إن التأریخ لا یصنع الأبطال، إنما یصنع الأبطال التأریخ. فتحت ابواب السماء ھذا الصباح لتستقبل أحد أحبتھا لتودعھ الجنة بمفھومھا الدیني والعقلاني. فاذا كانت الجنة لیست لفیدل كاسترو فھي لیست قدراً مجیداً ولن یستحقھا عظیم فاذا لم تكن مع من ینصر الحق فلمن ھي اذن! فقلیلة ھي اللحظات في تأریخ البشریة وھي تودع عملاقاً مثل ھذا الرجل الذي لیس من باب المبالغة أن یوصف بأنھ من أكبر رجال القرن العشرین تأثیراً في الناس.... وقلیل من الرجال في تأریخ البشریة یشمخ في أن الناس تحصي علیھ العیوب لقلتھا )كفى المرء نبلاً أن تعد معایبھ(. والتحق كاسترو الیوم بعملاقین من رجال القرن العشرین في العالم الثالث وھم الثلاثة )عبد الناصر وماندیلا وكاسترو( الذین لا یرقى لتأریخھم آخر من جیلھم. وحین تعبر القرون سینسى الأخرون ویقرأ اللاحقون كیف أثر ھؤلاء، كل في دائرتھ وعالمھ، تأثیرا غیر وجھ التأریخ. لست أكتب لأحصي محاسن الرجل ودوره، إنما أنعیھ للبقیة من الثوار في عالمنا العربي )وقلیل ما ھم(، نتعلل بذكره في زمن طغى فیھ التخلف والجھل حیث یتقاتل العرب في حرب لم تحسم قبل ثلاثة عشر قرناً. لكن لا بد من وقفة عنده لأن حیاتھ ودوره جدیران بالتأمل. فھذا الرجل نقض كثیرا من النظریات السیاسیة والإجتماعیة التي تعارف علیھ الناس وقبلوھا. فقد ولد لعائلة ثریة ونشأ في نعیم لم یكن مألوفاً في كوبا الفقیرة والمستغلة من الرأسمالیة الأمریكیة وحصل على تعلیم جید وتخرج طبیباً في خمسینیات القرن الماضي وكان بمقدوره أن یعیش مترفاً في نعیم كوبا أو أن یصبح طبیباً لامعاً في الولایات المتحدة. لكنھ رفض كل ذلك وقرر الثورة على الظلم والإستغلال الذي تمثلھ الرأسمالیة الأمریكیة. فأثبت أن الثورة لا تقتضي أن یقودھا الجیاع أو المحرومون، بل ان الثورة لا بد أن تقودھا النخبة المتنورة والتي یصعب بیعھا وشراؤھا. فھل عرفنا طبیباً مسلماً فعل ما فعلھ ھذا النصراني، والذي یقول عنھ أدعیاء الدین من المسلمین أنھ كافر، وھم یفخرون بالطبیب )مخاتیر محمد( الذي تحول الى واحد من أكبر اثریاء مالیزیا في ظل الراسمال الأمریكي! لقد ثبت كاسترو في ظل أعتى ھجمات الرأسمالیة الصھیونیة من غزو فاشل وحاولات اغتیال لا تحصى عدداً وحصار مدمر لیس فقط من الولایات اللامتحدة )غضب الله علیھا( وانما من أكثر دول العالم عدداً ولعقود طویلة وذلك لبلد لا یمتلك من مقومات الثروات الطبیعیة الكثیر. وخرج ًً بعد كل ذاك منتصرا، جریحا، لكنھ رافع الرأس وصاحب قراره حین عرضت الصھیونیة علیھ الصلح! ولم یتوقف تاثیر كاسترو على شعبھ وانما كان لثباتھ دور مھم جداً في كل القارة الأمریكیة الجنوبیة. وقد یعرف الناس العواطف الكبیرة التي تدور حول شخصیة "جیفارا" لكن القائد  الحقیقي للثورة في أمریكا الجنوبیة كان فیدیل طول الوقت. إن نجاح الثورات في وسط وجنوب أمریكا، وان كان محدوداً في بعض الحالات، مرده الدرس الناصع في نجاح فیدیل كاسترو وثباتھ أمام جبروت الإستكبار الصھیوني. لقد مكن حكم فیدیل الوطني الشعب الكوبي أن یدرك حقیقة طاقاتھ فبنى رغم الفقر والحصار دولة مكنتھ من ضمان حد أدنى للعیش الكریم مع تطور في مجالات العلم لعل من أبرزھا أن الحصار الطبي، الذي بلغ حد منع أدویة الأطفال عنھ، لم یمنع كوبا أن تصبح الیوم في طلیعة دول العالم في المجال الطبي حیث یوجد فیھا أعلى نسبة أطباء حیث تحتل كوبا مرتبة متقدمة بین دول العال في نسبة الأطباء للسكان. وكشف فیدیل كاسترو مقدرة فائقة على فھم السیاسة وقوانیھا فھماً نفقتر لھ في عالمنا العربي. فحین أدرك طبیعة الصراع القائم بین معسكرین فإنھ سخره لصالحھ فحصل على ضمانة بوقف الغزو الأمریكي لكوبا. فحین جاء بالصواریخ النوویة الروسیة لكوبا فھو لم یكن جاھلاً باستحالة بقائھا على بعد 90 میلاً من شواطي عدوه الجبار والمتربص بھ، لكنھ أدرك أن ثمناً ما لابد سیدفع لإجلائھا. وھكذا كان، فقد تم إجلاؤھا من كوبا بتعھد أمریكي بعدم غزو كوبا عسكریاً. فھل أدرك قائد في عالمنا العربي حقاً معنى السیاسة والعلاقات بین الدول؟ عاش فیدیل مع الناس. وأذكر مرة أني رأیتھ في تسجیل وھو یمشي في شوارع كوبا مع الفرنسي جان كوستو الذي عرف في برنامح "عالم البحار". رأیتھ یمشي في شوارع كوبا مع كوستو دون حراسة أو حمایة..... فكم حاكم عربي یقدر أن یفعل ذلك؟ إن الذي لا یستطیع أن یمشي بین قومھ لا یحق لھ أن یحكمھم. لكنھ یبدو أن فیدیل لم یكن یخشى شیئاً لأنھ لم یعتقد أنھ كان سیخسر شیئاً إذا قرر شعبھ أنھ لا یریده! عاش فیدیل ومات ولم یجمع مالا ولم یفتح حساباً مصرفیاً في لندن أو سویسرا، كما یفعل أكثر حكامنا ولصوصنا، ولا بد لأي مشاھد أن یتعرف بسرعة على بساطة عیشھ من ملابسھ المتواضعة والتي یبدو فیھا وھو یستقبل القادة والثوار... وحول كاسترو بیت عائلتھ لمتحف لشعبھ وقد یقول قائل إنھ تمجید لنفسھ ولیكن كذلك لكنھ مظھر من مظاھر التآلف بین القائد والناس.... و لیس عندي شك أن الرجل مات ولم یترك خلفھ مالاً ولا ثروة. ھذه لیست سوى نفثات مصدور لأن تأریخ ھذا الرجل لا تحصیھ صفحات لكني كان لابد لي أن أقول شیئاً أدون فیھ فخري واعتزازي بھ وحزني على امتي الضائعة والتي لم تنجب، وربما لاتقدر وھي أسیرة فكرھا المتخلف أن تنجب مثلھ. والسلام عبد الحق العاني 26 تشرین الثاني 2016 http://http://www.haqalani.comwww.haqalani.com
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة