمان الألماني: في آذار (مارس) 1989م. هكذا اقتنع العالم بعد تشكك في مصداقية السودان نحو السلام والوحدة الوطنية والإلتزام الديمقراطي. بل بدأ فعلا الحديث بيننا وبين مسؤولين في الأمم المتحدة عن دور الأسرة الدولية في إعادة تعمير الجنوب، متى توقفت نيران الحرب. لقد استطاع السودان بعجز في ميزانيته الداخلية والخارجية بما يعادل أكثر من 40في المئة أن يحافظ على سير الحياة وعلى التنمية بمعدلات عالية دون اختناقات تذكر لمدة ثلاثة أعوام، رغم كل التخريب الذي مارسه أعداء الحرية في ظل الحرية. لقد كان الفضل الكبير في تحقيق ذلك راجعا لسياسة بلادنا الخارجية بلا انحياز ولا محاور. بعد تكوين حكومة الوفاق قرر مجلس الوزراء تكوين لجنة وزارية برئاسة رئيس الوزراء وعضوية السادة حسين أبوصالح ،حسن الترابي، ألدو أجو وذلك لوضع برنامج شامل لسياسة السودان الخارجية. كونت هذه اللجنة لجنة فنية من سفراء بالخارجية السودانية وأعطونا بيانا لأسس سياسة بلادنا الخارجية وطلب منهم أن يقدموا على ضوئها برنامجا مفصلا للسياسة الخارجية. قامت الجنة بالمهمة الموكلة إليها ،ثم وزعت تقريرها على رئيس الوزراء وعلى أعضاء اللجنة الوزراية الآخرين.ثم اجتمع أعضاء اللجنة الفنية برئيس الوزراء وبالوزراء الآخرين واستمعوا إلى تعليقات مفصلة على تقريرهم .ثم اجتمعت اللجنة الفنية وألفت بين التعليقات التي سمعت، وقدمت مسودة أخرى لبرنامج السياسة الخارجية السودانية. هذا البرنامج عرض على رئيس الوزراء، والوزراء من أعضاء اللجنة الوزراية فتدارسوه وعدلوا ما عدلوه، ثم رفع لمجلس الوزراء الذي درسه وأجازه. هذا البرنامج هو أشمل بيان لبرنامج قومي لسياسة السودان الخارجية وهو ثمرة جهد ديبلوماسي،أكاديمي،وسيبقى أساسا قوميا واعيا لسياسة السودان الخارجية. الفصل الثاني عشر السودان في ظل حكم الإنقاذ العسكري يونيو1989-أكتوبر1990م
لقد جاء إنقلاب الجبهة الإسلامية بقيادة العميد عمر البشير في 30يونيو1989م ليعلن على الشعب السوداني في بيايه الأول على لسان البشير ما يلي: أولا: إعادة التوازن لعلاقات السودان الخارجية وإنهاء العزلة التي ادعت أن الأحزاب قد فرضتها عليه. ثانيا: تحقيق السلام في جنوب البلاد الذي ضاع في مناورات الأحزاب السياسية. لقد قال العميد البشير بالحرف الواحد"نحن عساكر وهم عساكر أي جماعة جون قرنق ولذلك نحن نفهم بعضنا جيدا ولن يستغرق الأمر منا وقت يذكر". ثالثا: بناء القوات المسلحة والقوات النظامية وتعويضها عن سنين الإهمال الحزبي. رابعا: رفع المعاناة عن كاهل الجماهير بتوفير السلع الضرورية بأسعار زهيدة.وإنقاذ الإقتصاد الوطني من الإنهيار. هذا ماجاء على لسان قائد الإنقاذ الجبهوي العسكري. فلنراجع سويا ونرى ما حدث لهذه الشعارات وما آل إليه حال السودان في أقل من عام ونصف (عمر حكم العسكر المنقذين):- أولا: السياسة الخارجية:- لقد إنعزل السودان تماما عن كافة دول العالم: شرقه وغربه ،عربيا وأفريقيا، ولم يبق له إلا علاقات مصلحية مع دولتين هما: ليبيا والعراق. أمريكا: التزمت بالقرار الخاص بعدم دعم نظام عسكري يطيح بنظام ديمقراطي منتخب. ولم يستخدم الرئيس الأمريكي حقه في استثناء السودان من القرار. وبالتالي أوقفت أمريكا كل معوناتها الإقتصادية للسودان، واشترطت العودة للديمقراطية والسلام وإحترام حقوق الإنسان، والدخول في برنامج إصلاح إقتصادي مع صندوق النقد كأساس لإعادة النظر في علاقاتها الإقتصادية مع السودان. وأخيرا جمدت معوناتها الإنسانية نتيجة لإعاقة حكومة البشير عمليات الإغاثة داخل السودان، وعدم إلتزامها بالإتفاقيات المعقودة في هذا الصدد، وضربها لقوافل الإغاثة التابعة لبرنامج شريان الحياة الذي تقوده الأمم المتحدة في جنوب البلاد. أوروبا الغربية: أوقفت جميع مساعداتها الإقتصادية للسودان واشترطت الآتي لمزاولة أي تعاون مع السودان: 1. العودة للديمقراطية. 2. تحقيق السلام. 3. إحترام حقوق الإنسان. 4. الإتفاق على برنامج إقتصادي مع صندوق النقد الدولي. لقد أكد البرلمان الأوروبي على هذا الموقف بصفة قاطعة في قراره في شهر يونيو 1990م، والذي قرر فيه وقف المفاوضات على برنامج الدعم المستقبلية، في إتفاقية لومي ،إحتجاجا على إستمرار إنتهاكات حقوق الإنسان في السودان، وتجاهل نداءات الأسرة الدولية في هذا الصدد.وقرر إبلاغ موقفه هذا للجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية. الإتحاد السوفياتي ودول شرق أوروبا: لم يحاول النظام إقامة أي علاقات معها باعتبار أنها دول ملحدة حسب مفهومه الإخواني. الدول العربية: ابتعدت كل الدول العربية عن أي علاقات مع نظام البشير ما عدا ليبيا والعراق. وامتنعت كافة الدول العربية عن تقديم أي مساعدات له وجاء الآن موقف البشير في أزمة الخليج إلى جانب العراق ليضع دول الخليج والمملكة العربية السعودية ومصر في حالة مواجهة مع نظام العميد البشير في الخرطوم. إن السياسات التي اتبعها نظام الجبهة الإسلامية في الخرطوم في إيواء العناصر الإسلامية المتطرفة في العالم العربي وفتح معسكرات لتدريبها داخل الأراضي السودانية بغرض تصدير الإرهاب وزعزعة الإستقرار في المنطقة العربية، قد وضع نهاية للعلاقات بينه وبين مصر والمملكة العربية السعودية ودول الخليج. العلاقات مع دول الجوار الأفريقي ودول القارة عموما: لقد تدهورت العلاقة مع عموم الدول الأفريقية بسبب توجهات النظام الإسلامية المتطرفة وتوجهاته العرقية الإثنية والتي عكست للدول الأفريقية بسبب توجهات العنصر الأفريقي غير المسلم في السودان ،مما فتح المجال للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق لتحظى بعطف وتأييد ودعم معظم الدول الأفريقية .حتى أن دول الجنوب الأفريقي سلمت الحركة الشعبية كل أسلحة حركة سوابو في نامبيا لتحارب بها النظام العنصري الجديد في السودان. أثيوبيا:حكومة البشير الآن في مواجهة مع أثيوبيا والتي تبلغ حدودها مع السودان 2000كيلومتر. فالجبهة الإسلامية تفتخر بشرف مواجهة النظام الماركسي في أثيوبيا على حد ما ورد في مضابط إجتماعات المجلس العسكري. يوغندا: قامت حكومة البشير بدعم فلول المعارضة اليوغندية المؤيدة للرئيس السابق عيدي أمين وشاركتها في هجوم مسلح على الأراضي اليوغندية في مايو الماضي. وقد كشفت السلطات اليوغندية مؤخرا عن مؤامرة للإطاحة بالحكومة يقودها وزير يوغندي مسلم هو الآن قيد المحاكمة بمساندة عناصر من الجبهة الإسلامية يقيمون في يوغندا تحت ستار العمل التجاري وبعض المنظمات الطوعية الإسلامية. وقد قامت الحكومة اليوغندية بطرد وإبعاد سبعة من عناصر الجبهة الإسلامية من يوغندا، تم تعيين أحدهم في الخارجية السودانية بدرجة سكرتير أول وأسند إليه منصب قنصل السودان في أديس أبابا. تشاد: معلوم أن الجبهة الإسلامية القومية إحتفظت بعلاقات مع حسين هبري منذ عهد النميري، عندما كان لاجئا في السودان. لذلك كان الرئيس حسين هبري أول المؤيدين لحكومة الجبهة الإسلامية، عقب وقوع الإنقلاب في يونيو1989م. فكان أول رئيس يزور السودان في عهد البشير، حيث لم يكن سرا توصله لإتفاق مع حكومة البشير يسمح له بالتوغل داخل إقليم دارفور لملاحقة عناصر المعارضة التشادية المحتمية هناك بقيادة إدريس ديبي. وقد حدث أن وصلت قوات الرئيس هبري إلى منطقة كتم في شمال دارفور وقامت بسبي النساء والأطفال وخطف المرضى من جماعة المعارضة الشادية داخل مستشفى كتم الحكومي تحت سمع وبصر حكومة البشير التي التزمت بإتفاقها كاملا. بيد أنه في مارس 1990م وتحت ضغط الحاجة لإمدادات البترول من ليبيا وقع العميد التجاني آدم الطاهر عضو المجلس العسكري الحاكم إتفاقا نيابة عن حكومة البشير مع الحكومة الليبية يسمح للمعارضة التشادية بحرية الحركة من ليبيا إلى دارفور لتنقل أسلحتها وعتادها. وأدى ذلك إلى أن تجد حكومة البشير نفسها مضطرة للعب دور مزدوج بين: اتفاقها مع هبري، ومصلحتها في ليبيا. واستمر الحال كذلك إلى أن قام إدريس ديبي بهجومه الأخير على قوات الرئيس هبري،ويومها حسمت حكومة البشير موقفها إلى جانب الرئيس السابق حسين هبري عبر الخطوات الآتية:- 1. إدانة وشجب الهجوم واعتباره خروجا على شرط التواجد في دارفور، مع الإعتذار لحسين هبري ووعده بوقف ذلك وتجريد المعارضة من أسلحتها. 2. إعتقال جميع أعوان إدريس ديبي في الخرطوم ونيالا والفاشر بمن فيهم الأسر، فيما بلغ مجموعه 152 شخصا. 3. أرسلت حكومة البشير قوات إضافية لإقليم دارفور بقيادة الفريق حسان عبدالرحمن نائب رئيس هيئة الأركان بهدف تجريد واعتقال أي عناصر متراجعة من جماعة إدريس ديبي. وتم إنذارهم كي يسلموا أسحلتهم وأنفسهم خلال 72ساعة من الدخول إلى الحدود السودانية. كشفت هذه الإجراءات إنتهازية حكومة البشير. ولكنها أفادت إدريس ديبي ودفعته إلى مواصلة تقدمه حتى توجه بالإنتصار. وبعد أن أصبح إدريس ديبي رئيسا لتشاد، أرسل البشير وزير خارجيته الذي اعتذر عما حدث، وقامت الحكومة بإطلاق سراح من سبق إعتقالهم بعيد هجوم إدريس ديبي، كما أن البشير قد زار تشاد في طريق عودته من زيارة إلى نيجريا. ثانيا: شعار وقف الحرب وتحقيق السلام: واحدة من الأسباب الرئيسية التي قام من أجلها إنقلاب الجبهة الإسلامية بقيادة العميد عمر البشير في يونيو1989م كانت وقف إتفاقية السلام التي شرعت في تنفيذها حكومة الصادق المهدي وذلك لأن الجبهة الإسلامية رفضتها وعزلت نفسها بالتالي، عن الشارع السوداني وبقية القوى السياسية في البلاد. لقد رفضت حكومة البشير إتفاقيات السلام المعقودة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في أديس أبابا، وعقدت بدلا عنها مؤتمرا للحوار الوطني تبنى ميثاق السودان الذي أصدرته الجبهة الإسلامية خلال الفترة الديمقراطية، والذي ينادي بتطبيق النظام الفيدرالي في السودان كأساس لحل المشكلة ،على اعتبار تمرير قوانين سبتمبر المسماة إسلامية على أساس جغرافي، واستثناء جنوب البلاد منها. لقد عقدت الحكومة العسكرية الجديدة جولتين من المباحثات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في أديس أبابا ونيروبي خلال أغسطس ونوفمبر/ديسمبر 1989م بوفد قاده العقيد محمد الأمين خليفة أحد قيادات الجبهة الإسلامية داخل القوات المسلحة . وكان طبيعيا أن تفشل الجولتين لأن حكومة الجبهة الإسلامية في الخرطوم قد جاءت وبكل سذاجة لتطلب من خصمها السياسي في الجنوب قبول برنامجها السياسي وإنهاء الحرب لقاء مشاركته في السلطة والتحالف معها لضرب خصومها في الساحة السياسية السودانية. ولكي يوافق جون قرنق على مثل هذا العرض كان عليه :إما أن ينتحر سياسيا ،أو أن يكون مهزوما عسكريا .وكلا الأمرين لا ينطبق عليه. لقد فعل جون قرنق العكس تماما، فقد طور موقفه من الديمقراطية التعددية والتزم بإتفاقية السلام المعقودة مع القوى الديمقراطية وانضم إلى التجمع الوطني الديمقراطي في مارس 1990م ليصبح فصيلا أساسيا من فصائل القوى الديمقراطية في السودان. ونتيجة لذلك إتجهت حكومة الجبهة الإسلامية إلى الخيار العسكري فاستغلت كل الإمكانيات التي وفرتها الحكومة الديمقراطية: من أسلحة وعتاد، وشنت هجوما أساسيا ،صيف هذا العام لإخضاع الحركة بالقوة لقبول برنامجها للسلام. ولكن فشلت حملتها العسكرية فشلا ذريعا وانتهى فصل الصيف وحل فصل الأمطار لتكمل الحركة سيطرتها على كل الإقليم الإستوائي بإحتلال كاجي كاجي وعشرة نقاط أخرى وفي حالة سقوط ياي ومريدي تكون الحركة قد سيطرت على كل الإقليم ماعدا جوبا. وفي أعالي النيل احتلت الحركة مدينة ملوط الاستراتيجية التي تتحكم في الملاحة النيلية من الشمال إلى الجنوب وشددت قبضتها على الناصر وبور وأصبحت تهدد ملكال عاصمة ولاية أعالي النيل-الإقليم الذي يتعرض لهجمات متواصلة من قوات الحركة. لقد فات حكومة البشير أن القوات المسلحة لم تعد راغبة في الحرب طالما السلام أصبح متاحا . كما أنها تعرضت من قبل النظام لكثير من العبث والتشريد حيث طرد النظام ما لا يقل عن 1400ضابطا من الخدمة بحجة عدم الولاء له! هذا غير الأعداد الأخرى التي سجنت وأعدمت كما أن القوات المسلحة تعلم بأنها مدفوعة للحرب لسببين: تنفيذا لسياسة الجبهة الإسلامية. للتخلص من عناصرها الوطنية فيدفعها في أتون الحرب بعيدا عن الخرطوم. ثالثا: شعار بناء القوات المسلحة والقوات النظامية والإهتمام بافرادها وأحوالهم: لقد أوضحنا في مكان آخر في هذا الكتاب بالدليل القاطع أن القوات المسلحة والقوات النظامية تضعف ويشقى أفرادها :لا على أساس الكفاءة ،ولكن على أساس الولاء السياسي! فتُطرد بالشك أكفأ وأحسن عناصرها، وتٌمنع تدريباتها العسكرية خوفا من الإنقلابات العسكرية،ويُهمل تسليحها ،و محاولة استقطاب عناصرها بشتى وسائل الإغراء الشخصي والرشوة ضاربة بالضبط والربط عرض الحائط. لقد سار نظام البشير على نفس النمط أعلاه. فشرد الضباط والجنود وسجن المئات وحاول الإغراء والرشوة بالوظائف والأراضي السكنية والعربات وعبر إحياء المؤسسة العسكرية الإقتصادية لإلهاء الضباط بالتجارة والسمسرة .أما في مجال التدريب: فقد توقفت كل برامج التدريب وأصبح تحرك الضباط كأفراد بعد ساعات حظر التجول تحكمه ضوابط ولوائح.وفي مجال العتاد :كان نظام البشير محظوظا إذ وصلت في أول عهده العديد من المعدات المتعاقد عليها من قبل حكومة الصادق المهدي مع الصين والعراق وألمانيا الشرقية وتركيا منها طائرات مقاتلة ومدرسة للطيران الحربي إلى جانب 1300 عربة للضباط من رتبة مقدم إلى رتبة فريق ومختلف الأسلحة والمعدات. ولم يستطع النظام أن يزيد على هذه المعدات مدفعا واحدا. وفي مجال العناية بأفراد القوات المسلحة :من حيث ضروريات المعيشة والزي الرسمي فحدث ولا حرج. فبعد أن كان الضابط والجندي تتوفر لهم كل ضروريات الحياة من خلال التعاون العسكري ،انعدمت كل السلع في التعاون العسكري. وما توفر منها أصبح يصرف للضباط ربع الكمية التي كان يتحصل عليها سابقا. وكذلك إنعدم الدواء في صيدليات القوات المسلحة وأكل التضخم كل زيادات وتحسينات الرواتب التي منحتها الحكومة الديمقراطية للقوات المسلحة. أما بالنسبة للشرطة وقوات السجون فقد شردت نصف قواتها بالطرد من الخدمة وسحبت كل صلاحياتها ومهامها وسلمت لأجهزة الأمن ومليشيات الجبهة الإسلامية. رابعا: شعار رفع المعاناة المعيشية وإنقاذ الإقتصاد:- لقد ورثت الحكومة الديمقراطية من عهد نميري إقتصادا منهارا وإنتاجا متدنيا وديونا هائلة بلغت 14 بليون دولار منها: 2 بليون دولار ديون تجارية مستحقة لعدد 155 مصرفا عالميا ،مما وضع البلاد في القائمة السوداء. لقد سقط النميري في عام 1985م ومعدل الناتج القومي في البلاد سالبا –12,8%. لقد تولت الحكومة الديمقراطية- فبذلت مجهودا كبيرا لرفع الإنتاج وتصحيح الأوضاع الإقتصادية: فارتفعت بمعدل النمو للناتج القومي في العام المالي 88-1989م لمعدل +12,3%. وعلى الرغم من تزايد الصرف على الدفاع وزيادة الأجور، حافظت حكومة السيد الصادق المهدي على معدل للتضخم ما بين 60% إلى 80% وقد رفعت الحكومة الديمقراطية الحد الأدنى للأجور من 60 جنيها إلى 300جنيها لمواجهة التضخم. وللتسهيل على القارئ نورد قائمة بأسعار السلع الرئيسية في عهد الديمقراطية في مقابل الأسعار في عهد الإنقاذ:
السلع المختلفة الأسعار في ظل الديمقراطية يونيو 1989م: الأسعار في ظل حكم الانقاذ العسكري اكتوبر 1990م: الذرة 85جنيها للجوال 1500 جنيه للجوال السكر 125قرشا للرطل بالتموين 3 جنيه للرطل بالتموين السكر التجاري لايوجد 20 جنيه للرطل رغيف الخبز 15 قرشا 25 قرشا زيت الطعام 3جنيه للرطل 9 جنيهات للرطل البصل 30جنيها للجوال 1000جنيه للجوال الفول المصري 70جنيها للربع 240 جنيه للربع البامية المجففة" الويكة" 120 جنيه للربع 350 جنيه للربع اللحمة الضاني 40جنيها للكيلو 70جنيه للكيلو اللحمة البقري 30جنيها للكليلو 60 جنيه للكيلو البيض 12 جنيه للدسته 36 جنيه للدستة الطماطم 5جنيه للكيلو 50 جنيه للكيلو الصلصة 25جنيه للعلبة 90 جنيه للعلبة الجبنة 65جنية للكيلو 120 جنيه للكيلو اللبن 4جنيه للرطل 12 جنيه للرطل صابون الغسيل 75 قرش للقطعة 7.5 جنيه للقطعة علبة المبيد للحشرات 15جنيه 70 جنيه للعلبة الجازولين 3,25جنيه للجالون 6.5 جنيه البنزين 9,5جنيه للجالون 12.5 جنيه للجالون الشاي 14 جنيه للرطل 200جنيه للرطل
هذه الأسعار الرسمية المعلنة في التواريخ أعلاه مع العلم أن السلع في العهد الديمقراطي كانت متواجدة بدرجة 80% بأسعارها الرسمية ،بينما في عهد الإنقاذ 90%من هذه السلع معدوم و10% توزع للتموين .هذا بينما كان سعر الدولار في السوق الموازي أو الأسود في العهد الديمقراطي 15 جنيها للدولار ارتفع في عهد الإنقاذ ليبلغ 47 جنيها للدولار على الرغم من إعدام خمسة من تجار العملة. انعكس ارتفاع سعر الدولار سلبا على المواد الخام المستوردة وقطع الغيار والأدوية والسلع الضرورية من مواد غذائية ومواد مساعدة مما نتج عنه توقف حركة التجارة وتوقف المصانع وشلل الخدمات وإلى جانب ذلك توقفت حركة التنمية في البلاد تماما لانعدام التمويل الخارجي. وبما أن الحكومة تعتمد في مواردها الداخلية على الجمارك بنسبة 60%ورسوم الإنتاج والضرائب المباشرة والغير مباشرة بدرجة عالية فمع توقف حركة الإستيراد وجدت الحكومة نفسها دون إيرادات. فأخذت تستدين من المصرف المركزي بطبع النقود بدون غطاء لتغطية صرفها العادي والمتزايد على بنود الأمن والدفاع حتى بلغت جملة ما سحبت الحكومة من النظام المصرفي 9بليون جنيه سوداني وزادت حجم الكتلة النقدية في الإقتصاد في العام الأول من عمر حكومة الإنقاذ بنسبة 55% .هذا حسب بيانات صندوق النقد الدولي مما ألهب نار التضخم فارتفع لأول مرة في السودان إلى ثلاثة أرقام ليبلغ 800% مما دفع إتحاد العمال برفع الحد الأدنى للأجور من 300جنيه إلى 3000 جنيه في الشهر لمقابلة التضخم. ونسبة للحالة الخطيرة التي بلغها الإقتصاد السوداني عجزت الحكومة عن الوصول إلى برنامج إصلاح إقتصادي مع صندوق النقد الدولي الذي، أمهلها ستة شهور، ثم أعلن السودان دولة غير متعاونة وغير قادرة على سداد التزاماتها. وسوف يشرع في ديسمبر المقبل في إجراءات طرد السودان من عضويته وهي أقصى عقوبة توقع على أي دولة عضو في الصندوق. وبالتالي سوف يصبح السودان الدولة الثانية بعد ليبيريا التي تطرد من الصندوق. لقد قامت حكومة السيد الصادق المهدي بتطبيع علاقة السودان مع صندوق النقد بعد قطيعة دامت عامين في آخر عهد جعفر نميري. حيث عقدت حكومة السيد الصادق المهدي إتفاقا مع صندوق النقد الدولي في اكتوبر 1987م ليسري حتى عام 1988م. وكانت تجري مفاوضات ناجحة لتجديد الإتفاق للعام المالي 89-1990م عند قيام الإنقلاب. حيث كان الصندوق يشجع الدول المانحة، لسداد ديون السودان لدى الصندوق والبالغة بليون دولار. وفي ظل هذه الظروف أعلاه لجأت حكومة الجبهة الإسلامية في الخرطوم إلى عدة محاور للإلتفاف حول الموقف الإقتصادي المتأزم:- المحور الأول: طرح شعارات في الشارع المحلي لتصوير عجزها ونتائج تخبط سياساتها على أساس أنه مؤامرة من الكفار أعداء الإسلام لمنع المسلمين من تطبيق خيارهم الإسلامي وتحقيق إستقلالهم السياسي. ومن بين الشعارات التي طرحت للإستهلاك المحلي :"نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع" ولكن هذه الحيلة لم تنطلي على فطنة الشعب السوداني صاحب الحس السياسي المرهف، فأضاف من عنده شعار لخص فيه رأيه عن ما يحدث وهو شعار :"نضحك مما نسمع". أيضا أثارت حكومة البشير ضجة كبيرة حول أنها حققت الإكتفاء الذاتي من سلعة السكر.فالسكر سلعة مهمة للسودان والحقيقة أن إنتاج السكر في عهد البشير شهد أدنى مستوياته في خلال الأربع سنوات الأخيرة ،إذ كان إنتاج مصانع السكر في موسم 1989م –1990م قد بلغ 380ألف طن منها 240ألف طن أنتجتها شركة سكر كنانة، 135ألف طن أنتجتها مصانع الحكومة الأربعة(كنانة،الجنيد،عسلاية،سنار)، بينما دليل تدني إنتاج السكر في حكومة البشير هو: • أنها خفضت السكر الموزع على المواطنين في التموين من معدل 20كيلو للمواطن في العام إلى 5 كيلو للمواطن في العام. • ورفعت سعر السكر في التموين من 125 قرشا للرطل إلى ثلاثة جنيهات للرطل. والباقي من انتاج السكر عرضته بسعر تجاري 20جنيها للرطل الواحد. • كما خفضّت السكر المخصص لمصانع الحلويات من 50 ألف طن إلى 30 ألف طن ورفعت أسعاره. • ولكن تبقى الحقيقة أن المواطنين قد حرموا من سلعة السكر خاصة في الريف كما يبقى العجز في هذه السلعة في حدود 220ألف طن -إذا اعتمدنا نمط الإستهلاك الطبيعي والتوزيع العادل لهذه السلعة والذي يبلغ 600ألف طن. المحور الثاني: التصريح بالإستيراد بدون تحويل قيمة، بمسميات جديدة :مثل الإستثمار التجاري لموارد المغتربين ورجال الأعمال. وهذا يعني العودة للتعامل في تجارة العملة الصعبة .ولكن حصرت الحكومة هذا النوع من الرخص التجارية على مؤيديها من التجار من صفوف الجبهة الإسلامية ففتحت بذلك مجالا جديدا لانتعاش السوق السوداء وذلك لسيطرة قلة من التجار على كميات محدودة من السلع المستوردة، في ظروف سوق تجارية خاوية - ولكن هذه المرة تذهب الأرباح الطائلة لعضوية الجبهة الإسلامية على حساب الشعب الكادح. إن طبيعة وشروط التعامل عبر سياسة الإستثمار التجاري في حد ذاتها تكرس إحتكاره لمؤيدي الحكومة من تجار الجبهة الإسلامية وذلك لأن الملطوب من التاجر هو تحويل العملة الصعبة من حسابه بالخارج إلى حسابه في داخل البلاد، وبيع هذه الأموال للمصرف المحول عليه المال بالسعر السائد للدولار، ثم بناء على ذلك يقوم المصرف بالدخول في مرابحة مع التاجر لتمويل عملية الإستيراد من الخارج. وهذا النظام طبعا يتطلب ثقة في المصرف ويتطلب ترخيص وحماية الدولة من أي مساءلة عن مصدر النقد الأجنبي خاصة في القوانين السائدة. وهذا طبعا لا يتوفر إلا لتجار الجبهة الإسلامية، لأن معظم رجال الأعمال والصناعيين في السودان يعيشون الآن في مصر وأوروبا بحثا عن الأمن والرزق بعد أن توقفت تجارتهم ومصانعهم وهددت حياتهم وأمنهم في السودان. المحور الثالث: رهن إقتصاد السودان لأفراد من أثرياء المنطقة، هو أسلوب قديم لجأ إليه نظام جعفر نميري عندما حارت به السبل وخنقته الأزمة الإقتصادية، فقد لجأ إلى تسليم رجل الأعمال الشهير عدنان خاشوقجي تجارة السودان الخارجية ومنحه أراضي زراعية شاسعة، بلغت ميلون فدان في مقابل بضعة ملايين من الدولارات تحل بها أزمة خانقة. ولجأ النميري إلى الكثيرين من أمثال السيد عدنان خاشوقجي في العالم والمنطقة العربية بنفس الأسلوب، وكانت النتيجة: دمار لتجارة السودان الخارجية وبوار صادراته لإحجام الأسواق المتخصصة من الشراء، بسبب سيطرة السماسرة على السلع السودانية في الأسواق العالمية، يعبثون بأسعارها كما يحلو لهم. والآن عاد نظام البشير إلى نفس الأسلوب: فوقّع على إتفاق في صيف 1990م مع أربعة تجار عرب معروفين بتعاطفهم ودعمهم لحركات الإخوان المسلمين في العالم العربي والإسلامي. يقتضي الإتفاق بتقديم التجار الأربعة تمويلا للسودان في حدود 200مليون دولار بعمولة قدرها30%. منها 15% عادية و15% هامش مخاطرة ،يخصم من أصل المبلغ. وشروط القرض هو أن تتم جميع المشتروات للسودان عبر مجموعة الأربعة، ثم يعتبر مبلغ القرض جزء من رأسمال شركة قابضة تسجل في البحرين برأسمال قدره خسمائة مليون دولار قابل للزيادة إلى ألف مليون دولار، ينال فيها التجار الأربعة 40% من قيمة الأسهم، ثم يطرحوا الـ60% الأخرى على المغتربين السودانيين ورجال الأعمال العرب والمؤسسات المالية الإسلامية. تتفرع من هذه الشركة عدة شركات فرعية: تجارية وصناعية وزراعية وخدمية، لتتولى الشركة تسويق كل صادرات السودان في الخارج ،وشراء كل مستلزماته الخاصة والعامة، مباشرة دون المرور بالبنك المركزي السوداني. كما تقوم الشركة الصناعية بإمتلاك وإدارة كل مصانع الدولة والقطاع الخاص في السودان. ويحل لها استقدام إدارة عليا ووسيطة وعمالة أجنبية. كذلك تقوم الشركة الزراعية بإمتلاك وإدارة كل المشاريع الزراعية بالسودان، سواء كانت العامة منها والخاصة. أما الشركات الخدمية فتقوم بإمتلاك وتشغيل المواصلات السلكية واللا سلكية في السودان وشركات الطيران وشركات توليد الكهرباء. وينص الإتفاق مع مجموعة التجار الأربعة -والتي يمتلك ثلاثة منهم مؤسسات مصرفية في دول عربية وأجنبية، ينص على التعامل مباشرة مع اللجنة الإقتصادية العسكرية وتوجيهاتها ملزمة ونافذة لكل الوزرات والمصالح الحكومية ومؤسسات الدولة وفوق كل القوانين واللوائح. هذه الشركة تشبه إلى حد بعيد شركة الهند الشرقية التي أنشأتها بريطانيا العظمى في القرن الماضي لإدارة مستعمراتها في الهند! لقد تم بالفعل تنفيذ المرحلة الأولى من الإتفاق بين مجموعة الأربعة وحكومة البشير. وقدم التجار الأربعة تمويلا بملبغ 110 مليون دولار لحكومة البشير لتوفير مدخلات الإنتاج الزراعي وقد أشرف رئيس اللجنة الإقتصادية العسكرية (العقيد صلاح الدين كرار) ومستشار اللجنة السابق (محمد احمد الشيخ سيد احمد) ومحافظ بنك السودان حاليا على إدارة قرض الـ 110 مليون دولار من القصر الجمهوري مباشرة، ودون المرور على أي من المؤسسات الإقتصادية الرسمية المسئولة.ولكن مع وقوع أزمة الخليج ،وإنحياز حكومة البشير إلى جانب العراق، قد يجد هؤلاء التجار أنفسهم في مواجهة مع حكوماتهم، إذا هم واصلوا هذا المشروع الطموح. ولذلك من الأرجح أن يتم تجميده، خاصة وأن مجموعة التجار قد استرجعت أموالها مع الربح البالغ 30% من خلال تسلمها لعقودات بيع إنتاج السودان من القطن والصمغ العربي. لقد جاء برنامج حكومة البشير للإصلاح الإقتصادي متسقا مع التجار الأربعة كما أعلنه وزير مالية البشير، عبدالرحيم حمدي الذي كان يوما- وما زال موظفا لدى أحد هؤلاء التجار الأربعة، والذي يصرف له راتبه ويحتفظ له بوظيفته التي لم تملأ حتى الآن. المحور الرابع: يتمثل في رفع شعار الوحدة ،وشعار تطبيق نظرية الكتاب الأخضر لضمان إمدادات البترول والسلاح.والتحالف مع العراق لضمان إمدادات السلاح والبترول، وما تيسر من المعونات الإقتصادية. لا يخفى على أحد التناقض الكبير بين الجبهة الإسلامية في السودان والثورة الليبية. فالأخوان المسلمين في ليبيا يمثلون المعارضة الأساسية للثورة الليبية، والعلاقة العقائدية بينهم وبين الجبهة الإسلامية في السودان علاقة حميمة وقوية.كذلك فإن حزب البعث العراقي والسوداني هما ألد أعداء الجبهة الإسلامية السودانية للإختلاف الأيدولوجي بينهما. بل إن الأمر وصل إلى حد إتهامات التكفير في عام 1984م عندما قدم أربعة بعثيين للمحاكمة في الخرطوم. ولذلك فإن ما يحدث الآن ليس إلا علاقات مصالح مؤقتة. وخلاصة الأمر أن "الإنقاذ " قد تحولت إلى مأساة يعيش فصولها أهل السودان الطيبين.،وآخر فصولها مأساة المجاعة التي بسطت ظلالها على مختلف أنحاء البلاد، مما يهدد نصف سكان السودان بالفناء، والتي يرفض نظام البشير الإعتراف بها حتى الآن، ويرفض السماح لمنظمات الإغاثة الدولية بإيصال الغذاء إلى الجوعى والمحتاجين: تماما كما فعل نظام نميري في عام 1984م. إن أسباب المجاعة لم تكن من فعل العوامل الطبيعية كما أوردت منظمة الأغذية والزراعة العالمية في تقاريرها الصادرة في يوليو وأغسطس واكتوبر في العام 1990م .بل أن الأسباب في معظمها من فعل الإنسان وتتحمل الحكومة مسؤليتها كاملة فيما يلي:- أولا: السماح لتجار الجبهة الإسلامية بتصدير مايزيد عن 300ألف طن من الذرة في الفترة ما بين اكتوبر 1989ويناير 1990م، حارمة البلاد من أي مخزون للذرة على الرغم من علمها المسبق بالعجز في إنتاج موسم 89/1990م والذي لم يتجاوز مليون وثلاثمائة وخمسين ألف طن،بينما يتجاوز الإستهلاك مليوني طن سنويا- خاصة إذا أخذنا في الإعتبار النقص المريع في القمح. ثانيا: الفشل في توفير الوقود والبذور والآليات في الوقت المناسب للزراعة. ثالثا: لم تستطع زراعة أكثر من خمسة مليون فدان في القطاع المطري والمروي لموسمين متتاليين موسم 89/1990م والموسم الحالي 1990/1991م ،بينما تمكنت الحكومة على أيام العهد الديمقراطي من زراعة 25مليون فدان في القطاع المطري وحده.وتراجعت المساحات المزروعة بسبب شح المدخلات والوقود وبسبب إنعدام الأمن في مناطق الإنتاج الرئيسية في جنوب كردفان وجنوب النيل الأبيض وجنوب النيل الأزرق وهي من أخصب أراضي السودان الزراعية وأكثرها أمطارا. صحيح أن الأمطار قد جاءت متأخرة في بعض مناطق الإنتاج مما أضر بالمحصول ولكن لوكان الأمن مستتبا في مناطق الإنتاج الرئيسية لتم تعويض هذا النقص.و لو حافظت حكومة البشير على المخزون الإستراتيجي الذي ظلت تحتفظ به الحكومة الديمقراطية لما استفحلت المجاعة وبلغت هذا الحجم.ولكنه الطمع في الثراء العاجل لجماعة الجبهة،وحب التسلط الذي جعلهم يخرجون على إجماع السودانيين في السلام،سعيا نحو إضرام سعير نار الحرب ليحيق الشعب السوداني الجوع والدمار. إن التاريخ يعيد نفسه،فالأنظمة العسكرية المتحالفة مع الأحزاب العقائدية لا يهمها حال الشعوب بل تهمها مصالحها. لقد حرص جعفر نميري على إخفاء المجاعة عام 1984م.وهاهو البشير يفعل الآن الشيء نفسه في عام 1990م.ولكن ما فات على هؤلاء العسكريين إن العالم بوجود وسائل الإتصال الحديثة وثورة التكنولوجيا والأقمار الصناعية قد أصبح قرية، ولن يجرؤ حاكم أو نظام حكم على إخفاء الحقائق. فالأقمار الصناعية التقطت صورا لكل أراضى السودان المزروعة. وقد قدرت الإحصاءات بأن المحصول الجديد لن يتجاوز 500ألف طن من الذرة. بينما لا يقل الإستهلاك الحقيقي عن مليوني طن،إضافة إلى زيادة الإستهلاك، المتوقعة نتيجة للنقص في إمدادات القمح. إن الحركة السياسية السودانية إعتمادا على تشّربها الفاعل بهوية الشعب السوداني ووعيها الذي استقته من تجارب النضال والمعتقلات ،طيلة عهود الإستكبار الإستبدادي، قد ألفت نفسها مجتمعة حول ميثاق وطني، انبثق في اكتوبر 1989م. هذا الميثاق الذي وضعته قوى التجمع الوطني الديمقراطي لحقت به الحركة الشعبية في مارس1990م. لقد وقع على هذا الميثاق إثناعشر حزبا وإثنتان وخمسون نقابة، إضافة إلى الحركة الشعبية بقيادة الدكتور جون قرنق.لقد استقرأ الميثاق الذي أفضى إليه هذا الإجماع الوطني الرائع تاريخانية نضال الشعب السوداني منذ فجر الجهاد الوطني ضد الإستعمار، مستلهما لانتصاراته الساطعة ضد الدكتاتوريات العسكرية وأنظمتها القمعية المستبدة، ومستصحبا تراثه الثوري الشعبي في أكتوبر 1964م وإنتفاضة رجب(ابريل1985م) .وتواصت هذه القوى الوطنية على تأكيد الخيار الأوحد الذي ارتضاه الشعب السوداني أي الخيار الديمقراطي القائم على سيادة الشعب وسيادة حكم القانون وكفالة الحريات الأساسية وصون حقوق الإنسان،ودحر كل نكوص وردة نحو الدكتاتورية: مدنية كانت أم عسكرية. وبعد أن وقفت على توصيف المشكل السوداني، رأت المخرج الوحيد من أزمة السودان الراهنة هو مشاركة القوى الأساسية الثلاث في الحكم: ألا وهي الأحزاب والنقابات والقوات النظامية.وعزى الميثاق لإنقلاب الثلاثين من يونيو 1989م الذي نفذته الجبهة الإسلامية ،الإطاحة بالديمقراطية وتعطيل مسيرة السلام،وإبطال البرنامج المرحلي الذي أفرزته التطورات السياسية في ديسمبر 1988م. وعدته مروقا عن روح مذكرة القوات المسلحة المقدمة في فبراير 1989م وعلى إجماعها وقومية توجهاتها. ولقد بادر التجمع الوطني الديمقراطي برفض هذا الإنقلاب جملة واحدة،مبتدأ وخبرا ولقد تواصى التجمع الوطني الديمقراطي على برنامج للنضال تشارك في تنفيذه كل القوى الشعبية: 1. مقاومة إجراءات الدكتاتورية المستبدة من إعتقال وسجن وتشريد والعمل على إطلاق سراح المعتقلين والسجناء وإرجاع المشردين. 2. مقاومة تنظيمات الدكتاتورية وتنظيم الجماهير لانتزاع حقوقها في التنظيم والإحتجاج والتظاهر والإضراب. 3. قيادة الجماهير في معاركها الرامية إلى توفير أساسيات الحياة. 4. إحكام طوق العزلة حول السلطة الدكتاتورية،داخليا وخارجيا وتوظيف وسائل الإعلام المتاحة لأداء هذه المهمة. 5. تصعيد النضال الشعبي عن طريق الإضراب السياسي والعصيان المدني بلوغا بهما إلى الإنتفاضة الشعبية. 6. إقامة حكم إنتقالي لمدة خمسة أعوام: يرسي الأسس المثبتة لسودان ديمقراطي موحد. ومن مهام المرحلة الانتقالية الآتي:- إلغاء كل المراسيم الدستورية الصادرة عن سلطة الإنقلاب وإقرار وثيقة دستورية تحدد هياكل الحكم الديمقراطي. كفالة الحريات الأساسية مثل حرية الفكر والعقيدة والتعبير والتنظيم والتنقل والنشر وضمان حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية. إستقلال القضاء وسيادة حكم القانون والفصل بين السلطات. إستقلال مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي. إستقلال الحركة النقابية. قومية القوات المسلحة والشرطة والقوات النظامية والخدمة العامة وأجهزة الإعلام. انتهاج سياسة خارجية تؤكد السيادة الوطنية وتقوم على رعاية المصالح المشتركة وحسن الجوار وعدم الإنحياز ورفض المحاور وإحترام المواثيق الدولية والمشاركة الفاعلة في المنظمات الإقليمية والدولية ومناصرة قضايا التحرر ومناهضة الصهيونية والتفرقة العنصرية. إضافة إلى إلغاء الإتفاقيات التي تمس السيادة الوطنية وإعلان شرعية الأحزاب السياسية والنقابات وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والنقابيين والنظاميين وإعادة المفصولين سياسيا وتعسفيا ومحاسبة كل من شارك في تقويض النظام الديمقراطي، ونزع سلاح المليشيات. ومن أهداف الميثاق عقد المؤتمر الدستوري بمشاركة كل قوى التجمع بما في ذلك الحركة الشعبية ووضع وتنفيذ برنامج الإصلاح الإقتصادي. ولما كان إنقلاب الجبهة الإسلامية قد خدع القوات المسلحة حينما أوحى بأنه تحرك مدعوما من القيادة العامة،كيما تنطلي خطتها التآمريه لإكمال إخراج سيناريو الإنقلاب،فإن القيادة الشرعية للقوات المسلحة السودانية حتى الثلاثين من يونيو، قد أوضحت في بيان صدر في الخامس والعشرين من سبتمبر حيث تناولته بإسهاب أجهزة الإعلام الدولي بأن الإنقلاب العسكري، قد استولى على السلطة لحساب الجبهة الإسلامية وأن العناصر الإنقلابيه قد قامت بدور اتسم بالغدر والغش والخيانة،مستغلة إسم هيئة القيادة الشرعية التي تتمتع بتأييد كامل من القوات المسلحة في العاصمة والأقاليم.وذكر البيان أن عالم اليوم يشهد حركة دائبة نحو الوفاق والتعددية وتلاقي الأمم والشعوب من أجل الحرية والديمقراطية والسلام والتأكيد على الشرعية وفيما تجد هذه المبادئ إجماعا دوليا،شذت عن ذلك عناصر النظام الدكتاتوري المتسلط. وطالبت القيادة الشرعية كل أفراد القوات المسلحة السودانية الوقوف بحزم لإعادة الشرعية. ويضيف بيان القيادة مستنكرا أن يكون السودان خنجرا يوجه إلى صدر الشقيقة مصر أو أداة لتهديد أمن الشقيقة المملكة العربية السعودية إضافة إلى رفض تهديد وحدة الجارة أثيوبيا وأن يكون السودان قاعدة للإرهاب الدولي. وانتهى بيان القيادة الشرعية للقوات المسلحة الذي وقعه الفريق أول فتحي أحمد علي: القائد العام للقوات المسلحة السودانية إلى الآتي: 1. رفض أي نمط للحكم الإستبدادي: عسكريا كان أم مدنيا. 2. رفض التمرد على الشرعية مهما كانت الدوافع. 3. إدانة إستغلال اسم القوات المسلحة السودانية وجعلها أداة لتثبيت حكم الجبهة الإسلامية. 4. رفض وإدانة تفريغ القوات المسلحة وتشريد واعتقال وسجن وقتل أفرادها وإحلال المليشيات العقائدية مكانها. 5. الإنحياز الكامل إلى جانب الشعب السوداني والعمل مع القوى الوطنية لإعادة الحياة الديمقراطية للبلاد وفق ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي. 6. العمل على وقف الحرب وتحقيق السلام وعقد المؤتمر الدستوري في جو ملائم لإنجاحه. بهذا العمل الوطني الذي قامت به القيادة الشرعية للقوات المسلحة تكتمل آخر الحلقات الوطنية لتجسيد معادلة: الحق والقوة التي جاءت في صدر المذكرة التي بعث بها السيد الصادق المهدي بتاريخ 3/7/1989م إلى رئيس مجلس قيادة الثورة- أي أن تكون القوات المسلحة حامية للوطن ونظامه الديمقراطي المنتخب وذلك بإمتلاكها للقوة العسكرية باعتبارها الجهة الوحيدة التي يخول لها القانون إحتكار إمتلاك السلاح. من المعلوم أن البغي والإستبداد مهما تطاول فلن يجد تربة صالحة في السودان.إنه نمط مفارق لجدلية الذات السودانية المحبة للحرية والسلام،الرافضة لكل دورات العنف السلطوي العسكري ،العازلة لإرادة الجماهير المثبطة لتطلعاتها في الديمقراطية والوحدة والسلام والرفاه التنموي الإقتصادي. إن عبقرية الشعب السوداني لكفيلة بشحذ إرادته لإخراج البلاد من هذا النفق الضيق المظلم الذي ارتهن فيه المعيثون حرية أهل السودان –إلى مرفأ الأمان الديمقراطي. الفصل الثالث عشر: السودان إلى أين
أمضى السودان ثلث القرن الأول من تاريخه كدولة مستقلة في العصر الحديث يعاني من جدلين أرهقاه إرهاقا كبيرا:جدل الحرب والسلام، وجدل الديمقراطية والأتوقراطية.وهما متداخلان فكل حروب السودان الأهلية بدأت في عهود الأوتوقراطية:(الحرب الأولى بدأت عام 1963م والحرب الثانية بدأت في عام 1982م) كما أن كل محاولات الحل السلمي بدأت في ظل الديمقراطية: (المحاولة الأولى بدأت في عام 1965م والثانية في عام 1986م). ومن سمات هذا الجدل أن النظم الأوتقراطية الثلاثة منحدرة من أعلى إلى أسفل: فآخرها أسوأها. وأن النظم الديمقراطية، صاعدة إلى أعلى: فآخرها أفضلها.و من سمات هذا الجدل أنه بينما كان الرأي العام العالمي يرمق ما يدور في عالمنا الفقير ولا يعبأ بنظم الحكم فيه- وربما عد عالمنا أهلا للأوتقراطية ،فإن عالم اليوم مستشعر لحقوق الإنسان واجد في الديمقراطية إكسيرا لعلاج أوجاع الشعوب. هذه الحقائق تحاصر الأوتقراطية وتجعل فرصها ضيقة جدا. وتشجع الديمقراطية وتجعل تيارها غالبا. لقد رمى المستبشرون بالأوتقراطية السابحون عكس الموج ،الديمقراطية الثالثة في السودان بالإخفاق.إن ما جاء في الفصول الماضية من هذا الكتاب يكفي للبرهان على بطلان ما قالوا. لقد تحالفت عوامل معينة فوأدت الديمقراطية الثالثة في السودان: لقد حركتهم عوامل ذاتية فوأدوا الديمقراطية. ومن اليوم الأول أحاطت بهم عوامل موضوعية لتجعل أمرهم ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. لم تكن الديمقراطية الثالثة مبرأة من العيوب. لا شئ في عالم الناس يبرأ تماما من العيب. إن مشاكلها وإخفاقاتها أقل من النظام الذي سبقها ومن النظام الذي وأدها فخلفها. هنالك مشاكل مستمرة: مشاكل التخلف والتنمية ومشاكل التنوع والوحدة وهذه جزء لا يتجزأ من الموقف السوداني كله .ولكن هنالك مشاكل في مؤسسات الديمقراطية في السودان وفي ممارستها.مشاكل كان واردا علاجها عن طريق التطور السياسي وهو كذلك وارد بالأساليب الثورية لكي: 1. أ-تتطور الأحزاب السياسية وتبرمج نفسها وتلتزم الديمقراطية بداخلها وتنأى عن الضعف وعن العنصرية وعن الفتنة الدينية وعن التبعية لجهات أجنبية. هذه الأسس يمكن أن تكون ملزمة ضمن ميثاق سياسي مفصل تكون فيه كل أبجديات بناء الوطن وتكون له قدسية الدستور.ويكون أساسا لتسجيل المشاركة والمنافسة السياسية ومفرخة الكوادر القيادية .الحديث عن رفض الحزبية من حيث هي ،حديث جهالة بل هو من رواسب الفكر الفوضوي في الفكر السياسي. الحزب سواء كان واحدا أو أحزاب متعددة هو قناة المشاركة السياسية والتنافس كما أن النقابة هي قناة العمل المطلبي كما أن المحكمة هي أداة الفصل في الخصومات، فمن قال لا أحزاب مطلقا لا واحد، ولا عدد معناه لا مشاركة سياسية. لقد ظهر إخفاق حكم الحزب الواحد ،كما أن تعدد الأحزاب المطلق يهدد الإستقرار السياسي. والصحيح أن يكون التعدد محكوما بضوابط،توفق ما بين الولاء لما ينبغي أن يكون له الولاء، وما بين احترام الرأي الآخر والتنافس الذي يحققه التعدد. إننا إذا نظرنا للحركة الحزبية في السودان لوجدناها متفوقة على رصيفاتها في كثير من البلاد العربية والأفريقية، بل لوجدنا قادتها وكوادرها أقرب إلى الفقر منهم للغنى. وأكثر كفاحا ونضالا ومعاناة فنظرة سريعة على حيطان سجون السودان تكفي للبرهان على ذلك: إنها مزينة بأسماء الرجال والنساء من كل الأجيال وكل الأحزاب بصورة لا أعتقد بوجود مثلها في أي بلد من بلاد العالم. إن للحركة السياسية الحزبية السودانية الآن من التجربة الثرية التي تمكنها من الخروج بوثيقة أساسية للإصلاح الحزبي، تكون نبراسا للإصلاح الديمقراطي في السودان ومثلا، تستفيد منه حركة الجدل الديمقراطي الأوتقراطي في كل مكان. 2. إن الحركة النقابية السودانية حركة ذات جذور عميقة وتجربة غنية ولها دورها في الكفاح الذي زين حيطان سجون السودان بأسماء النقابيين من جلّ النقابات ومن كل الأجيال. وعلى ضوء التجربة وعلى ضوء الحقوق المكتسبة المتسعة نحو المشاركة ينبغي إجراء إصلاح نقابي يوازن بين الحقوق والواجبات ويستهدي بميثاق إجتماعي واضح المعالم. لقد أشرنا لعيوب كشفتها التجربة الماضية وحددنا أهدافها التي توجبها مسئوليات الحاضر والمستقبل،إن الحركة النقابية السودانية في إطار مسئوليتها التاريخية مطالبة بإجراء حوار سياسي نقابي أساسي لاستصدار وثيقة حقوق النقابات وواجباتها لتكون أحد أركان الإصلاح الديمقراطي السوداني الذي يشكل حصنا حصينا ضد الأوتقراطية -العدو اللدود لحرية الرأي والتنظيم النقابي. 3. كذلك ينبغي أن يبدأ حوار قضائي سياسي يدرس ويعالج كيفية التوفيق بين استقلال القضاء وإندراج القضاء في منظومة الدولة الواحدة ،ويدرس ويحدد كيفية الربط المحكم بين استقلال القضاء وحيدته ويدرس ويحدد كيفية المحافظة على استقلال القضاء وإستنجازه القيام بدوره بسرعة غير مخلة وكفاءة عالية. 4. والمطلوب كذلك إجراء حوار سياسي صحفي هدفه كفالة حرية الصحافة والنأي بها من الكذب والتضليل والإثارة وإستغلال الحرية لقتل الحرية.لقد تعرضنا لعيوب الممارسة الماضية ولا خير في أي إصلاحات تتنزل أوتقراطيا. الإصلاح الصحفي المطلوب ينبغي أن يكون ثمرة وعي الفكر الصحفي السوداني وتطوره ليكون رافدا من روافد الإصلاح الديمقراطي السوداني. 5. أما القوات المسلحة فقد كشفت التجربة عن عيوب كثيرة في أوضاعها.ففي حالة الديمقراطية يحميها القانون من الإشراف السياسي تماما. ثم تأتي الأوتوقراطية فتجعل القوات المسلحة حزبها وأداتها وشرطيها مستغلة لها في كل صغيرة وكبيرة فكأن القوات المسلحة بما هو مستثمر فيها من عرق وجهد أهل السودان تعمل أرادت أم لم ترد لتعجيز الديمقراطية ولتدعيم الأوتقراطية. لابد من كفالة قوميتها وإنضباطها :ضباطا وجنودا ببرامج تبدأ من الكلية الحربية وتتصل حتى النهاية.ولابد من أن تكون مواقعها العسكرية وبرامج توجيهها المعنوي مختارة بطريقة تدفعها نحو واجبها الوظيفي المقدس وتقفل الباب نهائيا أمام المغامرين. المطلوب الآن هو أن يحدد وطنيا دور القوات المسلحة بوضوح لا تشوبه شائبة وتؤهل القوات المسلحة للقيام بذلك الدور المحدد. 6. هذه الإصلاحات المطلوبة للديمقراطية في السودان لا تجدي، إذا لم يصحبها وعي أكيد وإلتزام أكيد بأن للديمقراطية ذراعا إجتماعيا إقتصاديا، لابد من قوته وعافيته، فالتنمية العادلة فئويا وجهويا شرط، يؤدي غيابه لتشويه الديمقراطية، وموتها. إن الديمقراطية في السودان ناجحة وهي حتما عائدة ولكننا الآن نريد لعودتها أن تقترن بإصلاح جذري يؤمنها ضد عللها وضد الثغرات التي يستغلها التآمر الأوتوقراطي للإطاحة بها مثلما حدث في حزيران الماضي. لقد نهجت الجبهة الإسلامية القومية نهجا شاذا فخلقت مدرسة صحفية مريضة شوهت الحياة السياسية في ظل الديمقراطية. ونهجت الجبهة نهجا شاذا بمخاطبها المبشرة لقواعدها الشبابية بما يوحي بأن الإسلام الفوري ممكن عن طريق تطبيق الحدود وبما يوحي أنهم هم حزب الإسلام والآخرون حزب الضلال. لقد وقعت قيادة الجبهة الإسلامية في خطأ جسيم إذ عبأت قواعدها بمفاهيم متطرفة لاستغلالها عند اللزوم مع حرص القيادة على الظهور بمظهر الإعتدال: هذا النهج خلق حماسة بركانية غوغائية لا تطرب إلا للمفاهيم السياسية الساذجة التي اعتادتها ،ولا تقبل من أحد ولا حتى من قادتها إلا تلك الأنغام المعهودة. إنها راديكالية مصطنعة بناها قادة ليس فيهم بله حقيقي، ولا جهل حقيقي، ولكن فيهم إستعجال للسلطة اتخذوا هذه الراديكالية سلما له. هذه الراديكالية المصطنعة هي التي فرضت عليهم توقيت الأسابيع لإنجاز القوانين البديلة وهي التي فرضت عليهم موقفا سلبيا من إجماع السودانيين في القصر وهي التي فرضت عليهم رفع شعارات التكفير والجهاد وثورة المصاحف والمساجد وهي التي فرضت عليهم التضحية بمكاسب البلاد في ظل الديمقراطية لاختطاف الديمقراطية والوصول القهري إلى السلطة. إن الظروف الموضوعية التي تعلمها القيادة (الموصوفة أعلاه) جيدا والتي دفعت القوى السياسية الإسلامية الوطنية الأساسية في البلاد أن تخطو بحذر وهي ذات الظروف التي ارتهنتها فما استطاعت: مجرد ذكر عبارة الإسلام على طول عام من الإستيلاء على السلطة. وعندما يهدأ الغبار على الأحداث، سوف يتضح أن الذي حدث أدى وسيؤدي موضوعيا لإضعاف قضية الإسلام تماما كما حدث من قبل لقضية الإسلام على يد الأوتقراطي : جعفر نميري. إن الذي حدث فجر الثلاثين من حزيران يمثل إنقلابا عسكريا أحاديا، استخف بإشكالية التطبيق الإسلامي وتحدياته فحاول اختطاف الإسلام وإعلان الحدود من على ظهر دبابة. لقد خلقت مذكرة القوات المسلحة مناخ استلام العسكريين للسلطة لأنها بما جاء فيها وما صحبها من تنوير أنحت باللائمة عن هزائم شرق الإستوائية على الوضع السياسي المدني- إلتمست فيه شماعة علقت عليها أخطاء معروفة ومعلومة أسبابها.ولكن القيادة العامة التي واكبت المذكرة لتخلص نفسها من المساءلة، وهي تعلم ماهية الأسباب الحقيقية لسوء الأداء العسكري -لم تكن عازمة على مواصلة خط المذكرة واستلام السلطة فعلا. ثم وصلت لهيئة القيادة معلومات عن حركة إنقلابية مايوية يقودها 14 ضابطا ولخوفها من المناخ الإنقلابي تحركت هيئة القيادة بانفعال لا تبرره حقائق الموقف ،وأمرت بإعتقال الضباط المذكورين. لقد كانت المعلومات التي بني عليها التصرف من مصادر عسكرية وكان القرار بإعتقالهم قرارا عسكريا ولكن شاع إنطباع بأن جهة سياسية ما – أي نحن في حزب الأمة- وراء هذا الإعتقال كبداية لمحاسبة الضباط الذين وقعوا على المذكرة. يقول رئيس الوزراء"لقد فوجئنا بالمعلومات وبقرار الإعتقالات .وأنا شخصيا عندما بلغتني وصفتها بأنها تصرف إنفعالي". صحيح أعلن مستشار أمن السودان- السيد عبدالرحمن فرح- ما يدل أنهم كانوا وراء المعلومات التي كشفت محاولة الإنقلاب وكان الإعلان خطأ سياسيا. وحاولت أن أصححه في بياني أمام الجمعية مؤكدا أن المعلومات من الإستخبارات العسكرية. وأن قرار الإعتقال من هيئة القيادة وهذه هي الحقيقة. إن إعتقال أربعة عشر ضابطا مشاربهم شتى، دون مبررات مقنعة خلق لهم عطفا في أوساط الضباط -هكذا استطاع الإنقلابيون إستغلال المناخ الإنقلابي الذي خلقته المذكرة وتنويراتها واستغلال اسم هيئة القيادة والقيام بتحرك محدود للإستيلاء على السلطة.هيئة القيادة لاعتقالها، لم تستطع مقاومته والآخرون لتوقعهم تحركا إنقلابيا خلقه المناخ المشار إليه لم يقاوموه. نجح التحرك العسكري الذي استغل الثغرات المذكورة ليواجه وضعا سياسيا مستحيلا.لقد وقع الإنقلاب بعد أن إتفق أهل السودان على البرنامج المرحلي في مارس 1989م. فهو معزول من قوى البرنامج، والإستنتاج المعقول هو أنه متحالف أو مرتبط بالذين شذوا عن البرنامج المرحلي أي الجبهة الإسلامية القومية. هذا يفسر عزلة النظام داخليا وخارجا لأن الجبهة تعتبر إتجاها طاردا في العالم العربي والأفريقي والأوروبي غربه وشرقه والأمريكي. إن الوضع الجديد مهما تنوعت عناصره وتعددت بياناته مثقل بظل الجبهة الإسلامية القومية – رمته بدائها!! الموقف بعد الإنقلاب هو سلطة معزولة ومجردة من أي برنامج و انتماؤه الى الجبهة الإسلامية القومية مؤكد . الإنجاز الوحيد الذي حققه النظام حتى الآن:هو أنه بمواقفه وإجراءاته وحد الناس ضده وأنه بإخفاقاته أبرز حسن أداء النظام الديمقراطي في نظر الناس- وبضدها تتبين الأشياء. هل يستطيع النظام أن يجد لنفسه شرعية من تبني الشعار الإسلامي؟ هذا هو ما حاوله جعفر نميري: فأخفق. إذ رفع الشعار الإسلامي متوهما أن ذلك سوف يمد من عمره السياسي ويمنحه شرعية يفتقدها.وهذا هو ما فعله ضياء الحق في باكستان فربط بين نظامه الأوتوقراطي والشعار الإسلامي ليستمد منه الشرعية والبقاء. إن المحاولة في الحالين جاءت بنتائج عكسية: فنميري هبت ضده ثورة رجب/ابريل وصارت تجربته مضرب الأمثال في الإخفاق، وأما ضياء الحق فإن تجربته أخفقت تماما بدليل أن الشعب الباكستاني عندما أتيحت له فرصة التعبير الحر عن آرائه رفض حزب ضياء الحق وأيد حزبا يعارضه. إن الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والوحدة الوطنية والعدالة الإجتماعية هي عصب التطلعات السياسية في هذا العصر وهي مبادئ توافق ولا تناقض مبادئ الإسلام. وكل من يحاول ركوب جواد الإسلام في تيار معارض لها يؤذي نفسه ويؤذي معه الشعار الإسلامي.قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . اللسان ليس مجرد الألفاظ بل يشمل أيضا المفاهيم الرائجة في العصر. ولذلك قال النبي (ص) "أمرنا معاشر الرسل أن نخاطب الناس على قدر عقولهم". إن المبادئ المذكورة أعلاه، وهي توافق مبادئ الإسلام السياسية والإقتصادية والإجتماعية تشكل عقل هذا العصر الحديث السياسي ولا مصلحة للدعوة الإسلامية ولا للمسلمين في توجهات ترفع راية الإسلام وتتعارض مع هذه المبادئ.اللهم إلا اذا كانت متعارضة معها فعلا.إن طرح الشعار الإسلامي في تناقض مع الديمقراطية-والتنمية-والعدل الإجتماعي-والوحدة الوطنية لايجدي،بل الأجدى أن يطرح الشعار الإسلامي بإعتبار أنه يحققها بطريقة أفضل من غيره. أوجد الرسول (ص) عندما استقر في المدينة أسلوبا هو صحيفة المدينة للتوفيق بين الإلتزام الإسلامي والوحدة الوطنية وإن لم يعرف هذا التعبير وقتها- كان التعبير هو الأمة الواحدة المتعددة العقيدة. إن من أكبر أخطاء الجبهة الإسلامية هو أنها لم تر التكامل الحقيقي بين الوحدة الوطنية وبين الإلتزام الإسلامي. فالتفريط في الوحدة الوطنية معناه: تطور العداء بين الشماليين والجنوبيين إلى درجة الإنفصال. إن إنفصالا هذا مولده سيكون وبالا على مستقبل الدعوة الإسلامية في السودان غير المسلم، وفي شرق أفريقيا .إن الإخوة الجنوبيين ،حتى حملة السلاح- لم يقولوا أنهم ضد الإسلام .إنهم قالوا أنهم يعارضون أي نص يحرمهم من حقوقهم الوطنية ويجعلهم مواطنين من درجة أدنى.وقالوا أنهم يعارضون أي نص يطبق عليهم أحكام غير دينهم. هذه مطالب مشروعة ممكن التوفيق بينها وبين تطلعات المسلمين المشروعة. حاولت الجبهة الإسلامية القومية في حالة من حالات الصحو، التوفيق بين الإلتزام الإسلامي والوحدة الوطنية عندما أصدرت ميثاق السودان، ولكنها سرعان ما تركت ذلك الإعلان كتمرين نظري ومضت سياسيا وعمليا في خط التناقض بين الإلتزام الإسلامي والوحدة الوطنية. هذا الموقف أورثته الجبهة للنظام الجديد في السودان.فالنظام يقف مكبلا بهذه المفاهيم وأضاف إليها مفهوم التناقض بين الإلتزام الإسلامي والديمقراطية. إن الإسلام هو التزام غالبية أهل السودان والديمقراطية هي خيار كل أهل السودان وهي الآن موجة المستقبل العاتية في كل أنحاء العالم: فتحت قلاع موسكو ووارسو، وتصدعت أمامها حوائط بريتوريا. إن أغلبية السودانيين سيقولون أننا نريد الإسلام والديمقراطية معا،ونريد الإسلام والوحدة الوطنية .بل سيقولون إن الإسلام يوجب الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيقولون أن الوحدة الوطنية من مصلحة الإسلام وأن التفريط فيها مضر للإسلام. لقد فات النظام الحالي أن يجد لنفسه شرعية من كفاءته في حل المشكلات التي ذكرناها سابقا (السلام،الحرب،المعيشة والتنمية)ولن يشفع له الشعار الإسلامي إذا طرحه في تناقض مع الديمقراطية والوحدة الوطنية والعدل الإجتماعي.
الملحقات
الملحق (أ) المذكرة التي قدمها السيد الصادق المهدي عقب الإنقلاب بتاريخ 7/7/1989م إلى رئيس مجلس قيادة الثورة
بسم الله الرحمن الرحيم الخرطوم 3/7/1989م الأخ/رئيس "ملجس قيادة الثورة" السلام عليكم ورحمة الله وبعد،
لقد استوليتم على السلطة بطريقة مخالفة للشرعية الدستورية ونحن وآخرون من القوى السياسية والفئوية ملتزمون برفض ما فعلتم وإبطاله بموجب إلتزامنا للدستور والقانون وبموجب ميثاق الدفاع عن الديمقراطية الذي وقعت عليه القوات السودانية المسلحة. هكذا نشأت في بلادنا بيننا وبينكم ومعنا الحق ومعكم القوة . هذه المواجهة المتوقعة، تحدث في بلادنا التي تخوض حربا وتتعرض لتآمر أجنبي، وحرصا على مصير البلاد رأيت أن اقترح مخرجا سلميا: 1. الديمقراطية هي خيار شعبنا وهي موجة المستقبل والإلتزام بها واجب وطني ولكن مؤسسات الديمقراطية وممارساتها في السودان أظهرت إخفاقات. والمطلوب هو الإلتزام بالديمقراطية والإلتزام بإصلاح مؤسساتها وممارساتها. 2. هنالك سياسات كانت قائمة ،نوقشت بأعلى مستوى فني وقومي كبرنامج التنمية ،وبرنامج إعادة التعمير، وبرنامج الإغاثة (شريان الحياة)، وبرنامج دعم وتأهيل القوات المسلحة. والمصلحة تقتضي البناء على صحيحها والتقدم إلى ماوراء ذلك. هذا ينطبق أيضا على برنامج السلام الذي تطور نتيجة لمجهودات مختلفة حتى أصبح إطارا للسلام: مرّ من مراحل كوكادام حتى اكتمل باتفاق نوفمبر الأخير.كذلك وضع تصور لسياسة البلاد الخارجية باقتراح خبراء وتعليق ساسة مما ادى لبرامج لسياسة خارجية قومية إلى جانب سياسات قومية للاجئين والنازحين. هذه البرامج والسياسات المناقشة على صعيد قومي وأحيانا بمشاركة دولية، المصلحة تقتضي الإنتفاع بها في بناء الوطن. 3. إن في بلادنا علة اقتصادية أساسية- لم يمكن التعامل معها في الظروف الماضية: هي أننا نستهلك أكثر، بل أضعاف ما ننتج. ونصدر ثلث ما نستورد، هذه الحالة تفتقر لعلاج جذري يخفض الإستهلاك بكل أوجهه- لا سيما في الكهرباء والمياه والوقود ونزيد الإنتاج -لا سيما إنتاج المؤسسات العامة. إن الظروف الحالية تنتج فرصة أكبر للتعامل مع هذه المعادلة الصعبة. 4. إن دعم القوات المسلحة وقوات الأمن المختلفة في هذه الظروف الدفاعية والأمنية واجب أساسي وستجدون أننا فعلنا في هذا الصدد كل المستطاع ولا أبالغ إن قلت أنكم لن تستطيعوا صرف قرش زيادة على مافعلنا.ولكن تبقى إلى جانب المعدات نقائص أخرى: في القيادة وفي الروح المعنوية وفي كل وجوه الأداء العسكري كانت هي السبب في نكسات ليريا وكبويتا وتوريت وأداء لواء الردع الكتيبة 118 وهي جوانب ينبغي التصدي لها لعلاجها ورفع أداء قواتنا العسكري. 5. لقد رماني بيانكم الأول بكثرة الحديث حتى فقدت مصداقيتي:نعم تحدثت كثيرا، ولو تأملتم ما قلت لوجدتم أنه محاولة مدوسة لإستنهاض شعب يواجه ظروفا صعبة لبعث الأمل وشده لمستقبله الواعد. ولا أدري أين فقدت مصداقيتي !فالجمعية لم تسجل ضدي صوت ثقة واحد لمجرد نقاشه، وكانت القنوات مفتوحة بيننا وبين القوى السياسية والنقابية في البلاد والثقة متوافرة .ولم أجد من الشارع السياسي العفوي إلا كل تقدير. على أية حال هذه أمور سيحكم عليها التاريخ. ذكرتها ،متطلبا للإنصراف عن المساجلات الشخصية والتركيز على ماينفع السودان. وتحدثتم عن المفاسد: وذكرتم تعويضات أم دوم .وكل الذي أرجوه هو أن تدرس ملف أم دوم هذا وسوف تجد فيه الدليل على عفة تعاملي مع المال العام.إنني كمسئول كنت أول من يصل الى مواقع العمل وآخر من يغادر، ولم أكلف الدولة راتبا ولا سكنا ولا إجازات. وكنت بعد كل رحلة أورد ما لم أصرف من اعتمادها، كما كنت صاحب المبادرة لكل الخطط الإصلاحية والمتابعة وستجد من الخدمة المدنية شاهدا على ذلك. والذي أتطلع إليه في هذا الصدد هو :تحقيق محاكمة عادلة وستكون النتيجة الإشادة بالحقائق. 6. إن كنتم تحرصون على إنقاذ البلاد وتجنب فتح جبهات جديدة، فالنقاط الآتية يمكن أن تكون خطا تتجهون نحوه بالقول والعمل، وعندئذ إن ظروف البلاد الحرجة ستجعل القوى السياسية في البلاد تتخذ منها موقفا إيجابيا: 1. الإلتزام بالديمقراطية وبإصلاح مؤسساتها وممارساتها في كل مجال وفق برنامج محدد: تفاصيلا وزمانا و متشاورا عليه. 2. تبني البرامج القومية الصالحة لبناء الوطن. 3. إجراء الإصلاح الإقتصادي الجذري الذي يسترد للسودان جدواه الإقتصادية ويضبط الإستهلاك ويرشده ويزيد الإنتاج والإستثمار والتنمية. 4. إجراء الإصلاحات المطلوبة لرفع الأداء العسكري وتأهيل القوات المسلحة. 5. إجراء محاسبة عادلة للتجازوات والمفاسد وإنصاف البرئ ومعاقبة الجاني. 7. عندما قامت حركة مايو خاطبناها بمثل هذا الموقف ورأت أن تختار طريق المواجهة وكان ما كان والآن الظروف مختلفة فلا الموقف التمويني ولا الإقتصادي ولا السياسي ولا العسكري يترك هامشا للمناورة. والمناخ الداخلي في البلاد ليس وارد فيه ما كان متاحا لمايو، ولا المناخ الدولي. فإن أنتم اخترتم غير طريق المواجهة والإستقطاب، فستجدون ذلك ممكنا يتلمس مواقف القوى السياسية والفئوية. وفي هذا الصدد فإن ما رأيته من نقاط بالإضافة أو التعديل يشكل مدخلا لعلاقة إيجابية في سبيل الوطن، وإن أنتم اخترتم الطريق الآخر فأنتم تتحملون مسئوليته التاريخية وما شاء الله كان.
الصادق المهدي
الملحق (ب)
ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي بعد انضمام الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان
الديباجة: منذ خروج الإستعمار وبلادنا تعيش أزمة سياسية عميقة تجسدت في الحرب الداخلية التي ظلت تستعر منذ أكثر من ربع قرن وفي عدم الإستقرار السياسي المستمر الذي صحب كل الأنظمة المدنية والعسكرية المتعاقبة .ولهذا فلم يكن غربيا أن تفشل كل الحكومات التي توالت على دست الحكم في حل القضايا الأساسية لشعبنا، وفتح آفاق التطور والتنمية أمامه. إذن لا سبيل للتطور دون إستقرار، ولا سبيل للإستقرار دون إجماع وطني شامل حول القضايا الأساسية. وبالرغم من هذا فقد شهدت الفترة التي أعقبت سقوط نظام مايو إطلالة فجر جديد للعمل الوطني الرشيد شاركت فيه الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان مع مختلف القوى السياسية والنقابية طوال الفترة التي سبقت وتلك التي أعقبت إنتفاضة ابريل 1985م وأمكن الوصول إلى عديد من المبادئ التي يستهدى بها العمل الوطني المشترك لكيما يفضي بالسودان إلى بر الأمان. وعلى رأس تلك المبادئ: خيار الحوار السلمي بدلا من الإحتراب،وخيار التعددية السياسية والثقافية والدينية بدلا من الهيمنة،وخيار الديمقراطية بدلا من حكم الفرد أو التسلط مدنيا كان أم عسكريا. وكان أعلى تعبيرين لهذا الوفاق السياسي الشامل هما: إتفاق كوكادام الذي تم التوقيع عليه في 26 مارس 1986م ومبادرة السلام السودانية التي وقعت في 16نوفمبر 1988م. ولو قيض لتلك الصيغة أن تمضي إلى نهايتها المنطقية لشق السودان منذ زمان طريقه نحو الإستقرار والسلم، إلا أن المناورات المتتالية وعلى رأسها مؤامرات الجبهة الإسلامية القومية لتخريب مساعي السلام قادت إلى استمرار الحرب والخراب. وبالتالي إلى مزيد من الإنهيار الإقتصادي والسياسي والإداري. وقد كانت تلك الجماعة منطقية مع نفسها وتوجهها في عرقلتها لمساعي السلام لأن تحقيق السلام الوفاقي القائم على التسامح الفكري واحترام التنوع والتعدد نقيض لمنهجها الفاشي في فرض فكرها السياسي تحت ستار الدين كما أنه سيقضى على وجودها كقوة سياسية تعجز عن العمل في إطار نظام ديمقراطي تتعدد فيه المنابر وتتنوع الرؤى السياسية وتتلاقح الأفكار. وما انقلاب 30 يونيو 1989م إلا الحلقة الأخيرة في ذلك المخطط الأخواني خاصة وقد قاربت البر سفينة السلام. لكل هذا لم يكن غريبا أن تعلن الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان موقفها ضد ذلك الإنقلاب وتوجهاته منذ شهره الأول وباعتبارها جزءا لا يتجزأ من القوى السياسية الوطنية المناهضة للتسلط العسكري. ومن نفس المنطق رحبت الحركة بمولد التجمع الوطني الديمقراطي وأعلنت تأييدها للمبادئ الأساسية التي تضمنها الميثاق الذي اصطلح عليه ذلك التجمع دون أدنى تحفظ إلا فيما يتعلق بتركيز دائرة الضوء على بعض المبادئ أوتوضيح بعض التفصيلات أو التأكيد على بعض مناهج الأداء .وفي هذا انطلقت الحركة من ثلاث حقائق: أولا: التجربة النضالية للحركة الشعبية والجيش الشعبي وطبيعتها الخاصة والتي تجعل تأكيد هذه المبادئ أمرا ضروريا حتى لا تنبهم الطرق وتتعدد التفسيرات حول موقف الحركة من القضايا الأساسية. ثانيا: إدراك الحركة للظروف الضاغطة التي تمت في إطارها صياغة الميثاق وهي ظروف لم يتوفر معها للقوى السياسية معالجة بعض القضايا بما يستلزمه الأمر من تمحيص وتأني وتشاور. ثالثا: الإنتكاسات التي صحبت الإنتفاضات الشعبية خاصة في أكتوبر 1964م وأبريل 1985م بسبب الغموض الذي شاب بعض بنود المواثيق أو التعميم المخل الذي خالط بعضها الآخر خاصة في غيبة أي تصور مشترك حول مناهج الأداء أو الإتفاق حول آلياته وبذلك فإن النقاط التي تسعى الحركة لإبانتها تمثل إضافة لا انتقاصا من ذلك الميثاق .والحركة إذ تفعل هذا إنما تريد أن تؤكد تحالفها الإستراتيجي مع قوى التجمع الوطني والذي تلقي في رحابه بكل ثقلها المادي والمعنوي، وكل ميراث نضالها السياسي والعسكري.كما أن حرص الحركة أن لا يصبح تحالفها مع التجمع الوطني "رفقة معدية" يحملها منذ البداية، على سد كل الثغرات أمام المخربين والإنتهازيين وأعداء السلم والإستقرار وضد كل الوصوليين الذي استمرأوا اختلاس انتصارات شعبنا عقب كل إنتفاضة شعبية. ومن هذا المنطلق تورد الحركة المبادئ والحقائق التالية حول بعض القضايا المطروحة في الميثاق وحسب ترتيب ورودها فيه، مع تكرار القول ،مرة أخرى موافقتها دون تحفظ على التفصيلات الأخرى التي تحتويها تلك الوثيقة.
برنامج النضال اليومي المباشر أولا:-لما كان النضال من أجل السلام أمرا ضروريا في كل حال وأكثر ضرورة في ظل الديكتاتورية العسكرية ترى الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان أنه من المنطقي أن يكون أول أهداف التجمع: هو السعي الدائب من أجل السلام مع محاربة الإتجاهات النازعة إلى إسباغ الطابع الديني والعرقي على الحرب الدائرة اليوم في السودان. ثانيا: تحديد أنماط النضال الشعبي بالصورة الواردة في الفقرة (5) يستبعد النضال المسلح والذي يمثل بعدا هاما من أبعاد نضال الحركة ولهذا تؤكد الحركة بأن النضال المسلح في هذه المرحلة جزء لا يتجزأ من النضال الشعبي للإطاحة بالديكتاتورية العسكرية وتأمين الديمقراطية.
شكل الحكم أولا: توافق الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان على ضرورة قيام حكم إنتقالي لأمد مناسب (5 سنوات) تتمكن معه السلطة الثورية من معالجة المشاكل الموروثة، التي تتطلب علاجا ثوريا ناجعا حتى يقوم الحكم المدني الديمقراطي على أساس ثابت متين.إلا أن الحركة ترى ضرورة التمييز بين الواجبات المناطة بهذه الحكومة من ناحية أهميتها، كما ترى ضرورة تحديد الواجبات المرحلية لتلك السلطة حتى لا يغرق البرنامج في عموميات توحي بعدم الجدية مثل الإشارة إلى محو الأمية خلال الفترة الإنتقالية. وعلى رأس هذه الأولويات: 1. المؤتمر الدستوري: وترى الحركة ضرورة الإتفاق على انعقاده في أمد لا يتجاوز ستة أشهر من تاريخ إنشاء الحكومة المؤقتة وعلى أن ينجز المؤتمر أعماله في مدة لا تتعدى ستة أشهر منذ بدء إنعقاده. 2. الوضع العسكري: وفي هذا الشأن ترى الحركة الشعبية ضرورة الإتفاق منذ البداية على صيغة مرنة للتعامل مع حقيقة وجود جيشين مسلحين بإعتبار أن الحل النهائي لهذه القضية سيتم في إطار إعادة هيكلة السلطة ومؤسساتها بما في ذلك مؤسسة القوات المسلحة وفق ما سيجمع عليه المؤتمر الدستوري. ثانيا: مع موافقة الحركة على الصيغة المقترحة لشكل الحكم إلا أنها لا ترى مبررا للإشارة لوجود عضو من أبناء الإقليم الجنوبي في مجلس السيادة فقد آن الآوان لإن نتخلى شكلا وموضوعا عن القوالب القديمة.كما ترى الحركة أيضا ضرورة العودة إلى صيغة الرئاسة التداولية بالنسبة لرئاسة الدولة وهذا أمر تفرضه حساسية المرحلة الإنتقالية. ثالثا: رغم الإعتراف بأن هناك مدعاة لقيام مجالس وطنية وأخرى تنفيذية في الأقاليم، ترى الحركة ضرورة مراعاة ظروف السودان الإقتصادية عند تكوين هذه المجالس، كما ترى أن الإشارة إلى حكم الإقليم الجنوبي وفقا لقانون الحكم الذاتي الإقليمي إشارة غير موفقة .ليس فقط لأنها تستهدي أيضا بالقوالب القديمة التي تقسم السودان إلى شمال وجنوب، بل لأن قانون الحكم الذاتي الإقليمي نفسه قانون تحكمه نصوص ومن ذلك أن مؤسساته تقوم على مبدأ الإنتخاب الحر لا التعيين. رابعا: حول تكوين المجلس الوطني ترى الحركة ضرورة الإتفاق المسبق على الأسس الموضوعية التي تحدد ماهو الحزب السياسي الذي يحق له المشاركة، كما ترى الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان أن هناك ضرورة أيضا للإتفاق المسبق حول تمثيل شقي الحركة السياسي والعسكري في ذلك المجلس.
مهام المرحلة الإنتقالية يتناول هذا الباب في الميثاق المبادئ التي توجه عمل السلطة الإنتقالية، كما يحتوي على خطوط عامة لبرامج عمل تلك السلطة.وانطلاقا من تحليل الحركة للواقع السوداني، خاصة واقع الريف الذي ظل كما مهملا طوال العهود الماضية حتى أخذت المجاعة تفترس بنيه بالآلاف في منتصف الثمانينات ترى الحركة أن أي عمل سياسي لا يتجه إلى إيقاف إنهيار الريف بجانبيه الإقتصادي والبيئي ولا يركز على وضع السياسات التي تعين على انتشال أهل الريف من وهدتهم مثل هذه السياسات سيكون لها إنعكاس على أنماط الحياة في المناطق الأكثر يسرا. وبالتالي فلابد من أخذ هذ الأمر في الإعتبار عند تخطيط برامج الإسعاف الوطني. ومن جانب آخر فإن هذا الباب يتناول أيضا قضايا أخرى تتعلق بسلامة الحكم وتطهير العمل السياسي وترشيد أداء الدولة داخليا وخارجيا ولذا فلا مناص من إلقاء بعض الضوء على هذه القضايا لكيما تتضح الرؤية لدى الجميع.وتشمل هذه القضايا : الحريات الأساسية : أي نص على الحقوق الأساسية لا بد أن يبدأ بالإشارة إلى حق الحياة وهو حق طبيعي يجئ قبل كل حق، فحقوق الجوعى في الريف تجئ قبل حق التنظمي وحق التعبير، خاصة والذي لا يملك رغيف العيش لا يملك أمره ومع ذلك فإن الحركة لتؤكد إلتزامها بالدفاع عن جميع الحقوق الأساسية وتضمينها في الوثائق الدستورية وإحاطتها بسياج قانوني واقي، ليس فقط على الصعيد الداخلي، وإنما أيضا الخارجي، بالعمل على تثبيتها في إطار المواثيق الدولية والإقليمية. القوات المسلحة: الحديث عن قومية القوات المسلحة، في نظر الحركة، لا يمكن أن يقتصر على أمر النأي بها عن الحزبية. إن موقف الحركة الثابت هو إعادة هيكلة هذه القوات ليس فقط باعتبارها القوة الضاربة لجهاز السلطة الذي تنشد الحركة إعادة هيكلته وإنما أيضا لوضع صيغة قومية لتركيبته وتنظيمه بهدف حماية السلطة المدنية الديمقراطية من مغامرات العسكريين لهذا فإن إشارة الميثاق للقوات المسلحة في إطار الحديث عن قومية وسائل الإعلام يوحي بتبسيط لقضية الجيش والسلطة، وكما ذكرنا من قبل فإن مثل هذه الصيغة النهائية للوضع الذي ستكون عليه القوات المسلحة لن يحسم إلا في إطار المؤتمر الدستوري إلا أن السلطة المؤقتة مطالبة بابتداع الوسائل لتسوية الأوضاع العسكرية والأمنية في ظل وجود جيشين يحملان السلاح خلال الفترة التي تسبق حسم هذا الموضوع في المؤتمر الدستوري. السياسة الخارجية: مع تأييدها الكامل للمبادئ الواردة في الفقرة 1 ( و ) ترى الحركة أن هذه المبادئ بعموميتها في حاجة إلى تفصيل حول أولويات العمل، لا سيما والسياسة الخارجية من أكثر المجالات التي تتكاثر فيها المزايدات السياسية. ولهذا ترى بأن أولى واجبات السياسة الخارجية، من ناحية البرامج الوظيفية خلال الفترة الإنتقالية، لا بد أن تتجه إلى: 1. توظيف الديبلوماسية لإعادة بناء وتعمير السودان. 2. وضع صيغة ثابتة للعلاقة مع مصر، وليبيا، وأثيوبيا ودول حوض النيل في إطار الإتفاقيات والمبادئ الموجهة للتكامل الإقليمي وباعتبار أن دول الجوار هي نقطة البداية في أي تكامل إقليمي خاصة تلك التي تحتم الروابط التاريخية والحقائق الجغرافية والمصالح المباشرة الماثلة منح العلاقة معها درجة الأولوية القصوى. 3. تنشيط دور السودان في المنظمات الإقليمية العربية والأفريقية ليلعب دورا يتجاوز الحضور المظهري خاصة في قضايا التحرر والتعاون الإقتصادي مع السعي لتجسيد برامج هذا التعاون، والتي ظل السودان يلتزم بها شكلا، في سياساته ومؤسساته الداخلية، ومن الجانب الآخر السعي لأن يسخر السودان الخصوصية التي تميزه وسط هاتين المجموعتين وتجعله أكثر تأهيلا من غيره لدعم الوحدة العضوية بينهما من أجل دفع التضامن العربي الأفريقي. 4. تنشيط دور السودان في المنظمات الدولية ومنظمات عدم الإنحياز في إطار ما استجد على العالم من متغيرات مع ابتداع أساليب النضال الديبلوماسي بين دول العالم الثالث من أجل خلق نظام إقتصادي عالمي جديد كبديل لنظام الهيمنة السائد، ومن أجل تكثيف التعاون بين دول الجنوب باعتباره الوجه الخارجي للإعتماد على الذات. لكي لا يكون هناك مكان للتخريجات فيما بعد حول مضمون الفقرة 2 ( ب ) .بالنسبة للحركة فإن الحركة تؤكد بأن الإتفاقيات التي ينطبق عليها هذا النص، هي تلك التي وردت الإشارة إليها عقب إعلان كوكادام، ومبادرة السلام السودانية، وأية إتفاقيات أخرى نظيرة، تتم في غيبة أو بدون موافقة الأجهزة الشرعية المعبرة عن إرادة الأمة. الديمقراطية: وهنا أيضا لكيما لا يكون هناك مجال للتفسير المخل للنصوص، ترى الحركة ضرورة الربط بين ما ورد في الفقرتين 2 ( ج ) و2 ( د ) حول حرية النشاط الصحفي وما ورد في الفقرة ( 7 ) حول إدانة الممارسات الفاسدة في ظل الأنظمة الديمقراطية. إن مصرع الديمقراطية في السودان كان في جانب منه نتيجة للإستهتار والإستهانة التي تعامل بها البعض مع الحرية حتى أفرغت الحرية من مضمونها، ولا سبيل لحماية الديمقراطية دون ضوابط سياسية ومهنية تحكم ممارسات السياسة الحزبية والعمل الصحفي والنقابي ومن بين تلك الضوابط: أ-تحديد مصادر تمويل الأحزاب وإخضاع ميزانياتها للمراجعة العامة. ب-وضع مواثيق شرف للعمل الصحفي والنقابي يعتبر الخروج عليها من مفقدات الأهلية للممارسة المهنية،( من الذي خرج عن ميثاق الصحافة غير صحافة الجبهة؟). ج-الإتفاق على مواصفات معينة لابد من توافرها في الذين سيتولون السلطة في الفترة الإنتقالية مثل تلك الواردة في خاتمة الميثاق. د-تحريم النشاط السياسي على أية تنظيمات تقوم على أساس عرقي أو إقليمي أو ديني. كما ترى الحركة أيضا أن الإشارة لقانون الإنتخابات وتمثيل القوى الحديثة والواردة في الفقرة ( 8) يجب أن تفهم على أنها تأكيد لمبدأ إشاعة الديمقراطية بالصورة التي تتيح فرص التمثيل الحقيقي لكل القوى والمجموعات التي ظلت مهمشة سياسيا ويشمل هذا العمال والمزارعين والنساء والمهنين. الإقتصاد: مع إتفاق الحركة مع التوجه العام لما ورد حول برنامج الإصلاح الإقتصادي، إلا أنها ترى إنطلاقا مما سبق، ضرورة التأكيد على بعض الثوابت وعلى رأس هذه الثوابت مبدأ الإعتماد على الذات والذي يجب أن يكون هو القطب الهادي لكل خططنا الإقتصادية. وللإعتماد على الذات إنعكاسات على سياسات الإستهلاك والإنتاج. وأولويات الطاقة والترحيل لا بد أن تجد التعبيرعنها في صلب هذا البرنامج، كما أن الإعتماد على الذات يقتضي بالضرورة: الإهتمام بقاعدة الإنتاج الريفي، مما يؤكد ضرورة منح الأولوية القصوى لأمر الحد من إنهيار الإقتصاد الريفي، وإيقاف إفرازات هذا الإنهيار في المدن، ووضع الأسس لبرامج ترقية قواه البشرية، خاصة النساء اللاتي يمثلن قوة هامة بالنسبة للعمل والإنتاج. ومن جهة عامة فإن الإبقاء على البرنامج الإقتصادي المقترح بصورته الفضفاضة، كبرنامج لفترة إنتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات يوحي، كما ذكرنا، بعدم الجدية. ولأجل كل هذا ترى الحركة كبديل للعموميات في هذا المجال الحساس وجوب تكليف الحكومة الإنقالية بمهام محددة. ولهذا فلا بد من عمل مشترك يسبق الفترة الإنتقالية وتحدد بمقتضاه هذه الواجبات والأولويات وعلى سبيل المثال تشير الحركة إلى: 1. إعادة تعمير المناطق التي تأثرت مباشرة بالحرب وإعادة تأهيل البنيات الأساسية والمشروعات الزراعية والصناعية والمرافق العامة التي انهارت بسب الإهمال أو التآكل أو عدم الصيانة أو ضغوط الهجرة القسرية. 2. فك الضائقة المعيشية وتلبية الحاجات الأساسية بوضع برامج ترتكز أولا على الإعتماد على الذات مع ما يقتضيه هذا من ترشيد لعمليات الإستهلاك واتباع سياسة تقشفية صارمة تبدأ على مستوى الدولة و مؤسساتها. 3. حول قضايا التعليم والصحة، تحسن السلطة المؤقتة صنعا، لو ركزت جهدها وأفلحت في إعادة تأهيل المؤسسات التعليمية والصحية العلاجية القائمة مع استنفار الجهود الدولية للقضاء على الأمراض المستوطنة خاصة تلك التي بدأت في الإستشراء بعد أن كانت آخذة في التلاشي. كما يجب أن تركز الجهود بصفة خاصة على تنشيط برامج الصحة الوقائية في المدن والريف مع إهتمام خاص بالنساء الأطفال. 4. المراجعة الشاملة للإنفاق العام والسعي لترشيده بما في ذلك مراجعة وضع الخدمة والمؤسسات العامة، وهذا الأمر، مثلا، لا توحي به الفقرة ( 6 ) بالرغم من أنه ليس هنالك من نظام سياسي أكثر قدرة على مثل هذه المراجعة الشاملة من الحكومة الإنتقالية بقاعدتها العريضة، وفي هذا الشأن فإن على السلطة الإنتقالية ،الإتجاه لمراجعة الخدمة والمؤسسات العامة كيفا وكما بهدف ترشيد الأداء وإعادة تأهيل القوى العاملة، وتوجيه فوائضها في دواوين الحكومة نحو الأداء المنتج. وينطبق نفس الأمر على القوات المسلحة والقوات النظامية إذ ترى الحركة أن إعادة هيكلة هذه المؤسسات لا بد أن يتم وفق تقييم شامل لإحتياجات السودان الفعلية الأمنية والدفاعية، ولقدراته الذاتية على تحمل الأعباء المترتبة على ذلك. 5. مع تأييدها لضرورة المحاسبة الصارمة للذين أفسدوا النظام المصرفي تحت شعار أسلمة الإقتصاد، إلا أن الحركة ترى أن الفساد الإقتصادي لا يقف عند تلك الفئة كما توحي بذلك الإشارات الواردة في الفقرة 2 ( جـ)و 4 ( جـ) ولهذا ترى الحركة أهمية قيام لجان مؤهلة مقتدرة لمراجعة كل المناشط والصفقات المشبوهة التي تمت في خلال الفترات السابقة وخاصة في ميادين التجارة الخارجية والتهرب الضريبي، والتهريب المباشر وغير المباشر، والمضاربات العقارية، كما ترى الحركة أن الإشارة الواردة في الفقرة 4 ( جـ) حول هيمنة البنك المركزي على السياسات المصرفية يجب أن تعني هيمنته على أداء المصارف لا على السياسات التي توجه عمل هذه المصارف والتي يجب أن تظل واحدا من واجبات السلطة التنفيذية. ختاما إن الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان إذ تتقدم بهذه الإيضاحات والتنبيهات حول الميثاق إنما تفعل هذا من منطلق تلاحمها العضوي مع التجمع الوطني الديمقراطي وإدراكها الواعي لما آل إليه حال البلاد بسبب الحروب والسياسات الخاطئة والإستهتار بالحكم، وعزمها على ألا تجهض لشعب السودان إنتصاراته مرة أخرى بسبب الغفلة أو المناورات و الدسائس.
بيان حول ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي
تم عقد إجتماع بين أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي والحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان في الخارج، في شهر مارس عام 1990م وكان موضوع الإجتماع الأساسي هو مناقشة الوثيقة المرفقة والمقدمة من الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان متضمنة رؤيتها حول القضايا الواردة في ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي والذي سبق وأن وافقت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان من قبل على مبادئه الأساسية. وبعد نقاش وافي وجاد توصل الإجتماع إلى إتفاق حول جميع القضايا الواردة المشار إليها أعلاه. وإقرار إلحاق المذكرة بالميثاق كجزء منه. مع التوصية بصدور وثيقة موحدة تؤكد وحدة قوى التجمع توجها وعملا ،خلال هذه المرحلة والفترة الحرجة المقبلة من تاريخ شعبنا. وبهذا تصبح الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان مشاركا أصيلا في التجمع الوطني الديمقراطي. وقد جدد أطراف الإجتماع العزم على مواصلة النضال من أجل إسقاط نظام الجبهة الإسلامية العسكري المتسلط والعمل على إستعادة وإعادة بناء الديمقراطية على أسس سليمة وعقد المؤتمر الدستوري والإلتزام بتنفيذ كافة بنود الميثاق وملحقاته.
الموقعون: محمد عبد الله يس عن الحزب الإتحادي الديمقراطي. السيد د. سليمان محمد الدبيلو عن حزب الأمة. الدكتور لام أكول أجاوين عن الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان. السيد د. عز الدين على عامر عن الحزب الشيوعي السوداني. الملحق (ج)
البيان المشترك بين الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان وحزب الأمة التاريخ 22 فبراير 1990م
بعد الدارسة المتأنية لميثاق وبرنامج التجمع الوطني الديمقراطي الموقع في الحادي والثلاثين من أكتوبر 1989م بالإتفاق بين الإتحادات النقابية وممثلي القوات النظامية والأحزاب السياسية: 1. وافقت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان على مبادئ الميثاق مع التحفظ :أن لها الحق في مراجعة أو تعديل تفاصيل الميثاق والبرنامج الذي تم صياغته في غيابها. 2. إلى جانب موافقتها على ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي عقدت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان وحزب الأمة سلسلة من الإجتماعات المطولة توصلا عبرها إلى إتفاق حول التحديات الأساسية والمشاكل التي تواجه وطننا الحبيب . وكان جوهر هذا الإتفاق هو تحقيق السلام الدائم والوحدة الوطنية في ظل نظام ديمقراطي متعدد الأحزاب يحقق طموحات وأهداف جماهيرنا الكادحة في المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية. ولبلوغ هذه الأهداف اتفق الطرفان على العمل سويا ودون كلل مع إخوتهم في التجمع الوطني الديمقراطي بالإسراع في إزاحة ديكتاتورية الإخوان المسلمين في الخرطوم وعقد المؤتمر الدستوري وإقامة حكومة ديمقراطية يشارك فيها بفاعلية جميع أعضاء التجمع الوطني الديمقراطي. 3. إن تاريخ السودان العظيم يوضح بجلاء أن شعبنا قد اكتوى بما فيه الكفاية من ويلات الديكتاتورية وقد حان الوقت الآن لممارسة الديمقراطية الحقة ، وعلى ضوء هذا الفهم المشترك والمستند على الإتفاق أعلاه يناشد حزب الأمة والحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان القوات المسلحة السودانية أن تنأى بنفسها عن حزب الجبهة القومية الإسلامية وبما يسمى بالمجلس العسكري للإنقاذ الوطني، وأن تعمل على إيقافهم من إستغلال الجيش السوداني لفرض أفكارهم العدوانية الشريرة والمتحجرة بالقوة مما سيؤدي حتما إلى تمزيق وحدة بلادنا. ومن هنا نناشد إخوتنا في القوات المسلحة أنه لا مبرر لاستمرار الحرب وسفك الدماء بعد اتفاق كافة القوى الشعبية والإتحادات النقابية في البلاد على وقف الحرب وإقامة نظام ديمقراطي في السودان . إن حزب الجبهة القومية الإسلامية ومجلسها العسكري هما الجهتان اللتان شذتا عن إجماع قوى التجمع الوطني الديمقراطي على السلام والوحدة والإستقرار, لذلك فنحن نناشد القوات المسلحة أن تثور على ديكتاتورية الأخوان المسلمين العسكرية وتنحاز إلى إجماع الشعب السوداني ممثلة في تجمعها الوطني الديمقراطي. 4. إن حزب الأمة تمشيا مع الإتفاق يدعو كل المليشيات القبلية في كردفان ودارفور والأجزاء الأخرى لبلادنا أن توقف فورا عداءها ضد الجيش الشعبي لتحرير السودان وأن توجه أسلحتها صوب العدو المشترك. 5. والحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان من جانبهما هنا يأمران كل قادتهما في الميدان لوقف العداء، والتعاون مع المليشيات القبلية المذكورة أعلاه ومحاربة العدو المشترك.كما تأمر الحركة الشعبية الجيش الشعبي لتحرير السودان مؤيديها داخل القوات المسلحة لأداء دورهم في تنفيذ هذا الإتفاق ويناشد الطرفان كل أعضاء التجمع الوطني الديمقراطي لاجتماع لمناقشة تفاصيل الميثاق في أقرب فرصة ممكنة، والتي سوف تعمل على استيعاب آراء الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان للمناقشة والإتفاق على الخطوات الضرورية اللازمة لتنفيذ بنود الإتفاق. 6. وفي الختام إننا نحي نضال جماهير الشعب السوداني ضد ديكتاتورية الإخوان المسلمين ونحي أيضا كافة المعتقلين السياسيين.
عاشت وحدة الشعب السوداني.
الموقعون: السيد مبارك الفاضل المهدي: عضو المكتب السياسي وممثل حزب الأمة القائد لوال دينق وول: العضو المناوب في القيادة السياسية العسكرية العليا للحركة الشعبية بالجيش الشعبي لتحرير السودان وممثلها.
|
|
|
|
|
|