|
يا لذاك الزمان: شيوعي قديم يندس في صفوف المستقلين! بقلم د.عبدالله محمد سليمان
|
04:05 PM May, 10 2015 سودانيز اون لاين عبدالله محمد سليمان- مكتبتى فى سودانيزاونلاين
جئت مع بعض زملائي من أبناء الدفعة ذات مساء من داخليات البركس لدار اتحاد طلاب جامعة الخرطوم المجاور لسينما النيل الأزق والمطل على شارع النيل. وكعادتنا كنا نبدأ بمطالعة الجرائد الحائطية للاتجاهات المختلفة حيث كانت تعلق متجاورة على لوحات خشبية بامتداد صالة الدار. وكنا نمر علي العناوين مسرعين وربما استوقفنا ما يستحق القراءة المتأنية ، ولكن في أغلب الأحيان لا يستغرق الاطلاع على الصحف مني خاصة أكثر من الذي يتيح قراءة العناوين الرئيسة ، ولا يتجاوز ذلك في أغلب الأحيان النصف ساعة على كثرة الجرائد الحائطية المعلقة. ولم يكن يدور بخلدي يوما أنني سأكون عنوان رئيس (مانشيت) للجريدة الحائطية لأحد أبرز الاتجاهات السياسية في جامعة الخرطوم آنذاك وهو الاتجاه الإسلامي. والحق أنني مثل بعض زملائي عشت في بيئة يغلب عليه الأثر الصوفي الختمي ونشأت فيها مع إخواني وأقاربي وجيران لنا وأصدقاء من بينهم المستنيرين من العاملين في مصلحة السكة حديد وميناء بورتسودان وشركاتها ومرافقها المختلفة. وعايشت مثل كل أبناء جيلي الظروف السياسية المحيطة في السنوات التي أعقبت الاستقلال وتميزت بزخم ثورة يوليو المصرية وحركات التحرر الوطني وغير ذلك من الأحداث وكل هذا أسهم في تشكيل وعي جيلنا في مقبل الأيام. مع هذا لم أكن منتميا في كل مراحلي الدراسية لأي تنظيم سياسي. المرحلة الابتدائية أو الأولية كما كانت تسمى على أيامنا ليست بطبيعة الحال مرحلة وعي بأي أمور سياسية ذات بال. في المرحلة المتوسطة ( بورتسودان الأهلية الوسطى) كان معلمنا في مادة الرياضيات الأستاذ الجليل عثمان محمد عبده حيا الله ذكراه. وهو من أبناء وادي حلفا ومن غلاة الرافضين لتهجير مواطني حلفا إبان حكم الفريق عبود. احتشدت المظاهرات المناوئة للتهجير في شوارع بورتسودان وطرقاتها يوما ، وامتلأ الشارع المؤدي لمحطة السكة حديد قبالة المدرسة ، وجاء أستاذنا عثمان عبده يدعونا للخروج للمشاركة في المظاهرات ولم يكن ممكنا أن نرفض له طلبا. وخرجت المدرسة كلها بأساتذتها وعمالها وتلاميذها وشاركت ، وكانت تلك أول تجربة لي ولرفاقي مع الغاز المسيل للدموع ، كما كانت تلك الفترة بأحداثها أول لبنة من لبنات الوعي السياسي إن جاز لي أن أسميها . في المرحلة الثانوية ( بورتسودان الثانوية) زاد إدراكنا بأمور السياسة حيث كنا نشارك في المظاهرات أحيانا ضد نظام الفريق عبود، ونغشى بعض الندوات والليالي السياسية وغيرها في منتديات المدينة. وجاءت ثورة أكتوبر 1964م وأحدثت حراكا سياسيا كبيرا حفزني لإنشاء قصيدة ألقيتها في ذكراها الأولى من على مسرح المدرسة أنالتني جائزة الشعر الأولى. وكنت قانعا بذلك غير عابئ بالمشاكسات السياسية التي كانت بارزة بين التيارات المختلفة في المدرسة ، زاهدا في الانتماء لأي منها ، وقد أعانني على ذلك أنني كنت طالبا "خارجيا" أسكن مع أهلي ولا أقيم في الداخلية ولهذا لم يظفر بي أولئك الذين كانوا يدأبون في تجنيد الطلاب لتنظيماتهم. حين أتيت وزملائي لجامعة الخرطوم كان التنافس والصراع محتدما بين كافة التيارات السياسية في الجامعة في السنوات الأخيرة من عقد الستينات قبيل انقلاب مايو 1969م. وكنت وزملائي نأنس بحضور الندوات والملتقيات التي تعقدها الاتجاهات المختلفة فقد كنا نفيد من بعضها ونتسلى بالأخرى . لم يكن آنذاك ثمة ما يشغلنا خاصة في العصريات بعد أن نكون عدنا من المحاضرات وتناولنا وجبة الغداء وأخذنا قسطا من الراحة. وكان مما يشجعنا على الحضور أن معظم تلك اللقاءات تعقد في القاعات أو الحجرات العامة في الداخليات بالبركس ولا يحتاج حضورها التجهيز وقطع المسافات والاستعداد بزي معين كما هو الحال حين الذهاب للمحاضرات أو دار الاتحاد أو دور السينما أو غيرها من الأماكن التي كنا نرتادها ، ولذلك كنا نذهب إليها بالجلابية أو أي ملابس أخرى عادية ( casual ). في إطار ذلك النشاط الطلابي المعروف واستعدادا لمعركة انتخابات اتحاد الطلاب نظمت مجموعة من الطلاب "المستقلين" لقاءً حضرته صدفة مع بعض زملائي. ولم يكن العدد الذي حضر اللقاء كبيرا. وتكلم أحدهم عن الطلاب المستقلين ال (floaters ) وأنهم أغلبية لا صوت لها ولابد أن يحظوا بالتمثيل في اتحاد الطلاب وسمعنا وتفرقنا. وفي المساء فوجئت واثنين من زملائي أن أسماءنا أدرجت في قائمة المستقلين العشرين التي أعلنت لخوض الانتخابات. وعندها ذهبنا نستنكر هذا ونعتب على الذين نظموا اللقاء أنهم اعتبروا مجرد حضورنا للقاء موافقة على إدراج أسمائنا في قائمة الانتخابات. الذي حدث أن احتجاجنا بلغ القائمين على جريدة "آخر لحظة" الناطقة بلسان الاتجاه الإسلامي ولعلمهم أن انسحابنا إن تم سيسقط قائمة المستقلين والتي ربما كان لهم مصلحة ما مع من أعدوها ، سارع محرروها إلى ذلك السبق الصحفي ( عبدالله محمد سليمان – شيوعي قديم يندس في صفوف المستقلين !) إي أنني اندسست قصدا لأنسحب وتسقط القائمة . والغريب أن أسماءنا - رغم الاحتجاج الذي أبديناه - ظلت كما هي في قائمة المستقلين حتي جرت الانتخابات. ومع ذلك كما يقول المثل الانجليزي (add insult to injury رش الملح على الجرح) لم يتسن لأي منا "نحن المستقلين" الفوز لنيل عضوية المجلس الأربعيني! والأغرب من هذا أنهم خصوني بهذه "التهمة" دون الصديقين الآخرين، فأيقنت أن في الأمر وشاية ، ذلك أنني لم أكن معروفا في الوسط الجامعي إلا لأصدقائي وزملائي .ولعلي أزيدكم عجبا بشرح الطريقة التي كنت أصوت بها طيلة سنواتي في جامعة الخرطوم بما فيها تلك التي كنت فيها مرشحا "رغم أنفي " في قائمة المستقلين. وهي أنني كنت أتخير من بين القوائم من أرى التصويت له بمعاييري الخاصة. لم يكن ممكنا ألا أصوت للشاعر الخلوق الإنسان المبدع الراحل على عبد القيوم رحمه الله ، أو ألا أصوت للأستاذ المخرج المسرحي الرائع الذي أتحفنا بإخراجه لمسرحيات سنظل نذكرها قدمها من على مسرح قاعة الامتحانات بالجامعة (Exam Hall) الأستاذ عثمان جعفر النصيري ، وهما من قائمة الجبهة الديمقراطية. ولم يكن ممكنا ألا أصوت لصديقي المرحوم صاحب الخلق الرفيع الباشمهندس حسن محمد علي التوم أحد أبرز خبراء البترول في بلادنا رحمه الله ، أو ألا أمنح صوتي للطالب وقتها الرجل الرزين الخلوق البروف الطيب زين العابدين أستاذ العلوم السياسية المعروف حاليا ، وهما من قائمة الاتجاه الاسلامي . ولم يكن ممكنا ألا أصوت للطالب وقتها الشاعر الغنائي المبدع الصحافي القامة فضل الله محمد الذي عاصرنا معه بدايات تعاونه الفني وميلاد أغنياته على لهاة الفنان الرائع محمد الأمين من على مسرح دار اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وفضل الله من قائمة الاشتراكيين الديمقراطيين. هؤلاء وآخرين من زملائنا الطلاب والطالبات من قوائم التيارات الأخرى هم ممثلو "حزبي" الذين كنت أختارهم وأصوت لهم. ولم أكن وحدي في هذا السلوك الانتخابي إن صح التعبير، فمن زملائي من كانوا يتخيرون من بين قوائم المرشحين من الاتجاهات المختلفة ويصوتون لهم وفق معاييرهم الخاصة أيضا. الذي أحزنني في تلك الحادثة وصف آخر لحظة لي أني "اندسست" في صفوف المستقلين، وهو فعل خسيس لا يرضاه خلقي ولا تسمح به سيرتي وسط زملائي. أما كوني "شيوعي قديم" فكنت يومها سأقول "إنها تهمة لا أنكرها وشرف لا أدعيه" لو كان لي أدى صلة تنظيمية بالشيوعيين لكنها، كما ظهر لي، وشاية فوضت فيها أمري إلى الله. و يا لذاك الزمان!
مواضيع لها علاقة بالموضوع او الكاتب
- النخبة السودانية: مشلعيب الخيبات (5) بقلم د.عبدالله محمد سليمان 05-07-15, 04:04 PM, عبدالله محمد سليمان
- يا لذاك الزمان: لكزة لصنمنا الجميل ! بقلم د.عبدالله محمد سليمان 05-04-15, 11:14 PM, عبدالله محمد سليمان
- النخبة السودانية: مشلعيب الخيبات (4) بقلم د.عبدالله محمد سليمان 04-30-15, 03:24 PM, عبدالله محمد سليمان
- النخبة السودانية: مشلعيب الخيبات (3) بقلم د. عبدالله محمد سليمان 04-23-15, 06:12 PM, عبدالله محمد سليمان
- النخبة السودانية: مشلعيب الخيبات بقلم د. عبدالله محمد سليمان 04-18-15, 04:55 PM, عبدالله محمد سليمان
- النخبة السودانية : مشلعيب الخيبات ! بقلم د. عبدالله محمد سليمان 04-11-15, 02:45 PM, عبدالله محمد سليمان
- محجوب شريف: روح تضيئ شرفات الوطن 04-14-14, 03:01 PM, عبدالله محمد سليمان
- الحوار المستدير إلى روح شاعر الشعب العظيم: محجوب شريف 04-08-14, 03:39 PM, عبدالله محمد سليمان
- (رؤوس أقلام) د.عبدالله محمد سليمان على مشارف الذكرى: الاستقلال والمشروع الوطني 12-17-13, 05:30 PM, عبدالله محمد سليمان
- مانديلا: وداعا رسول المحبة والسلام د.عبدالله محمد سليمان 12-11-13, 06:08 AM, عبدالله محمد سليمان
|
|
|
|
|
|