|
وداعاً البروفيسور كريشنا فاسديف. بقلم/ أمين محمَد إبراهيم.
|
نعت كلية القانون بجامعة الخرطوم، العالم الجليل، البروفيسور كريشنا فاسديف، فتلقى المئات بل الآلاف، ممن تتلمذوا على يديه من طلابه، و زملائه أصدقائه وعارفي فضله الكُثْرُ، من القانونيين السودانيين، رجالاً و نساءً، داخل و خارج الوطن، بأسىً بالغ و حزن عميق، نبأ رحيله المؤسف، بعد حياةٍ عامرة بالعطاء الثر و الخصيب، والبذل العلمي الخالص و الجزيل، لأجيال و أجيال، من طلاب القانون بجامعة الخرطوم، ثم لأجيال و أجيال، من رجال القانون، و مزاولي مهنه، في السودان من قضاة و مستشارين قانونيين و محامين، من خريجي مختلف، الجامعات، سودانية كانت أم خلافها، بشتى المعارف القانونية المتنوعة و الرفيعة. التحق البروفيسور فاسديف، بهيئة التدريس، بكلية القانون بجامعة الخرطوم، في أو حوالي، مفتتح الستينات، و استمر محاضراً بها، طوال عقدي الستينات و السبعينات، و حتى منتصف ثمانينات القرن المنصرم تقريباً. و رفد الراحل المقيم أثناء تدريسه في الكلية، المكتبة القانونية السودانية، و أثراها ببحوثه و مقالاته العديدة، في شتى ضروب و فروع، المعارف القانونية المختلفة. ونشرت بحوثه ومقالاته تلك، في أعداد من إصدارة، مجلة الأحكام القضائية السودانية الدورية. ثم ما لبث أن، توج جهوده تلك، بتأليف كتاب قانون القتل العمد في السودان 1978م، ثم أردفه بكتاب قانون الإثبات في السودان 1983م. و اتسم مؤلفاه المذكوران أعلاه، بالتـأريخ لتطبيق قواعد القانون العام، في السودان، متتبعاً الملامح العامة، لتبني تطبيق قواعد القانون العام، في السودان، و ما نجم عن ذلك، من تخلق و نشوء، قواعد قانونية سودانية، الدم و اللحم، تفرعت من تراكمات المعارف النظرية، و الخبرات التجارب التطبيقية القانونية، في سوح الحاكم، بمختلف اختصاصاتها و درجاتها. و ما تبع ذلك من نمو قواعد القانون السوداني، في شكلها الجنين و تطورها التدريجي، في استقلاليتها النسبية، عن أصلها الأنجلو ساكسوني، حتى استوت على سوق. كما اتسم مؤلفاه المذكوران أيضاً، بالشمول و الإحاطة بموضوعات بحوثه، إلي جانب اعتماده منهج الدراسة المقارنة، مع إعمال المنهج النقدي، للتشريعات و تطبيقاتها في المحكم عامةً، وفي السودان خاصة. و تتجلى عبقرية البروفيسور الراحل، في إتقانه التصنت بوعي، لجدل النص، مع بعضه البعض، من جهة، وجدله مع الواقع بزمكانه معاً، من جهة أخرى، ثم إعماله بعد ذلك، ذهنه الناقد بطبعه، لاستنطاق النص و تطبيقاته، بنتائج ذلك الجدل الحيوي المدهش. لذا قلما كان يفلت، من شواظ و سهام نقده، أي تشريع يخرج عن أصله بغير مقتضى، أو أي تنزيل له، لا يشكل ابداع في وعي النص، أو تجديداً فطناً في تطبيقه. أي يخالف ما جرى عليه العمل تطبيقاً، دون مسوِغ عقلاني أو منطقي. و شكَل مؤلفاه المذكوران أيضاً مرجعين رئيسين وحيدين لرجال القانون و طلبته في آن واحد، في وقت شحَت فيه الكتابة، في القانون عموماً و فرعيه المذكورين خصوصاً. و اكتسب كتاب قانون الإثبات في السودان، أهمية بالغة لدارسي القانون، و ومزاولي مهنه لكونه، الوحيد الجامع المانع، لكافة أحكام و قواعد الإثبات المطبقة وقتها، في المحاكم السودانية، بمختلف اختصاصاتها. وضاعف من هذه الأهمية، كون السودان لم يعرف قبله تشريعاً مكتوباً للإثبات. حيث صدر أول قانون إثبات سوداني، مع قوانين سبتمبر 1983سيئة الصيت. و مذ تعاقده مع الجامعة، في مفتتح الستينات، بقي العالم البروفيسور كريشنا، ضمن أساتذة كلية القانون و محاضريها حتى العام 1983م تقريباً، حيث تمكن بعض أصدقائه، من المحامين السودانيين من إقناعه، بالانضمام إليهم و مشاركتهم، في مكتب محاماة في دولة الإمارات العربية. فكان أن غادر إلي الإمارات العربية المتحدة. و في اعتقادنا أن من تسبب في ذلك، صرف النظر عن مبرراته، قد أفقد القانون و رجاله و طلابه، في السودان ثروة معرفية، طائلة و باذخة و وفيرة، لا تقدَر بثمن. كان العالم الراحل المقيم، يعتز بالقول محقاً، بأنه درس جميع من في الكلية ، باستثناء عميد الكلية، العالم الجليل، الدكتور محمد الفاتح حامد، مد الله في عمره و متعه بدوام الصحة و العافية، و يقصد أنه درَس، بالإضافة إلي الطلبة، كل أساتذة الكلية حتى منتصف و أواخر عقد السبيعنيات. علماً بأن من زامل الراحل حينها من الأساتذة الأجلاء، فيهم: الدكتور فيصل عبد الرحمن على طه، والدكتور محمد إبراهيم الطاهر، و الدكتورة دينا شيخ الدين، والدكتور أكولدا مانتير، و الدكتور عبد الله إدريس، والدكتور الراحل أبو حريرة.... وغيرهم. كان العالم الراحل المقيم، الوحيد بين محاضري الكلية، و ربما في الجامعة كلها، الذي يدرِس، أكثر من مادة واحدة، من مواد المنهج المقرر للدراسة. و قد درَس دفعات كثيرة في الكلية، مواد القانون الجنائي و العقوبات، وقانون الإثبات، و قانون الشركات. وكانت دفعتنا من ضمن الدفعات المحظوظة حقاً، حيث درسها البروفيسور كريشنا، العقوبات في السنة الأولى، و الإثبات في السنة الثالثة، و الشركات في السنة الرابعة. و يشهد طلابه أنه في كل محاضرات هذه المواد، كان يأتي إلي قاعد المحاضرة، بيدين خاويتين إلا من الطبشور. ويملأ أثناء المحاضرة السبورة، مرات و مرات، بعشرات المراجع و البحوث و المقالات، ثم السوابق القضائية الإنجليزية و السودانية والهندية و غيرها. لذا كان طلبته يصدقونه، حين يقابل أي تلميح أو إشارة عارضة، بعدم إلمامه بفقه الشريعة الإسلامية متحدياً و ممازحاً معاً، بالقول:" أنه يستطيع تدريس أية مادة، من مقررات الكلية، بما في ذلك، مادة الشريعة الإسلامية". حيا الله ذكرى أستاذنا الجليل، البروفيسور فاسديف، و شمله برحمته التي وسعت كل شئ، و أسكنه فسيح جناته، و ألهم آله و ذويه بالهند، و إيانا و كل طلبته وزملائه في هيئة التدريس، وكل أصدقائه و معارفه الكُثْر من القانونيين السودانيين، الصبر و حسن العزاء، على فقده و رحيله المؤلم.
|
|
|
|
|
|