|
الحوار الجامع في السودان: المقاصد والغايات
|
أي حوار يدور في السودان بحثاً عن إجماع وطني أو شبه إجماع على مشروع قومي لمعالجة الأزمات التي تحاصر الدولة القومية في السودان وتهددها بالتشظي والانهيار ينبغي أن يكون هدفه الأساسي إحداث تغيير شامل وفق رؤية جديدة تقيم الحكم الراشد في البلاد على أساس العدالة والإنصاف وديمقراطية الحكم والاعتراف بتنوع المجتمع السوداني واحترام تلك التعددية والقضاء على ظلامات الماضي-
وأي علاج دون ذلك هو حرث في البحر لا يعالج أزمة ولا يفتح الطريق أمام الوطن للنهوض من كبوته.
والتغيير يمكن أن يحدث خلال آليات متنوعة ووسائل مختلفة حسب تجارب العالم وحسب تجارب أهل السودان - يمكن أن يحدث التغيير عبر انتفاضة شعبية كاسحة جربها السودان في أكتوبر 1964 وفي أبريل 1985 التي تحل ذكراها بيننا هذه الأيام، وهذا النموذج جربته مصر في ثورة يناير وجربته تونس قبلها ونجح في إزالة نظام قهري لكنهم فشلوا أو تعثروا في خلق النظام الديمقراطي البديل، وما زالت محاولاتهم جارية لكن التجربة تعثرت أو فشلت في اليمن وسوريا وقادت لحرب مدمرة.
ويمكن أن تتم عبر تمرد مسلح يسقط النظام القائم ويؤسس لنظام جديد تماماً مثلما فعلت قوات موسفيني في يوغندا ولكن تلك التجربة والتجارب المماثلة أثبتت أن القوة التي تستولي على السلطة بالسلاح لا تفرط فيها ولا تتنازل عنها ولا تشرك فيها الآخرين على قاعدة أن ما آخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ولذلك فمثل هذا النموذج غير مرشح لإنفاذ مشروع ديمقراطي ولكنه في نهاية المطاف قد يستبدل ديكتاتورية بدكتاتورية أخرى.
وهناك نموذج ثالث هو إحداث التغيير عبر حوار جامع وله تجارب عديدة في أميركا اللاتينية وأوروبا وإفريقيا ولكنه نموذج لا ينجح إلا تحت ظروف محددة:
أولها أن يدرك النظام الحاكم أن الطريق أمام مشروعه بات مسدوداً، وأنه لا مستقبل له، وأن الأفضل له أن يقوم بحركة استباقية ليصبح جزءاً من التغيير القادم بدلاً من أن يكون ضحية لذلك التغيير، وفي نفس الوقت تبلغ قوة المقاومة لذلك النظام ذروتها وتصبح مهدداً حقيقياً للنظام القائم وبديلاً مشروعاً له، وبذلك يتغير ميزان القوى وتضعف قوة النظام الحاكم، وبهذا يتوفر الجو لحوار تتكافأ فيه الفرص وتحدث خلال الحوار المقايضات التاريخية، وتظل جنوب إفريقيا هي النموذج الكلاسيكي لهذا التغيير والمقايضة التاريخية هنا جعلت البيض يتخلون عن السلطة السياسية، ولكنهم احتفظوا بمكاسبهم الاقتصادية وأصبحوا جزءاً من النظام الجديد بدلاً من أن يصبحوا ضحية له.
ولابد لنجاح هذا السيناريو أن تكون هناك جبهة معارضة موحدة وقوية وفاعلة تستطيع أن تؤسس مركزاً وطنياً له القوة والمنعة وله الرؤية المتكاملة لمقاصد التغيير وأهدافه ووسائله وآلياته وفق برنامج حد أدنى تلتقي عنده كل القوى الراغبة في التغيير.
ولكن الذي يحدث في السودان الآن أمر جد مختلف؛ إذ نعيش الآن في مرحلة (توازن الضعف) حكومة ضعيفة ومعارضة ضعيفة - حكومة ضعيفة لأن برنامجها أثبت فشله ولم ينجح في معالجة مشكلة الحرب والسلام ولم تنجح في معالجة أزمات الاقتصاد وليس لها رؤية للنهوض بالبلاد، وازداد الصراع داخل صفوفها وشهدت انقسامات ومحاولات انقلابية من داخلها وأدت سياساتها إلى زيادة الصراعات القبلية التي أوهنت النسيج الاجتماعي لدرجة تنذر بتشظي الوطن، ومازالت تعتمد على قوة السلاح لفرض سلطتها،
وبالمقابل فإن المعارضة محاصرة وفشلت في فك حصارها وضعفت صلتها بقواعدها وباتت مجرد قيادات فوقية منعزلة تفتقد الرؤية الشاملة لمواجهة أزمات السودان المركبة التي خلقها النظام، وهي - أيضا - متشظية؛ إذ إنها لم تنجح في خلق جهاز تنسيقي ولا برنامج عمل مشترك ويحاول كل حزب من أحزابها الآن أن يبحث منفرداً مع الحزب الحاكم مشروع الحوار الجامع أو يعلن منفرداً رفض الحوار ولم تتمكن حتى الآن من عقد اجتماع مشترك تحاول الوصول من خلاله إلى موقف موحد من مشروع الحوار المقترح.
وفي نفس الوقت هناك حركة مقاومة مجتمعية تنتظم صفوف الشباب والنساء، وعبرت عن نفسها في أحداث سبتمبر الفائت لكنها - تماماً مثل ما حدث في تونس ومصر- تعاني من ضعف تنظيمي مع تعدد المنابر وقلة التجربة، ولا نرى محاولات من أحزاب المعارضة للتواصل معها لإحداث قدر من التوافق يسهل العمل المشترك -
وهناك حملة السلاح وهم العنصر الأساسي في أي مشروع للسلام والتواصل معهم من جانب القوى السياسية ضعيف أو معدوم.
في مثل هذه الظروف فإن الحوار الجامع المقترح يمكن أن يتحول إلى مجرد صفقات ثنائية لترميم النظام القائم،
وليس لعملية التحول الشامل التي يحتاجها السودان!
|
|
|
|
|
|