أرسل عمر بن الخطاب إلى سعيد بن عامر الجمحي (رضي الله عن كليهما) ، ليقول له ما معناه بلغة اليوم: أريد أن أعينك واليا. لم يستخف سعيدا الفرحُ، فيذبح الذبائح، ويولم الولائم؛ ولم يتلقَّ التهاني، ولم يمنِّ النفس بالأماني، ولا بفارهات السيارات، ولا شاهقات المباني؛ بل اهتمّ للأمر جدّا واغتمّ، وأراد أن ينجو بجلده من هذه المسؤولية ومن هذه الأمانة، ومن الحسرة والندامة يوم القيامة؛ فلم يشكر الخليفة على "حسن ثقته"، ولم يَعِد الخليفةَ بأنه سيكون عند حسن ظنه؛ بل انبرى له يستعطفه ليعفيه من هذا "التعيين" الذي يعده فتنة عظيمة، ولا يرى نفسه أهلاً له: "اتق الله يا عمر ، ولا تفتنّي!"كان عمر يعلم في قرارة نفسه أن سعيدا هو الرجل المناسب في المنصب المناسب، فلم يعفه، بل ذكّره بأن "حبل المسؤولية" ملفوف حول رقبته هو أيضاً منذ أن اختير خليفة، فقال له ما معناه بدارجتنا: تعلقون الخلافة والمسؤولية على رقبتي ثم تريدون أن تتركوني لوحدي؟ والله لن أدعك!واصل الخليفة إجراء التعيين غير آبهٍ، فأوضح لسعيدٍ (الوصف الوظيفي) لمنصبه حين قائلاً له ما معناه: لقد عينتك والياً على أناس لستَ أنت أفضل واحد فيهم (يعني: لا تظن نفسك أفضل منهم باختياري لك والياً عليهم)، ولم أبعثك عليهم لتضربهم، أو لتثقل عليهم، أو لتنتهك أعراضهم، ولكن لتجاهد بهم عدوهم ، وتقسم الفئ (ما يقابل الدخل أو الثروة) بينهم بالعدل.كان ذلك حين ولاه على حمص. ثم لما زار الخليفة بلاد الشام وجد سعيداً بن عامر والياً فقيراً لا يملك غير فرسه وسلاحه وعتاده. وكان له نصيبه المحدد شرعاً مثله مثل سائر الجند. فقال له الخليفة ما يعادل بلغة اليوم: "ألا تريد علاوات وبدلات وإكراميات؟" فقال ما معناه أيضا: يكفيني راتبي، وهو عليّ كثير. فلما رأى الخليفة أن الناس يحبوب (جناب) الوالي مع أنه لا يملك من المال ما يتحبب به إلى الناس (بالهدايا والولائم والعطايا)، سأله: "إذن لماذا يحبك أصحابك؟" فأجاب: لأني أواسيهم بنفسي وأعدل بينهم في حكمي. وكان رضوان الله عليه إذا (استلم راتبه) قسم لأهله حق قوتهم وتصدق بالباقي. وكان هدفه أن يموت فقيراً، لم يكتنز ديناراً ولا درهماً، لأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجيء فقراء المسلمين يُزفون كما تزف الحمام، فيقال لهم : قفوا للحساب ، فيقولون : والله ما تركنا شيئا نحاسب عليه ، فيقول الله عز وجل : صدق عبادي ، فيدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما ، وقيل سبعين.وكان وهو في مجلس الولاية تأخذه غشية بين الحين والآخر، والسبب أنه كان يتذكر ذنبا ارتكبه وهو فتيً لما يزل مشركاً في مكة. فقد مثلت قريش بجسد الصحابي خبيب بن عدي قبل قتله، وكان سفهاؤهم يعذبون خبيباً بتقطيع لحمه ويقولون له: " أتحب لو أن محمدا (رسول الله صلى الله عليه وسلم) مكانك، وأنت سليمٌ معافى؟...فيجيبهم خبيبٌ قائلاً: والله ما أحب أني معافىً في أهلي وتصيب محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم شوكة". حدث ذلك وسعيدٌ كان مشركاً فلم يتحرك لنصرة خبيب. فكان كلما تذكر ذلك الموقف ارتجّ في داخله خوفاً من عذاب الله عز وجل إنْ لم يغفر له، فتغشاه تلك الغشية.لقد رأى سعيدٌ بأم عينيه تضحية خبيبٍ وجهاده فاستلهمهما.قلنا: كان هدف سعيد أن يلقى ربه فقيرا، مع أنه عاش مجاهداً عاملاً؛ لم يكن يريد أن يجني ثمرة جهاده وعمله في الدنيا، بل يريد أن يدخر الله له ذلك في الآخرة.وكان لا يخرج من بيته إلى (مكتبه) إلا بعد أن يعد الخبز لأهله بنفسه؛وكان يأخذ عطلةً يوماً واحداً كل أسبوعين، ليغسل ثوبه الوحيد؛وكان مشغولا نهاره بالرعية، وليله بعبادة ربه؛كان والياً لم يرد بالولاية لا سمعة ولا وجاهة ولا مجداً ولا ثراء.كان يرى التعيين والمنصب أمانة ومسؤولية وتكليفا، وليس تشريفاً.في عام 20 هجرية لقي سعيدٌ ربه، بعد أن أمضى (فترة الولاية) مجاهداً عاملا، مشتغلاً بحاجات الناس، وحاجات أهله، وبعبادة ربه؛ لقي سعيد ربه فقيرا معدماً كما أراد؛ رجلٌ فقير معدم يترك سيرة غنية حافلة، وصفحة نقية ناصعة، وسيرة تضمخ التاريخ بأريجها. مات سعيد ولم تمت القدوة التي تركها. أحدث المقالات
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة