|
التيجاني عبدالقادر وممداني ورويسلر وأيدلوجيا المفاصلة في الخرطوم وجوبا خالد موسي دفع الله
|
[email protected]
هذه مقاربات ثلاث تغوص عميقا في جراحات السياسة وأيدلوجيا الصراع ولعبة الموت في دولتي السودان وجنوب السودان يقدمها كل من الدكتور التيجاني عبدالقادر والدكتور فيليب رويسلر والبروفيسور محمود ممداني. وهم أرجح عدلا في موازين الفكر السياسي وأدق ميسما في تحليل أسس الصراعات وجذور النزاعات. يري الدكتور حيدر إبراهيم في كتابه الأخير عن الديمقراطية في السودان أن منصور خالد رجل أزمولوجي أي أنه يعبر عن فكر الأزمة في كتاباته. لذا لم أبد دهشة كبرى أو نأمة صغرى ومحدثى الدكتور منصور خالد يخبرنى في زيارة قصيرة لمنزله في الخرطوم قبل شهور خلت عن إعادة طبع كتابه (حوار مع الصفوة) بعد مرور أكثر من أربعة عقود من إصداره الأول لأن القضايا والإشكالات التي ناقشها ما تزال حية ومستعرة، موغلة في التعقيد والحيرة وتمسك بخناق الراهن وتلابيب الواقع. وقال إنه يعكف علي تحرير كتاب عن محمد أحمد المحجوب. أول ما أنقدح في ذهني من علامات الإستفهام هو قفول الصفوة الي ملاذات التاريخ هربا من كدر الواقع. لا شك فقد قدم الكتاب تحليلا للإشكالات البنيوية في السياسة والحكم والمجتمع، وظل مستقبل السودان رهين بالخروج من هذه الحلقة المفرغة التي حاول الكتاب أن يصف تمظهراتها ويبين عللها.قلت مازحا للدكتور منصور خالد إن البعض سيستنكر إعادة طبع الكتاب بعد مرور كل هذا الوقت علي نشره لرجل يصفه الصادق المهدي بأن كل خياراته السياسية خاسرة. فقال ضاحكا وأين رهانات المهدي السياسية الناجحة؟. هذا الحوار الذي يختزن بعض رمزيات المكاجرة السياسية لأثنين من أبرز صفوة السياسيين في السودان في تاريخه الحديث يعيد تأكيد زعمه الأساس حول فشل النخبة وهو ما يصفه دكتور منصور خالد بعقم الفكر السياسي. يقول في كتابه حوار مع الصفوة (ولكن عقم الفكر السياسي جعل من هذه الأحزاب إطاراً عصرياً لتجمع طائفي . أصبحت الأحزاب السياسية امتداداً للصراع الطائفي والقبلي القديم ، أصبحت واجهات للطوائف ، وهو أمر ما كان ليتم لو كان هنالك فكر ، ولو كان هنالك إبداع ، ولو كان هنالك إدراك علمي لطبيعة المجتمع ولأحكام العصر). ويجدد منصور خالد حديثه قائلا: (كثيرون جداً يطمحون عبر ما يسمى بالسياسة إلى الحكم ويصلون إلى مواقع الحكم ، وصحيح أنه في كثير من دول العالم هذه الأشياء موجودة عبر العمل الحزبي تستطيع أن ترتقي فيه حتى تصل للحكم، ولكن في هذه الدول مؤسسات وهنالك مجتمع مدني وهنالك رأي عام يطالب الساسة بان يترجموا هذه السياسة أو ما يسمونه بالسياسة إلى أمور تتعلق بقضايا الناس فما الذي تستطيع أن تفعله في التعليم في الصحة في الطرق في العمالة في الأشياء الأساسية المطلوبة من الحاكم، ولكن في السودان ليس الأمر كذلك حتى الآن؟ يؤسفني أن أقول حتى الآن). أغراني التحليل الذي قدمه البروفيسور فيليب رويسلر أستاذ العلوم السياسية في جامعة أكسفورد وكلية وليم وميري في الولايات المتحدة في ورقته بعنوان (العدو من الداخل: الحكم الشخصي، الإنقلابات والحرب الأهلية في أفريقيا).للوقوف علي ظاهرة العنف السياسي والعمل الأثني المسلح في دولتي السودان وجنوب السودان.أنجز البروفيسور رويسلر بحثا ميدانيا عن هذه الظاهرة في السودان وجنوب السودان، وقد فازت ورقته بجائزة غريقوري لوبيرت في علم السياسة المقارن من جمعية العلوم السياسية بالولايات المتحدة. ويعكف الآن مع الأستاذين بيبر وألكس ساكوكو من جامعة نيويورك علي انجاز بحث آخر يستغرق انجاز مسحه الميداني عدة سنوات عن تأثيرات الإنفصال علي الهوية والسلوك والتوجهات السياسية والهجرة في السودان.حاول بروفيسور رويسلر أن يطبق نتائج بحثه علي أحداث العنف في جنوب السودان في مقال منتزع من نظريته نشرته صحيفة الواشنطون بوست. أما البروفيسور محمود ممداني أستاذ العلوم السياسية في جامعة كولمبيا بنيويورك ومدير معهد مكريري للبحوث الإجتماعية بكمبالا فيقدم مقاربة مختلفة وهو يحلل جذور الصراع في جنوب السودان التي يردها الي نزوع القيادة السياسية الي إستخدام قوة الدولة عندما تحس بضعف شعبيتها وإرهاصات سحب الثقة وتهديد شرعيتها السياسية فتلجأ لتفكيك مؤسسات الدولة والحزب ونظمها الحاكمة للمساءلة والمحاسبة حتي تدين لها مقاليد السلطة والقوة. ويري ممداني أن منح الإمتيازات السياسية والمفاضلة الإقتصادية علي أسس الهوية الأثنية أدي الي زرع بذور الكراهية علي مستوي القواعد الشعبية مما رفع من مستويات التوتر الإجتماعي وساهم في إندلاع العنف. إعتبر الدكتور التيجاني عبدالقادر في ورقة غير منشورة أن مشاكل السودان هي تمظهر لتعقيدات الأزمة الإجتماعية في السودان بإعتبارها القاعدة التي تناسلت منها الأزمات السياسية والإقتصادية. وهو في مقاربته يردها الي الصراع الطبقي دون استخدام أدوات التحليل الماركسي وهو الأكاديمي الإسلامي العتيد. سادت في السابق مدارس فكرية ترد تفسير هذه الإضطرابات الي الإمتيازات التاريخية للنخب النيلية و أخري تتعلق بالهوية والتوجهات السياسية والدينية واحتكار الثروة والسلطة، كما أشار من قبل تيم نيبلوك في صراع السلطة في السودان ، ومحمد سليمان في صراع الموارد والهوية وفرانسيس دينق عن أزمة الهوية أو صراع المركز والهامش حسب المنادين بأيدلوجيا السودان الجديد.وقد رد د. منصور خالد علل السياسة في السودان الي فشل النخبة وتكلس الفكر السياسي. نستعرض في هذا المقال ثلاث مقاربات يغلب عليها طبيعة التحليل الأكاديمي الرصين ولكنها ترصد بميسم التحليل و حس التجربة الواقعية تمظهرات الصراع السياسي والإجتماعي والطبقي وتحاول سبر غور أسباب الإضطرابات والنزاعات في السودان وجنوب السودان.
التيجاني عبدالقادر: أيدلوجيا المفاصلة والثروة المنهوبة: يقف الدكتور التيجاني عبدالقادر أستاذ الفكر السياسي الإسلامي في الجامعات الأمريكية والإمارتية في ورقة غير منشورة علي أبعاد الأزمة الإجتماعية في السودان التي يعدها أس الأزمات التي نتج عنها تمظهرات المشكل السياسي والإقتصادي في سياقهما الراهن. ويعود الدكتور التيجاني عبدالقادر في تحليله الي ذات المبحث الذي أنطلق منه البروفيسور فليب رويسلر الذي يؤكد أن كل حركات التمرد في دولة ما بعد الإستقلال في أفريقيا انطلقت من الريف المهمش وليس من حواضر المدن. ولكن ينقل د. تيجاني توترات الصراع من مسرح الريف الي هوامش المدن الحضرية. ويري أن تفكك بنية الإقتصاد الريفي أدي الي بروز ظاهرة النزوح الجماعي من القري الي المدن، وأن أغلبية سكان الريف يخرجون ولا يعودون إليه ونزحت بعض الأرياف نزوجا جماعيا الي المدن مما أدي الي خلق فائض بشري وأشار الي أن الهجرة إرتفعت قبل خمس سنوات الي 10% مما كان عليه الحال عام 1973 وأن 49% من هؤلاء نزحوا الي ولاية الخرطوم. ويضع الدكتور التيجاني أصبعه علي موضع الداء والألم مشيرا الي أن هذا الفائض البشرى يعاني توهانا سياسيا وإقتصاديا، فهو قد فقد قيادته الريفية القديمة ولم تتوطن أقدامه علي أيلوجية جديدة أو مورد إقتصادي يعتاش منه وقد لفظه النزوح الي اطراف المدن في ظل فشل سياسي واضح فتصبح هذه الكتل النازحة مرتعا خصبا لدعوات "التطرف الديني" أو موردا سهلا للمليشيات القبلية التي يحركها أمراء الحروب. ويقول د. تيجاني في تحليله إن حالة الاحتقان النفسي والانفراط الاجتماعي التي يعاني منها مهاجرو الريف جعلتهم يحلمون باسترداد هوية ضائعة وثروة مسلوبة.لذا تبرز المليشيات العرقية المسلحة، أو التنظيمات السياسية المتطرفة لتكون موئلا لهذه الأحلام الضائعة والثروة المسلوبة وهو ما يصنع حسب تعبير د. تيجاني (أيدلوجيا المفاصلة) وهو ما يقود الي مغامرة الإنقضاض علي السلطة. ويرد في تحليله عن الأزمة الإجتماعية لهجرة فقراء الريف الي أطراف المدن أن هؤلاء ليس في مقدورهم الإندغام في النسيج الإجتماعي أو الإنتماء للطبقة السياسة الموجودة ولكن تركوا هذا الدور للجيل الثاني الذي ولد وترعرع في سياق الهامش الحضري بعد أن أقتنع الجيل الأول بحاله الساكن. وأشار الي أن الجيل الأول أكتفي بالحراك الجغرافي ولكن سيقوم الجيل الثاني من أبناء فقراء الهجرة الي هوامش المدن بالحراك الإجتماعي. ويواجه هذا الجيل تحدي إختراق النظام الإجتماعي والسياسي القائم علي شبكات وبني إجتماعية وسياسية رتبت النظم والقواعد للتحكم في مقاليد السلطة وموارد الثروة ومزيا الترقي الإجتماعي من خلال المؤسسات والأندية الرياضية والخدمة المدنية والنظامية والأحزاب السياسية. ويري الدكتور التيجاني عبدالقادر في تحليله أن "السلوك الاجتماعي والسياسي لأصحاب المركزالذي يقوم على الهيمنة على مفاصل السلطة والثروة والوساطة والمحسوبية والأثرة...هو الذي يسبب فقدان الثقة في النظام، وهو الذي يجعل المهاجرين وأبناءهم يعرضون عن التنظيمات القومية القائمة، ويلجئون إلى إحياء الشبكات القبلية، أو الانخراط في الحركات التكفيرية المتطرفة، أو الالتحاق بالمليشيات المقاتلة، وكل ذلك سيصب في اتجاه تشكلات اجتماعية جديدة تتحول تدريجيا الى مصدر من مصادر القوة الثورية الجديدة التي تقلب موازين السياسة في المركز". وعليه يري أن مصادر التوتر الإجتماعي تكمن في الجيل الثاني من فقراء الريف الذين يعيشون علي هوامش المدن. ويري أن القطب الآخر في الصراع الطبقي هم جيل الشريحة العليا في الطبقة الوسطي الذي يريدون الإحتفاظ بالمزيا والموارد التي ورثوها ويريدون المحافظة عليها وهؤلاء يغلب عليهم التجانس العرقي رغم إختلاف أنتماءاتهم وتوجهاتهم السياسية ويخافون من صعود جيل الهامش مما يهدد مكاسبهم التاريخية. لذا فهو يري الحل في إجراء مصالحة تاريخية بين قوي الصراع الإجتماعي الأساسية وهم الجيل الثاني من فقراء الأرياف الذين يعيشون علي هامش المدن الكبري ويطمحون الي المشاركة في مزايا السلطة وموارد الثروة وبين جيل الشريحة العليا من الطبقة الوسطي التي يجب أن تفسح المجال لهؤلاء للمشاركة في النسيج الإجتماعي والسياسي، وعليه فهو يري أن أس الأزمة الإجتماعية هي قضية عدالة إجتماعية لا بد أن يعي الجميع تعقيداتها والإسهام في حلها. رويسلر:جذور العنف في جنوب السودان في مقاربته عن جنوب السودان التي وضع أسسها في ورقته الذائعة (العدو من الداخل: الحكم الشخصي، الإنقلابات والحرب الأهلية في أفريقيا) يتساءل البروفيسور فيليب رويسلر لماذا تلجأ السلطة الي إستخدام سياسة الإقصاء الأثني مع تزايد مخاطرالحرب الأهلية؟. يرد علي هذا السؤال مشيرا الي أن هذا الخيار السياسي المكلف يعود الي ما يسميه إشكالية الإلتزام commitment problem في الأنظمة ذات الطابع الفردي الشخصاني أي التي يدين فيها الأغلبية بالولاء لزعيم واحد بين النخب. تسيطرهذه النخب مع الزعيم علي موارد قوة الجبر ومؤسسات الإكراه الدولة.وتقوم العلاقة بين الزعيم والنخب المشاركة له في الحكم علي الشك المتبادل لأنه لا يضمن أي فريق أن يستخدم قوة الجبر والإكراه التي تحت سيطرته ضد الآخر. وتتمسك النخب بالسلطة لحماية إمتيازاتها ومناصبها ضد القوة الصاعدة من الداخل التي تشكل تهديدا لوجودها. ومع بروز التهديد يلجأ الحكام الي إقصاء مناوئيهم لضمان بقائهم في السلطة. ولكن خطورة هذه الإستراتيجية إذا تم تنفيذها علي أسس عرقية تتزايد معها مخاطر الحرب الأهلية. وحسب نتائج دراسته يعتقد بروفيسور رويسلر أن الحكام في أفريقيا جنوب الصحراء يطبقون سياسة الإقصاء الأثني لحماية سلطتهم ويفضلون مخاطر أندلاع الحرب الأهلية في المستقبل علي قيام إنقلاب عسكري تلوح نذره في الأفق.وغالبا ما يقصي الحكام رفقاءهم الذين ساعدوهم في الوصول للسلطة أكثر من المجموعات الأخري في الطبقة السياسية الحاكمة. ولكن يتم ذلك مع تزايد مخاطر أندلاع حرب أهلية، وتثبت الأدلة حسب دراسة دكتور رويسلر أن الهجوم المضاد علي السلطة من قبل الحلفاء السابقين تتم خلال الثلاث سنوات الأولي بمعدل 16 مرة أكثر من فترة وجودهم في قمة السلطة. يعتبر رويسلر أن ما حدث في جنوب السودان بين سلفاكير ومشار هو صورة طبق الأصل لما حدث في معظم دول أفريقيا جنوب الصحراء عقب الإستقلال. وقال إن إستراتيجية الإقصاء الأثني في أفريقيا غالبا ما تقود الي محاولات إنقلابية مما يغرق الدولة في دوامة من العنف. يري رويسلر أن مصيدة الحرب الأهلية والإنقلابات يحدثان عندما تكون المؤسسات السياسية ضعيفة والمجموعات الأثنية قوية. ويظل العنف موزعا بين أقوي العناصر الحاكمة. خاصة عندما تكون مصادر الثروة الإقتصادية تتعلق بالسيطرة علي مقاليد السلطة والحكومة المركزية. في هذه الحالة فإن تحقيق السلام يتم بإتفاق يسمح للزعماء الأقوياء المشاركة في السلطة وفق تحالف وإتفاق سياسي معلوم. وتتيح هذه الصيغة للحاكم أن يوسع من قاعدة مساندته ودعمه ويتمكن من الحصول علي معلومات من خارج دائرة مؤيديه التقليديين لإحكام السيطرة علي منافذ السلطة وتأمين السلام ومنع إندلاع حرب أهلية. ولكن المخاطرة تكمن في أن مشاركة أعدائه السابقين في السلطة يجعل الحاكم متوترا ومعرضا لقيام عمل عسكري أو سياسي لعزله. ولعله من المفيد أن نلخص الأمر بالقول إن مشاركة المناوئين السابقين في السلطة وفق إتفاق سياسي علي أسس عرقية في ظل توفر مؤشرات لحدوث إنقلاب عسكري، يجعل الحاكم متشككا في نوايا حلفائه خوفا من أن تكون مشاركتهم في السلطة بغية تعزيز قوتهم توثبا للإنقضاض عليه في الوقت المناسب. هذه الأزمة هي ما يسمها البروفيسور رويسلر في دراسته مشكلة الإلتزام commitment problem وهي تعني حالة الإتفاق علي المشاركة في السلطة مع المجموعات الأثنية المناوئة في السابق في الوقت الذي يشعر فيه الحاكم أن مشاركتهم صورية لحين تملكهم وسائل القوة للإنقضاض عليه مجددا. هذه الحالة المضطربة من التشكيك المتبادل تخلق ما يسميه رويسلر مناخ إفشال الصفقة السياسية أو المساومة التاريخية في الدول الضعيفة لأنها تمنع الحاكم من الإلتزام الصادق بالصيغة المتفق عليها للمشاركة السلطة. وحتي لا يعمل علي تقوية مناوئيه في السلطة فإن الحاكم لا يقاسمهم كل السلطة أو يشركهم في مفاصلها الحساسة. يؤدي حاجز إنعدام الثقة الي تأمين مواقع القوة في الدولة بالسيطرة علي مؤسسات الجيش والأمن ووضع الموالين في المناصب الرئيسية لإضعاف فرص قيام إنقلاب مناويء. في المقابل تشحذ المجموعات الأخري المناوئة للحاكم داخل السلطة قواها وإتخاذ إجراءات وقائية تحسبا للأسوأ للدفاع عن أنفسهم وحماية مكاسبهم في السلطة. وتولد هذه الإحتكاكات وأتساع فجوة الثقة أزمة أمنية عميقة في الدولة مما يضاعف من فرص إقصاء المناوئين وإزاحتهم من السلطة بإعتباره الحل المتاح. ويدرك الحاكم إن عملية الإزاحة السياسية من السلطة أو خرق الإتفاق السياسي مع هذه المجموعات الأثنية التي صالحها وفقا لإتفاق مشاركة في السلطة ستؤدي الي إندلاع صراع مسلح عنيف بين المجموعتين في المستقبل. لكن يفضل الحاكم أندلاع حرب أهلية في المستقبل بدلا عن قيام إنقلاب عسكري ضده في اليوم التالي. ويري رويسلر أن هذا السيناريو هو الذي حدث بالضبط في الصراع الخفي بين سلفاكير ومشار. إذ قرر سلفاكير التلخص من مشار عندما أدرك أنه يبني في قوته السياسية لمنافسته مما يعني أنه يهدد مستقبله السياسي وسلطته السياسية في الحزب والدولة. ولإضعاف نفوذه السياسي قام سلفاكير بتقليص صلاحياته الرئاسية ومن ثم عزله لاحقا من منصب نائب الرئيس. وعندما حدث النزاع المسلح بين افراد الحرس الرئاسي أنتهز سلفاكير السانحة لإزالة التهديد الداخلي الذي يمثله مشار إما بالإعتقال أو القتل تحت دعاوي ومزاعم الإنقلاب ومن ثم التخلص أيضا من مسانديه ومؤيديه من أمثال باقان ودينق ألور. وفي المقابل أحتمي رياك مشار بقبيلته مما عقد أبعاد الصراع وجعل الإستهداف العسكري من قبل قوات سلفاكير يوجه بطريقة عشوائية ضد قبيلة النوير. هذه الوقائع التي تتمظهر فيها أحتمالات الحرب الأهلية تتشابه تماما مع أحداث الحرب الأهلية التشادية عام 1989 بين الرئيس حسين هبري ورئيس هيئة الأركان إدريس دبي، وكذلك الحرب الأهلية في ليبريا بين الرئيس صمويل دو ونائبه توماس كوينكوبا الذي تمرد عليه عام 1989. وفي حرب البحيرات العظمي في الكونغو بين نظام كابيلا وحلفائه السابقين من شرق الكونغو ورواندا عام 1998. ما حدث بين سلفاكير ومشار يشابه الي حد كبير الصراع الذي تم بين مجموعة الناصر بقيادة مشار وجون قرنق زعيم الحركة الشعبية السابق ، حيث شهد الصراع قتالا عنيفا ومجازر بشعة بين الجيشين خاصة في منطقة بور، مما قاد الي الإنشقاق الشهير وتوقيع إتفاقية الخرطوم للسلام ومن ثم عودة رياك مشار الي الحركة الأم مما مهد لتوقيع إتفاقية السلام الشامل. إن تتبع الخيط التاريخي للحروب الأهلية والسيناريوهات المشابهة لحالة جنوب السودان تبدو هامة في هذه اللحظة التاريخية. رغم توقعات إندلاع الصراع والحرب بين سلفاكير ومشار حسب السيناريو السابق ذكره إلا أن رويسلر يري أن مصيدة الإنقلاب والحرب الأهلية يمكن تجاوزها عن طريق بناء نظم حاكمة لحسم التنافس علي السلطة عبر مؤسسات الحزب الحاكم اي الحركة الشعبية. ويري رويسلر أن الحكام لا يمنحون الأحزاب الحاكمة صلاحية قوية حتي لا تطغي علي سلطتهم وحتي يتمكنوا من حماية أنفسهم ومنع أستخدام أجهزة الحزب لتقديم بديل ينافسهم أو يهدد سلطتهم.. ويري رويسلر أن سلفاكير لجأ لتحطيم مؤسسية الحزب لحماية نفسه وسحق معارضيه ومنعهم من أستخدام منابر الحزب لمعارضته، وقام بحل أجهزة الحزب وتأجيل المؤتمر العام لوقت لم يعلن عنه. وقال رويسلر إن سلفاكير إختار حكمه الشخصي علي خيار حكم الحزب، مما مكنه من الإحتفاظ بمنصبه رئيسا للحزب دون أي مهدد داخلي، ولكن كرست تلك السياسة لبقاء حالة الصراع علي هرم السلطة دون حل واتباع استراتيجيته مبهمة لا تسع لحل الأزمة. وهذا يعني حسب تحليل رويسلر أن جنوب السودان علي حافة حرب أهلية. محمود ممداني:ترميم السلطة وليس إقتسامها: يتجانف دكتور محمود ممداني المدير التنفيذي لمعهد مكريري للبحوث الإجتماعية وأستاذ العلوم السياسية في جامعة كولومبيا بنيويورك عن تبني الوصف التبسيطي الذي يرد ظاهرة العنف في جنوب السودان الي أنه صراع أثني بين الدينكا والنوير أو أنه صراع علي السلطة بين قيادات الحركة.ويري ممداني أن هذا التوصيف يغفل عاملا هامه يتمثل في صيرورة بناء الدولة، وتنازع ولاءات الأثنية المسيسة، وبروز المفاضلات الأيدلوجية. تعود الأزمة حسب تحليله الي تراجع الدعم السياسي والشرعية الشعبية لحكم سلفاكير الذي أحتكر أهم منصبين هما رئاسة الحزب الدولة، مما أدي بعد عملية الإقصاء الممنهجة ضد خصومه الي أن يواجه معارضة علي ثلاثة مستويات الفردي، السياسي والأيدلوجي. علي المستوي الفردي فإن بروزالمعارضة يعني تآكل قواعد سنده السياسي وضعف الثقة في قيادته وحكمه، ولمقاومة ذلك لجأ الي حل وتعطيل كل آليات التقصي والمساءلة والمحاسبة السياسية في الحزب والدولة حتي تدين له مقاليد السلطة والقوة تماما. علي المستوي السياسي فإن أسباب الصراع تعود الي مسيرة تكوين الدولة التي عمقت بصورة راديكالية من ظاهرة الأثنية المسيسة.ظهر هذا التسيس علي مستويين هما الجيش والإدارة المحلية. الجميع يعلم أن الجيش في جنوب السودان عبارة عن تحالفات لمليشيات محلية، يقودها جنرالات ينحدرون من تلك الأثنيات. في ذات الإطار فإن حكومة جنوب السودان جعلت سياستها في مجال الحكم المحلي قائمة علي ترسخ قاعدة الهوية الأثنية كأساس لخلق وأصطناع وحدات إدارية أدني.وبإستخدام قاعدة التمييز بالهوية الأثنية تمكن هؤلاء من التملك العرفي للأراضي وأحتكار التوظيف في المجتمعات الحضرية. أسهمت هذه السياسة في أصطناع الأمتيازات والتفضيل و الحصول علي الأراضي والوظائف علي أسس الهوية العرقية في زرع بذور العداء القبلي والكراهية الأثنية خاصة وسط القواعد المحلية التي تعتبر خليطا من معظم تلك الأعراق. علي المستوي الأيدلوجي جمعت أركان المعارضة ضد سلفاكير المجموعة التي كانت تنادي بإستقلال جنوب السودان والأخري التي كانت تهتف بإسم السودان الجديد تأسيا بأطروحة جون قرنق. زادت وتيرة العنف عقب تداعيات الصراع لأن الجيش في جنوب السودان يفتقد للهوية القومية والوطنية الجامعة، بل يعتبر أقرب في تكوينه وهويته ووصفه الي تحالف المليشيات المحلية. إن عدد الضباط الذين يحملون رتبة الجنرال في جيش جنوب السودان يفوقون معظم جيوش العالم، و اي ضابط ينضم الي الجيش الشعبي يمنح رتبة الجنرال، إضافة لذلك اعطي هؤلاء الجنرالات حق قيادة مليشياتهم داخل الجيش الشعبي فأصبحت المليشيا هي رتبة ولقبا عسكريا جديدا. وعليه يري ممداني أن التوصيف الصحيح أن ما حدث ليس إنقلابا أو محاولة تمرد للسيطرة علي السلطة ولكنها محاولة لإبطال صوت سحب الثقة من قيادة سلفاكير السياسية بتفكيك وتدمير كل آليات إعمال مبدأ المساءلة والمحاسبة لإحكام السيطرة علي السلطة. ويري ممداني أن الإيقاد أخطأت في معالجتها السياسية لأنها دعت الطرفين للتفاوض وهي منحازة في الصراع الي جانب سلفاكير ضد رياك مشار ، هذا إضافة الي دخول قوات يوغندية الي جنوب السودان التي يعلم الجميع أن تدخلها جاء لمساندة سلفاكير وهذا لا يقدم أي مسعي إيجابي للحل سواء علي مستوي الإقليم أو دولتي يوغندا وجنوب السودان. وأنتقد ممداني موقف الإيقاد وتكتل مجموعة شرق أفريقيا التي تنظر الي السودان بعين العداء، مشيرا الي أنه إضافة الي أهمية التعاون السياسي والإقتصادي بين دولتي السودان أشار الي المكون الهام من أبناء جبال النوبة في الجيش الشعبي الذي يمثلون الأغلبية في سلاح المدفعية ، مما قد يؤدي الي تفاقم الخلافات الداخلية. وقال علي الإيقاد تجديد تفكيرها السياسي والقبول بالسودان عضوا فاعلا في المجموعة مؤكدا أن السودان سيستخدم كل كروته للتأثير علي النتائج النهائية للإتفاق والتسوية السياسية. ويري ممداني أن الدعوة للمشاركة في السلطة لعلاج الأزمة تغفل حقيقة أساسية وهي أن الصراع ليس بين قوتين فحسب ولكن إنقسام السلطة هو الذي تسبب في إشعال الصراع. لذا فإن علاج المشكلة يبدأ بإعادة ترميم تلك السلطة والقوة وليس إقتسامها وكذلك إعادة بناء إرادة الأغلبية في الحزب والدولة. كما أدي الصراع علي السلطة الي إضعاف الحد الأدني من قدرات آليات المحاسبة والمساءلة والتحقق. إن شروط تحقيق السلام داخليا أو خارجيا لا تتأتي دون تجديد الأفق والعقل السياسي للإيقاد وتوفر قيادة سياسية جديدة لجنوب السودان. إن الحل الذي قدمته المقاربات الثلاث حسب ظني يتلخص في إجراء مساومة تاريخية في السودان وجنوب السودان وتجديد القيادات السياسية وترميم السلطة وليس إقتسامها. فالصراع في السودان حسب رؤية الدكتور التيجاني عبدالقادر هو صراع إجتماعي أو طبقي علي غير هوادي النظرة الماركسية لأنه لا يقوم علي إحتكار وسائل الإنتاج، و يقتضي الحل إجراء مساومة تاريخية بين الجيل الثاني من فقراء هوامش المدن الذين نزحوا من الريف وبين الشريحة الأعلي من الطبقة الوسطي التي ورثت إحتكار الإمتيازات التاريخية من خلال المؤسسات والوظائف والأندية والتحكم في موارد الثروة ومواقع السلطة. وتعيد هذه المقاربة أنتاج نظرية المركز والهامش ولكن بأسس جديدة لأن المقصود ليس الهامش البعيد في أطراف السودان. ولكن هوامش المدن التي تضم فقراء الريف الذين نزحوا تحت ظل الفقر والحاجة والعوز والحروب والكوارث للإحتماء بمراكز المدن الحضرية وهم يتطلعون للترقي الإجتماعي والمشاركة في إمتيازات السلطة والثروة فصدتهم المدينة وامتنعت عن استيعابهم ضمن نسيجها الإجتماعي والثقافي والسياسي، ويكمن الحل في حدوث تراضي ومساومة تاريخية تسمح لفقراء هوامش المدن بالمشاركة في هذه الإمتيازات والحقوق ولا يتم ذلك إلا بأن يتنازل جيل الشريحة العليا من الطبقة الوسطي من بعض هذه الإمتيازات لإستيعاب فقراء الريف في هوامش المدن. ذات المساومة التاريخية يتعرض لها البروفيسور رويسلر في سياق تحليله لظاهرة العنف والصراع السياسي في جنوب السودان. وهي مساومة تتطلب التراضي علي قسمة السلطة والثروة مع المجموعات الأثنية المتضررة من إحتكار فئة غالبة لموارد الثروة ومقاليد السلطة. وأن يتم بناء نظم وتقاليد سياسية لتنظيم التنافس السياسي عبر مؤسسات الحزب. وحسب مقاربته ودراسته لحالة الحروب والإنقلابات في أفريقيا فإن أي إتفاق يقوم علي محاصصة أثنية في السلطة دون أنشاء مؤسسات قوية تتفوق علي قوة المجموعات القبلية سيقود الي الاحتكاكات وتدني الثقة ويفضي الي الإزاحة والإقصاء نسبة لحالة التشكيك المتبادل فتعود نذر الإنقلابات والحرب الأهلية تلوح في الأفق من جديد. يسبح البروفيسور ممداني خارج السياق التحليلي للدكتور رويسلر إذ يري أن أسباب الصراع الحقيقية هو إستخدام القيادة السياسية لموارد السلطة والقوة لمنع المناوئين من سحب صوت الثقة والعمل لتفكيك آليات المحاسبة والمساءلة والتحقق القانوني في الحزب والدولة. ويري ممداني علي عكس رويسلر أن الحل ليس في إقتسام السلطة علي أسس أثنية ولكن في إعادة ترميم تلك السلطة. ويتفق ممداني مع الدكتور رويسلر في أن حكومة جنوب السودان جعلت الإمتيازات الإقتصادية والسياسية مثل تملك الأراضي عرفيا وإحتكار التوظيف قائم علي قاعدة التمييز والمفاضلة علي أسس الهوية الأثنية مما أدي الي تغذية الشعور بالكراهية بين القواعد المحلية و تهتك النسيج الإجتماعي ورفع وتيرة الصراع. سواء أصابت هذه المقاربات الثلاث في تحليل أسس الصراع الإجتماعي والسياسي في السودان وجنوب السودان أم لا، ولكنها ساهمت في ابتدار النقاش والجدل لترقية الوعي والإدارك بتعقيدات الواقع السياسي والإجتماعي..فقد رمي الدكتوران التيجاني عبدالقادر ورويسلر والبروفيسور محمود ممداني ثلاثة أحجار في بركة مياه السياسة السودانية شمالا وجنوبا ويكفي أن يكون الوعي هو أول مسالك الخروج من وحل الأزمات الراهنة. (نشر في صحيفة السوداني)
|
|
|
|
|
|