|
وفي أنفسكم أفلا تبصرون..
|
عكس الريح
د.معزعمربخيت [email protected]
وفي أنفسكم أفلا تبصرون..
تتوسد الأحاسيس مقاطع الصدق في زمن الفجيعة والرهبة العظيمة، والناس بين توارد الخواطر وشغف الأمسيات الحالمة تولوا ركائز النميمة وإسقاط الآخرين عن عوالم النجاح حتى يدركهم الليل الذي لم يلتق بصبح النماء في وطن حميم. أقول هذا ولا أجد سبباً لأن يكون وطننا آخر المصاف في عالم التقدم وهو الغني بثرواته العلمية والثقافية والفنية والإعلامية والعسكرية غير مقتنياته الطبيعية من نفط وثروة زراعية وحيوانية ومعدنية وانتمائية تجعله متفرداً في كل شيء. ترى لماذا إذن وطننا بعيداً في تطوره عن بقية دول العالم حتى المجاور منها؟ الفساد؟ نعم هو موجود لكنه كغيره من الدول الأخرى؟ عدم التوزيع العادل للثروات؟ وهو كذلك لكن لماذا حتى المناطق المستأثرة بالثروة متخلفة؟! الحرب؟ فلنقل هي لكن حتى الدول التي تعاني من ويلات الحروب الأهلية تفوقنا تقدماً!! هل هو الإنسان السوداني؟ بلى هو كذلك، ولكن كيف؟؟.. السوداني شهم وكريم وشجاع ومثقف، يراعي الضيف ويحفظ العشرة ويحترم الأديان، وهو مسامح يحب الخير للآخرين ولكن.. ليس لأهل بلده!! فالسوداني نادراً ما يحب الخير للسوداني الآخر، ومتى ما برز أحدهم تسابق من تسابق في نبش ماضيه السالب ومعرفة خصوصياته التي يسميها العامة (شمارات) وصنع القصص وحبك الروايات فترى المثقفين يتداولون الأمر وكأن صاحب هذا النجاح اقتطع من لحمهم جزءا وترى النسوة يقولون (فلانة حلفت وقالت) وهاك يا غيبة ونميمة. ما جعلني أتطرق لهذا الأمر وبحزن إيجابي أنه قد حدثت لي ثلاثة مفارقات وفي أقل من أربعة وعشرين ساعة لوثت للأسف الشديد جميع رواياتها أذني. في الرواية الأولى، كنت مع نفر من المثقفين والمتعلمين نتحدث عن رواية أحلام مستغانمي الأخيرة «عابر سرير» وتطرق الحديث كذلك للراحل محمد شكري وروايته الشهيرة «الخبز الحافي» فجعل هذا الجمع من الكاتبة الجزائرية والكاتب المغربي أساطيرا في عالم الرواية، وعندما تطرق الحديث لكاتبنا العبقري «الطيب صالح» تحدثوا بسلبية لا مبرر لها والبعض شكك حتى في مقدراته الكتابية!! هذا الرجل الذي صنع للسودان مجداً لا يشترى بثمن يتحدث عنه أبناء ملته بهذه الصورة وفقط لأنه سوداني ناجح!! لم يطل حزني طويلاً حتى جاءت فاجعة أخرى بدلت ذلك الحزن لآلام قاتمة ذات أثر عميق على بعد الداخل المثخن أصلاً بظلم ذوي القربى حين تحول الموضوع ليتناول شخصية سودانية أخرى. هذه المرة تحدثوا عن رجل أعمال سوداني ناجح بكل المقاييس العلمية لكنهم لم يتركوا للرجل جنباً يرقد عليه وكالوا له من الإتهامات ما تعجز كل نقابات المحامين في أمنا الأرض من أن تجد له مخرجاً منها، لكنني آخر المطاف فوجئت بأن هذه النخبة لا تملك أي دليل أو حتى إشارات تدينه ولعلهم بذلك يغفرون له ما تقدم من ذنب وما تأخر! تركتهم والاستياء يغمر كل دواخل التكوين المعافى بداخلي وتمنيت لو أنني لم أكن بينهم حتى لا تمتعض مرافيء الشوق لوطني بترهات بنيه، لكنني لم أقض ليلتي بعافية جديدة حتى تمخض الزمن الرديء بجراح أخرى ملتوية الأبعاد ومترهلة الزوايا ومتورمة الأنفاس. أصابتني حمى الوطن الظالم أهله والذي سيظل هكذا يعتم فرص التقدم والإزدهار بهدم قمم الخير والجمال في نفوس أبنائه الطالعين إليه حباً فيه وليس خوفاً من غدر الأيام ومساحيقها المسمومة. فلقد زارتني صباح اليوم التالي بمكتبي بمركز الأميرة الجوهرة حرم خادم الحرمين الشريفين للطب الجزيئي وعلوم الجينات والأمراض الوراثية التابع لجامعة الخليج العربي بالبحرين والذي أعمل مديراً له طالبة بإحدى الجامعات بالسودان. انبهرت الطالبة بالمركز ولا غرو في ذلك فهو من أحدث المراكز الموجودة في العالم. قالت وهي في قمة الخجل: بعد أن رأيت ما رأيت هنا وكيف هذا الشعب البحريني الطيب يقدرك ويعتز بك تمنيت لو لم أكن سودانية!! قلت لها لماذا؟ قالت أنا لا أود أن أسبب لك الضيق لكنهما حدثان مرا بي قبل زيارتي للبحرين ملآني بالحزن والأسى. قلت لها إن كان عن حديث (بعض) أهل بلدي و(بعض) زملائي عني فقولي فلقد سمعت ما سمعت. قالت هو ذلك، فلقد ذهبت مع زوجي لمقابلة أحد الأطباء بالسودان وعندما حدثته بنشوة عن صلة القربى بيننا ترك أمر المقابلة وبدأ يتحدث عن مغامراتك العاطفية في الجامعة وعن عدم (شطارتك) رغماً عن اعترافه بأن كل من يدخل كلية الطب جامعة الخرطوم في ذلك الوقت لا بد وأن يكون من الأذكياء والمتفوقين ولم يذكر أمراً إيجابياً واحداً! ثم قالت: وفي مرة أخرى حدثنا أستاذ (.. ..) والذي يدرس مادة الـ (.. ..) عندما ورد اسمك على لسان إحدى الطالبات أثناء النقاش فقال وفي قاعة الدرس: هذا المعز كذاب ولم يكتشف شيئاً إنما سرق اكتشافاته من السويديين وسجلها باسمه!! هكذا يتحدث الطبيب عن زميله في عيادته الخاصة لمريضه!! وهكذا يتهم الأستاذ زميله وأمام طلابه وطالباته بسرقة الاكتشافات ومِن من تصوروا؟ من السويديين الذين اخترعوا الغواصة والثلاجة والتلفون الثابت والنقال والديناميت واكتشفوا ما اكتشفوا ويصنعون من الإبرة للصاروخ!! أما ما يقوله أصحاب (الشمارات) فحدث ولا حرج!! الآن أدركتم سبب تخلفنا عمن سبقناهم كثيراً في يوم ما؟ ليس الحرب قطعاً ولا الفساد ولا السياسة اللعينة ولا خروج الإنجليز مبكراً!! لكنه الإنسان السوداني عدو النجاح الذي يأتي به أي سوداني آخر مثله حيث لا تفيد كل مآثره الواردة أعلاه من كرم وشهامة وشجاعة ونكران للذات.
مدخل للخروج: قيل بينما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس ، إذ جاء أعرابيّ فلطمه ، فقام إليه واقد بن عمرو فجلد به الأرض ، فقال عمر : ليس بعزيز من ليس في قومه سفيه.. معز - المنامة
|
|
|
|
|
|