|
الحدود السودانية المصرية: المصريون والبحر الأحمر في العصر الفرعوني 3بقلم د أحمد الياس حسين
|
محاولة بسط مصر سيادتها على طرق الصحراء المؤدية للبحر الأحمر كانت الصحراء الشرقية في الفترة التي سبقت عصر الأسرة الحادية عشرة في القرن 21 ق م خارج حدود السلطة المصرية فلم تكن للدولة سلطة حتى على المناطق القريبة من النيل حيث كانت للدولة مصالح في التحكم عليها مثل منطقة وادي الحمامات الذي يصب في النيل في منطقة طيبة والذي يمثل نصف الطريق إلى البحر الأحمر.
وقد بدأت الأسرة الحادية عشرة (القرن 21 ق م) كما ذكر عبد العزيز صالح (الشرق الأدنى القديم ص 113) بمحاولة "توطيد الأمن في السبل المؤدية للبحر الأحمر عبرالصحراء الشرقية" ويبدو أن ذلك لم يكن بالأمر السهل إذ تحدثت نصوص العصر عن بعثتين كبيرتين لتحقيق هذا الهدف.
خرجت إحدى البعثتين في عشرة ألف رجل بين مدنيين وعسكريين ترأسها الوزير أمنمحات لتوطيد الأمن في وادي الحمامات. وقد حدثت -أثناء عمل البعثة - معجزة هطول الأمطار وظهور البئر التي لم تلاحظها القبائل البدوية في المنطقة كما ورد في الأحداث التي دونتها البعثة. وقد أقامت البعثة تحصينات حدودية في المنطقة الموازية للنيل من الشمال إلى الجنوب.(عبد العزيز، الشرق الأدنى القديم ص 174) ويفهم من خروج هذا العدد الكبير من العسكريين لتوطيد الأمن في وادي الحمامات المتصل بالنيل وإقامة الحصون أن القبائل البدوية التي كانت تتجول في تلك المناطق كانت خارج سلطة الدولة، وأن حدود الدولة في الصحراء لم تكن تبتعد كثيراً عن النيل. وخرجت البعثة الثانية برئاسة موظف كبير يدعى حنو أو حننو بلغ تعدادها ثلاثة ألف رجل. كانت تهدف أيضاً إلى تأكيد الأمن في مسالك القوافل وتطهير الآبار القديمة وحفر أخرى جديدة، وتحصيل الهدايا باسم القصر الملكي. ثم الاشراف على إنزال سفن 〉جُبيلية〈 على البحر الأحمر" (عبد العزيز نفس المكان السابق)
ويفهم مما ورد في هذا النص عن "تحصيل الهدايا باسم القصر" أنه لم تكن هنالك ضرائب مفروضة على مواطنين مصريين في تلك المناطق بل كان يطلب من القبائل البدوية تقديم الهدايا باسم القصر. والمهمة الأخرى والأهم هي الاشراف على إنزال السفن في البحر. ولم يرد ما يوضح أين أعدِّت تلك السفن؟ وهل أحضرت إلى الساحل مصنعة وتم تركيبها على الساحل؟ ولما كانت البعثة قد خرجت من قفط فتكون قد سلكت طريق وادي الحمامات إلى البحر في منطقة القصير الحالية. ولم تتوفر معلومات عن طبيعة ذلك المكان؟ وهل كانت به مصادر مياه وغذاء، كما لم ترد معلومات عن سكانه؟
وقد ورد وصف السفن في النص بأنها 〉جُبيلية〈. ويرجع هذا الاسم إلى مدينة جبيل في لبنان حيث كانوا يأتون بالأخشاب لصناعة السفن. تقول عنها الموسوعة الحرة "ويكيبيديا" إنها من أقدم مدن العالم، تقع على بعد 37 كيلومتر شمال مدينة بيروت الحالية. ويستدل المؤرخون بهذا على أن محاولات المصريين الملاحية في البحر الأحمر أتت متأخرة كثيراً بالنسبة إلى إبحارهم في البحر المتوسط. ولم يتطرق عبد العزيز صالح إلى الرحلة البحرية وما حدث لها أو النتائج التي تمخضت عنها. ربما لم تشر النصوص إلى ذلك، ولا ندري هل نجحت أم فشلت تلك المحاولة الأولى للابحار إلى بلاد بنت عن طريق البحر الأحمر.
قصـة الملاح كما أشار بعض المؤرخين إلى قيام رحلة إلى بلاد بنت عبر البحر الأحمر استناداً إلى قصة نسبت إلى عصر الملك أمنمحات الثاني ثالث ملوك الأسرة الثانية عشر (نهاية القرن 20 ق م). يقول عنها رمضان عبده ("الحدود الجنوبية وعلاقات مصر ببلاد النوبة وما وراءها 1580 - 332 ق م" في كتاب: عبد العظيم رمضان 〉محرر〈، الحدود المصرية السودانية عبر التاريخ. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999، ص89):
"لدينا في عصر هذا الملك بردية ملاح السفينة الغارقة أو الملاح الذي نجا. وتقص علينا أن هذا الملاح كان في رحلة إلى بلاد بنت لاحضارالبخور من هناك، فقامت عاصفة وحطمت السفينة وهلك جميع بحارتها المائة والعشرين فيما عدا البحار راوي القصة."
وأورد عبد العزيز صالح (الشرق الأدنى القديم ص 382) تفاصيل القصة، ووضح أن أحد رجالات الدولة كان في مهمة بأقاصي بلاد النوبة، ولم يقدرله النجاح فيها. وعند اقترابه من العاصمة عند عودته سالماً مع بحارته أتاه أحد أصدقائه من الملاجين يهنؤه بسلامة العودة. إلا أن الرجل ظل مهموماً يتخوف من عاقبة فشله. فهون عليه صديقه الملاح وسرد عليه قصته ليبث فيه الأمل. ذكر الصديق الملاح أنه خرج بسفينة كبيرة تبلغ 120 ذراعاً في 40 ذراعاً ومعه 120بحاراً وصف قلوبهم بأنها كانت أشد من قلوب الأسود.وفي الطريق تعرضت سفينتهم لعاصفة شديدة حطمت السفينة ولم تُكتب الجاة إلا لراوي القصة حيث رمت به الأمواج في جزيرة "في أقصى الأخضر الكبير" وقد وضح عبد العزيز صالح أن "الأخضر الكبير" المقصود به البحر الأحمر.
وذكر راوي القصة أن الجزيرة كانت آهلة بالطعام والشراب، وبعد ثلاثة أيام أتاه ثعباناً ضخماً طوله 30 ذراعاً وعرضه أكثر من مترين وكان جسده مغشى بالذهب وحاجباه بلون الزبرجد. وسأله الثعبان عما أتى به إلى جزيرته. فقص الرجل عليه قصته، فهون عليه الثعبان القضية، وأخبره أنه سيد بلاد "بوينة" وبشره بأن سفينة من بلاده ستحضر إلى الجزيرة بعد أربعة أشهر تحمله إلى بلاده.
ومكث الرجل في الجزيرة، وسرد عليه الثعبان قصته لكي يهون عليه ما ألم به. فذكر أنه وأخوته السبعة والثلاثون وطفلته الصغيرة عاشوا في الجزيرة، ولكن نجماً كبيراً وقع على الجزيرة فاحترق الجميع ولن ينج إلا هو. وبد أربعة أشهر حضرت السفية وحمله الثعبان "بكميات هائلة من المر والتوابل وزبول الزراف والصمغ والبخور وأنياب العاج والفهود والنانيس. ثم فارق الجزيرة بعد أن علم من سيدها أنها أنها سوف أنها سوف تزول من الوجوج ويبتلعها البحر." وعاد الرجل إلى بلاده.
هذا هو ملخص القصة التي استشهد بها البعض كواحدة من رحلات المصريين إلى بلاد "بيونة" أي بلاد بُنت. ومن الواضح جداً من أحداث الرواية أنها مبنية على الخيال المحض. وقد تتضمن القصة محاولات البحارة المبكرة السفر إلى بلاد بُنت، كما تتضمن المصاعب والمشاق التي يلاقونها. وتشير أيضاً إلى ما يحيط بتلك البلاد من الأساطير مما يوضح غياب المعلومات الحقيقية عنها.
لكن هذه القصة لا ترقي إلى المستوي الذي يجعلها دليلاً على تأكيد وصول راويها إلى بلاد بُنت. إذ لو حدث ذلك لكان الصديق الذي رويت له القصة على علم بها. فمثل ذلك الحدث الذي يتضمن مغامرة كبرى لا بد أن يكون معروفاً على الأقل بين البحارة وبخاصة أصدقاء بطل القصة. ولا بد أن تكون تلك الرحلة -لو حدثت فعلاً- مدونة في آثار الملك الذي أرسلها مثل بقية أحداث رحلات بلاد بُنت المدونة في الآثار المصرية القديمة. غير أن هذه القصة لا يوجد أي أثرتاريخي يدعمها.
وعن ذلك يقول عبد العزيز صالح "لا يزال تحقيق جانب الحقيقة وجانب الخيال من هذه القصة موضع جدل طويل." غير أن رمضان عبده أستاذ التاريخ - بجامعة المنيا - بحثاً عن توثيق الوجود المصري على البحر الأحمر استخدم هذه القصة رغم علمه بضعف دلالتها. لم يكتف بذلك بل أضاف (الحضارة المصرية القديمة ج 1 ص 110) بعد تناولة بعثة سحورع التي تحدثنا عنها أعلاه أن العلاقات التجارية استمرت بين مصر وبلاد بنت بعد عصر سحورع (الأسرة الخامسة) وحتى هذه الرحلة في عصر الأسرة الثانية عشر.
ومن المعروف أن الفترة التي تلت نهاية الأسرة السادسة وحتى عصر الأسرة العاشرة شهدت ضعف واضطراب الأوضاع في مصر، وهي الفترة المعروفة في تاريخ مصر بمرحلة الانتقال الأولى. والدكتور يعلم أنه لم يكن لمصر في تلك الحقبة ما يمكنها من إرسال بعثات في البحر الأحمر إلى بلاد بنت. كما لم ترد فيما وصل من أخبار تلك الفترة أي إشارة إلى ذلك. ورغم علم الدكتور بكل ذلك يقدِّم حكمه بأن "العلاقات التجارية استمرت بين مصر وبلاد بنت بعد عصر سحورع (الأسرة الخامسة) وحتى هذه الرحلة في عصر الأسرة الثانية عشر "
ومرة أخرى دخلت مصر بعد عصر الأسرة الثانية عشرة في فترة ضعف واضطراب تسمى فترة الانتقال الثانية بين القرنين 18 - 16 ق م. استمر هذا الضعف في عهود الأسر 13 و14 و15 و16 و17 حتى استعادت الدولة قوتها في عصر الدولة الحديثة في القرن 16 ق م. وشهد هذا العصر حكم الأسر 18 و19 و20. د أحمد الياس حسين mailto:[email protected]@gmail.com
|
|
|
|
|
|