عندما شاهدت في مقطع مصور ثابت، دماء أطفال مدينة هيبان المكلومة وهي تسيل على مذبح إغتيال البراءة تذكرت بلبل الثورة السورية في بداياتها الفنان الشهيد إبراهيم القاشوش، وهو ينشد بصوته الرخيم "يا حماة نحن معاكي للموت"، ومنيت نفسي الحزينة أن تصرخ بغضب مزلزل، وهي تشارك كل الشعب السوداني حزنا بحزن وألما بألم في مصابه القومي الجلل، وهو حزنه الصامت وغضبه المكتوم في مذبحة البراءة بمدينة هيبان الصمود....
منيت النفس أن تشارك جموع الشعب السوداني الهادرة الغضب المكبوت في صدورنا سنينا عددا، ونهتف جميعنا، في الشمال والجنوب والشرق والغرب، وفي كل المدن والقرى والفرقان والدساكر والجبال والأنهار والوديان والبطاح والرهود والصحارى والغابات، ونحن نردد بالصوت الغاضب.. يا هيبان نحن معاكي للموت... نتشارك وأيدينا تتشابك في مسيرات هادرة، عنوانها "اغضب"، وهي قصيدة الشاعر فاروق جويدة، التي قال فيها:ـ
اغضب فإن الله لم يخلق شعوبا تستكين ** اغضب فإن الأرض تحني رأسها للغاضبين. اغضب ستلقى الأرض بركانا ويغدو صوتك الدامي نشيد المتعبين** اغضب فالأرض تحزن حين ترتجف النسور** ويحتويها الخوف والحزن الدفين** الأرض تحزن حين يسترخي الرجال مع النهاية.. عاجزين.. اغضب.. فإن العار يسكننا ويسرق من عيون الناس.. لون الفرح يقتل في جوانحنا الحنين.. أرفض زمان العهر والمجد المدنس تحت أقدام الطغاة المعتدين...
ارتكب النظام الذي جعل من قتل الأطفال والشيوخ واغتصاب النساء ميدانا لغزواته ونتصاراته، المجزرة الرهيبة بحق أطفالنا بمدينة هيبان الصامدة، واغتالهم بدم بارد لينضموا إلى ركب الشرف الوطني وقائمة شهداء الوطن الطويلة، اغتال البراءة فيهم غدر وغيلة، ولكنه أحى بموتهم جذوة الغضب الكامن فينا... اغتالهم وهو يبتسم، وما درا كيف لطفولة أن تموت، كيف لنور أمل أن يصير ظلمة يأس، كيف لطيور بحجم الأرض أن تهوي، سيظل هؤلاء الأطفال أحياء في نفوسنا ما دامت الشمس تشرق وتغرب، وسيظلون شعلة أمل يمنحون حياتنا الكثير عبر موتهم واستشهادهم، فهم كغيرهم من الأطفال يحلمون بغد مشرق ووطن معافى وخبز وسلام وحرية، ونحن ملزمون بتحقيق أمنياتهم ما دمنا أحياء، ملزمون بتحقيق حلمهم الصغير الكبير الذي مات معهم بفعل ورغبة وإرادة فاعل رعديد يسكنه الخوف والجبن ويتملكه التيه والجنون.
قتلوا أطفال هيبان إرهابا لأهلهم الثائرين، وظنوا واهمين بأنهم يستطيعون أخماد جذوة نار القضية الحية بموتهم، وليتهم يعلمون بأن الشهداء أطفالا وكبارا لا يموتون، فسكون الموت مفردة أضيق من أن تستوعب أرواح سامقة ترفرف بأجنحة الحرية والأمل، فالشهداء هم الجانب الحي فينا لأنهم يمنحون دوما للحياة معني وللجدب اخضرارا ولليأس أملا، يمنحون للظلام ضياءً، وللفجر ألقا، فشهداءنا اليوم هم وقود الثورة القادمة التي سوف تقتلع اليد التي تقتل وتبطش، وتصحي الضمائر التي ماتت، وتحي القلوب التي تحجرت، وتُنير العقول التي غطاها الجهل والتعصب وأمتلكتها روح العنصرية النتنة.
من المؤكد والمعلوم بداهة بالضرورة، أن هؤلاء الأطفال لا يدرون لماذا قُتلوا، وباي ذنب أُنتهكت براءتهم، وكيف تم إغتيال طفولتهم، ومصادرة مستقبلهم، هل لأن أهلهم قالوا لا في وجه الظلم؟، هل لأن قدرهم جعلهم تحت رحمة من لا يرحم، وهل يستطيع القاتل الأعظم الجنرال عمر حسن البشير طريد العدالة الدولية، وملعون الثكالى النائحات على فقد فلذات أكبادهن، أن يجاوب على أسألة هؤلاء الأطفال؟، يوم يقوم الناس حفاة عراة أمام محكمة رب العالمين، ويسأله أطفال هيبان وكل أطفال السودان هذه الأسئلة، وبقانون الواحد الأحد العدل الصمد أن كل إجابة تصدر منه ستهوى به أربعين ألف خريف في نار جهنم خالدا فيها مخلدا بعد أن سقط عميقا في امتحان الإنسانية وتمت إدانته أمام محكمة الضمير ومقصلة الأخلاق.
لا أدري حتى متى ندخر هذا الغضب... ومتى يحين وقته.. لم نغضب حين كان شعب الجنوب يُقتل ويُباد.. حتى رحل.. لم نغضب حين تم تشريد أهالي وداي حلفا وأبيدت ثقافة وآثار شعب بأكمله... لم نغضب حين تم حرق دارفور وما زال حريقها مستمرا.. لم نغضب والموت المقيم يسكن جبال النوبة والإنقسنا وسفوح جبل مرة .. لم نغضب حين روت دماء أبناء كجبار الشرفاء أرضهم الصامدة... لم نغضب حين سالت دماء أبناء شرق السودان شلالا روى شوارع مدينة بورتسودان الثائرة..لم نغضب حين حصد الموت الغادر دماء شباب هبة سبتمبر المجيدة في قلب العاصمة الخرطوم. لم نغضب حين استشهد محمد الصادق ويو، وأبوبكر الصديق.. فليكن موت أطفالنا في مدينة هيبان باعثا لكل أسباب الغضب التي لم تحرك فينا شيئا من قبل.
عذرا أطفالنا الأعزاء نحن مشغولون بخلافاتنا الصغيرة، ومنصرفون عنكم بمطارة عبث الإختلاف سياسيا واجتماعيا، منعزلون داخل ذواتنا بعيدا عن ضحكاتكم وابتساماتكم ودموعكم وصرخاتكم، وألعابكم البريئة، تقودنا ذاتيتنا وأنانيتنا لإدارة شؤوننا الخاصة، متناسين سداد دين حق المواطنة والمساكنة والإخاء. وما زال عار هروبنا الجماعي من وطن تركناه فريسة للغول العابث الراقص يقبح أعماق دواخلنا، تركناكم وظهوركم مكشوفة لمغول العصر وتتار الزمان وفوضى الغجر. فنحن كلنا مدانون ومدينون لكم بالقصاص والثأر، في ذات الوقت، لا استثنى إلا من مات شهيدا لأجلكم، ومن حمل روحه فداء لكم وهو في خندق النضال ينتظر.
أيها الشهداء الذين هم أكرم منا جميعا إن دمائكم الطاهرة قد أيقظت بركان الغضب الكامن فينا، وجمعت كلمتنا أشلاءكم المبعثرة على أديم أرضكم المغتصبة، ورسمت دمائكم المسفوحة لوحة قوس قزح الوحدة فينا، وعما قريب سنهتف بصوت واحد، القصاص مصير الأنجاس. المجد لكم، والذل والعار لأصحاب الضمائر الميتة الذين يرون في قتل النساء والأطفال انتصارا لنفوسهم المريضة وذواتهم المظلمة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة